أرشيف المقالات

وصايا قبل المنايا

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
وصايا قبل المنايا

الوصية الأولى
اغتنِم نعمةَ الصحة والفراغ قبل السَّقم والانشغال
 
فليس في الوجود أغلى من الوقت، وليس في الحياة نعمة بعد الإيمان أعظم من نعمة الصحة والفراغ.
 
أخرج البخاري من حديث عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ".
 
يقول ابن الجوزي كما في "فتح الباري" (11/234): "قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون مُتفرِّغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعت - أي: الصحة والفراغ - فغلَب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربْحها عن الآخرة، فمَن استعمل فراغه وصحَّتَه في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقُبه الشغل، والصحة يعقُبها السَّقم، ولو لم يكن إلا الهموم.






اغتنِم في الفراغ فضلَ ركوعٍ
فعسى أن يكون موتُك بَغْتة


كم صحيحٍ رأيت من غير سُقْمٍ
ذهبتْ نفسُه السليمةُ فَلْتة






 
جاء في كتاب "قصر الأمل" (ص105)؛ لابن أبي الدنيا عن عبدالواحد عن صفوان قال:
"كنا مع الحسن في جنازة، فقال: رحِم الله امرأ عمل لمِثل هذا اليوم، إنكم اليوم تَقدِرون على ما لا يَقدِر عليه إخوانكم هؤلاء من أهل القبور، فاغتنِموا الصحة والفراغ، قبل يوم الفزعة والحساب".






أنتَ في غفلةِ الأمل
لستَ تدري متى الأجل؟


لا تغرنَّك صحةٌ فهي
من أوجَعِ العِلَل


فاعملِ الخير واجتَهد
قبل أن تُمنَع العمل






 
يقول سعيد بن جبير - رحمه الله -: "كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة".
 
الوصية الثانية
اتقِ الله فيما بقي من عمرك يُغَفرْ لك ما قد مضى
قال الفضيل بن عياض لرجل: "كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله تُوشِك أن تَصِل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: يا أخي، هل عرفتَ معناه، قال الرجل: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي، مَن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوف بين يديه، ومَن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومَن عرف أنه مسؤول فليُعدَّ للسؤال جوابًا، فبكى الرجل، فقال: يا فضيل، وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال الرجل: وما هي يرحمك الله؟ قال الفضيل: أن تتقيَ الله فيما بقي، يَغفِر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
 
يقول أحمد بن عاصم الأنطاكي: "هذه غنيمة باردة، أصلح ما بقي من عمرك، يُغْفَر لك ما مضى".






إلهي لا تُعذِّبني فإني
مُقِرٌّ بالذي قد كان منِّي


وما لي حيلةٌ إلا رجائي
لعفوكَ إن عفوتَ وحُسْنُ ظنِّي


وكم من زلة لي في البرايا
وأنتَ عليَّ ذو فضلٍ ومنِّ


أُجنُّ بزهرة الدنيا جنونًا
وأقطع طولَ عمري بالتمنِّي


يظنُّ الناس بي خيرًا وإني
لشرُّ الخَلْق إن لم تَعْفُ عني






 
الوصية الثالثة
حَاسِبْ نفسك قبل أن تُحاسَب
فلقد أمرنا الله - عز وجل - بمحاسبة النفس؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، فالله تعالى يأمُر المؤمنين بالتقوى، ويَحُثهم على مداومة طاعته، ويدعو كلَّ مؤمنٍ إلى مراقبة نفسه، ومراجعة حسناته وسيئاته، عسى أن يتزوَّد المُحسِن من الطاعات، ويتدارك المسيء ما مضى وفات، ويعلم المُقصِّر أن أمامه يومًا يُحاسَب فيه، وربًّا هو ملاقيه، فيجتهد ويَجِد ويعمل ويكِد.
 
وقد رُوي في الحديث: "الكَيِّس مَن دان نفسَه وعمِل لِما بعد الموت، والعاجز مَن أتبَع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني"؛ (أخرجه الترمذي، والحاكم بسند فيه مقال).
 
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن تُوزَنُوا، وتهيَّؤوا للعرض الأكبر، يومئذ تُعرَضون لا تخفى منكم خافية".
 
فالمُفرِّط المُقصِّر يقف مع نفسه وقفةَ صدْق، ويقول لها:






يا نفسُ، قد أزِف الرحيل
وأظلَّك الخَطْبُ الجليل


فتأهَّبي يا نفسي لا
يلعب بكِ الأملُ الطويل


فلتنزلنَّ بمنزلٍ
يَنسى الخليل به الخليل


وليَركبَنَّ عليك في
هِ من الثرى ثِقْلٌ ثقيل






 
ويحك يا نفس! تنشغلين بعمارة دُنياك مع كثرة خطاياك كأنك غير مُرتَحِلة عنها.
 
