شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [6]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الفدية:

يخير بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس وطيب بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع تمر أو شعير، أو ذبح شاة، وبجزاء صيد بين مثل إن كان أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم عن كل مد يوماً، وبما لا مثل له بين إطعام وصيام، وأما دم متعة وقران فيجب الهدي، فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام، والأفضل كون آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجع إلى أهله، والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرةً ثم حل، ويجب بوطء في فرج في الحج بدنة، وفي العمرة شاة، وإن طاوعته زوجته لزمها.

فصل: ومن كرر محظوراً من جنس ولم يفد فدى مرة بخلاف صيد ومن فعل محظوراً من أجناس فدى لكل مرة رفض إحرامه أو لا، ويسقط بنسيان فدية لبس وطيب وتغطية رأس دون وطء وصيد وتقليم وحلاق وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم وفدية الأذى واللبس ونحوهما ودم الإحصار حيث وجد سببه ويجزئ الصوم بكل مكان، والدم شاة أو سبع بدنة وتجزئ عنها بقرة].

تقدم لنا في الدرس السابق بقية محظورات الإحرام، وتكلمنا فيما سلف عن عقد النكاح، هل هو من محظورات الإحرام أو ليس من محظورات الإحرام، وأن جمهور أهل العلم رحمهم الله يرون أنه من المحظورات، وأن عقد النكاح لا يصح، وأن الحنفية يرون صحة عقد النكاح، وذكرنا دليل كل فريق، وأن الجمهور استدلوا بحديث عثمان ، والحنفية استدلوا بحديث ابن عباس في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة ، وذكرنا أجوبةً عن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأن الراجح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم.

كذلك أيضاً سلف لنا من محظورات الإحرام ما يتعلق بالجماع، وأن الجماع من محظورات الإحرام، وذكرنا أن الجماع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: جماع قبل الوقوف بعرفة.

والقسم الثاني: أن يكون بعد الوقوف وقبل التحلل الأول.

والقسم الثالث: أن يكون بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني.

وذكرنا حكم كل قسم، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالمباشرة. ثم بعد ذلك ختم المؤلف رحمه الله الباب السابق فيما يتعلق بإحرام المرأة، وأن إحرام المرأة كإحرام الرجل إلا فيما يتعلق باللباس وتغطية الرأس.

قال المؤلف رحمه الله: (باب الفدية. قال: يخير بفدية حلق، وتقليم، وتغطية رأس، وطيب، ولبس مخيط بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير، أو ذبح شاة).

الفدية: هي ما يعطى في افتكاك الأسير، أو إنقاذ من هلكة.

وأما في الاصطلاح فهي: ما يخرجه من فعل محظوراً من محظورات الإحرام، من إطعام، أو ذبح، أو صيام.

والحكمة من مشروعية الفدية هو تعظيم أمر الإحرام، وأن محظوراته من المهلكات التي تحتاج إلى افتكاك من وقع فيها، وشرعية هذه الفدى يدل على أن مواقعة هذه المحظورات محرم ولا يجوز؛ لكونه رتب عليه هذه العقوبة، وحكم هذه الفدية الوجوب على من فعل محظوراً من محظورات الإحرام، حكمها الوجوب لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها كما سيأتي.

فدية المحظورات الخمسة

يقول المؤلف رحمه الله: (يخير بفدية حلق، وتقليم، وتغطية رأس).

الفدية منها ما هو على التخيير، ومنها ما هو على الترتيب، فشرع المؤلف رحمه الله بما يتعلق بالتخيير، فهذه المحظورات: حلق الشعر، وتقليم الأظفار، وتغطية الرأس، والطيب، ولبس المخيط، هذه الخمسة يخير فيها كما ذكر المؤلف رحمه الله بين إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام، أو دم، وبالنسبة للدم هو مخير بين أمور أربعة: إما أن يذبح جذع ضأن، أو ثني معز، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة.

وهذه المحظورات التي ورد فيها النص منها حلق شعر الرأس: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، وحديث كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه: (أنه حمل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: احلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة) يعني: اذبح شاة. والحديث في الصحيحين، و(أو) للتخيير، فالنص الذي ورد فيه هو حلق الرأس فقاس العلماء رحمهم الله تعالى بقية محظورات الإحرام على حلق الشعر، وإلا لم يرد فيها نص بخصوصه، وصحيح أن نقول: بأنها من محظورات الإحرام؛ لأن النص ورد أنها من محظورات الإحرام، وسبق لنا أنه يفرق بين حكمين: بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، وقد دل الدليل على أنها من الأحكام التكليفية، وأنه يحرم إتيان مثل هذه المحظورات، لكن ما يتعلق بالحكم الوضعي، وهو إيجاب الفدية الذي ورد النص به هو حلق الشعر، أما بقية المحظورات الأربعة التي نص عليها المؤلف رحمه الله تعالى فإنه لم يرد فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالوا كما سيأتينا: بأن عقد النكاح لا فدية فيه؛ لأنه لم يرد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو السادس.

