شرح الأربعين النووية [34]


الحلقة مفرغة

الحديث التاسع والثلاثون من أحاديث الأربعين للإمام النووي رحمه الله:

عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) حديث حسن رواه ابن ماجة و البيهقي وغيرهما.

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان).

التجاوز: هو العفو.

قوله: (عن أمتي) أي: أمة الرسول صلى الله عليه وسلم أمتان: أمة دعوة، وأمة إجابة، وأمة الدعوة هم كل إنسي وجني من حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، هؤلاء هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام الذين وجهت إليهم الدعوة، والذين يتحتم على كل منهم أن يدخل في الدين الحنيف الذي بعث الله به رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

وأمة الإجابة هم الذين وفقهم الله عز وجل للدخول في الدين الحنيف، وصاروا مسلمين.

والحديث مثال لأمة الإجابة، أما أمة الدعوة فمن أمثلتها ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) فقوله: (أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني) المراد بذلك أمة الدعوة، وهم الذين وجهت إليهم الدعوة كما قلت: كل إنسي وجني من حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

والخطأ: هو فعل الشيء من غير قصد، والنسيان: أن يفعل الإنسان فعلاً هو معلوم له، ولكنه فعله نسياناً، فمثلاً: يعلم الإنسان شيئاً، ولكنه يذهل عنه وينساه عند الفعل.

وأما الاستكراه: فهو الإلجاء إلى قول أو فعل.

والتجاوز الذي في الحديث إنما هو عن الإثم، يعني: كون الإنسان إذا أخطأ لا يأثم، وإذا نسي لا يأثم، وإذا فعل أشياء أكره عليها فإنه لا يأثم، فهذا هو الذي رفع في هذا الحديث، وأما الضمان في المتلفات فإن ذلك لا يسقط، مثل: القتل خطأ كما قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92] فالدية لازمة، ولو كان ذلك خطأً، بل الدية إنما تكون في الخطأ.

فإذاً: الضمان متعين ولازم، وإنما الذي رفع عن المخطئ هو الإثم، وكذلك لو أتلف شيئاً من مال غيره ولو عن طريق الخطأ فإنه مضمون.

قوله: (وما استكرهوا عليه) يعني: ما أُلجئوا إليه سواء كان ذلك الذي ألجئوا إليه قولاً أو فعلاً، وسواء تعلق بقول أو فعل، إلا أن من الأشياء التي يلجأ إليها ما لا يجوز فعلها، وذلك كأن يلزم بأن يقتل إنساناً، فإنه لا يقتل ذلك الإنسان، ولا يستبقي حياته بقتل غيره، بل إذا ألزموه بأنه يقتل وإلا قتلوه فلا يقتل حتى ولو قتلوه، أما كونه يستبقي حياته بأن يقتل غيره، فإن ذلك لا يجوز، وهذا بإجماع العلماء.

وهناك مسائل خلافية منها: الزنا، هل إذا أُجبر عليه يفعل أو لا يفعل؟ فذكر النووي في الشرح أنه لا يفعل، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، ولكن ما يتعلق بالقتل، فهذا مجمع عليه ومتفق عليه بأنه لا يقتل غيره إذا ألزم وألجيء إلى ذلك؛ لأن في ذلك استبقاء لحياته بقتل غيره.

الحديث الأربعون:

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك). رواه البخاري .

قول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي) هذا فيه فائدتان:

الفائدة الأولى: كون النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بمنكبه وهو يحدثه هذا فيه تنبيه له، ولفت نظره إلى أن يستعد وأن يعي ما يلقى عليه في هذه الحال.

الفائدة الثانية: أن ابن عمر رضي الله عنه قد ضبط ما رواه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ضبط مع الحديث الحالة والهيئة التي كان عليها عندما حدثه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث.

قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) أي: مثل المسافر الغريب الذي ليس في بلده, والذي هو مهموم مشغول بإنهاء مهمته ليبادر بالرجوع إلى بلده.

