شرح زاد المستقنع - كتاب الزكاة [8]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل، ولا يستحب.

باب: أهل الزكاة ثمانية:

الفقراء: وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية، والمساكين يجدون أكثرها أو نصفها، والعاملون عليها وهم جباتها وحفاظها، الرابع: المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه أو كف شره أو يرحى بعطيته قوة إيمانه، الخامس: الرقاب وهم المكاتبون ويفك منها الأسير المسلم، السادس: الغارم لإصلاح ذات البين، ولو مع غنى أو لنفسه مع الفقر، السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم].

تقدم لنا بقية أحكام زكاة الفطر، وذكرنا من ذلك ما يتعلق بأوقات زكاة الفطر، وتلخص لنا أن زكاة الفطر لها خمسة أوقات: وقت الوجوب، ووقت الاستحباب، ووقت الجواز، ووقت الكراهة، ووقت التحريم، وذكرنا أن الصواب في هذه المسألة: أن زكاة الفطر لها ثلاثة أوقات: وقت الاستحباب، ووقت الجواز، ووقت الوجوب، وكذلك أيضاً التحريم؛ لكنها لا تجزئ كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم ، وأنه إذا أخرها إلى ما بعد الصلاة بلا عذر فهي صدقة من الصدقات كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً تكلمنا عن إخراج الزكاة، وأن إخراجها يجب على الفور، وذكرنا الحالات التي يجوز فيها تقدير الزكاة، وذكرنا أن منع الزكاة ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون ذلك جحداً للوجوب.

القسم الثاني: أن يكون ذلك بخلاً وشحاً بالمال.

ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل).

تعجيل الزكاة كما يقول المؤلف رحمه الله يجوز لحولين فأقل، وأوسع المذاهب في تعجيل الزكاة هم الحنفية رحمهم الله، فعندهم يجوز تعجيل زكاة الفطر لعدة سنوات، وليس لذلك حد، ومثله أيضاً تعجيل زكاة المال، ويقولون: السبب موجود، وهو ملك النصاب، فلا يتقيدون بشيء من ذلك، وأضيق المذاهب مذهب الشافعية؛ حيث يرون أن التعجيل لا يجوز مطلقاً، وكذلك المالكية؛ لكن -كما تقدم لنا- القاعدة عند المالكية: أنهم يتسامحون في الأشياء اليسيرة كثيراً، فيقولون: لا يجوز تعجيل الزكاة؛ لكن لو عجلها لشهر ونحو ذلك فإن هذا جائز ولا بأس به.

وأما المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله فهو أنه يجوز أن تعجل لسنتين كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى، فإذا ملك نصاباً فإنه يجوز له أن يعجلها لسنتين.

ودليلهم على ذلك: حديث علي رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة السنتين )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود ، وأحمد ، وابن ماجه ، وأبو عبيد ؛ لكنه ضعيف، وإن صححه الحاكم ، وحسنه البغوي إلا إنه ضعيف إسناده، وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر إلى خالد بن الوليد ، وابن جميل ، والعباس بن عبد المطلب لأخذ الزكاة، فقيل: منع ابن جميل ، وخالد بن الوليد ، والعباس بن عبد المطلب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما ابن جميل فما ينقم إلا أن أغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً ، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها معها ) قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فهي عليّ، ومثلها معها )، وقيل: بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهي عليّ) أي: الزكاة عليه، (ومثلها معها) فكون النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عن العباس صدقتين هذا من باب التعزير؛ لأن العباس رضي الله تعالى عنه يحتمي بحمى وبجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع ذلك، فقال: ( وأما العباس فهي علي ومثلها معها )، وهذا من قبيل السياسة؛ فلكي لا يتجرأ قريبه، يغلب عليه التعزير، ولهذا عمر رضي الله تعالى عنه كان يجمع أقاربه، ويقول: إن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فأي منكم فعل كذا وكذا، أضعفت عليه العقوبة؛ لئلا يتجرأ ويحتمي بحمى هذا الكبير، وتسهل عليه الجناية.

