شرح زاد المستقنع - كتاب الجنائز [7]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة، ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب، ولا تكره القراءة على القبر، وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك، وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم، ويكره لهم فعله للناس.

فصل: تسن زيارة القبور إلا للنساء، ويقول إذا زارها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم.

وتسن تعزية المصاب بالميت، ويجوز البكاء على الميت، ويحرم الندب، والنياحة، وشق الثوب، ولطم الخد ونحوه].

بالنسبة لضابط حفر القبر تقدم لنا ما يتعلق باللحد وما يتعلق بالشق، لكن ما يتعلق بعمق القبر العلماء رحمهم الله يذكرون في ذلك صفتين:

الصفة الأولى: صفة مستحبة، وهي: أن يعمق القبر ويوسع؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( احفروا وأعمقوا وأوسعوا )، وحده بعض العلماء بنصف قامة رجل.

وأما الصفة الجائزة فأن يحفر ما يكفي لمنع الرائحة والسباع، فإذا حفر ما يكفي لمنع الرائحة والسباع فإن ذلك كاف وبه يستر القبر.

حكم دفن أكثر من واحد في القبر

قال رحمه الله: (ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة).

يحرم أن يدفن اثنان فأكثر, هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ودليل ذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك أيضاً عمل المسلمين أن كل ميت يدفن في قبر واحد، فقالوا بأنه يحرم أن يجمع اثنان فأكثر في قبر واحد.

وعند الإمام الشافعي -رحمه الله- بأن ذلك على سبيل الكراهة، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنه ليس على سبيل التحريم، ولعل دليل هذا القول أنه لم يرد ما يدل على النهي، وإنما فعل النبي عليه الصلاة والسلام وفعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

فالمسألة فيها رأيان: المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله التحريم، وعند الشافعي واختاره شيخ الإسلام الكراهة، لكن مع ذلك استثنى العلماء رحمهم الله مسألتين، نقول: ينهى أن يدفن اثنان فأكثر في قبر واحد، لكن استثنى العلماء رحمهم الله مسألتين:

المسألة الأولى: في حال الضرورة، كما لو كثر الأموات فإنه لا بأس أن نحفر قبراً وأن ندفن فيه اثنين، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد.

وإذا دفنا اثنين في حال الضرورة فإننا نقدم إلى القبلة أفضلهم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدفن من شهداء أحد, ويسأل عن أكثرهم أخذاً للقرآن فيقدمه إلى القبلة.

كذلك أيضاً يجعل بين هذين الميتين حاجز من تراب، مثل أن يكون كل واحد منهما كأنه في قبر مستقل.

المسألة الثانية: إذا أرم الميت الأول وأصبح رميماً فإنه يجوز لنا أن ندفن في هذا القبر ميتاً آخر، قال العلماء: يجوز أن يحرث في هذه الأرض وأن يزرع.. إلى آخره.

وهل لهذا حد أو ليس له حد؟ نقول بأن هذا ليس له حد، وإنما يرجع في ذلك إلى الظن وأهل الخبرة، فإذا قال أهل الخبرة: إن هذه القبور أصبحت رميماً فإنه لا بأس أن تحفر وأن يدفن فيها، أو تحرث أو تزرع ونحو ذلك، فهذا ليس له حد, وإنما يرجع في ذلك إلى الظن وإلى كلام أهل الخبرة.

قال رحمه الله: (إلا لضرورة، ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب).

يجعل بين كل اثنين حاجز من تراب، والعلة في ذلك أن يصير كل واحد منهما كأنه في قبر منفرد.

أوقات النهي عن الدفن

وهناك مسائل أخرى تتعلق بالدفن، من هذه المسائل: أن الدفن يجوز في كل وقت إلا في ثلاثة أوقات، يجوز نهاراً، ويجوز ليلاً.

أما جوازه نهاراً فهذا ظاهر متفق عليه، وأما بالنسبة لجوازه ليلاً فهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، ويدل لهذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر دفن ليلاً )، وأيضاً: ( النبي عليه الصلاة والسلام دفن بالليل )، وكذلك أيضاً أبو بكر رضي الله تعالى عنه دفن ليلاً، وكذلك أيضاً فاطمة رضي الله تعالى عنها دفنت ليلاً.

فالصواب في هذا أن الدفن ليلاً جائز ولا بأس به، خلافاً لمن كره ذلك كـالحسن البصري وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، لكن نستثني من ذلك ثلاثة أوقات اختلف أهل العلم رحمهم الله في الدفن فيها، دل لها حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف للغروب حتى تغرب ).

فهذه ثلاثة أوقات ورد النهي عن الدفن فيها، وذهب بعض أهل العلم كصاحب الشرح الكبير من الحنابلة إلى أنه محرم ولا يجوز الدفن في هذه الأوقات لظاهر النهي.

والمشهور من مذهب الإمام أحمد أن ذلك مكروه، وعند الحنفية أن ذلك جائز، والشافعية فصلوا في ذلك، قالوا: إذا تحرى الدفن في هذه الأوقات كره، وإذا لم يتحر فإن ذلك جائز.

فعندنا أربعة آراء: الرأي الأول: التحريم. والثاني: الجواز، وهو قول الحنفية. والحنابلة: الكراهة. والشافعية: التفصيل في هذه المسألة.