أما تنظرين إلى أهل القبور، كيف جمعوا كثيرًا؛ فأصبح جمْعهم بورًا، وبنوا مشيدًا؛ فصار بنياهم قبورًا، وأمَّلوا بعيدًا؛ فصار أملهم زورًا.
 
ويحك يا نفس! أما لك بهم عِبْرة، أما لك إليهم نظرة.
أتظنين أنهم دُعوا إلى الآخرة، وأنت من المخلَّدين.
ويحك يا نفس! هيهات هيهات! ساء ما تتوهَّمين.
ما أنت إلا في هدْم عمرك منذ أن سقطتِ من بطن أمك.
 
ويحك يا نفس! تُعرضين عن الآخرة وهى مُقبِلة عليك، وتُقبلين على الدنيا وهى فارَّة مُعرِضة عنك.
 
فكم من مستقبلٍ يومًا لا يستكمِله، وكم من مؤمِّل غدًا لا يبلُغه.
 
ويحك يا نفس، ما أعظمَ جهلك! أما تعرفين أن بين يديك الجنة أو النار، وأنت سائرة إلى أحدهما.
 
فما لك تفرحين وتمرحين وباللهو تنشغلين؟! وأنت مطلوبة لهذا الأمر الجسيم، عساك اليوم أو غدًا بالموت تختطفين.
 
ويحك يا نفس! أراك تَرين الموتَ بعيدًا والله يراه قريبًا، فما لك لا تستعدين للموت، وهو أقرب إليك من كلِّ قريب، أما تتدبَّرين؟!
 
الوصية الرابعة
بادِر بالأعمال الصالحة قبل أن يأتيَك الأجلُ
اعلم أن قِصَر الأمل مع حبِّ الدنيا مُتعذِّر، وانتظار الموت مع الانكباب عليها غير متيسِّر، فالقلب إذا امتلأ بأحدهما، فإنه لا يسعُ الأخرى، كالدنيا والآخرة، والمشرق والمغرب، بقدر ما تقترب من أحدهما تبتعِد من الأخرى، فقِصَر الأمل يجعل الإنسان يُسارِع بحسن العمل، وبهذا يقترب من الآخرة، ويبتَعِد عن الدنيا.
 
• والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَحُث على المبادرة للعمل الصالح قبل أن يُفتن الإنسان أو يُشغَل أو يموت.
 
فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بادِروا بالأعمال فتنًا كقطعِ الليل المُظلِم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا)).
 
وأخرج ابن ماجه والبيهقي من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "خطَبَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا أيها الناس، توبوا قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغَلوا، وصِلُوا الذي بينكم وبين ربكم، بكثرة ذِكْركم، وكثرة الصدقة في السر والعلانية، تُرْزقوا وتُنْصَروا وتُجْبَرُوا))؛ (ضعيف الجامع: 6386).
 
وأخرج الترمذي والحاكم بسند فيه مقالٍ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بادِروا بالأعمال سبعًا؛ هل تنظرون إلا فقرًا مُنسيًا، أو غنى مُطغيًا، أو مرضًا مُفسِدًا، أو هَرَمًا مفنِّدًا، أو موتًا مُجهِزًا، أو الدَّجَّال؛ فشرُّ غائب يُنتظَر، أو السَّاعَة، فالسَّاعَة أدهى وأمر))؛ (ضعيف الجامع: 2315).
 
وأخرج الحاكم في "المستدرك" والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل وهو يَعِظه: ((اغتنِم خمسًا قبل خمس؛ شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سَقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك))؛ (صحيح الجامع: 1077).
 
يا عجبًا، أَنِسَ بالدنيا مُفارِقُها، وأَمِنَ النار واردُها، وكيف يغفُل من لا يُغفَلُ عنه؟! كيف يفرح بالدنيا مَن يومه يَهدِم شهره، وشهره يهدِم سنتَه، وسنته تهدم عمره؟!
 
كيف يلهو مَن يقوده عمره إلى أجله، وحياته إلى موته؟!
المبادرة المبادرة:
وقال الحسن - رحمه الله - في موعظته: "المبادرة المبادرة؛ فإنما هي الأنفاس، لو قد حُبِست انقطعت عنكم أعمالكم التي تقرَّبون بها إلى الله - عز وجل، رحِم الله امرأ نظر لنفسه، وبكى على ذنوبه! ثم قرأ هذه الآية: ﴿ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ﴾ [مريم: 84]، ثم يبكي ويقول: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فِراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك"؛ (قصر الأمل: ص 106).
 