وعلى كل حال بعض العلماء -كما ذكرت- يستدل بهذا الحديث على تعجيل الزكاة، والذي يظهر -والله أعلم- في هذه المسألة: التعجيل فيه مصلحة، وعندنا قاعدة ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى: وهو أنه يجوز تقديم العبادات بعد وجود سببها، وقبل شرط الوجوب، ولا يجوز قبل وجود السبب، والآن: السبب موجود، وهو ملك النصاب، فإذا ملك النصاب فإنه لا بأس أن يعجل لمدة عام لما ذكرنا من القاعدة السابقة.

ويؤخذ من كلام المؤلف أن هذا على سبيل الجواز، وليس على سبيل الاستحباب، والصواب في هذه المسألة: أنه ينظر إن كان هناك مصلحة، فالتعجيل على سبيل الاستحباب، وإن لم يكن هناك مصلحة فهو على سبيل الجواز، والمصلحة كأن يكون هناك حاجة إلى المال ونحو ذلك، فنقول: بأنه على سبيل الاستحباب، وإذا تم الحول والنصاب ناقص قدر ما عجله فيكون مجزئاً.

ويترتب على تعجيل الزكاة مسائل: لو أنه تم الحول ومن عجلت إليه الزكاة قد اغتنى، فهل تجزئ هذه الزكاة، أو لا تجزئ؟

نقول: بأنها تجزئ, وعندنا قاعدة: ما ترتب على المأذون غير مضمون.

ومثله أيضاً: لو أنه عجل الزكاة للفقير وهو مسلم، ثم ارتد، فإنها تجزئ، أو مات فإنها تجزئ.

وكذلك لو عجل الزكاة، ونقص النصاب بقدر ما عجله، ثم زاد فتغيرت الفريضة، فيجب عليه أن يخرج زكاة الزيادة، ومثال ذلك: مائتان وواحدة من الغنم، فيها ثلاث شياه، هو عنده مائتا شاة أخرج شاتين، بعد أن أخرج الشاتين، بقي عنده مائة وثمانية وتسعون شاة، فنتجت الشياه شاة واحدة، فأصبح عنده مائة وتسع وتسعون شاة، وشاتان كان قد عجلهما، فأصبحت مائتان وواحدة فتجب عليه شاة ثانية؛ لأن العلماء يقولون: المعجل في حكم الموجود في ملكه، يعني: لا يخصمه، بل يعتبره، فلو وجدت شاة عند الحول، نقول: تجب عليه ثلاث شياه.

قال رحمه الله: (لا يستحب).

تكلمنا عن هذه المسألة وأن المشهور من المذهب: لا يستحب التعجيل.

والرأي الثاني: كما قلنا يرجع إلى المصلحة، وهذا اختيار ابن مفلح -رحمه الله- صاحب كتاب (الفروع)، وكذلك المرداوي صاحب كتاب (الإنصاف).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب: أهل الزكاة ثمانية).

لما تكلم المؤلف رحمه الله عن الزكاة، وشروطها، وأنصبائها، ومقدار الواجب فيها، وعن إخراجها، شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان المستحقين للزكاة، وبيان الذين لا يجوز صرف الزكاة لهم، كما سيتكلم المؤلف رحمه الله عن صرف الزكاة للهاشميين، والمطلبيين، والزوج والزوجة، وأصوله، وفروعه، وأقاربه، هل يجوز أن تصرف لهم الزكاة، أو لا يجوز أن تصرف لهم الزكاة؟ هذا سيأتي إن شاء الله الكلام عليه.

فبدأ المؤلف رحمه الله بأهل الزكاة، وأهل الزكاة ثمانية، وقد بينهم الله عز وجل في سورة براءة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].

ويؤخذ من كلام المؤلف في قوله: (أهل الزكاة ثمانية) أن الزكاة لا تصرف إلا لهؤلاء الأصناف الثمانية، ولا تصرف في غيرهم؛ من بناء المساجد، وتعبيد الطرق، وحفر الآبار، وطباعة الكتب، وهذا سيأتي الكلام عليه عند قول المؤلف رحمه الله تعالى: (وفي سبيل الله)، وهل سبيل الله شامل لكل طرق الخير، أو أنه خاص بالجهاد في سبيل الله؟

المصرف الأول والثاني: الفقراء والمساكين

قال رحمه الله: (أهل الزكاة ثمانية: الفقراء، وهم من لا يجدون شيئاً، أو يجدون بعض الكفاية، والمساكين يجدون أكثرها، أو نصفها).