والصواب في ذلك التحريم، وعلى هذا إذا أتي بالجنازة عند غروب الشمس، أو بعد طلوعها وقبل أن ترتفع، أو إذا قام قائم الظهيرة يعني: في حال الاستواء عند انتصاف النهار فإنه يحرم الدفن في هذه الأوقات حتى تزول، وقد تقدم لنا في أوقات النهي ضابط الغروب.

وأن الصواب في ذلك أنه إذا غاب حاجب الشمس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( إذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة )، فنقول: إذا غاب حاجب الشمس يحرم الدفن حتى تغيب.

كذلك أيضاً إذا طلعت الشمس فإنه يحرم الدفن حتى ترتفع قيد رمح، وسبق أن ذكرنا قدره ما يقرب من عشر دقائق أو ثنتي عشرة دقيقة، وكذلك أيضاً في حال انتصاف النهار في حال الاستواء يحرم الدفن حتى تزول، وأيضاً يقدر بعشر دقائق أو بثنتي عشرة دقيقة.

استحباب الدفن في المقابر

كذلك أيضاً السنة وهدي النبي عليه الصلاة والسلام الدفن في المقابر، وعلى هذا لو أوصى أحد أن يدفن في بيته، أو أوصى أن يدفن في مكان منفرد.. إلى آخره فلا تنفذ هذه الوصية؛ لأن السنة هو الدفن في مقابر المسلمين، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يدفن أصحابه في البقيع، وكذلك الخلفاء من بعده.

لكن استثنى العلماء رحمهم الله النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه والشهداء، فالنبي عليه الصلاة والسلام يستثنى من ذلك؛ لأنه كما ورد: ( ما من نبي يموت إلا دفن حيث مات )، وبالنسبة لصاحبيه أبي بكر وعمر دفنا معه؛ لأنهم كانوا جميعاً أحياءً وأمواتاً، ولهذا في حديث علي رضي الله تعالى عنه قال: ( كثيراً ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كنت أنا وأبو بكر وعمر ، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر )، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم معهما جميعاً أحياءً وأمواتاً، كذلك أيضاً الشهداء يدفنون في مصارعهم، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام في شهداء أحد، وكذلك أيضاً في شهداء بدر.

كذلك أيضاً إذا أوصى أحد أن يدفن في مكان كذا وكذا، وأن ينقل إلى البلد الفلاني.. إلى آخره، فلا يلزم تنفيذ هذه الوصية، وإنما يدفن مع المسلمين في المكان الذي مات فيه، اللهم إلا إذا مات في بلد الكفر فإنه ينقل إلى بلد الإسلام، لكن لو مات في بلاد المسلمين فإنه يدفن مع المسلمين؛ لأنه إذا أوصى أن ينقل هذا يؤدي إلى تأخير الدفن وتجهيز الميت.

تقدم لنا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحةً فخير تقدموها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ).

وأيضاً يلزم من ذلك المشقة على أوليائه وأقاربه، وليس ذلك من هدي السلف الصالح.

القراءة على القبر

قال رحمه الله: (ولا تكره القراءة على القبر).

فالقراءة على القبر يقول المؤلف رحمه الله بأنها جائزة، ولا بأس بها، واستدلوا على ذلك بأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أوصى أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخواتيمها.

وكذلك أيضاً قالوا أن بعض الأنصار أوصى أن يقرأ عنده بسورة البقرة، وقالوا بأن هذا جائز، وعند الإمام الشافعي -رحمه الله- أن هذا بدعة، وقال الإمام مالك رحمه الله: ما علمت أن أحداً يفعل ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فعلم أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يفعلون ذلك. فالصواب في ذلك أن القراءة على القبر بدعة، وأنها لا تشرع.

وأما أثر ابن عمر وأثر ما ورد عن بعض الأنصار.. فهذان الأثران لا يثبتان، وكذلك أيضاً ما روي من حديث أنس : (من دخل المقابر فقرأ فيها يس خفف عنهم) أيضاً هذا لا يثبت.

فالصواب في ذلك: أن الإنسان يفعل ما دلت عليه السنة، والسنة كما في حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل )، فالسنة إذا دفن الميت أن يقام على قبره، وأن يسأل له التثبيت وأن الله عز وجل يثبته، فإنه الآن يسأل، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله تعالى عنه ( أن الميت إذا دفن يتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما تقول في هذا الرجل؟ -النبي صلى الله عليه وسلم- فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه رسول الله ).

فالسنة في ذلك أن يقام على القبر؛ كما قال الله عز وجل: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] ، فدل ذلك على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم على القبر لكن نهاه الله عز وجل أن يقوم على قبور المنافقين. ومن السنة أن يستغفر له؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل ).

إهداء القرب للأموات

قال رحمه الله: (وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك).

قوله: (أي قربة) يعني: أي عمل يتقرب به إلى الله عز وجل، فأي عمل تتقرب به إلى الله عز وجل إذا عملته ثم أهديت ثوابه لمسلم حي أو ميت نفعه ذلك.

