صور أكل المال الحرام


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

عباد الله! إن من علامات ضعف الإيمان وضعف اليقين باليوم الآخر حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، والتعلق بالشبه الواهية في تحصيل المال بأي وجه كان، ولقد تعددت في زماننا هذا أبواب الكسب الحرام، التي وقع فيها الكثيرون، فأهلكوا بذلك أنفسهم وأهليهم، (وكل جسم نبت من سحت فالنار أولى به).

ووقع آخرون في الشبهات، (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه).

عباد الله! ومن المصادر الخبيثة لكسب المال التي تتابع فيها كثير من الناس اليوم الأخذ من بيت مال المسلمين بلا حق، بدعوى أن له فيه حقاً، أو أن ما يتعاطاه من مرتب لا يكفيه، أو غير ذلك من الدعاوى التي لا تغنيه عند الله فتيلاً.

إن الأخذ من بيت المال يبدأ بأخذ قلم أو ورقة أو محبرة، وينتهي بسرقة ملايين الريالات، بشتى الحيل وطرق التزوير، مما ينطلي على البشر، وينكشف لرب البشر، عالم الغيب والشهادة، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يدري ذلك الآخذ أن خصمه في هذا الأخذ هم المسلمون جميعاً، فقد أخذ من مالهم بغير حق، بل إن خصمه هو الله الواحد القهار، الذي يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، ويقول: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، والغلول: هو الأخذ من بيت المال بطريق غير مشروع، كالتزوير والكذب والحيل المتنوعة الباطلة، فمن فعل ذلك فهو غال آكل للحرام.

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخنقه، فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت -أي: ذهب وفضة- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك).

هذا حديث عظيم يزلزل القلوب الحية، ويهزها هزاً، فمن سرق شاةً أو بعيراً أو سيارةً أو متاعاً جاء يحمله على رقبته يوم القيامة مفضوحاً بين العباد، إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، ويرد ما أخذ إلى بيت المال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أدوا الخيط والمخيط، وإياكم والغلول، فإنه عار على أهله يوم القيامة)، رواه الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه.

وفي الصحيحين: (أن رجلاً قتل في غزوة خيبر، فقال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله، قال: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم، ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين وقال: أخذتهما يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: شراك أو شراكان في النار). وفي حديث عبد الله بن عمر قال: (كان رجل مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو في النار، فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءةً قد غلها)، رواه البخاري.

وعن خالد بن زيد الجهني رضي الله عنه: (أن رجلاً قتل في غزوة خيبر، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه، وقال: إن صاحبكم قد غل، قال: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين).

عباد الله! ويدخل في الغلول هدايا الموظفين، وهي الهدايا التي يأخذها الموظفون بسبب عملهم، أي: إنما أهديت لهم من أجل وظائفهم، لم تكن هذه الهدية بسبب قرابة أو زمالة أو جوار ونحو ذلك.

روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على الصدقات يدعى ابن اللتبية، فلما جاء يحاسبه قال: هذا مالكم وهذا أهدي لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه لينظر أيهدى إليه أم لا، ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً، والله لا يأخذ أحد منها شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرةً لها خوار، أو شاةً تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه، يقول: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت).

وفي صحيح مسلم من حديث عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استعملناه منكم على عمل فكتم مخيطاً فما فوق كان غلولاً يأتي به يوم القيامة، قال: فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله! اقبل عني عملك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما لك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال عليه الصلاة والسلام: وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره).

عباد الله! يدخل في الأخذ من بيت المال ما يتقاضاه بعض الموظفين باسم خارج الدوام، أو باسم الانتداب من غير أن يقوموا بالمهمة فعلاً، وإنما تدرج أسماؤهم في مسيرات الرواتب وهم جالسون في بيوتهم، ألا إن هذا أخذ للمال بغير حقه، فليتق الله أولئك.

ألا وإن من الموظفين من يتغيب عن عمله اليوم واليومين والثلاثة بلا عذر شرعي، أو لا يستكمل ساعات الدوام فيعتاد الخروج لقضاء مشاغله الخاصة معطلاً بذلك مصالح الناس، وحاجات المراجعين، ألا فليتق الله في ذلك، وليوف العقد الذي عقده مع مرجعه، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].

وقال: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6]. قال الله عز وجل: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39].

ويدخل في الغلول والأخذ من بيت المال بغير حق: ما يفعله بعض مأموري المشتريات من تلاعب بفواتير الشراء، فتدون أرقام المشتريات بأضعاف القيمة الحقيقية للسلع المشتراة، ويتواطأ مع بعض الباعة ويتفقون على الكذب والتحيل، إن هذا أكل للمال بالباطل.

اللهم جنبنا الكسب الحرام، اللهم جنبنا السحت والغلول، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

عباد الله! إن مصادر الكسب الحرام متعددة ومتنوعة، وقد تفتقت عقول بعض البشر عن شيء من ذلك، فاخترعوا ألواناً وأشكالاً يصعب حصرها فضلاً عن تفصيلها، فمن المكاسب المحرمة: أخذ الرشوة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي) إسناده حسن.

والرشوة: هي ما يعطاه الموظف لكي ينجز العمل، أو لكي ينجز العمل على غير وجهه.

ومن ذلك: بيع المسكرات والمفترات كالدخان والخمور وغير ذلك.

ومن المكاسب المحرمة: بيع آلات الفساد، وآلات الغناء، ومنها ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، أي: ما يتعاطاه الكاهن نظير كهانته.

ومن المكاسب المحرمة: ثمن المجلات الفاسدة، والصحف المنحرفة، والأفلام الماجنة، والأشرطة الخليعة، ومن ذلك ثمن الملابس العارية.

فاتقوا الله عباد الله، فإن طرق الكسب الحلال كثيرة ولله الحمد، وقليل الحلال خير من كثير الحرام، فإن البركة إنما تكون مع الحلال حسب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

اللهم إنا نسألك إيماناً يباشر قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبل الموت، وراحةً بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، والرافضة المعتدين.

اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدميره في تدبيره، واجعل اللهم الدائرة عليه، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعلي .

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك، وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اغفر لموتاهم، وعاف مبتلاهم برحمتك يا أرحم الراحمين.