الفقير: هو الذي لا يجد شيئاً، أو يجد بعض الكفاية، يعني: يجد أقل من نصف الكفاية، مثال ذلك: رجل عنده زوجه وولده، وكفايته في السنة عشرون ألف ريال لطعام، وشراب، وأجرة بيت ونحو ذلك، فهذا كفايته في السنة، فإذا كان لا يجد هذه العشرين، نقول: بأنه فقير، وإذا كان يجد سبعة آلاف من هذه العشرين، نقول: بأنه فقير، وإذا كان يجد عشرة آلاف، نقول: بأنه مسكين.

أما المسكين فهو الذي يجد أكثر الكفاية، أو النصف، فإذا كان يجد خمسة عشر ألفاً، نقول: بأنه مسكين.

فمن هو الفقير؟ ومن هو المسكين؟ أيهما أشد حاجة؟ وهذا الكلام لا يترتب عليه فائدة، وإن كان يترتب عليه شيء من الأحكام؛ لكن في إعطاء الزكاة نعطي الفقير والمسكين كفايته إذا كان لا يجد شيئاً، أو نعطيه تمام الكفاية إذا كان يجد بعض الكفاية، فمثلاً: هذا الرجل -الذي قلنا: كفايته، وكفاية من يمونه عشرون ألف ريال- مرتبه في الشهر اثنا عشر ألف ريال، يبقي محتاجاً لثمانية آلاف ريال، فنعطيه من الزكاة ثمانية آلاف ريال، فهذا تمام الكفاية، وأما إذا لم يكن عنده مرتب فإننا نعطيه عشرين ألف ريال، الكفاية التامة، سواء قلنا: بأن الفقير أشد حاجة من المسكين، أو أن المسكين أشد حاجة من الفقير، فكل من الفقير والمسكين نعطيه تمام الكفاية، وإذا كان لا يجد شيئاً فإننا نعطيه الكفاية التامة، والمؤلف رحمه الله تعالى بدأ بالفقراء؛ لأنه يرى أن الفقراء أشد حاجة من المساكين، ولهذا عرف االفقير: بأنه الذي لا يجد شيئاً، أو يجد أقل من النصف، وأما المسكين: فهو الذي يجد النصف، أو أكثر الكفاية.

وهناك -كما ذكرنا- تعاريف أخرى للفقير والمسكين، فـأبو حنيفة يقول: الفقير الذي له أدنى شيء، والمسكين: الذي لا شيء له، وعند المالكية: الفقير الذي لا يملك قوت عامه، والمسكين: الذي لا يملك شيئاً.

إذاً: الصنف الأول والثاني: الفقراء والمساكين، ودليلها كما تقدم قول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].

المصرف الثالث: العاملون عليها وشروطهم

قال رحمه الله: (والعاملون عليها).

هذا هو الصنف الثالث، ومن هو العامل على الزكاة؟

قال المؤلف: (وهم جباتها وحفاظها).

العاملون عليها: هم السعاة الذين يبعثهم الإمام لجباية الزكاة وحفظها، وعدها، وكيلها، ووزنها، وكتابتها، وكما قال ابن قدامة : كل ما يحتاج إليه في أمر الزكاة -فهذه كلمة عامة، فكل ما يحتاج إليه من أمر الزكاة- فهو داخل في العمل على الزكاة، وتحت ذلك مسائل:

المسألة الأولى: قلنا: إن العاملين هم الذين يبعثهم الإمام، وعلى هذا من يبعثه أفراد الناس، فإنهم لا يدخلون في العاملين على الزكاة، فلو أن شخصاً أعطى شخصاً دراهم لكي يوزعها على الفقراء والمساكين، فإنه لا يكون داخلاً في العاملين على الزكاة، وعلى هذا فالذي يقوم بتوزيع الزكاة إما أن يحتسب الأجر، وإما أن يعطيه رب المال مكافأة من عنده، أما أن يأخذ من الزكاة مقابل العمالة فهذا لا يجوز.