وعابر السبيل: هو الذي يمر بالبلد وليس مقيماً فيها.

فكذلك شأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا لا يتخذها وطناً، ولا يتخذها قراراً، ولا يتخذها سكناً، فإن مكثه فيها إنما هو زائل، والبقاء فيها مؤقت، والإنسان يستعد فيها ويشتغل فيها لآخرته، ويستعد فيها بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل زلفاً، فلا يتخذها داراً للقرار، وإنما هي دار ممر ومعبر، فيكون فيها بمثابة الغريب الذي يريد الرجوع إلى بلده في أقرب فرصة.

أو يكون كعابر السبيل الذي يمر بالبلد فيجتازه ماراً وليس مستقراً ولا مقيماً ولا باقياً في ذلك البلد، فيعلم أنه في هذه الحياة الدنيا إنما هو في دار الممر ودار المعبر، وهو في طريقة إلى الآخرة، وكل يوم يمضي على الإنسان يباعده من الحياة الدنيا ويقربه من الآخرة، ويدنيه من الأجل والنهاية التي سينتهي إليها، ويكون قد غادر هذه الحياة، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء.

وفي حديث آخر: (ما مثلي ومثل الحياة الدنيا إلا كراكب نام تحت ظل شجرة، ثم قام وتركها) أي: أنه مر بشجرة وهو عابر سبيل، فاستراح ونام تحتها شيئاً يسيراً ثم قام وتركها، فذلك الظل الذي استظل فيه وهو مار ليس بدار قرار ولا محل استقرار، وإنما هو محل عبور ومحل انتقال، فهذا شأن الدنيا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كانوا يبادرون إلى تنفيذ ما يوصي به الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا فإن ابن عمر رضي الله عنه بادر إلى القيام بوصية النبي عليه الصلاة والسلام في قوله (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) فكان يعتبر نفسه على هذا الوصف الذي أرشد إليه الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ويوصي أيضاً غيره بأن يكون كذلك؛ ولهذا كان يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) معناه: إذا أصبحت فلا تتوقع أو تطمع أو تؤمل أنك باقٍ إلى المساء، بل استعد للعمل في ذلك اليوم كأنك لا تدرك المساء، وكذلك إذا كنت في المساء فأنت تعمل في تلك الليلة كأنك لا تدرك الصباح، وذلك قصر الأمل في هذه الحياة الدنيا، وأن الإنسان لا يطمع فيها بالبقاء، ولا يغفل أو يسهو أو يلهو، بل عليه أن يكون مستعداً بالأعمال الصالحة، وفي أي وقت يأتيه الموت فإنه يأتيه وهو على حالة طيبة، وقد جاء في صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل).

فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بادر إلى تنفيذ ما أوصاه به النبي عليه الصلاة والسلام، صار ابن عمر يوصي غيره في أن يكون كذلك، وهذا يعني أنك تستعد للموت في أي لحظة من لحظاتك في الليل أو النهار، وتعمر أوقاتك بطاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، حتى إذا فجأك الأجل فإنه يفجؤك وأنت على حالة طيبة.

وقد ذكر في ترجمة منصور بن زاذان وهو من رجال الكتب الستة، في تهذيب الكمال عن هشيم بن بشير الواسطي أنه قال: لو قيل لـمنصور بن زاذان : إن ملك الموت بالباب ما زاد في عمله شيئاً، أي: ما كان عنده شيء يزيده على ما كان يفعله من قبل؛ لأنه دائماً على استعداد للموت بالأعمال الصالحة.

ويقول أيضاً: (وخذ من صحتك لمرضك). معناه: أنك تنتهز فرصة الصحة وتمام العافية فتغتنمها، وتستعمل تلك الصحة بالأعمال الصالحة قبل أن يأتي مرض أو كبر يمنعك من أن تأتي بما يقدر عليه الصحيح المعافى، فالإنسان يكون صحيحاً معافى يستطيع أن يعمل، ويستطيع أن يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، فيأتيه وقت من الأوقات وهو لا يتمكن، كأن يصيبه مرض أو يصيبه هرم وكبر فلا يستطيع أن يعمل الأعمال التي كان يعملها في حال صحته.