وأما الجماع فقد ورد فيه عن الصحابة أنهم قضوا بأن فيه بدنة، كذلك أيضاً ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الجماع في العمرة أن فيه فدية أذى، يعني أنه مخير بين هذه الأمور الثلاثة، هذا الذي ورد فيه النص، نعم فعندنا الذي ورد فيه النص حلق الشعر والجماع في الحج أو في العمرة، وما عدا ذلك فيما يتعلق بمحظورات الإحرام لم يرد فيه شيء.

وقول المؤلف رحمه الله: (أو نصف صاع)، هكذا جاء في صحيح مسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة أن يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وهذا مما قدر فيه الآخذ والمأخوذ، قدر الآخذ ستة، والمأخوذ نصف صاع لكل مسكين، وعلى هذا تكون الأصواع ثلاثة.

وفيما يتعلق بتقدير المدفوع، والآخذ في الشرع، نقول: بأن هذا ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: ما قدر فيه الآخذ والمأخوذ يعني المدفوع، وهذا كما هنا في فدية الأذى، لا بد من إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.

القسم الثاني: ما قدر فيه الآخذ ولم يقدر فيه المدفوع، وهذا مثل كفارة اليمين، قدر بإطعام عشرة مساكين، ومثل كفارة الظهار، وهي إطعام ستين مسكيناً، ومثل كفارة الجماع في نهار رمضان، إطعام ستين مسكيناً.

القسم الثالث عكس هذا القسم، وهو: ما قدر فيه المدفوع ولم يقدر فيه الآخذ، وهذا مثاله زكاة الفطر، فزكاة الفطر قدر فيها المدفوع وهو صاع، لكن بالنسبة للآخذ لم يقدر، فلو أنك دفعت الصاع إلى اثنين أو ثلاثة، فإن هذا مجزئ، لكن قال العلماء رحمهم الله: إذا دفعت الصاع إلى أكثر من واحد، فإنك تبين له أنه أقل من صاع.

فدية قتل الصيد

كان النوع الأول مما تكون الفدية فيه على التخيير هي المحظورات الخمسة.

أما النوع الثاني مما تكون الفدية فيها على التخيير فهو: جزاء الصيد.

قال المؤلف رحمه الله: (وبجزاء صيد بين مثل إن كان أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم عن كل مد يوماً، وبما لا مثل له بين إطعام وصيام).

الصيد لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون له مثل.

الأمر الثاني: ألا يكون له مثل.

الخلاصة:

من قتل صيداً له مثل، نقول: أنت مخير بين أن تذبح المثل، أو أن يقدر المثل وتشتري بالثمن طعاماً أو تخرج من بيتك طعاماً وتعطيه للمساكين، أو تصوم عن كل مد يوماً، مثال ذلك: النعامة مثلها بدنة: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، فإذا قتل المحرم نعامةً نقول: أنت مخير: اذبح بدنةً، أو نقدر المثل فنقول: كم يساوي البعير؟ فإذا كان يساوي ألف ريال مثلاً فاشتر بهذا الألف طعاماً تطعمه المساكين، وهذا الطعام -مثلاً- ألف مد من البر، بأن كان المد مثلاً بريال، أو نقول: خمسمائة مد، المد الواحد بريالين، اشتر خمسمائة مد من البر، أو أخرج من ملكك إذا كنت مالكاً خمسمائة مد من البر وأطعمه للمساكين، أو تصوم عن كل مد يوماً، وحينئذٍ سيصوم خمسمائة يوم، وهذا هو الذي يدل له القرآن، الله عز وجل قال: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95].

لكن بعض العلماء مثل ابن العربي رحمه الله من المالكية، يقول: بأن الصيام إذا تجاوز الشهرين لا يجوز، يعني الواجب هو أن يصوم شهرين، فإذا تجاوز الصيام شهرين فنقول: لا يجوز؛ لأن هذا أعلى ما ورد في الشرع، لكن ظاهر القرآن أن الله سبحانه وتعالى قال: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، يدل لما ذكره العلماء رحمهم الله تعالى، وأنه يجب عليه أن يذبح الهدي، أو أن يطعم، أو أن يصوم عن كل مد يوماً.

وقول المؤلف رحمه الله: (أو تقويمه) يعني: تقويم المثل، هذا ما عليه جمهور أهل العلم أن الذي يقوم هو المثل، وعند الحنفية الذي يقوم هو الصيد.