وعلى كلام المؤلف لو أن أحداً قرأ القرآن ثم أهدى ثوابه، قال: لأبي الميت، أو صلى ثم قال: ثواب هذه الصلاة لأبي الحي أو لأبي الميت، أو تصدق.. إلى آخره، فإن هذا جائز ولا بأس به، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. والحنابلة رحمهم الله هم أوسع المذاهب في هذه المسألة، وهي من مفردات مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

واعلم أن القرب التي تهدى تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: القرب المالية أو المركبة من المال والبدن، القرب المالية مثل: الصدقة، وأيضاً المركبة مثل: الحج، وكذلك أيضاً الدعاء، هذه باتفاق الأئمة على أنها تصل، يعني: لو أن إنساناً دعا لميته أو دعا لوالده الحي، أو استغفر له ودعا له بالمغفرة، أو تصدق وأهدى ثواب هذه الصدقة له فإن هذا يصل.

وكذلك أيضاً لو أنه حج ثم أهدى ثواب هذا الحج لهذا الميت، أو أعتق وأهدى ثواب هذا العتق لهذا الميت.. إلى آخره من القرب المالية أو المركبة من المال والبدن فهذه تصل، يعني: ثوابها يصل باتفاق الأئمة.

القسم الثاني: القرب البدنية، مثل: الصيام، والصلاة، وقراءة القرآن، والاعتكاف، فإذا أهدى ثواب هذه الأشياء، هل يصل أو لا يصل؟

عند الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا أهدى ثواب مثل هذه الأشياء فإنه يصل، وعند بقية الأئمة الشافعي والمالكية والحنابلة: أن ثوابها لفاعلها، وأنه لا يصل لمن أهدي إليه.

وهنا نقول: إن القرب تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما يتعلق بالقرب البدنية أو المركبة، وكذلك أيضاً الدعاء والاستغفار فهذه فيها علة.

والقسم الثاني: ما يتعلق بالقرب البدنية، كالصلاة، والصيام، والاعتكاف، وقراءة القرآن، ونحو ذلك فهذه عند الحنابلة يصل ثوابها، وأما عند بقية الأئمة يقولون بأن ثوابها لا يصل.

أما بالنسبة للدعاء للميت والاستغفار فالأدلة عليها ظاهرة، من ذلك قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] .

وكذلك أيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث... أو ولد صالح يدعو له ).

وأما بالنسبة لوصول ثواب القرب المالية؛ فدليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أمي ماتت، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم ) وهذا في الصحيحين.

وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ( يا رسول الله! إن أمي ماتت ولم توص، أو إن أبي مات ولم يوص، أفينفعه إن تصدقت عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ).

وكذلك أيضاً بالنسبة للحج، حديث الجهنية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمها: ( أنها نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حجي عنها ).

فهذه الأدلة -حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة- دليل على وصول هذه القرب وكذلك الدعاء وأيضاً الصدقات المالية والمركبة إلى آخره.

والحنابلة استدلوا على وصول ثواب العبادات البدنية من الدعاء والصلاة والصيام والاعتكاف والقراءة بحديث عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )، فكون الصيام يجزي هذا يدل على أن الذمة تبرأ، وأن ذلك ينفعه.

والأقرب في ذلك أن نقول: بأن إهداء القرب ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما كان إهداؤه مشروعاً، وهذا هو الدعاء والاستغفار، ودليل ذلك ما تقدم أن أشرنا إليه من قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] ، فأثنى عليهم بكونهم يدعون لإخوانهم الذين سبقوهم.

وأيضاً: ما تقدم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أو ولد صالح يدعو له ).

القسم الثاني: ما كان إهداؤه مباحاً، وهذا في بقية القرب، فنقول بأن إهداءها مباح، ولهذا أذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عباس في الرجل الذي سأله أن يتصدق عن أمه، وفي حديث أبي هريرة في مسلم أذن لمن سأله أن يتصدق عن أبيه.

فنقول بأن هذا جائز مباح، وعلى هذا لو أن الإنسان تصدق أو أعتق أو صام أو قرأ أو صلى وأهدى الثواب فنقول بأن ذلك يصل بإذن الله، لكن هذا من قبيل المباح وليس من قبيل المسنون، فالسنة أن يقتصر الإنسان على الدعاء، وأن يجعل العمل الصالح له.

كذلك أيضاً لو اعتمر أو حج إلى آخره، لكن هذه الأشياء تقيد بألا يكثر الإنسان من ذلك؛ لأنه إذا أكثر منه جعله مشروعاً أو شبيهاً بالمشروع، لكن إذا فعل ذلك أحياناً فنقول بأن هذا يصل إن شاء الله.

صنع الطعام لأهل الميت

قال رحمه الله: (وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم).

السنة أن يفعل لأهل الميت طعام؛ لحديث عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه أتاهم ما يشغلهم )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم.

فنقول: السنة أن يصلح لأهل الميت، وانظر إلى تعبير النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فإنه قد أتاهم ما يشغلهم )، فنقول: إذا شغل أهل الميت فإن السنة أن يصلح لهم طعام، أما إذا لم يشغلوا، أي: قد يموت الشخص لكن أهله لا ينشغلون بموته, يعني: لا يصابون بموته، وحينئذ لا يشرع أن يصلح لهم طعام، لكن من شغل بالمصيبة وألهته المصيبة وشغلته عن الطعام أو عن إصلاح الطعام فإننا نصلح له طعاماً.

