شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [29]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: والجمعة ركعتان. يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة، فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها، فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة، وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا.

وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست، ويسن أن يغتسل وتقدم, ويتنظف، ويتطيب، ويلبس أحسن ثيابه، ويبكر إليها ماشياً، ويدنو من الإمام، ويقرأ سورة الكهف في يومها، ويكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو إلى فرجة.

وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه إلا من قدم صاحباً له فجلس في موضع يحفظه له، وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة، ومن قام من موضعه لعارض لحقه، ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به].

تقدم ما يتعلق بشروط صحة الجمعة، وذكرنا إذن الإمام وما يتعلق بهذه المسألة، وكذلك أيضاً من الشروط الوقت، وذكرنا كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى في بداية وقت صلاة الجمعة ونهايته، وما يتعلق بوقت الاستحباب، وذكرنا أن من شروط صحة الجمعة: الخطبتان، وقد بينا ما يتعلق بأركانهما وشروطهما، وكذلك الجماعة، وذكرنا العدد الذي تنعقد به الجمعة، وأن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا في ذلك على أقوال.

ثم بعد ذلك ذكر المؤلف رحمه الله جملة من السنن التي تشرع في الخطبتين ... إلخ، ثم قال المؤلف رحمه الله: (والجمعة ركعتان, يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين).

هذا بإجماع العلماء كما حكاه ابن المنذر رحمه الله تعالى أن الجمعة ركعتان، وتقدم لنا هل الجمعة صلاة مستقلة، أو أنها ظهر مقصورة، أو أنها بدلاً عن الظهر؟ وذكرنا أن الصواب في هذه المسألة أن الجمعة صلاة مستقلة، ليست بدلاً عن صلاة الظهر، وليست ظهراً مقصورة، وذكرنا الدليل على ذلك أن الجمعة لها من الخصائص والآداب والأحكام ما تفارق به بقية الصلوات، وسبق أن ذكرنا أن ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر من خصائص الجمعة ما يقرب من ثلاث وثلاثين خصيصة، وأن السيوطي رحمه الله تعالى أوصلها إلى مائة خصيصة، وله رسالة في ذلك اسمها: اللمعة في خصائص الجمعة.

قال رحمه الله: (يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين).

السنة في صلاة الجمعة أن يقرأ تارة بسورة الجمعة في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية يقرأ بسورة المنافقون؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي رواه مسلم في صحيحه، هذه هي السنة الأولى.

السنة الثانية: أن يقرأ في الركعة الأولى بسبح، وفي الركعة الثانية بالغاشية، ويستحب تارة هذا وتارة هذا، وسبق أن ذكرنا القاعدة في ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن العبادات التي وردت على وجوه متنوعة يستحب أن يأتي بهذا الوجه تارة وبهذا الوجه تارة أخرى.

كما يستحب أن يقرأ في فجر يوم الجمعة في الركعة الأولى بـ(ألـم السجدة)، وفي الركعة الثانية بـهَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان:1]، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين، والسنة أن يقرأ السورتين كاملة.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن قراءة بعض السورة لا يحقق السنة إلا إذا قرأ السورة كاملة، ويكون الغالب على قراءته في فجر يوم الجمعة هو قراءة هاتين السورتين، ولا بأس أن يترك قراءتهما في بعض الأحيان لترك النبي صلى الله عليه وسلم القراءة في بعض الأحيان، فالغالب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ هاتين السورتين في فجر يوم الجمعة، ولا بأس أن يتركهما في بعض الأحيان، لأمرين:

الأمر الأول: لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والأمر الثاني: لئلا يظن الوجوب، فإن المأموم إذا رأى الإمام يداوم على ذلك فإنه يظن أن هاتين السورتين واجبتان.

قال رحمه الله تعالى: (وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة).

يقول المؤلف رحمه الله: يحرم إقامة صلاة الجمعة في أكثر من موضع، فلا يقام في البلد إلا جمعة واحدة، وهكذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في المدينة إلا جمعة واحدة.