قوله: (ومن حياتك لموتك)، معناه: أنك تعمر حياتك وعمرك ومدة بقائك في هذه الحياة في طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، حتى تجد ذلك بعد موتك كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، والله تعالى يقول: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] فالإنسان عندما يريد أن يسافر فإنه يتهيأ للسفر بأخذ ما يحتاج إليه من الزاد والراحلة، وكذلك في السفر إلى الآخرة يكون زاده التقوى، فعليه أن يستعد بذلك الزاد بمغادرة هذه الحياة حتى يجد الثواب والجزاء على ذلك بعد الموت.

يقول ابن القيم في (الفوائد): ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبذ الدنيا وراء ظهره هو وأصحابه، واطرحوها ولم يألفوها، فهجروها ولم يميلوا إليها، وزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا بها إلى كل مرغوب، ولكن علموا أنها دار معبر وممر، لا دار مقام ومستقر.

الحديث الحادي والأربعون:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).

قوله: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يؤمن الإيمان الواجب، فهذا نفي لكمال الإيمان الواجب.

قوله: (حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) أي: حتى يكون متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الله عز وجل، فهذا هو المؤمن حقاً، وهو الذي يكون هواه تابعاً لما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيعمل بالأعمال الصالحة التي يحبها الله، ويحب ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتكون محابه تابعة لمحاب الله ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وأن يسير إلى الله عز وجل على هدى وعلى بصيرة.

قال الله عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] ويقول سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] فليس لأحد كلام مع كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك لأحد خيار مع ما أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام، بل على المسلم أن يستسلم وينقاد لكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي، ويصدق الأخبار، ويعبد الله وفقاً لما جاء به رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

إذاً: الحديث معناه ومؤداه هو الأمر بالاتباع، وأن الإنسان يكون متبعاً وسائراً على البيضاء التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليها، والتي لا يزيغ عنها إلا هالك كما جاء ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

والحديث قال فيه النووي : حديث صحيح رويناه في كتاب (الحجة) بإسناد صحيح، وكتاب الحجة هو كتاب (الحجة على تارك المحجة) لـنصر المقدسي ، وهو من كتب العقيدة على طريقة السلف، والحديث ضعفه الحافظ ابن رجب ، وبيّن أسباب ضعفه، ولكن الحافظ ابن حجر في فتح الباري ذكر ما يدل على ثبوته، وذلك عندما ذكر عدة أقوال لبعض أهل العلم يذمون فيها الأخذ بالرأي، ثم قال: ويجمع ذلك كله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) رواه الحارث بن أبي أسامة وغيره ورجاله ثقات، وصححه النووي في آخر الأربعين.

(فتح الباري: الجزء: (13)، صفحة: (289، وذكر أن له شاهداً من حديث أبي هريرة .

ومعنى هذا الحديث مطابق لقول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

قال الحافظ ابن رجب في شرح هذا الحديث: المعروف أن الهوى عند الإطلاق يراد به ما يكون مذموماً، وهو الذي فيه مخالفة الحق.

ثم ذكر بعد ذلك بعض الآيات في ذلك مثل قوله: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، وقال في سورة النازعات في آخرها: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].

وقال أيضاً: ويطلق أيضاً على ما يحبه الإنسان ويميل إليه، ويشمل ذلك الميل إلى الحق وإلى الباطل. ثم قال: ويطلق أيضاً على ما يكون حقاً. ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك، وقال: إن ما جاء في هذا الحديث هو من المحبة المحمودة، أي: الهوى الذي هو محمود وليس بمذموم.

فهذا هو الحديث الحادي والأربعون من الأربعين النووية، وهي أربعون، ولكن النووي زاد عليها حديثين: الحادي والأربعين والثاني والأربعين، فيكون ذكر الأربعين إنما هو للتغليب مع حذف الزيادة اليسيرة.