والعلماء -رحمهم الله- قيدوا إصلاح الطعام بثلاثة أيام، وظاهر السنة أنه غير مقيد، يعني: ما دام أن المصيبة قد شغلتهم فيصلح لهم طعاماً.

وأيضاً ظاهر السنة أن الطعام إنما يصلح لمن شغلته المصيبة دون غيره، الذي يأكل هذا الطعام هو الذي شغلته المصيبة دون غيره.

حكم صنع أهل الميت الطعام للناس

وأيضاً السنة تدل على أن أهل الميت هم الذين يصلح لهم الطعام، ولا يصلحون هم الطعام لغيرهم.

قال المؤلف رحمه الله: (ويكره لهم فعله للناس)، يعني: يكره أن يصنعوا طعاماً للناس؛ ويدل لذلك حديث جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: ( كنا نعد الاجتماع لأهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة ).

وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه، وصححه بعض أهل العلم، وبعض الأئمة ضعف هذا الحديث.

وعلى كل حال عندنا السنة من ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بأن يصنع الطعام لأهل الميت, ولم يرد أن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام.

قال رحمه الله: (ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة).

يحرم أن يدفن اثنان فأكثر, هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ودليل ذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك أيضاً عمل المسلمين أن كل ميت يدفن في قبر واحد، فقالوا بأنه يحرم أن يجمع اثنان فأكثر في قبر واحد.

وعند الإمام الشافعي -رحمه الله- بأن ذلك على سبيل الكراهة، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنه ليس على سبيل التحريم، ولعل دليل هذا القول أنه لم يرد ما يدل على النهي، وإنما فعل النبي عليه الصلاة والسلام وفعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

فالمسألة فيها رأيان: المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله التحريم، وعند الشافعي واختاره شيخ الإسلام الكراهة، لكن مع ذلك استثنى العلماء رحمهم الله مسألتين، نقول: ينهى أن يدفن اثنان فأكثر في قبر واحد، لكن استثنى العلماء رحمهم الله مسألتين:

المسألة الأولى: في حال الضرورة، كما لو كثر الأموات فإنه لا بأس أن نحفر قبراً وأن ندفن فيه اثنين، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد.

وإذا دفنا اثنين في حال الضرورة فإننا نقدم إلى القبلة أفضلهم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدفن من شهداء أحد, ويسأل عن أكثرهم أخذاً للقرآن فيقدمه إلى القبلة.

كذلك أيضاً يجعل بين هذين الميتين حاجز من تراب، مثل أن يكون كل واحد منهما كأنه في قبر مستقل.

المسألة الثانية: إذا أرم الميت الأول وأصبح رميماً فإنه يجوز لنا أن ندفن في هذا القبر ميتاً آخر، قال العلماء: يجوز أن يحرث في هذه الأرض وأن يزرع.. إلى آخره.

وهل لهذا حد أو ليس له حد؟ نقول بأن هذا ليس له حد، وإنما يرجع في ذلك إلى الظن وأهل الخبرة، فإذا قال أهل الخبرة: إن هذه القبور أصبحت رميماً فإنه لا بأس أن تحفر وأن يدفن فيها، أو تحرث أو تزرع ونحو ذلك، فهذا ليس له حد, وإنما يرجع في ذلك إلى الظن وإلى كلام أهل الخبرة.

قال رحمه الله: (إلا لضرورة، ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب).

يجعل بين كل اثنين حاجز من تراب، والعلة في ذلك أن يصير كل واحد منهما كأنه في قبر منفرد.

وهناك مسائل أخرى تتعلق بالدفن، من هذه المسائل: أن الدفن يجوز في كل وقت إلا في ثلاثة أوقات، يجوز نهاراً، ويجوز ليلاً.

أما جوازه نهاراً فهذا ظاهر متفق عليه، وأما بالنسبة لجوازه ليلاً فهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، ويدل لهذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر دفن ليلاً )، وأيضاً: ( النبي عليه الصلاة والسلام دفن بالليل )، وكذلك أيضاً أبو بكر رضي الله تعالى عنه دفن ليلاً، وكذلك أيضاً فاطمة رضي الله تعالى عنها دفنت ليلاً.

فالصواب في هذا أن الدفن ليلاً جائز ولا بأس به، خلافاً لمن كره ذلك كـالحسن البصري وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، لكن نستثني من ذلك ثلاثة أوقات اختلف أهل العلم رحمهم الله في الدفن فيها، دل لها حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف للغروب حتى تغرب ).

فهذه ثلاثة أوقات ورد النهي عن الدفن فيها، وذهب بعض أهل العلم كصاحب الشرح الكبير من الحنابلة إلى أنه محرم ولا يجوز الدفن في هذه الأوقات لظاهر النهي.

والمشهور من مذهب الإمام أحمد أن ذلك مكروه، وعند الحنفية أن ذلك جائز، والشافعية فصلوا في ذلك، قالوا: إذا تحرى الدفن في هذه الأوقات كره، وإذا لم يتحر فإن ذلك جائز.

فعندنا أربعة آراء: الرأي الأول: التحريم. والثاني: الجواز، وهو قول الحنفية. والحنابلة: الكراهة. والشافعية: التفصيل في هذه المسألة.