وكذلك أيضاً في عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، فما حصل تعدد الجمعة إلا سنة مائتين وخمسين للهجرة في بغداد لما اتسعت وأصبح لها جانب شرقي وجانب غربي -شرق النهر وغرب النهر- احتيج إلى تعدد الجمعة، فصير إلى التعدد، أما قبل ذلك لم يكن هناك تعدد للجمعة.

ولهذا فما ذهب إليه المؤلف رحمه الله هو قول الأئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أنه لا يصار إلى تعدد الجمعة إلا عند الحاجة، فإذا كبر البلد -كما في زماننا هذا؛ الآن تجد أن البلاد اتسعت- وكثر الناس واحتاج الناس إلى أن تتعدد الجمعة فإن هذا لا بأس به، ولكن يكون ذلك بقدر الحاجة.

وبعض أهل العلم يقول: لا يجوز أن تقام إلا في موضع واحد حتى مع وجود الحاجة، لكن الذي يظهر هو ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله، أنه لا بأس أن تتعدد الجمعة عند الحاجة، كما ذكرنا إذا اتسع البلد وكثر الناس أو ضاق المسجد الموجود على المصلين، أو كان هناك فتنة واحتيج إلى أن تتعدد الجمعة فإن هذا جائز ولا بأس به.

ذكر المؤلف رحمه الله أنه يحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة، فإذا حصل تعدد الجمعة لغير حاجة، فما الحكم؟

بينه المؤلف هنا فقال: (فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها، فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة، وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا).

إذا حصل تعدد للجمعة من غير حاجة فهذا له صور:

الصورة الأولى: ما ذكره المؤلف رحمه الله: أن يباشر الإمام إحدى الجمعتين أو أن يأذن فيها دون الأخرى، فالصحيحة هي التي باشرها الإمام أو أذن فيها.

الصورة الثانية: قال: (فإن استويا في إذن أو عدمه). الصورة الثانية: أن يأذن في كل منهما، أذن في هذه الجمعة وأذن أيضاً في الجمعة الثانية.

الصورة الثالثة: قال: (أو عدمه) ألا يأذن في أي واحدة منهما, لم يأذن الإمام لا في هذه الجمعة ولا في هذه الجمعة، هذه ثلاث صور.

الصورة الرابعة: أن يأذن في جمعة ويباشر الأخرى، فعندنا الآن أربع صور:

إذا باشر الإمام إحدى الجمعتين أو أذن فيها فالصحيحة ما باشرها وأذن فيها، لكن إذا استويتا في الإذن واستويتا في عدم الإذن، أو باشر إحداهما وأذن في الأخرى، في هذه الثلاث الصور المشهور من مذهب الحنابلة أن السابقة هي الصحيحة، يعني: التي سبقت بتكبيرة الإحرام هي الصحيحة.

وكذلك إذا لم يأذن الإمام، لا في هذه الجمعة ولا في الجمعة الأخرى، فسبقت إحدى الجمعتين بتكبيرة الإحرام، فالتي سبقت بتكبيرة الإحرام هي الصحيحة، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني في المسألة: أن الصحيحة هي التي سبقت بإقامة الجمعة، وليس السبق بتكبيرة الإحرام، فالتي شرعت فيها الجمعة قبل هي التي تكون صحيحة؛ لأن الثانية هي التي حصل فيها التعدد لغير حاجة، ومثال ذلك: لو أن هذه الجمعة ابتدأت الصلاة في هذا المسجد في محرم، والثانية في صفر، فالصحيحة التي سبقت في التاريخ في إقامة الجمعة.

الرأي الثالث: اختيار الشيخ السعدي رحمه الله تعالى, وقد وسع في المسألة وقال: إذا حصل تعدد للجمعة بلا حاجة فكلا الجمعتين صحيحة لكنه لا يجوز، يعني: أن هناك حكماً تكليفياً وحكماً وضعياً، فالحكم التكليفي لا يجوز التعدد، لكن لو حصل تعدد فالحكم الوضعي أن كلا الصلاتين صحيحة؛ لأن المأموم متعبد بالصلاة وقد أدى الصلاة.