المسألة الثانية: إذا كان هؤلاء العاملون لهم رواتب من الدولة، فنقول: بأنهم يقتصرون على هذه الرواتب، إلا إذا كان فقيراً فيأخذ لا من باب العمالة؛ وإنما يأخذ من باب الفقر والمسكنة.

والعامل على الزكاة يشترط له شروط:

الشرط الأول: أن يكون مكلفاً؛ بالغاً عاقلاً.

والشرط الثاني: أن يكون مسلماً.

والشرط الثالث: القوة والأمانة، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26].

والشرط الرابع: الذكورة فأكثر العلماء يشترطون أن يكون ذكراً لحديث عائشة : ( ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ).

والرأي الثاني: أن الذكورة ليست شرطاً؛ لعموم قول الله عز وجل: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26].

والرأي الثاني أقرب، واليوم يحتاج إليه، فكثير من المؤسسات الإغاثية والجمعيات الخيرية توظف بعض النساء، فإذا قلنا: إن الذكورة شرط فلا يجوز أن تعطى من الزكاة، وإنما تعطى من الصدقات، وإذا قلنا: بأنها ليست شرطاً جاز أن تعطى من الزكاة.

الشرط الأخير: ألا يكون العامل عليها من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، وموالي بني هاشم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الفضل بن عباس ، والمطلب بن ربيعة أن يخرج في جلب الزكاة، ويأخذ كما يأخذ الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للفضل بن العباس والمطلب بن ربيعة وهما من بني هاشم: ( إنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد ) رواه مسلم .

وكم يعطى العامل عليها؟

تقدم لنا أن المسكين والفقير يعطى كفايته من النفقات الشرعية من الحوائج الأصلية، فمثلاً: هو بحاجة إلى طعام وشراب، نعطيه الحوائج الأصلية: آلة التبريد، آلة الطبخ، أواني الطعام، الفراش الغطاء، الوطاء، وأدوات الكتابة، فنقول: نعطيه بالكفاية التامة إذا لم يكن له مرتب، وإن كان له مرتب وينقص عن الكفاية، فإننا نعطيه تمام الكفاية.

ونحن ذكرنا أن المساكين والفقراء يعطون بقدر كفايتهم، وأما بالنسبة للعامل على الزكاة نعطيه بقدر عمالته؛ لأننا نعطيه من أجل عمل وليس من أجل حاجة، فيعطى بقدر عمالته، حتى ولو كان غنياً نعطيه، فمثلاً: عمالته تستحق في الشهر ألف ريال، أو تستحق ألفي ريال، نعطيه ألف ريال، أو نعطيه ألفي ريال.. إلخ، فالمهم يعطى بقدر عمالته، وهذا المشهور من المذهب.

المصرف الرابع: المؤلفة قلوبهم وصورهم

قال رحمه الله تعالى: (الرابع: المؤلفة قلوبهم).

المؤلفة: جمع مؤلف، وهو السيد المطاع في عشيرته، فهذا هو المشهور من المذهب.

وهل صنف المؤلفة قلوبهم لا يزال باقياً، أم أنه انقطع؟ للعلماء رحمهم الله تعالى في ذلك قولان:

القول الأول: وهو مذهب الحنابلة والشافعية: أن صنف المؤلفة قلوبهم لا يزال باقياً.

والقول الثاني: رأي مالك وأبي حنيفة أن حكمهم قد انقطع.

أما الذين قالوا بأنه لا يزال باقياً استدلوا بالآية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60]، واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صناديد قريش، وقال: أتألفهم، وذلك لما قالت الأنصار: يعطي صناديد قريش ويدعنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما فعلت ذلك لأتألفهم ) فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان ، وصفوان بن أمية ، والأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن وعباس بن مرداس، فأعطى كل واحد منهم مائة من الإبل، فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صناديد قريش.