والصواب في ذلك التحريم، وعلى هذا إذا أتي بالجنازة عند غروب الشمس، أو بعد طلوعها وقبل أن ترتفع، أو إذا قام قائم الظهيرة يعني: في حال الاستواء عند انتصاف النهار فإنه يحرم الدفن في هذه الأوقات حتى تزول، وقد تقدم لنا في أوقات النهي ضابط الغروب.

وأن الصواب في ذلك أنه إذا غاب حاجب الشمس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( إذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة )، فنقول: إذا غاب حاجب الشمس يحرم الدفن حتى تغيب.

كذلك أيضاً إذا طلعت الشمس فإنه يحرم الدفن حتى ترتفع قيد رمح، وسبق أن ذكرنا قدره ما يقرب من عشر دقائق أو ثنتي عشرة دقيقة، وكذلك أيضاً في حال انتصاف النهار في حال الاستواء يحرم الدفن حتى تزول، وأيضاً يقدر بعشر دقائق أو بثنتي عشرة دقيقة.

كذلك أيضاً السنة وهدي النبي عليه الصلاة والسلام الدفن في المقابر، وعلى هذا لو أوصى أحد أن يدفن في بيته، أو أوصى أن يدفن في مكان منفرد.. إلى آخره فلا تنفذ هذه الوصية؛ لأن السنة هو الدفن في مقابر المسلمين، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يدفن أصحابه في البقيع، وكذلك الخلفاء من بعده.

لكن استثنى العلماء رحمهم الله النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه والشهداء، فالنبي عليه الصلاة والسلام يستثنى من ذلك؛ لأنه كما ورد: ( ما من نبي يموت إلا دفن حيث مات )، وبالنسبة لصاحبيه أبي بكر وعمر دفنا معه؛ لأنهم كانوا جميعاً أحياءً وأمواتاً، ولهذا في حديث علي رضي الله تعالى عنه قال: ( كثيراً ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كنت أنا وأبو بكر وعمر ، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر )، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم معهما جميعاً أحياءً وأمواتاً، كذلك أيضاً الشهداء يدفنون في مصارعهم، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام في شهداء أحد، وكذلك أيضاً في شهداء بدر.

كذلك أيضاً إذا أوصى أحد أن يدفن في مكان كذا وكذا، وأن ينقل إلى البلد الفلاني.. إلى آخره، فلا يلزم تنفيذ هذه الوصية، وإنما يدفن مع المسلمين في المكان الذي مات فيه، اللهم إلا إذا مات في بلد الكفر فإنه ينقل إلى بلد الإسلام، لكن لو مات في بلاد المسلمين فإنه يدفن مع المسلمين؛ لأنه إذا أوصى أن ينقل هذا يؤدي إلى تأخير الدفن وتجهيز الميت.

تقدم لنا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحةً فخير تقدموها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ).

وأيضاً يلزم من ذلك المشقة على أوليائه وأقاربه، وليس ذلك من هدي السلف الصالح.

قال رحمه الله: (ولا تكره القراءة على القبر).

فالقراءة على القبر يقول المؤلف رحمه الله بأنها جائزة، ولا بأس بها، واستدلوا على ذلك بأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أوصى أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخواتيمها.

وكذلك أيضاً قالوا أن بعض الأنصار أوصى أن يقرأ عنده بسورة البقرة، وقالوا بأن هذا جائز، وعند الإمام الشافعي -رحمه الله- أن هذا بدعة، وقال الإمام مالك رحمه الله: ما علمت أن أحداً يفعل ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فعلم أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يفعلون ذلك. فالصواب في ذلك أن القراءة على القبر بدعة، وأنها لا تشرع.

وأما أثر ابن عمر وأثر ما ورد عن بعض الأنصار.. فهذان الأثران لا يثبتان، وكذلك أيضاً ما روي من حديث أنس : (من دخل المقابر فقرأ فيها يس خفف عنهم) أيضاً هذا لا يثبت.

فالصواب في ذلك: أن الإنسان يفعل ما دلت عليه السنة، والسنة كما في حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل )، فالسنة إذا دفن الميت أن يقام على قبره، وأن يسأل له التثبيت وأن الله عز وجل يثبته، فإنه الآن يسأل، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله تعالى عنه ( أن الميت إذا دفن يتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما تقول في هذا الرجل؟ -النبي صلى الله عليه وسلم- فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه رسول الله ).

فالسنة في ذلك أن يقام على القبر؛ كما قال الله عز وجل: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] ، فدل ذلك على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم على القبر لكن نهاه الله عز وجل أن يقوم على قبور المنافقين. ومن السنة أن يستغفر له؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل ).

قال رحمه الله: (وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك).

قوله: (أي قربة) يعني: أي عمل يتقرب به إلى الله عز وجل، فأي عمل تتقرب به إلى الله عز وجل إذا عملته ثم أهديت ثوابه لمسلم حي أو ميت نفعه ذلك.

وعلى كلام المؤلف لو أن أحداً قرأ القرآن ثم أهدى ثوابه، قال: لأبي الميت، أو صلى ثم قال: ثواب هذه الصلاة لأبي الحي أو لأبي الميت، أو تصدق.. إلى آخره، فإن هذا جائز ولا بأس به، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. والحنابلة رحمهم الله هم أوسع المذاهب في هذه المسألة، وهي من مفردات مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

واعلم أن القرب التي تهدى تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: القرب المالية أو المركبة من المال والبدن، القرب المالية مثل: الصدقة، وأيضاً المركبة مثل: الحج، وكذلك أيضاً الدعاء، هذه باتفاق الأئمة على أنها تصل، يعني: لو أن إنساناً دعا لميته أو دعا لوالده الحي، أو استغفر له ودعا له بالمغفرة، أو تصدق وأهدى ثواب هذه الصدقة له فإن هذا يصل.