أما بالنسبة للحكم التكليفي الجواز وعدم الجواز فهذا منوط بمن له الأمر، ومن له الأمر يجوز له أن يأذن، فلو حصل الإذن فإن كلا الصلاتين صحيحة.

فهو يفرق رحمه الله بين مسألة الحكم التكليفي وهو التحريم وعدم التحريم، والحكم الوضعي وهو الصلاة صحيحة أو غير صحيحة؛ لأن هذه الصلاة استكملت شروطها وأركانها وواجباتها، وكلام الشيخ السعدي هو الذي لا يسع الناس العمل إلا به، فالمأموم عليه أن يصلي، وقد أذن في هذه الجمعة.

قال رحمه الله: (وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا).

إذا وقعتا معاً وهذا نادر, لكن العلماء رحمهم الله يذكرون الصور ولو كانت نادرة لتدريب الطالب على المسائل، ففيها رياضة للذهن، فإذا وقعتا معاً، يعني: كبر الإمامان في لحظة واحدة, كلاهما كبر للجمعة، فما الحكم؟ يقول المؤلف رحمه الله بأن الجمعتين تبطلان؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، وإذا بطلتا نقول: إن تمكنوا من إقامة جمعة بالوقت فإنهم يقيمونها، وإذا لم يتمكنوا من إقامة الجمعة فإنهم يصلون ظهراً.

قال: (أو جهلت الأولى).

إذا جهلت الأولى، بمعنى: أن إحدى الجمعتين سبقت في تكبيرة الإحرام، لكننا جهلنا فلا ندري أيهما التي سبقت، هل هي التي في الجانب الشرقي أو التي في الجانب الغربي؟

قال المؤلف رحمه الله تعالى بأنهما تبطلان ويصلون ظهراً ولا تعاد، الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة عدم الإعادة؛ لأنه وقعت إحدى الجمعتين صحيحة وهي التي سبقت بالإحرام، لكننا جهلناها، فما دام أننا جهلناها فإنهم يصلون ظهراً، أما في المسألة السابقة إذا وقعتا معاً، وكبر الإمامان للإحرام في لحظة واحدة لم تقع جمعة صحيحة.

قال رحمه الله: (وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان وأكثرها ست).

هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان السنة الراتبة في صلاة الجمعة، فيقول: أقل السنة الراتبة ركعتان وأكثرها ست، وعلى هذا أنت بالخيار؛ إن شئت أن تصلي ركعتين فصل ركعتين، وإن شئت أن تصلي أربعاً فصل أربعاً، وإن شئت أن تصلي ستاً فصل ستاً، أقل السنة الراتبة بعد صلاة الجمعة ركعتان وأكثرها ست، فالركعتان وردتا في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والأربع وردت في صحيح مسلم ، والست وردت في سنن أبي داود ، فأنت بالخيار إن شئت أن تصلي ركعتين أو أربعاً أو ستاً، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو الرأي الأول.

الرأي الثاني: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا صلى في المسجد فإنه يصلي أربع ركعات كما جاء في مسلم : ( إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً )، وإن صلى في البيت فيصلي ركعتين.

الرأي الثالث: أن هذا من قبيل السنن التي جاءت على وجوه متنوعة، فتارة تصلي ركعتين، وتارة تصلي أربع ركعات، وتارة تصلي ست ركعات، وهذا القول هو الذي ذهب إليه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.

وسبق أن أشرنا إلى كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة: أن السنن التي وردت على وجوه متنوعة يستحب أن يأتي بهذا تارة وبهذا تارة وبهذا تارة، فنقول: تصلي ركعتين كما جاء في الصحيح من حديث ابن عمر ، أو أربعاً كما جاء في مسلم من حديث أبي هريرة ، أو ستاً كما جاء في سنن أبي داود من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

وقول المؤلف رحمه الله: (وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان) يفهم منه أنه ليس هناك سنة راتبة قبل الجمعة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وقال به الإمام مالك ، وهو وجه أيضاً عند الشافعية أن الجمعة ليس لها سنة قبلية، وإنما السنة التي لها هي سنة بعدية.