وأصحاب الرأي الثاني قالوا: بأن الصحابة لم يعطوا المؤلفة قلوبهم، وأجيب عن كون الصحابة لم يعطوا المؤلفة قلوبهم؛ لعدم الحاجة إلى ذلك.

والصواب في هذا: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة رحمهم الله.

والمؤلف قلبه هل يشترط أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته، أو أنه لا يشترط؟

المشهور من المذهب أنه يشترط أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الصناديد أبا سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية ، وعيينة بن حصن .

والرأي الثاني: لا يشترط، وهذا هو الصواب، وعلى هذا لو رأينا رجلاً قريباً من الإسلام، ولو أعطيناه من الزكاة دخل في الإسلام، فإننا نعطيه من الزكاة.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (ممن يرجى إسلامه).

المؤلفة قلوبهم تحتهم صور:

الصورة الأولى: أن يكون المؤلف قلبه ممن يرجى إسلامه ولو لم يكن سيداً مطاعاً في عشيرته كما تقدم، فإذا كان يرجى إسلامه، فهذا الشخص نعرف أننا إذا أعطيناه فإنه يدخل في الإسلام، نقول: بأننا نعطيه من الزكاة، وهذه الصورة الأولى.

والصورة الثانية: (أو كف شره).

إذا أعطيناه من الزكاة نكف شره عن المسلمين فهنا يشترط أن يكون سيداً؛ لأنه إذا كان فرداً من أفراد الناس فكف شره سهل، أما إذا كان سيداً فقد لا نتمكن من أن نكف شره بالعصا، وإنما نكفه بالمال، وهذا الصورة الثانية.

وقوله رحمه الله: (أو يرجى بعطيته قوة إيمان).

هذه الصورة الثالثة: إذا كنا نرجو بعطيته قوة إيمان فلا يشترط أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته، فإذا كنا نعرف أنه دخل في الإسلام؛ لكن إيمانه ضعيف ولو أعطيناه من الزكاة فإن إيمانه يقوى، فإننا نعطيه من الزكاة.

الصورة الرابعة: (أو إسلام نظيره).

يعني: إذا أعطيناه فإن نظيره يدخل في الإسلام، فهذا أيضاً نعطيه من الزكاة ولا يشترط أن يكون سيداً في عشيرته.

الصورة الخامسة: (أو جبايتها ممن لا يعطيها).

هذه الصورة الخامسة: أننا إذا أعطيناه فإننا نجبي الزكاة ممن لا يعطيها، فإذا أعطينا الزكاة لهؤلاء جبوا لنا الزكاة ممن لا يعطي الزكاة، فهذا نعطيه من الزكاة، ويشترط -والله أعلم- هنا أن يكون سيداً في عشيرته.

إذاً: فقد ذكرنا قدر ما يعطى الفقير، وقدر ما يعطى المسكين، وقدر ما يعطى العامل؛ بقدر عمالته أجرة، والمؤلف قلبه بقدر ما يحصل به التأليف، وهذا يختلف باختلاف الناس إذا كان التأليف يحصل بمائة ريال، أو بخمسمائة ريال نعطيه، وهكذا.

المصرف الخامس: المكاتبون

قال المؤلف رحمه الله: (الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون، ويفك منها الأسير المسلم).

لقول الله عز وجل: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60].

والمقصود بالرقاب عند جمهور العلماء: المكاتبون، والمكاتب: هو الذي اشترى نفسه من سيده بمال منجم، فمثلاً رقيق اشترى نفسه من سيده باثني عشر ألفاً، كل شهر يعطيه ألف ريال، فهذا نعطيه من الزكاة ما يسدد به كتابته، هذا هو قول جمهور العلماء رحمهم الله.

والرأي الثاني رأي الإمام مالك رحمه الله: أن المراد بالرقاب الرقيق، فيشتري بالزكاة رقيقاً ويعتق، والصحيح أنه شامل للصورتين، بل شامل للصور التي ذكرها المؤلف رحمه الله، فهي ثلاثة صور.

الصورة الثالثة: قال المؤلف رحمه الله: (ويفك منها الأسير المسلم).