وكذلك أيضاً لو أنه حج ثم أهدى ثواب هذا الحج لهذا الميت، أو أعتق وأهدى ثواب هذا العتق لهذا الميت.. إلى آخره من القرب المالية أو المركبة من المال والبدن فهذه تصل، يعني: ثوابها يصل باتفاق الأئمة.

القسم الثاني: القرب البدنية، مثل: الصيام، والصلاة، وقراءة القرآن، والاعتكاف، فإذا أهدى ثواب هذه الأشياء، هل يصل أو لا يصل؟

عند الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا أهدى ثواب مثل هذه الأشياء فإنه يصل، وعند بقية الأئمة الشافعي والمالكية والحنابلة: أن ثوابها لفاعلها، وأنه لا يصل لمن أهدي إليه.

وهنا نقول: إن القرب تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما يتعلق بالقرب البدنية أو المركبة، وكذلك أيضاً الدعاء والاستغفار فهذه فيها علة.

والقسم الثاني: ما يتعلق بالقرب البدنية، كالصلاة، والصيام، والاعتكاف، وقراءة القرآن، ونحو ذلك فهذه عند الحنابلة يصل ثوابها، وأما عند بقية الأئمة يقولون بأن ثوابها لا يصل.

أما بالنسبة للدعاء للميت والاستغفار فالأدلة عليها ظاهرة، من ذلك قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] .

وكذلك أيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث... أو ولد صالح يدعو له ).

وأما بالنسبة لوصول ثواب القرب المالية؛ فدليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أمي ماتت، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم ) وهذا في الصحيحين.

وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ( يا رسول الله! إن أمي ماتت ولم توص، أو إن أبي مات ولم يوص، أفينفعه إن تصدقت عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ).

وكذلك أيضاً بالنسبة للحج، حديث الجهنية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمها: ( أنها نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حجي عنها ).

فهذه الأدلة -حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة- دليل على وصول هذه القرب وكذلك الدعاء وأيضاً الصدقات المالية والمركبة إلى آخره.

والحنابلة استدلوا على وصول ثواب العبادات البدنية من الدعاء والصلاة والصيام والاعتكاف والقراءة بحديث عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )، فكون الصيام يجزي هذا يدل على أن الذمة تبرأ، وأن ذلك ينفعه.

والأقرب في ذلك أن نقول: بأن إهداء القرب ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما كان إهداؤه مشروعاً، وهذا هو الدعاء والاستغفار، ودليل ذلك ما تقدم أن أشرنا إليه من قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] ، فأثنى عليهم بكونهم يدعون لإخوانهم الذين سبقوهم.

وأيضاً: ما تقدم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أو ولد صالح يدعو له ).

القسم الثاني: ما كان إهداؤه مباحاً، وهذا في بقية القرب، فنقول بأن إهداءها مباح، ولهذا أذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عباس في الرجل الذي سأله أن يتصدق عن أمه، وفي حديث أبي هريرة في مسلم أذن لمن سأله أن يتصدق عن أبيه.

فنقول بأن هذا جائز مباح، وعلى هذا لو أن الإنسان تصدق أو أعتق أو صام أو قرأ أو صلى وأهدى الثواب فنقول بأن ذلك يصل بإذن الله، لكن هذا من قبيل المباح وليس من قبيل المسنون، فالسنة أن يقتصر الإنسان على الدعاء، وأن يجعل العمل الصالح له.

كذلك أيضاً لو اعتمر أو حج إلى آخره، لكن هذه الأشياء تقيد بألا يكثر الإنسان من ذلك؛ لأنه إذا أكثر منه جعله مشروعاً أو شبيهاً بالمشروع، لكن إذا فعل ذلك أحياناً فنقول بأن هذا يصل إن شاء الله.

قال رحمه الله: (وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم).

السنة أن يفعل لأهل الميت طعام؛ لحديث عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه أتاهم ما يشغلهم )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم.

فنقول: السنة أن يصلح لأهل الميت، وانظر إلى تعبير النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فإنه قد أتاهم ما يشغلهم )، فنقول: إذا شغل أهل الميت فإن السنة أن يصلح لهم طعام، أما إذا لم يشغلوا، أي: قد يموت الشخص لكن أهله لا ينشغلون بموته, يعني: لا يصابون بموته، وحينئذ لا يشرع أن يصلح لهم طعام، لكن من شغل بالمصيبة وألهته المصيبة وشغلته عن الطعام أو عن إصلاح الطعام فإننا نصلح له طعاماً.

والعلماء -رحمهم الله- قيدوا إصلاح الطعام بثلاثة أيام، وظاهر السنة أنه غير مقيد، يعني: ما دام أن المصيبة قد شغلتهم فيصلح لهم طعاماً.

وأيضاً ظاهر السنة أن الطعام إنما يصلح لمن شغلته المصيبة دون غيره، الذي يأكل هذا الطعام هو الذي شغلته المصيبة دون غيره.