وذهب بعض الشافعية إلى أن لها سنة قبلية، لكن الصحيح ليس لها سنة قبلية؛ ويدل لهذا ما تقدم لنا في حديث سلمة بن الأكوع ، وحديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل بعد زوال الشمس، ومباشرة يجلس، ثم بعد ذلك يؤذن، ثم يخطب، ثم يصلي )، ولم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي السنة القبلية كما ذكر بعض الشافعية بناء على أنها ظهر مقصورة، أو أنها بدل عن الظهر.

وقد ذكرنا فيما تقدم أن الجمعة صلاة مستقلة ليست ظهراً مقصورة، وليست بدلاً عن صلاة الظهر، وكذلك أيضاً يستدلون بما جاء في سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة في قصة سليك الغطفاني لما جاء وتأخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصليت ركعتين قبل أن تجيء؟ فقال: لا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قم فصل ركعتين )، لكن هذا الحديث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: غلط، يعني: قوله: (قبل أن تجيء)، هذا ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، والثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه دخل فقال: ( أصليت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فصل ركعتين ) هكذا جاء في الصحيحين.

وعلى هذا نقول بأن الجمعة ليس لها سنة راتبة قبلها بخلاف الظهر؛ فإن لها سنة راتبة قبلها.

الغسل

قال رحمه الله: (ويسن أن يغتسل).

يسن أن يغتسل في يوم الجمعة، وكلام المؤلف رحمه الله أن الغسل سنة، وهذا ما عليه جماهير العلماء أن الغسل يوم الجمعة ليس واجباً وإنما هو سنة، وعند ابن حزم رحمه الله أنه واجب، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: غسل يوم الجمعة واجب على من له رائحة، فإذا كان له رائحة يجب عليه أن يغتسل.

واستدل الجمهور على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ يوم الجمعة ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام )، قال: (من توضأ)، فهذا يدل على أنه ليس واجباً.

وأجيب عن هذا الحديث أن هذا الحديث قد جاء بلفظ من توضأ، وأيضاً جاء في صحيح مسلم بلفظ: من اغتسل، ولفظ (من اغتسل) لعله أقرب؛ لأن هذا اللفظ يؤيده حديث جابر وحديث ابن عمر وحديث أبي هريرة في التأكيد على غسل يوم الجمعة، وكذلك أيضاً استدلوا بحديث سمرة : ( من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل )، لكن هذا الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما الذين قالوا بأنه واجب فقد استدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل )، وهذا أمر، والحديث في الصحيحين، وحديث أبي سعيد في الصحيحين: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) أي: كل بالغ غسل يوم الجمعة واجب عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول بأنه واجب، ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )، وحديث أبي هريرة أيضاً في الصحيحين: ( حق على كل مسلم في كل سبعة أيام أن يغسل رأسه وجسده )، فهذه أحاديث تدل على ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله.

أما ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, وأن الغسل يجب على من له رائحة؛ فيستدل له بحديث عائشة في البخاري : ( أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من العوالي في الحر فيصيبهم الغبار، وتظهر لهم الرائحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تطهرتم ليومكم هذا ).

والذي يظهر والله أعلم أن ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله تعالى قوي، وأن غسل يوم الجمعة واجب، لكن نفهم أنه ليس شرطاً لصحة الصلاة، فالذي هو شرط لصحة الصلاة رفع الحدث، لكن هذا واجب للصلاة، بمعنى أنه لو تركه يأثم، لكنه ليس واجباً للصلاة، وهذه قاعدة سبق أن أشرنا إليها؛ الفرق بين الواجب في الصلاة والواجب خارج الصلاة.