وعن محمد بن علي الباقر في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ﴾، قال: النَّفَس؛ (صفة الصفوة: 3/159) (قصر الأمل: ص 126).
 
(ونُقِل هذا القول عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كما في "تفسير ابن كثير": 3/137).
 
وكان حسان بن أبي سنان يقول: "بادِر انقطاعَ عملك؛ فإن الموت إذا جاء انقطَع البرهان"؛ (قصر الأمل: ص 111).
 
وقال المنذر أبو يحيى: سمعتُ مالك بن دينار يقول لنفسه: "ويحك! بادري قبل أن يأتيك الأمر! ويحك، بادري قبل أن يأتيك الأمر! ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر! قال: فسمعتُه يقول ذلك ستين مرة"؛ (قصر الأمل: ص 105).
 
وصدق أبو محمد حبيب العجمي حيث قال: "لا تقعدوا فُرَّاغًا؛ فإن الموت يطلُبكم"؛ (قصر الأمل: ص 105).
 
قال عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - لأبي حازم: "أوصني، فقال له أبو حازم: اضجَع ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر إلى ما تحب أن يكون فيك الساعة، فخُذ به الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن، فلعل تلك السَّاعَة قريبة".






فلا تُرْجِ فِعلَ الخير إلى غدٍ
لعل غدًا يأتي وأنت فقيدُ






 
وكان أبو معاوية الأسود يقول لنفسه: "إن كنت يا أبا معاوية تُريد لنفسك الجزيل، فلا تنامنَّ الليل ولا تَقيل، قدِّم صالِح الأعمال، ودعْ عنك كثرة الأشغال، بادِر ثم بادر قبل نزول ما تُحاذر، ولا تهتم بأرزاق من تُخَلِّف، فلستَ أرزاقَهم تُكَلَّف"؛ (حلية الأولياء: 8/272)، و(صفة الصفوة: 4/271).
 
قال بعضهم يُوبِّخ نفسه ويَعِظها:
"يا نفس، بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور وقد تشقَّقت، وبالأمور وقد تحقَّقت، وبوجوه المتقين وقد أَشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أَطرَقتْ، قال - تعالى وتقدَّس -: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 12].
 
يا نفس، أما الوَرعون فقد جدُّوا، وأما الخائفون فقد استعدُّوا، وأما الصالحون فقد فرِحوا وراحوا، وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا، العلم لا يحصل إلا بالنَّصَب، والمال لا يُجمَع إلا بالتعب.
 
أيها العبد الحريص على تخليص نفسه، إن عزمتَ فبادر، وإن هممتَ فثابر، واعلم أنه لا ينال العِزَّ والمفاخر إلا مَن كان في الصف الأول.
 
جاء في "حلية الأولياء" (9/69) و"قِصَر الأمل"؛ لابن أبي الدنيا (ص92) عن أبي زكريا التيمي قال: "بينما سليمان بن عبدالملك في المسجد الحرام إذ أُتي بحجر منقور[1]، فطلَب مَن يقرؤه، فأُتي بوهب بن منبه، فقرأه، فإذا فيه: "ابن آدم لو رأيتَ قرب ما بقي من أجلك، لزهِدت في طول أملك، ولرغِبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرْصِك وحِيَلِك، وإنما يلقاك غدًا نومك، لو قد زلَّت بك قدمُك، وأسلمك أهلك وحشمك، فبانَ منك الولد القريب، ورفضك الوالدُ والنسيب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، فبكى سليمان بكاءً شديدًا".
 
أحبتي في الله، مَن خاف هجوم الأجل قَصر الأمل، وبادَرَ بحسن العمل.
 
فقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((مَن خاف أدلج [2]، ومَن أدْلَج بلغَ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)).
 
أدرك الصالحون خطورةَ الأمر، فشمَّروا عن ساعد الجِد، وأيقنوا أن الحياة الحقيقية والسعادة الأبديَّة، إنما هي حياة الأبرار في دار الرحمن؛ حيث جنات النعيم، فكان كل ما يَشغَل بالهم ويسيطر على وِجدانهم أن يبذُلوا قُصارى جهدهم؛ ليفوزوا بهذا النعيم، وينعموا برؤية وجه الله الكريم.
 