معنى حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)

السؤال: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به) هناك أمور ثقيلة على النفس، ويفعلها الإنسان امتثالاً، مثل: أن بعض الناس يحب إطالة ثوبه، لكنه يقصره امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله، وهناك أمور مكروهة للنفس كالوضوء في شدة البرد، ولكن يفعلها الإنسان امتثالاً، فكيف يكون الهوى تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة؟

الجواب: لا يجوز للإنسان أن يحب إطالة ثوبه؛ لأن ذلك محرم، فلا يجوز له أن يحب الشيء المحرم، وإنما عليه أن يأتي بالشيء المشروع الذي شرعه الله، وأما إطالته بحيث ينزل إلى الكعبين فإن هذا مما جاء في الأحاديث التحذير منه، وجاء النهي عن ذلك، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار).

فالإنسان لا يجوز له أن يقع في قلبه محبة شيء حرمه الله عز وجل؛ لأن الإنسان يجب أن تكون محابه تابعة لما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالشيء الذي يحبه الله ورسوله يحبه، والشيء الذي لا يحبه الله ورسوله لا يحبه هو، فتكون محابّه تابعة لما يحبه الله ورسوله، فيحب الله ورسوله، ويحب من يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما فيما يتعلق بكونه يتوضأ في شدة البرد، فهذا من الأمور الشاقة التي حُفّت بها الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حُفّت الجنة بالمكاره) يعني: أن الطريق إلى الجنة فيه تعب وفيه نَصَب، فيحتاج الإنسان أن يصبر، والصبر يكون على الطاعات ولو شقّت على النفوس، ويكون الصبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس، والإنسان إذا صبر على الطاعات ولو شقت على النفوس ستكون العاقبة حميدة، وإذا صبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس فكذلك تكون العاقبة حميدة؛ لأنه لو لم يصبر عن المعاصي فإن تلك لذة يستعجلها الإنسان، ويعقبها حسرة بعد ذلك.

ضابط الإكراه وما يسوغ للمكره

السؤال: هل الإكراه سائغ على عمومه أم أن هناك من العلماء من لا يسوغ له قبول الإكراه كقصة الإمام أحمد في محنة خلق القرآن؟

الجواب: نعم، إذا استطاع الإنسان أن يصبر فيلزمه الصبر، وأما إذا كان لا يستطيع الصبر فعنده مندوحة ومجال لأنْ يتخلص، وأن يُبقي على نفسه، ويكون هذا بأن يفعل الشيء الذي أُكره عليه مع اطمئنان قلبه إلى كراهية ذلك، وأن ما جرى على لسانه أو على بدنه أو على جسده وجوارحه مما يخالف ما كان عليه قلبه، بحيث لا يكون منشرح الصدر مطمئن البال إلى ذلك الذي فعله، بل هو كاره له ومُلجأ إليه، ويعتبر نفسه مضطراً إلى ذلك.

من صبر على الإكراه أقوى إيماناً ممن استسلم

السؤال: هل قبول الإكراه دليل على ضعف الإيمان؟

الجواب: لا ينبغي أن يقال هذا، لكن لا شك أن الذي يصبر أقوى.

حكم من أُكره على الزنا

السؤال: إذا أُكره الإنسان على فعل محرم كالزنا مثلاً: فهل يرتكبه؟

الجواب: الأرجح أنه لا يفعل بالزنا، وفي ذلك خلاف ذكره الحافظ ابن رجب .

وفي تفسير قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28] قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (7/589): والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآية عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما أنزل الله.

حكم من أكره على قتل كافر

السؤال: جاء الإجماع أنه لا يجوز قتل الإنسان المكره غيره من المسلمين بإبقاء نفسه فإذا أكره على قتل كافر فهل هذا جائز؟

الجواب: إذا كان الكافر معاهداً فحكمه أنه يعامَل معاملة المسلم؛ لأن نفسه معصومة كالمسلم.