ومع أن ابن حزم رحمه الله قال بأن غسل الجمعة واجب إلا أنه يقول ليس للصلاة، فأفسد كلامه فيها، وهذا من جموده على النص, يقول بأن الغسل ليس للصلاة وإنما هو لليوم، وعلى هذا لو أنه صلى الجمعة دون أن يغتسل، ثم اغتسل بعد الظهر أو بعد العصر يجزئ.

وهذا لا شك جمود على النص، والشارع عندما قال: (غسل يوم الجمعة) لا يقصد النبي صلى الله عليه وسلم أنك تغتسل بعد الظهر؛ بل يقصد أنك تغتسل للصلاة، وهذا مما يؤخذ على أهل الظاهر أنهم يجمدون على الألفاظ ولا ينظرون للمعاني والقياس ومقاصد الشريعة.

ومتى يبدأ وقت الغسل؟ النبي صلى الله عليه وسلم أضافه لليوم حيث قال: (غسل يوم الجمعة) فيبدأ من بعد طلوع الفجر الثاني، وعلى هذا لو أصبح الإنسان وعليه غسل من حدث أكبر واغتسل كفى ذلك، والأفضل أن يكون الغسل عند الذهاب إلى الصلاة وينتهي بالذهاب إلى الصلاة، وليس كما ذكر ابن حزم رحمه الله تعالى أنه ينتهي بغروب الشمس.

التنظف والتجمل والتطيب

قال رحمه الله: (وتقدم) يعني: في باب الغسل.

قال رحمه الله: (ويتنظف ويتطيب).

العلماء رحمهم الله إذا قالوا: يتنظف، المقصود بالنظافة هنا أمران:

الأمر الأول: ما يتعلق بسنن الفطرة من تقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب، وحلق العانة... إلى آخره.

الأمر الثاني: يقصدون بذلك قطع الروائح الكريهة، لكن الصواب فيما يتعلق بسنن الفطرة أنها لا تشرع، يعني: ما ورد دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يستحب أن تفعل سنن الفطرة يوم الجمعة، فسنن الفطرة لها ثلاثة أوقات:

الوقت الأول: وقت استحباب، وذلك متى طالت، يعني: متى طالت هذه الأشياء فإنه يستحب له أن يأخذها دون أن يتقيد ذلك بيوم محدد؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ورد عن بعض السلف أنها تتفقد يوم الجمعة، لكن هذا ليس عليه دليل.

الوقت الثاني: وقت كراهة؛ أن يتركها فوق أربعين يوماً، يعني: يكره أن تترك هذه الأشياء فوق أربعين يوماً.

الوقت الثالث: وقت تحريم؛ أن يتركها حتى تكثر وتتفاحش فيترك شاربه حتى يكثر ويتفاحش، أو يترك أظفاره حتى تكثر وتتفاحش، ومثله أيضاً شعر الإبط وشعر العانة... إلى آخره، العلماء رحمهم الله يقولون بأنه محرم لأمرين:

الأمر الأول: أنه يكون مشابهاً للمشركين.

وثانياً: أنه يكون مشابهاً للسباع. والمسلم منهي عن مشابهة المشركين والسباع.

فنقول في قوله: (يتنظف): إن كان قصده سنن الفطرة ونحو ذلك فهذا فيه نظر، فالصحيح أن التنظف الذي ورد يوم الجمعة هو الاغتسال وقطع الروائح الكريهة؛ ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث سلمان الفارسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن ويمس من طيب امرأته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى )، الشاهد في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ويتطهر ما استطاع من طهر ).

قال رحمه الله: (ويتطيب).

أيضاً يستحب يوم الجمعة أن يتطيب؛ ويدل لذلك ما تقدم من حديث سلمان الفارسي : ( لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن ويمس من طيب امرأته )، هذا يدل على استحباب التطيب.

قال رحمه الله: (ويلبس أحسن ثيابه).