وأيضاً السنة تدل على أن أهل الميت هم الذين يصلح لهم الطعام، ولا يصلحون هم الطعام لغيرهم.

قال المؤلف رحمه الله: (ويكره لهم فعله للناس)، يعني: يكره أن يصنعوا طعاماً للناس؛ ويدل لذلك حديث جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: ( كنا نعد الاجتماع لأهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة ).

وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه، وصححه بعض أهل العلم، وبعض الأئمة ضعف هذا الحديث.

وعلى كل حال عندنا السنة من ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بأن يصنع الطعام لأهل الميت, ولم يرد أن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام.

حكم زيارة القبور

قال رحمه الله: (فصل: تسن زيارة القبور إلا للنساء).

تسن زيارة القبور، والإجماع منعقد على أن زيارة القبور سنة.

ويدل لهذا ما في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )، وزيارة القبور تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: زيارة شرعية.

والقسم الثاني: زيارة بدعية.

أما الزيارة الشرعية: فهي التي ينتفع بها الزائر والمزور؛ أما الزائر فإنه يتذكر الآخرة ويتعظ، وينال فضيلة زيارة المقابر وامتثال السنة، وأما المزور فإنه ينتفع بالدعاء.

وأما القسم الثاني: الزيارة البدعية: وهي التي تفعل فيها البدع من الشرك أو وسائل الشرك من تحري العبادة عند هذا القبر كتحري الدعاء، أو تحري القراءة، يعني: يتقصد القراءة عند هذا القبر، أو يتقصد الدعاء، أو يصلي إلى القبور، أو يصلي عندها، وأعظم من ذلك أن يصرف لها نوعاً من أنواع العبادة، كما يوجد عند بعض الذين يفتنون في القبور كالخرافيين والصوفية ونحو ذلك.

موقف الزائر من الميت عند زيارته له

لم يذكر المؤلف رحمه الله كيفية الزيارة، وكيف يقف الزائر، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الزائر يقف أمام المزور كزيارته في حياته.

وعلى هذا إذا أردت أن تزور ميتاً فإنك تجعل ظهرك إلى القبلة، وأما بالنسبة لوجهك فإنك تجعله مقابلاً لوجه الميت، والميت يكون على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة فحينئذ تقابله بحيث تجعل ظهرك إلى القبلة، هذا في حال السلام، ثم بعد ذلك إذا أردت أن تدعو له فإنك تستقبل القبلة؛ لأن من آداب الدعاء استقبال القبلة؛ كما في حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه.

وكذلك أيضاً: لو أن الإنسان رفع يديه فلا بأس بذلك، بل هذا من آداب الدعاء، وقد ورد ذلك في حديث عائشة لما زار النبي صلى الله عليه وسلم البقيع كما في مسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك .

أوقات زيارة القبور

وهل هناك وقت محدد للزيارة أو ليس هناك وقت محدد؟

العلماء قالوا بأن الزيارة لها وقتان: وقت متأكد، ووقت غير متأكد في أي وقت؛ أما الوقت المتأكد قالوا: فجر يوم الجمعة قبل طلوع الشمس؛ لأن الميت يعرف زائره في هذا الوقت.

والقسم الثاني: غير متأكد في أي وقت. وهذا التقسيم فيه نظر؛ لأن هذا أمر توقيفي يحتاج إلى دليل.

والصواب في هذا: أنه ليس هناك وقت محدد أو وقت يتأكد، لكن كون بعض الناس يعتقد أفضلية وقت بعينه نقول: هذا بدعة؛ لأنه يحتاج إلى دليل، كأن يعتقد الإنسان سنية الزيارة يوم العيد، أو سنية الزيارة يوم الجمعة.. إلى آخره, ويتقصد ذلك.

حقيقة معرفة الميت لزائره وسماعه لكلامه

وإذا سلم هل يعرف الميت زائره ويسمع كلامه.. إلى آخره؟ هذه المسألة الكلام فيها طويل، وألف فيها مؤلفات مستقلة، فهي بين النفي والإثبات عند العلماء رحمهم الله، ومنهم من ألف في إثبات المعرفة وسماع الكلام، ومنهم من ألف بنفي ذلك.

والصواب في ذلك التوسط بين القولين، وبه تجتمع أدلة القولين؛ فنقول: الصواب في ذلك أنه يسمع سماعاً خاصاً الله أعلم بكيفيته، فلا يسمع ويدرك كما يسمع الأحياء ويدركون، فيكون في ذلك طريقاً لأهل الخرافة من القبوريين والصوفيين، ولا ننفي السماع بالكلية لورود الأدلة بذلك، فإن أحوال البرزخ تختلف عن أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، فهي دار مستقلة لها أحوالها.

وهل يسمع في كل وقت أو لا يسمع في كل وقت.. إلى آخره؟ أيضاً هذا موضع خلاف، نقول: الله أعلم بذلك.

حكم زيارة المرأة للقبور

قال رحمه الله: (إلا للنساء).

المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن المرأة يكره لها أن تزور القبور، واستثنوا من ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، فقالوا: لا يكره.