هذا بالنسبة للقسم الأول: أن يكون الصيد له مثل.

القسم الثاني: أن يكون الصيد لا مثل له، مثل العصافير، العلماء يقولون: بأن العصافير هذه لا مثل لها، وحينئذ يسقط عنا ذبح المثل، فالمحرم إذا قتل صيداً يكون مخيراً بين أمرين: إما الإطعام أو الصيام، أما بالنسبة لذبح المثل فإنه لا يجب عليه أن يذبح مثله، وعلى هذا إذا قتل عصفوراً من العصافير، نقوم هذا العصفور فإن كان يساوي -مثلاً- خمسة ريالات فعليك أن تشتري بهذه الخمسة ريالات طعاماً تطعمه للمساكين، أو أنك تصوم عن كل مد يوماً، فإذا كانت هذه الخمسة الريالات تأتي بخمسة أمداد، فنقول: إنك تطعم هذه للمساكين، أو أنك تصوم عن كل مد يوماً، وعلى هذا تصوم خمسة أيام.

يقول المؤلف رحمه الله: (يخير بفدية حلق، وتقليم، وتغطية رأس).

الفدية منها ما هو على التخيير، ومنها ما هو على الترتيب، فشرع المؤلف رحمه الله بما يتعلق بالتخيير، فهذه المحظورات: حلق الشعر، وتقليم الأظفار، وتغطية الرأس، والطيب، ولبس المخيط، هذه الخمسة يخير فيها كما ذكر المؤلف رحمه الله بين إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام، أو دم، وبالنسبة للدم هو مخير بين أمور أربعة: إما أن يذبح جذع ضأن، أو ثني معز، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة.

وهذه المحظورات التي ورد فيها النص منها حلق شعر الرأس: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، وحديث كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه: (أنه حمل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: احلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة) يعني: اذبح شاة. والحديث في الصحيحين، و(أو) للتخيير، فالنص الذي ورد فيه هو حلق الرأس فقاس العلماء رحمهم الله تعالى بقية محظورات الإحرام على حلق الشعر، وإلا لم يرد فيها نص بخصوصه، وصحيح أن نقول: بأنها من محظورات الإحرام؛ لأن النص ورد أنها من محظورات الإحرام، وسبق لنا أنه يفرق بين حكمين: بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، وقد دل الدليل على أنها من الأحكام التكليفية، وأنه يحرم إتيان مثل هذه المحظورات، لكن ما يتعلق بالحكم الوضعي، وهو إيجاب الفدية الذي ورد النص به هو حلق الشعر، أما بقية المحظورات الأربعة التي نص عليها المؤلف رحمه الله تعالى فإنه لم يرد فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالوا كما سيأتينا: بأن عقد النكاح لا فدية فيه؛ لأنه لم يرد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو السادس.

وأما الجماع فقد ورد فيه عن الصحابة أنهم قضوا بأن فيه بدنة، كذلك أيضاً ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الجماع في العمرة أن فيه فدية أذى، يعني أنه مخير بين هذه الأمور الثلاثة، هذا الذي ورد فيه النص، نعم فعندنا الذي ورد فيه النص حلق الشعر والجماع في الحج أو في العمرة، وما عدا ذلك فيما يتعلق بمحظورات الإحرام لم يرد فيه شيء.

وقول المؤلف رحمه الله: (أو نصف صاع)، هكذا جاء في صحيح مسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة أن يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وهذا مما قدر فيه الآخذ والمأخوذ، قدر الآخذ ستة، والمأخوذ نصف صاع لكل مسكين، وعلى هذا تكون الأصواع ثلاثة.

وفيما يتعلق بتقدير المدفوع، والآخذ في الشرع، نقول: بأن هذا ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: ما قدر فيه الآخذ والمأخوذ يعني المدفوع، وهذا كما هنا في فدية الأذى، لا بد من إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.

القسم الثاني: ما قدر فيه الآخذ ولم يقدر فيه المدفوع، وهذا مثل كفارة اليمين، قدر بإطعام عشرة مساكين، ومثل كفارة الظهار، وهي إطعام ستين مسكيناً، ومثل كفارة الجماع في نهار رمضان، إطعام ستين مسكيناً.

القسم الثالث عكس هذا القسم، وهو: ما قدر فيه المدفوع ولم يقدر فيه الآخذ، وهذا مثاله زكاة الفطر، فزكاة الفطر قدر فيها المدفوع وهو صاع، لكن بالنسبة للآخذ لم يقدر، فلو أنك دفعت الصاع إلى اثنين أو ثلاثة، فإن هذا مجزئ، لكن قال العلماء رحمهم الله: إذا دفعت الصاع إلى أكثر من واحد، فإنك تبين له أنه أقل من صاع.