وهذا أيضاً من الآداب، فالأول: الاغتسال، والثاني: التنظف، والثالث: التطيب، والأدب الرابع يوم الجمعة: أن يلبس أحسن ثيابه؛ ويدل لذلك ما جاء في البخاري : ( أن عمر رضي الله تعالى عنه وجد عند المسجد جبة من استبرق تباع، فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لو ابتعت هذه؟ ) يعني: اشتريت هذه، (تتجمل بها للجمعة والوفد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا لباس من لا خلاق له )، الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على قوله: ( تتجمل بها للجمعة والوفد )، مما يدل على أنه يشرع أن يتجمل، ويؤيد ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].

التبكير مشياً

قال رحمه الله: (ويبكر).

هذا الأدب الخامس: يشرع له أن يبكر إلى الجمعة؛ ويدل لذلك حديث أوس بن أوس الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام, فاستمع ولم يلغ, كتب له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها )، وهذا فضل عظيم، وأجر كبير، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي ، وإسناده حسن، والشاهد هنا قوله: (بكر وابتكر).

وأيضاً يدل لذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين: ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ).

المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعي أن التبكير يبدأ من بعد طلوع الفجر الثاني، يعني: قبل صلاة الفجر تذهب إلى الجمعة، هذا المشهور من مذهب أحمد والشافعي .

وعند أبي حنيفة أن التبكير يبدأ من بعد طلوع الشمس، وهذا الذي ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله هو الأقرب؛ لأن المسلم قبل طلوع الشمس يكون مشغولاً بصلاة الفجر، والجلوس بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشمس... إلى آخره.

فالأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله، وعلى هذا فالساعات تبدأ من بعد طلوع الشمس، فأنت تحسب ما بين طلوع الشمس إلى الزوال وتقسمها على خمسة وتنظر متى قربت بدنة، ومتى قربت بقرة... إلى آخره.

ويستثنى من التبكير الإمام، فالإمام المشروع له أن يتأخر إلى وقت حضور الصلاة؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (ماشياً)؛ لحديث أوس بن أوس الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومشى ولم يركب )، إلا إذا كان هناك مشقة لبعد المسجد فإنه لا بأس، والخطوات تحسب له مع وجود المشقة.

قراءة سورة الكهف

قال رحمه الله: (ويقرأ سورة الكهف).

هذا الأدب السادس، ففي يوم الجمعة يستحب له أن يقرأ سورة الكهف؛ ويدل لذلك حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعة الأخرى )، أخرجه الحاكم والبيهقي , فبعض العلماء يصحح هذا الحديث، لكن بعض الأئمة كـالنسائي رحمه الله يقول: وقفه أصح، يعني: كونه موقوفاً على أبي سعيد هذا أصح من كونه مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى كل حال -سواء كان موقوفاً أو مرفوعاً- ما دام أنه ثابت عن صحابي جليل فنقول: من الأدب أو من السنن أن تقرأ سورة الكهف يوم الجمعة، لكن المداومة على ذلك تريد سنة مرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا بأس أن تقرأ، ولكن لا تداوم على ذلك ما دام أنه لم يثبت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقراءتها تبدأ من بعد طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل القراءة في اليوم، واليوم هكذا.

الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

قال رحمه الله: (ويكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم).

هذا الأدب السابع: يستحب أن تكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة؛ ويدل لذلك حديث أوس بن أوس الثقفي فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة )، صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والنووي ، وفي سنن البيهقي أيضاً قوله: ( وليلتها ).

النهي عن تخطي الرقاب

قال رحمه الله: (ولا يتخطى رقاب الناس).

هذا الأدب الثامن: لا تتخطى رقاب الناس لما فيه من إيذائهم، والله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، وفي حديث عبد الله بن بسر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى الرقاب فقال: اجلس فقد آذيت وآنيت )، يعني: تأخرت وآذيت الناس، وهذا الحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي .

قال رحمه الله: (إلا أن يكون إماماً أو إلى فرجة).