وعن الإمام أحمد رحمه الله أن ذلك مباح، وعنه أيضاً روايةً ثالثة أن ذلك محرم، وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وبعض العلماء المتأخرين قال: يستحب للمرأة أن تزور القبور.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا علمنا أن أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد الخلفاء الراشدين، فاختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الأقرب في ذلك التحريم، وسنذكر إن شاء الله شيئاً من أدلتهم.

أقوال العلماء في حكم زيارة المرأة للقبور مع الأدلة

قال رحمه الله: (إلا للنساء).

فيفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن النساء لا يشرع لهن زيارة القبور، وهذا هو المشهور من المذهب، بل يكره على المذهب أن يزرن القبور، إلا أنهم استثنوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه.

فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن زيارة النساء للقبور مكروهة إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، فقالوا: لا تكره.

والرأي الثاني: أن زيارة القبور محرمة ولا تجوز.

والرأي الثالث: أنها مباحة. وقال بعض العلماء: مستحبة، ولكل منهم دليل.

أما من قالوا بأنها محرمة فاستدلوا بحديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور )، وهذا الحديث أخرجه الترمذي، كذلك أيضاً الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهم، وصححه الترمذي.

وأيضاً بأن زيارة النساء للقبور لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا لم يكن على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يستحبه أحد من السلف.

أيضاً من الأدلة على ذلك أن المرأة منهية عن اتباع الجنائز، كما في حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: ( نهينا عن اتباع الجنائز )، والعلة في ذلك ما قد يحصل من المرأة من البكاء، وتهييج الأحزان، والنياحة ونحو ذلك؛ لسرعة عاطفها، ونقص عقلها، وقلة دينها، وهنا يوجد شيء من هذه العلة يوجد في زيارة المرأة للقبور.

والذين قالوا بالإباحة استدلوا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فزوروها ) كما في صحيح مسلم ، ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )، وهذا أمر يشمل الرجل ويشمل المرأة.

وكذلك أيضاً استدلوا بما في صحيح مسلم أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ( كيف أقول لهم؟ قال: قولي: السلام عليكم ).

وأيضاً حديث أنس في مسلم : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام مر على امرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري ).

فهذا دليل من قال بالإباحة أو قال بالمشروعية.

ودليل من قال بالتحريم أو قال بالكراهة، فالذين قالوا: بالكراهة جمعوا بين أدلة من قال بالتحريم, وبين من قال بالإباحة أو المشروعية.

والأقرب في ذلك هو الرأي الأول، وأن زيارة المرأة للقبور محرمة ولا تجوز؛ لأن اللعن لا يكون إلا على فعل محرم، وكذلك أيضاً لم يحفظ أن النساء في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أو في عهد الخلفاء الراشدين كن يزرن القبور, فكما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما علمنا أن أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور.

وأما بالنسبة لحديث عائشة : ( كيف أقول لهم.. ) إلى آخره ، فهذا المراد إذا مرت المرأة بالمقبرة أو بالقبور فإنه لا بأس أن تسلم، يعني: إذا لم تقصد الزيارة.

والقاعدة: أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، فإذا خرجت لأمر ثم مرت بالقبور فلا بأس أن تسلم؛ لأن هذا أمر تابع، ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.

وأما بالنسبة لحديث أنس في قصة المرأة التي مر بها النبي عليه الصلاة والسلام وهي تبكي عند قبر, فهذه خرجت لشدة المصاب حتى وقفت على هذا القبر؛ لأنها أم لهذا الميت.

وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( اتقي الله ) هذا يدل على أنها أيضاً فعلت شيئاً يخالف التقوى، ولهذا أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله، أمرها بالتقوى لأنها فعلت شيئاً يخالف التقوى وهو الخروج إلى القبر.

وقال: ( اصبري ) كذلك أمرها بالصبر، وأن تحتسب؛ لأن فعلها هذا ينافي الصبر، ففيه دلالة لما ذهب إليه من قال بتحريم زيارة المرأة للقبور.

الذكر المشروع عند زيارة القبور أو المرور بها

قال رحمه الله: (ويقول إذا زارها أو مر بها: السلام عليكم.. إلى آخره).

إذا زارها فهذا ظاهر، أما إذا مر بها وهذا كان موجوداً في عهد المؤلف ومن قبله قبل أن تسور المقابر، أما الآن وقد سورت المقابر فإنه إذا مر فإن أطل على هذه القبور وسلم فهذا لا بأس.

أما إن مر من وراء السور فهذا يظهر أنه لا يشرع أن يسلم.

فقوله المؤلف رحمه الله: (إذا مر) هذا في الزمن السابق حيث لم تكن القبور مسورة, بل يمر الإنسان من عند القبور فيسلم عليهم.

قوله: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون).

كيف علق الموت على مشيئة الله مع أن هذا أمر محقق لا مرية فيه؟

فأجاب العلماء -رحمهم الله- عن ذلك بأجوبة، فقيل: إن المراد التعليق باللحوق في المكان، يعني: إنا إن شاء الله للاحقون بكم في هذا المكان، وقيل: إن المراد التعليق باللحوق على الإيمان، يعني: إنا إن شاء الله بكم لاحقون على الإيمان. وقيل: إن التعليق هنا ليس مراداً، وإنما المراد هنا التبرك. وقيل: إن التعليق هنا للتعليل، يعني: أن لحوقنا سيكون بمشيئة الله.