كان النوع الأول مما تكون الفدية فيه على التخيير هي المحظورات الخمسة.

أما النوع الثاني مما تكون الفدية فيها على التخيير فهو: جزاء الصيد.

قال المؤلف رحمه الله: (وبجزاء صيد بين مثل إن كان أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم عن كل مد يوماً، وبما لا مثل له بين إطعام وصيام).

الصيد لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون له مثل.

الأمر الثاني: ألا يكون له مثل.

الخلاصة:

من قتل صيداً له مثل، نقول: أنت مخير بين أن تذبح المثل، أو أن يقدر المثل وتشتري بالثمن طعاماً أو تخرج من بيتك طعاماً وتعطيه للمساكين، أو تصوم عن كل مد يوماً، مثال ذلك: النعامة مثلها بدنة: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، فإذا قتل المحرم نعامةً نقول: أنت مخير: اذبح بدنةً، أو نقدر المثل فنقول: كم يساوي البعير؟ فإذا كان يساوي ألف ريال مثلاً فاشتر بهذا الألف طعاماً تطعمه المساكين، وهذا الطعام -مثلاً- ألف مد من البر، بأن كان المد مثلاً بريال، أو نقول: خمسمائة مد، المد الواحد بريالين، اشتر خمسمائة مد من البر، أو أخرج من ملكك إذا كنت مالكاً خمسمائة مد من البر وأطعمه للمساكين، أو تصوم عن كل مد يوماً، وحينئذٍ سيصوم خمسمائة يوم، وهذا هو الذي يدل له القرآن، الله عز وجل قال: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95].

لكن بعض العلماء مثل ابن العربي رحمه الله من المالكية، يقول: بأن الصيام إذا تجاوز الشهرين لا يجوز، يعني الواجب هو أن يصوم شهرين، فإذا تجاوز الصيام شهرين فنقول: لا يجوز؛ لأن هذا أعلى ما ورد في الشرع، لكن ظاهر القرآن أن الله سبحانه وتعالى قال: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، يدل لما ذكره العلماء رحمهم الله تعالى، وأنه يجب عليه أن يذبح الهدي، أو أن يطعم، أو أن يصوم عن كل مد يوماً.

وقول المؤلف رحمه الله: (أو تقويمه) يعني: تقويم المثل، هذا ما عليه جمهور أهل العلم أن الذي يقوم هو المثل، وعند الحنفية الذي يقوم هو الصيد.

هذا بالنسبة للقسم الأول: أن يكون الصيد له مثل.

القسم الثاني: أن يكون الصيد لا مثل له، مثل العصافير، العلماء يقولون: بأن العصافير هذه لا مثل لها، وحينئذ يسقط عنا ذبح المثل، فالمحرم إذا قتل صيداً يكون مخيراً بين أمرين: إما الإطعام أو الصيام، أما بالنسبة لذبح المثل فإنه لا يجب عليه أن يذبح مثله، وعلى هذا إذا قتل عصفوراً من العصافير، نقوم هذا العصفور فإن كان يساوي -مثلاً- خمسة ريالات فعليك أن تشتري بهذه الخمسة ريالات طعاماً تطعمه للمساكين، أو أنك تصوم عن كل مد يوماً، فإذا كانت هذه الخمسة الريالات تأتي بخمسة أمداد، فنقول: إنك تطعم هذه للمساكين، أو أنك تصوم عن كل مد يوماً، وعلى هذا تصوم خمسة أيام.

لما تكلم المؤلف رحمه الله عن الفدية التي تجب على التخيير، شرع الآن بالفدية التي تجب على الترتيب، وذكر أن الفدية التي تجب على التخيير نوعان:

النوع الأول: ما يتعلق بالمحظورات الخمسة فيها فدية الأذى.

والنوع الثاني: ما يتعلق بجزاء الصيد.

وجوب الهدي أولاً على سبيل الترتيب

قال رحمه الله: [وأما دم متعة وقران فيجب الهدي، فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام].

المتمتع يجب عليه الهدي بالإجماع، والقرآن صريح في ذلك، والسنة تقدم الكلام على ذلك، والمفرد لا يجب عليه الهدي بالاتفاق، والقارن موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، سبق أن ذكرناه، وأن جمهور العلماء أن القارن يجب عليه الهدي، وذكرنا دليل ذلك من حديث عائشة .. إلى آخره.

والرأي الثاني رأي الظاهرية: أن القارن لا يجب عليه الهدي.

والصواب في هذه المسألة أن القارن يجب عليه الهدي كما سلف.

قلنا: المتمتع والقارن يجب عليهما الهدي فإذا لم يجدا ثمن الهدي أو لم يجدا الهدي يباع فإنهما ينتقلان إلى الصيام، وهذا على سبيل الترتيب، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196].