يستثنى من التخطي الإمام، لو كان المسجد ليس له باب في القبلة واحتاج الإمام أنه يدخل من غير القبلة ويتخطى فإن هذا لا بأس به للحاجة، والشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله أيضاً استثنى المؤذن؛ لأن الإمام والمؤذن كلاهما يحتاج إليهما فلا بأس.

قال: (أو إلى فرجة).

فلو أن الصف الثاني فيه فرجة، واكتمل الصف الثالث والرابع، فلمن رأى فرجة في الصف الثاني أن يتخطى الصف الرابع والثالث لكي يصل إلى هذه الفرجة؛ فكونهم لم يسدوا هذه الفرجة وزهدوا في وصل الصف هذا مسوغ للتخطي ووصل الصف.

والأقرب والله أعلم: أنه لا يستثنى إلا الإمام والمؤذن، وأما بقية الناس حتى ولو كان هناك فرجة، فالأحوط أن المسلم لا يتخطى.

النهي عن إقامة الرجل من مجلسه

قال رحمه الله: (وحرم أن يقيم غيره فيجلس فيه).

هذا الأدب التاسع أنك لا تقيم غيرك فتجلس في مكانه؛ ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقيم الرجل أخاه من مقعده فيجلس فيه )، رواه البخاري ومسلم .

قال رحمه الله: (إلا من قدم صاحباً له فجلس في موضع يحفظه له).

يقول المؤلف: لا بأس أن تقدم صاحباً لك، فمثلاً: لو أن هذا الرجل يريد أن يتأخر، فقال: اذهب يا فلان واجلس في الصف الأول حتى آتي فهذا لا بأس به، أو يقدم ولده، أو يقدم خادمه لكي يجلس في الصف الأول، ثم بعد ذلك يقيمه إذا جاء ويجلس فيه وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أن هذا غير مشروع؛ لأن الشارع أمر أن يتقدم الإنسان ببدنه ولا يتقدم بنائبه، ففيه محظوران:

المحظور الأول: أنك داخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم، ( النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقيم الرجل أخاه من مقعده فيجلس فيه )، هذا المحظور الأول.

المحظور الثاني: أن هذا خلاف السنة؛ إذ السنة أن تتقدم ببدنك وليس بأن تقدم شخصاً ثم تجلس في مكانه.

النهي عن رفع ما يحجز به المكان في الصف ما لم تحضر الصلاة

قال رحمه الله: (وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة).

هذه المسألة كالمسألة التي قبلها لو أن شخصاً جاء بفرش وفرشه في موضع من المسجد ثم ذهب إلى بيته، يقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز لك أن تزيل هذا الفرش حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت الصلاة لا بأس أن تزيله.

وعلى عكس ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: تقديم السجادة ظلم منهي عنه؛ لأن الشارع أمرك أن تتقدم ببدنك، ولم يأمرك أن تتقدم بنائبك أو أن تتقدم بسجادتك، بل أنت مأمور أن تتقدم ببدنك، فكون الإنسان يأتي ويضع السجادة أو يضع المفاتيح أو نحو ذلك ثم يذهب فهذا ممنوع.

يستثنى من ذلك مسألتان:

المسألة الأولى: إذا كان في نفس المسجد، فهذا مما رخص فيه العلماء رحمهم الله، يعني: مثلاً لو أنه تأخر إلى آخر المسجد لكي يقرأ أو نحو ذلك، فهذا لا بأس به ما دام أنه في نفس المسجد. هذه المسألة الأولى.

المسألة الثانية: إذا كان لعذر وعاد قريباً كما سيذكر المؤلف، يعني: حصل له عذر, كونه يضع شيئاً يحجز به مكانه، مثلاً حضره حدث فاحتاج أن يخرج ثم يرجع فإن هذا لا بأس به.

قال رحمه الله: (ومن قام من موضعه لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به).

فالحالة الأولى: إذا كان لعذر ثم عاد قريباً فإنه يكون أحق به. والحالة الثانية كما ذكرنا: إذا كان ذلك في نفس المسجد.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2816 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2730 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2676 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2643 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2638 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2556 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2553 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2526 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2520 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2497 استماع