إذا كان هناك أسير مسلم عند الكفار، فإننا نعطيهم من الزكاة ما يفكون به هذا الأسير المسلم.

والصورة الرابعة وهي التي لا تجزئ: أن يكون عنده رقيق ويعتقه عن الزكاة، فهذا قال العلماء رحمهم الله: لا يجزئ في هذه الحالة.

المصرف السادس: الغارمون

قال المؤلف رحمه الله: (الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غنى).

هذا السادس: الغارم؛ لقول الله عز وجل: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60].

والغرم في اللغة: النزول.

وأما في الاصطلاح: فهو من لزمه دين، والغرم ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول كما قال المؤلف: لإصلاح ذات البين، وذلك بأن يقع بين طائفتين من المسلمين شجار -قال العلماء: ولو كانت الطائفتان من أهل الذمة- فإذا وقع بين طائفتين من المسلمين، أو أهل الذمة شجار وخصام، فيحصل شيء من إتلاف الأموال، وسفك الدماء ونحو ذلك، فيقوم شخص فيصلح بين هاتين الطائفتين، ويتحمل حمالات عما حصل من إتلاف الأموال وسفك الدماء، فهذا يعطى من الزكاة ولو كان غنياً.

وإصلاح ذات البين له صور:

الصورة الأولى: أن يتحمل في ذمته، يعني: يصلح بين هاتين الطائفتين ويتحمل، يقول لهذه الطائفة: أتحمل عنك ما حصل لك من إتلاف للأموال وسفك الدماء، وكذلك أيضاً يقول للطائفة الأخرى، فيتحمل مثلاً: مائة ألف، أو مائتي ألف، فهذا يعطى من الزكاة ولو كان غنياً.

الصورة الثانية: أن يقترض أموالاً ويسدد لهذه الطائفة، ويسدد لهذا الطائفة، فهذا نعطيه من الزكاة ما يسدد به الدين الذي عليه ولو كان غنياً.

الصورة الثالثة: أن يدفع من ماله، ويرجع على الأغنياء، يعني: يدفع من ماله لهذه كذا وكذا من الدراهم، وهذه كذا وكذا من الدراهم، ويرجع على الأغنياء، أي: على الزكاة لكي يأخذ منها، فهذا كثير من العلماء يقول: لا يجوز؛ لأنه ليس غارماً فهو الآن إنما دفع من ماله، والله عز وجل يقول: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60].

ويظهر والله أعلم: أن هذا يرجع إلى الأحوال والمصالح، فقد لا يتمكن من الإصلاح إلا أن يدفع من ماله ولا يجد أحداً يقرضه، أو أن هذه الطوائف لا ترضى أن يتحمل في ذمته حتى يجمع الزكاة ونحو ذلك، فنقول: هذا يرجع إلى قرائن الأحوال ونحو ذلك، وهذا هو النوع الأول من نوعي الغارمين، الغارم لإصلاح ذات البين.

قال المؤلف رحمه الله: (أو لنفسه مع الفقر).

هذا هو النوع الثاني من أنواع الغارمين: أن يغرم لنفسه، ولا يغرم لإصلاح ذات البين، واشترط المؤلف رحمه الله: أن يكون فقيراً لا يجد ما يسدد به هذا الغرم، فإننا نعطيه من الزكاة.

والغرم للنفس تحته صور:

الصورة الأولى: أن يغرم في النفقات الشرعية، والحوائج الأصلية، فهذا نعطيه من الزكاة، كأن اشترى طعاماً ولحقه دين فنعطيه من الزكاة، أو اشترى ثلاجة، أو غسالة، أو أدوات تبريد، أو اشترى مركوباً يليق به كسيارة أو اشترى بيتاً يليق به، فنقول: نعطيه من الزكاة.

فهذا نعطيه من الزكاة كما قال المؤلف: (مع الفقر) ولا يستطيع أن يسدد.

الصورة الثانية: أن يغرم بسبب الجوائح التي اجتاحت ماله، كأن يكون عنده مصانع، أو مزارع، واقترض القروض لهذه المصانع والمزارع لتأسيسها، أو لتنميتها، ثم لحقته جوائح مثلاً: أصابت هذه المزارع الأمطار، أو الرياح فأتلفتها، أو احترقت هذه المصانع، فلحقته الديون والغرامات، فهذا نعطيه من الزكاة ما يسدد به هذا الغرم.