الانتقال إلى الصيام إذا لم يوجد الهدي

قال رحمه الله: (فصيام ثلاثة أيام، والأفضل كون آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجع إلى أهله).

صيام الثلاثة الأيام التي في الحج لها وقتان: الوقت الأول: وقت جواز، والوقت الثاني: وقت أفضلية.

أما وقت الجواز فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً مذهب أبي حنيفة أنه يبدأ من حين الإحرام بالعمرة، ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] .

فالإحرام بالعمرة هو سبب التمتع، وقد ذكر ابن رجب رحمه الله قاعدة في كتابه القواعد، وهي أنه يجوز تقديم العبادة بعد وجود السبب وقبل وجوبها، أو قبل وجود شرط الوجوب، هنا الآن وجد سبب العبادة، فيجوز لك أن تقدم هذه العبادة، ونظير ذلك كفارة اليمين مثلاً، فكفارة اليمين يجوز لك أن تخرجها قبل الحنث؛ لأنه وجد السبب وهو اليمين، لكن تقدم الكفارة على السبب لا يجوز، لو قلت: أنا سأكفّر قبل أن أحلف، ربما أني أحلف في يوم من الأيام، فهذا لا يجوز، فتقديم العبادة قبل السبب لا يجوز، لكن تقديم العبادة بعد وجود السبب وقبل شرط الوجوب أو قبل الوجوب فهذا نقول: بأن حكمه الجواز؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه).

الرأي الثاني: أن صيام الثلاثة يبدأ من حين الإحرام بالحج؛ لظاهر الآية، فالله سبحانه وتعالى قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196]، قال: ثلاثة أيام في الحج، وإذا صامها قبل الإحرام بالحج فما صامها في الحج.

والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الحنابلة والحنفية، وأن صيام الثلاثة الأيام في الحج يبدأ من حين الإحرام بالعمرة، لما ذكرنا أنه وجد السبب، صحيح هو ما دخل في الإحرام بالحج، لكنه وجد سبب التمتع، والعبادة يجوز أن تقدمها بعد وجود سببها، وكذلك أيضاً ذكرنا أن العمرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه)، فإذا أحرم المتمتع بالعمرة فقد أحرم بالحج؛ لأن العمرة دخلت في الحج.

أما الرأي الثاني فدليله ظاهر القرآن، لكن أجبنا عن ذلك.

متى ينتهي وقت الصيام؟

ينتهي بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق؛ لأنه إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر تكون أيام الحج قد انتهت، وتبدأ أيام الحج في اليوم الثامن، فيوم الثامن هو أول أيام الحج، يوم التروية والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني والثالث عشر، هذه ستة أيام هي أيام الحج، وسيأتينا إن شاء الله الكلام على هذه الأيام، فينتهي وقت الصيام بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.

فإذا غربت الشمس وهو لم يصم، فإن كان لعذر، كأن يكون ناسياً، أو مريضاً ونحو ذلك فإنه يقضي، أما إذا كان لغير عذر وأخر عمداً فإنه لا يقدر على القضاء، وهذه قاعدة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك أيضاً ابن حزم : أن من أخر العبادة عن وقتها بلا عذر فإنه لا يقدر عليها، وعلى هذا نقول: إذا أخر الصيام، إن كان التأخير لعذر كأن ينسى، أو كأن يكون مريضاً ونحو ذلك، أو لشدة الحر لا يستطيع أن يصوم.. إلى آخره، أو خشي على نفسه، فنقول: هذا يقضي لا إشكال في ذلك، لكن إذا كان التأخير بلا عذر متعمداً، فإنه لا يقدر على هذه العبادة.

ومثله أيضاً الهدي إذا غربت الشمس فقد انتهى وقت الذبح، ولو أنه أخر الهدي نسياناً كما يحصل لبعض الناس، أو يوكل شخصاً لكي يذبح له ثم بعد ذلك ينسى، فنقول: يقضي بعد الأيام الثلاثة، بعد أيام الذبح لا إشكال في ذلك، لكن إذا كان بغير عذر فإنه لا يقدر على القضاء، هذا القسم الأول وهو وقت الجواز.

القسم الثاني: وقت الأفضلية، ما هو الوقت الأفضل لصيام هذه الأيام الثلاثة؟

المؤلف رحمه الله يرى أن الأفضل أن تجعل آخر الأيام الثلاثة هو يوم عرفة.

قال: (والأفضل كون آخرها يوم عرفة). وهذا المشهور من مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ، وعند مالك والشافعية: أن الأفضل أن يكون آخر الأيام هو يوم التروية.

والحنابلة يقولون: مذهبهم وارد عن علي ، وابن عمر ومالك والشافعي يقولون: بأنه وارد عن ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم.

والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله، وأن الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية، يعني اليوم الثامن هو آخرها، بحيث يكون يوم عرفة مفطراً، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر يوم عرفة، ولكي يتقوى الإنسان على الذكر والدعاء في ذلك اليوم.

قال: (وسبعة إذا رجع إلى أهله) أيضاً صيام السبعة له وقتان: وقت جواز، ووقت أفضلية.

وقت الجواز إذا رجع إلى أهله، لكن ما المراد بالرجوع إلى الأهل؟

قال جمهور العلماء: المراد بالرجوع إلى الأهل هو الفراغ من أعمال الحج؛ لأنه إذا فرغ من أعمال الحج فقد شرع في الرجوع إلى أهله، ويدل لهذا استقراء الشريعة، فإنه لم يرد في الشرع تخصيص الصيام بمكان، بخلاف تخصيص الصيام بزمان أو بحال فهذا ورد، وعلى هذا لو صامها في منى أو في مكة بعد نهاية أعمال الحج، فإنه يجزئ.

أما الشافعية فأخذوا بظاهر القرآن: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196]، وبظاهر حديث ابن عمر : (إذا رجع إلى أهله) كما في الصحيحين، وقالوا: بأنه لا يجزئ أن يصوم حتى يصل إلى أهله.

والصحيح في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، ونقول: بأن المقصود: (إذا رجع إلى أهله)، يعني: إذا فرغ من أعمال الحج، بدليل أننا لو قلنا: بأنه لا يصح حتى يرجع إلى أهله لزم من ذلك أن نخصص الصيام بمكان، وهذا لم يرد في الشرع، ويحمل أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رجع إلى أهله)، على الاستحباب، يعني وقت الاستحباب صيام السبع إذا رجع إلى أهله.

فدية المحصر

قال رحمه الله: (والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرةً ثم حل).

هذا النوع الثاني مما تجب فيه الفدية على الترتيب: المحصر.

والإحصار: منع الناسك من إتمام نسكه، والإحصار في اللغة: المنع، وسيأتي إن شاء الله باب مستقل للفوات والإحصار، فإذا لم يتمكن الناسك من إتمام نسكه فإنه يذبح هدياً، لكن إذا لم يجد هدياً، فهل يجب عليه أن يصوم أو لا يجب عليه أن يصوم؟ المؤلف رحمه الله يرى أنه يجب عليه أن يصوم عشرة أيام، والدليل على ذلك القياس على المتمتع، وهذا القياس فيه نظر؛ لأن الله سبحانه ذكر حكم المتمتع وحكم المحصر في آية واحدة، وقال في المتمتع: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196]، وأما المحصر فما قال الله عز وجل فيه شيء من ذلك.

فالصواب أن المحصر إذا لم يجد هدياً فإنه يسقط عنه، ولا يجب عليه أن يصوم، لكن على المذهب يجب عليه أن يصوم، فيكون هذا على سبيل الترتيب.

فدية الجماع

قال رحمه الله: (ويجب بوطء في فرج في الحج بدنة).

هذا النوع الثالث، يجب في الوطء في الفرج بدنة، فإذا لم يجد البدنة يجب عليه أن يصوم عشرة أيام: ثلاثةً في الحج، وسبعةً إذا رجع إلى أهله، والبدنة واجبة لقضاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لكن الصيام هذا لا دليل عليه، والقياس على المتمتع قياس مع الفارق، وهم يقولون: بأنه يجب على الترتيب، تجب البدنة، وإذا لم يجد البدنة ينتقل إلى الصيام، لكن الصواب أن الصيام هنا ليس واجباً، وعلى هذا نقول: تجب البدنة في الوطء لورود ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإذا لم يجد البدنة فإنها تسقط عنه ولا يجب عليه الصوم.

قال: (وفي العمرة شاة).

وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب أبي حنيفة أن العمرة إذا جامع فيها قبل التحلل منها فإنه يجب عليه شاة.

والرأي الثاني رأي مالك والشافعي : أنه إذا كان قبل الطواف والسعي فيجب عليه بدنة، وإن كان بعد الطواف والسعي يجب عليه شاة، والذي في الأثر الوارد في ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تجب عليه فدية أذى، أي أنه مخير.

قال المؤلف: (وإن طاوعته زوجته لزمها).

يعني: ما ذكر في الفدية، إذا طاوعته في الجماع يجب عليها بدنة، كما يجب على الزوج في الجماع في الحج، وإذا طاوعته في الجماع في العمرة يجب عليها شاة أو فدية أذى.. إلى آخره، يعني حكم المرأة حكم الرجل مع المطاوعة.