فها هو ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كان يقوم من الليل فيتوضأ ويُصلِّي، ثم يغفو إغفاء الطير، ثم يقوم فيتوضأ ويُصلِّي، ثم يغفو إغفاء الطير، ثم يقوم يُصلِّي، يفعل ذلك مرارًا".
 
واجتهد الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: "لو أمسكتَ أو رفقتَ بنفسك بعض الرِّفق؟، فقال: إن الخيل إذا أُرسِلت فقاربتْ رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أَجَلي أقل من ذلك! قال: فلم يَزل على ذلك حتى مات!"؛ (قصر الأمل: ص 108).
 
وكان أبو مسلم الخولاني - رحمه الله - يقول كما في "صفة الصفوة": "لو رأيتُ الجنة عيانًا ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عيانًا ما كان عندي مُستزاد".
 
وقال أبو حمزة - رحمه الله - كما في "تذكرة الحفاظ": "لو قيل لصفوان بن سليم: السَّاعَة غدًا، ما كان عنده مزيد عملٍ".
 
وكان عمير بن هانئ: "يُسبِّح كل يوم مائة ألف تسبيحة".
 
ونحن ربما يمرُّ اليوم ولا نُسبِّح حتى تسبيحة واحدة في اليوم، في حين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يرويه الترمذي: ((مَن قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غُرِست له نخلة في الجنة))، فكم ضيَّعنا من نخيل؟!
 
وقال أبو بكر بن عياش - رحمه الله -: "ختمتُ القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة".
 
وهكذا بادر القوم بالعمل؛ مخافة أن يُفاجئهم الأجل، فبذلوا النفس والنفيس؛ لأنهم يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى.
 
قال اللبيدي - رحمه الله -: "وجدتُ بعد موت أبي إسحاق الجينياني - رحمه الله - رقعة تحت حصيرة مكتوبة بخطه: رجل وقف له هاتف، فقال له: أحسن أحسِن عملك، فقد دنا أجلك، فقال لي ولده عبدالرحمن: إنه كان إذا قصَّر في العمل، أخرج الرقعة فنظر فيها ورجع إلى جِدِّه".
 
وقال سفيان الثوري - رحمه الله -: "رأيت شيخًا في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظِر الموت أن ينزل بي، لو أتاني ما أمرتُه بشيء، ولا نهيتُه عن شيء، ولا لي على أحدٍ شيء، ولا لأحد عندي شيء!"؛ (قصر الأمل: ص 71)، (وإحياء علوم الدين: 4/663).
 
وقال القعقاع بن حكيم: "لقد استعددتُ للموت منذ ثلاثين سنة! فلو أتاني ما أحببت تأخيرَ شيء عن شيء "؛ (قصر الأمل: ص 71)، (إحياء علوم الدين: 4/663).






ما زال يَلهجُ بالرحيلِ وذِكْرهِ
حتى أناخَ ببابِهِ الجمَّالُ


فأصابه مستيقظًا متشمِّرًا
ذا أُهْبَة لم تُلْهِه الآمالُ






 
بل كانوا يحرِصون على التزوُّد من الطاعة حتى في آخر لحظات حياتهم.
 
يقول أبو محمد الجريري - رحمه الله -: "كنتُ واقفًا على رأس الجُنيد في وقت وفاته، وكان يوم الجمعة، وهو يقرأ القرآن، فقلت له: يا أبا القاسم، ارفق بنفسك، فقال: يا أبا محمد، رأيت أحدًا أحوج مني في هذا الوقت؟ هو ذا تُطْوَى صحيفتي".
 
وقال بِشر بن عبدالله النهشلي: "دخلنا على أبي بكر النهشلي وهو في الموت، وهو يومئ برأسه - يرفعه ويضعه - كأنه يُصلِّي، فقال له بعض أصحابه: في مِثل هذه الحال رحِمك الله؟ قال: إنني أبادر طيَّ الصحيفة!"؛ (سير أعلام النبلاء: 7/333)، (وقصر الأمل: ص113).
 
بل انظر لهذا الموقف الجليل لعُمير بن الحمام؛ فقد أخرج الإمام مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إنه في غزوة بدر لما دنا المشركون قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، فقال عُمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض، قال: نعم، فقال عمير: بَخ بخ [3]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يَحمِلك على قولك: بخ بخ))، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تَمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييتُ حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قُتلَ"؛ (مسلم).



[1] منقور: مكتوب فيه، يُقال: نُقر في الحجر؛ أي: كتب فيه.


[2] أدلج: سار في أول الليل.


[3] بخ بخ: كلمة تُقال لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير.

شارك الخبر

المرئيات-١