الصورة الثالثة: أن يقترض لأمور كمالية، مثلاً: عنده سيارة فيشتري سيارة أخرى، أو عنده بيت ويشتري بيتاً زائداً، أو أرضاً زائدة ويلحقه دين فهذا لا يعطى من الزكاة، يعني: في الأمور الزائدة على النفقات الشرعية، والحوائج الأصلية التي تليق به، لا نعطيه من الزكاة. وإذا لحقه دين لسبب محرم، ولنفرض أنه ممن يشرب الدخان، ولحقته ديون، مثلاً: ألف ريال، أو كان من الذين يستخدمون المخدرات، أو يتعامل بالربا، ولحقته ديون، فلا يعطى من الزكاة، ولا يجوز أن يعطى، اللهم إلا إن تاب ورجع إلى الله عز وجل، فهذا لا بأس أن نعطيه من الزكاة حثاً له على التمسك بالتوبة.

المصرف السابع: في سبيل الله

قال المؤلف رحمه الله: (السابع في سبيل الله: وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم).

السابع من أهل الزكاة: الغزاة؛ لقول الله عز وجل: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ [التوبة:60].

والمشهور من المذهب أن المراد بسبيل الله ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى: بأنهم الغزاة المتطوعة، أي: الذين لا ديوان لهم، يعني: الجند الذين يخرجون في القتال في سبيل الله وليس لهم راتب، فإن كان لهم راتب فهؤلاء لا يعطون على أنهم في سبيل الله؛ ولكن إذا كان الراتب لا يكفيهم، فإننا نعطيهم من أجل الفقر، هذا هو المشهور.

الرأي الثاني رأي المالكية أن المقصود في سبيل الله: هو كل ما يتعلق بأمر الجهاد سواء كان رواتب للجند، أو كان شراء آلات ومعدات، أو كان شراء أسلحة، أو كان ما يتعلق بتعليم القتال.

وهذا القول هو الصواب.

وهنا مسألة أخرى وهي: هل يدخل بقية طرق الخير في سبيل الله؟ أو نقول: بأن هذا خاص بأمر الجهاد، إما للجند كما يقول الحنابلة والشافعية، أو بأنه كل ما يتعلق بأمر الجهاد كما يقول المالكية؟ أو نقول: بأن الأمر أشمل من ذلك، وأنه يشمل كل طرق الخير؟

للعلماء رحمهم الله تعالى في ذلك رأيان:

الرأي الأول: أنه خاص بالجهاد في سبيل الله، وهذا قول جمهور العلماء رحمهم الله، يعني: رأي المالكية، والشافعية، والحنابلة والحنفية، وإن كانوا يختلفون في بعض الأوصاف، مثلاً: الحنابلة -كما تقدم- يقولون: الجند الذي لا ديوان لهم، ومثلهم يقول الشافعية والحنفية وجمهور العلماء، والمالكية يقولون: كل ما يتعلق بالجهاد في سبيل الله.

الرأي الثاني: أن المقصود في سبيل الله كل ما يتعلق بطرق الخير، فيدخل في ذلك ما يتعلق بطبع الكتب، وتعبيد الطرق، وإنشاء المستشفيات، ونحو ذلك من جميع وجوه البر.

الرأي الثالث في هذه المسألة: أنه يشمل الجهاد بنوعيه: الجهاد بالسيف والسنان، والجهاد بالعلم والبيان، فتصرف الزكاة في الجهاد بنوعيه، فيما يتعلق بالجهاد الاصطلاحي المعروف بالسيف والسنان، وكذلك الجهاد بالعلم والبيان، كتبليغ الدعوة، وما يتعلق بالدعوة والدعاة، وتعليم العلم فيجوز صرف الزكاة فيها، ولكل منهم دليل نتعرض له إن شاء الله.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2818 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2731 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2678 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2645 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2640 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2558 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2555 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2528 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2521 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2498 استماع