الخلاصة في ذلك: بالنسبة للفدية، نقول: بأنها تنقسم إلى أقسام:

القسم الأول: ما لا فدية فيه، وهو عقد النكاح.

القسم الثاني: ما فديته جزاؤه، وهو قتل الصيد كما سلف، يجب المثل أو الإطعام، أو الصيام على التخيير كما سلف.

القسم الثالث: ما فديته بدنة، وهو الجماع في الحج قبل التحلل، كما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، هذه كلها دلت عليها الأدلة الشرعية.

القسم الرابع: ما عدا ذلك فيه فدية أذى، والذي دل عليه النص حلق الشعر: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، يخير بين أن يصوم ثلاثة أيام، أو أن يطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو أن ينسك شاة، قلنا: الشاة أيضاً مخير، إما سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو ثني معز، أو جذع ضأن.

فدية تكرير ارتكاب المحظور

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل: ومن كرر محظوراً من جنس ولم يفد فدى مرةً بخلاف صيد).

قوله: (من جنس) يخرج ما إذا كرر محظوراً من أجناس، وقوله: (ولم يفد) يخرج ما إذا أخرج الفدية، وعلى هذا تكون الأقسام ثلاثة:

القسم الأول: أن يكرر محظوراً من جنس واحد قبل أن يخرج الفدية، فهنا تجب عليه فدية واحدة، فمثلاً لو حلق شعره، ثم حلق شعره مرةً أخرى، أو لبس مخيطاً ثم لبس مخيطاً مرةً أخرى، قبل أن يخرج عن الأول فتلزمه فدية واحدة.

القسم الثاني: أن يكرر محظوراً من جنس وقد فدى عن الأول، وهنا تجب عليه الفدية مرةً أخرى لتكرر السبب؛ لأن السبب وجد مرةً أخرى.

القسم الثالث: أن يفعل محظورات من أجناس، فهذا تجب عليه فدى، فمثلاً إذا قلم أظافره، وحلق شعره، ولبس المخيط، تجب عليه الفدى بعدد الأجناس التي فعلها.

قال رحمه الله: [وأما دم متعة وقران فيجب الهدي، فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام].

المتمتع يجب عليه الهدي بالإجماع، والقرآن صريح في ذلك، والسنة تقدم الكلام على ذلك، والمفرد لا يجب عليه الهدي بالاتفاق، والقارن موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، سبق أن ذكرناه، وأن جمهور العلماء أن القارن يجب عليه الهدي، وذكرنا دليل ذلك من حديث عائشة .. إلى آخره.

والرأي الثاني رأي الظاهرية: أن القارن لا يجب عليه الهدي.

والصواب في هذه المسألة أن القارن يجب عليه الهدي كما سلف.

قلنا: المتمتع والقارن يجب عليهما الهدي فإذا لم يجدا ثمن الهدي أو لم يجدا الهدي يباع فإنهما ينتقلان إلى الصيام، وهذا على سبيل الترتيب، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196].

قال رحمه الله: (فصيام ثلاثة أيام، والأفضل كون آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجع إلى أهله).

صيام الثلاثة الأيام التي في الحج لها وقتان: الوقت الأول: وقت جواز، والوقت الثاني: وقت أفضلية.

أما وقت الجواز فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً مذهب أبي حنيفة أنه يبدأ من حين الإحرام بالعمرة، ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] .

فالإحرام بالعمرة هو سبب التمتع، وقد ذكر ابن رجب رحمه الله قاعدة في كتابه القواعد، وهي أنه يجوز تقديم العبادة بعد وجود السبب وقبل وجوبها، أو قبل وجود شرط الوجوب، هنا الآن وجد سبب العبادة، فيجوز لك أن تقدم هذه العبادة، ونظير ذلك كفارة اليمين مثلاً، فكفارة اليمين يجوز لك أن تخرجها قبل الحنث؛ لأنه وجد السبب وهو اليمين، لكن تقدم الكفارة على السبب لا يجوز، لو قلت: أنا سأكفّر قبل أن أحلف، ربما أني أحلف في يوم من الأيام، فهذا لا يجوز، فتقديم العبادة قبل السبب لا يجوز، لكن تقديم العبادة بعد وجود السبب وقبل شرط الوجوب أو قبل الوجوب فهذا نقول: بأن حكمه الجواز؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه).

الرأي الثاني: أن صيام الثلاثة يبدأ من حين الإحرام بالحج؛ لظاهر الآية، فالله سبحانه وتعالى قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196]، قال: ثلاثة أيام في الحج، وإذا صامها قبل الإحرام بالحج فما صامها في الحج.

والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الحنابلة والحنفية، وأن صيام الثلاثة الأيام في الحج يبدأ من حين الإحرام بالعمرة، لما ذكرنا أنه وجد السبب، صحيح هو ما دخل في الإحرام بالحج، لكنه وجد سبب التمتع، والعبادة يجوز أن تقدمها بعد وجود سببها، وكذلك أيضاً ذكرنا أن العمرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه)، فإذا أحرم المتمتع بالعمرة فقد أحرم بالحج؛ لأن العمرة دخلت في الحج.

أما الرأي الثاني فدليله ظاهر القرآن، لكن أجبنا عن ذلك.

متى ينتهي وقت الصيام؟

ينتهي بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق؛ لأنه إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر تكون أيام الحج قد انتهت، وتبدأ أيام الحج في اليوم الثامن، فيوم الثامن هو أول أيام الحج، يوم التروية والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني والثالث عشر، هذه ستة أيام هي أيام الحج، وسيأتينا إن شاء الله الكلام على هذه الأيام، فينتهي وقت الصيام بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.

فإذا غربت الشمس وهو لم يصم، فإن كان لعذر، كأن يكون ناسياً، أو مريضاً ونحو ذلك فإنه يقضي، أما إذا كان لغير عذر وأخر عمداً فإنه لا يقدر على القضاء، وهذه قاعدة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك أيضاً ابن حزم : أن من أخر العبادة عن وقتها بلا عذر فإنه لا يقدر عليها، وعلى هذا نقول: إذا أخر الصيام، إن كان التأخير لعذر كأن ينسى، أو كأن يكون مريضاً ونحو ذلك، أو لشدة الحر لا يستطيع أن يصوم.. إلى آخره، أو خشي على نفسه، فنقول: هذا يقضي لا إشكال في ذلك، لكن إذا كان التأخير بلا عذر متعمداً، فإنه لا يقدر على هذه العبادة.

ومثله أيضاً الهدي إذا غربت الشمس فقد انتهى وقت الذبح، ولو أنه أخر الهدي نسياناً كما يحصل لبعض الناس، أو يوكل شخصاً لكي يذبح له ثم بعد ذلك ينسى، فنقول: يقضي بعد الأيام الثلاثة، بعد أيام الذبح لا إشكال في ذلك، لكن إذا كان بغير عذر فإنه لا يقدر على القضاء، هذا القسم الأول وهو وقت الجواز.

القسم الثاني: وقت الأفضلية، ما هو الوقت الأفضل لصيام هذه الأيام الثلاثة؟

المؤلف رحمه الله يرى أن الأفضل أن تجعل آخر الأيام الثلاثة هو يوم عرفة.

قال: (والأفضل كون آخرها يوم عرفة). وهذا المشهور من مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ، وعند مالك والشافعية: أن الأفضل أن يكون آخر الأيام هو يوم التروية.

والحنابلة يقولون: مذهبهم وارد عن علي ، وابن عمر ومالك والشافعي يقولون: بأنه وارد عن ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم.

والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله، وأن الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية، يعني اليوم الثامن هو آخرها، بحيث يكون يوم عرفة مفطراً، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر يوم عرفة، ولكي يتقوى الإنسان على الذكر والدعاء في ذلك اليوم.

قال: (وسبعة إذا رجع إلى أهله) أيضاً صيام السبعة له وقتان: وقت جواز، ووقت أفضلية.

وقت الجواز إذا رجع إلى أهله، لكن ما المراد بالرجوع إلى الأهل؟

قال جمهور العلماء: المراد بالرجوع إلى الأهل هو الفراغ من أعمال الحج؛ لأنه إذا فرغ من أعمال الحج فقد شرع في الرجوع إلى أهله، ويدل لهذا استقراء الشريعة، فإنه لم يرد في الشرع تخصيص الصيام بمكان، بخلاف تخصيص الصيام بزمان أو بحال فهذا ورد، وعلى هذا لو صامها في منى أو في مكة بعد نهاية أعمال الحج، فإنه يجزئ.

أما الشافعية فأخذوا بظاهر القرآن: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196]، وبظاهر حديث ابن عمر : (إذا رجع إلى أهله) كما في الصحيحين، وقالوا: بأنه لا يجزئ أن يصوم حتى يصل إلى أهله.

والصحيح في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، ونقول: بأن المقصود: (إذا رجع إلى أهله)، يعني: إذا فرغ من أعمال الحج، بدليل أننا لو قلنا: بأنه لا يصح حتى يرجع إلى أهله لزم من ذلك أن نخصص الصيام بمكان، وهذا لم يرد في الشرع، ويحمل أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رجع إلى أهله)، على الاستحباب، يعني وقت الاستحباب صيام السبع إذا رجع إلى أهله.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2818 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2731 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2677 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2644 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2639 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2558 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2554 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2528 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2521 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2498 استماع