من فضائل ابن عمر

السؤال: قوله: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي) ذكر بعض العلماء فائدة ثالثة وهي: فضيلة ابن عمر ، فما صحة هذا القول؟

الجواب: فضيلة ابن عمر في كونه استسلم وانقاد لما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبادر إلى ذلك.

وأما وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على منكبه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصافح أصحابه، ويضع يده بأيديهم، وكل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم فضل ونُبْل، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولكن الشيء الذي يدل على فضل عبد الله بن عمر كونه بادر إلى تنفيذ هذه الوصية؛ لأنه كان يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) فنفذ الوصية، ثم هو يطلب من غيره أن ينفذها.

حكم من أكره على قول كلمة الكفر

السؤال: قال القرطبي في تفسيره: قال العلماء: من أكره على كلمة الكفر فلا يجوز له أن ينطق بها إلا أن ينوي المعاريض، فهل هذا صحيح، وكيف يكون؟

الجواب: المعاريض: هي أن يقصد الإنسان بكلامه شيئاً، وغيره يفهم شيئاً آخر.

مثل: قصة أم سليم مع زوجها أبي طلحة ، لما كان ابنه مريضاً، فمات، ولما جاء وسأل عنه، قالت زوجته أم سليم : إنه قد هدأت نفسه واستراح. ففهم أنه خف منه المرض واستراح من شدته، وهي تقصد أنه قد مات، لكنها لا تريد أن توضح لزوجها ذلك، وأيضاً هي لم تكذب، فهذه هي المعاريض، وتسمى أيضاً: تورية، مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة فإنه يورّي بغيرها، فكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يتجه إلى جهة الجنوب، فإنه يسأل ويبحث عن الطرق المؤدية إلى جهة الشمال، فالذي يسمع أنه يبحث في جهة الشمال يظن أنه سيذهب شمالاً، مع أنه سيذهب جنوباً، وهذه تورية.

وكذلك ما يُذكر عن محمد بن نوح أنه عند فتنة القول بخلق القرآن لما أُلزم بأن يقول: إن القرآن مخلوق، ورّى فقال: أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، هؤلاء مخلوقات. ويحرك أصابعه الأربعة، ويقول: هؤلاء مخلوقات. فهو يقصد شيئاً وغيره يفهم شيئاً آخر، فهذه تورية ومعاريض.

فإذا أكره الإنسان على قول الكفر أو قول الباطل وأمكنه التخلص من ذلك بالمعاريض، فهذا شيء طيب، ولكن إذا لم يكن لديه مجال للمعاريض، وأُكره على النطق باللفظ المعين الذي يطلبونه منه ويحددونه له، ولا مجال فيه للتعريض، فإنه يفعل ذلك مع بغضه له في قلبه، ويكون بهذا معذوراً كما قال الله عز وجل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

حكم الحلف على التورية

السؤال: هل يجوز الحلف على التورية؟

الجواب: إذا كان هذا لدفع ظلم أو باطل، أو للتخلص من شر أحد، فله أن يورّي ويحلف على توريته.

حدّ الإكراه

السؤال: ما هو حد الإكراه؟ وهل التهديد يكفي بأن يكون حداً للإكراه؟

الجواب: لا يكفي مجرد التهديد الذي يمكن أن يفلت منه، أو كان مجرد كلام ليس معه فعل الإكراه، لكن إذا هُدّد بالقتل أو شدة الضرب والعذاب حقيقةً، وأُحضرت الأشياء التي يراد إتلافه بها، ويقال له: إما فعلت كذا وإلا فعلنا بك كذا.

وأما مجرد أن يقال كلام لمعرفة هل عنده صبر أو ليس عنده صبر؟ فما كل ما يقال يمكن أن يتحقق، بل قد يقول الإنسان شيئاً وهو لا يريده، فمجرد كونه يقال له: قل كذا ويهدَّد دون أن يظهر له أنهم جازمون وصادقون فيما يقولون من التهديد، إلا إذا وجد شيء من ذلك سيقع حقيقة فهذا هو الإكراه.

حكم من أتلف شيئاً في حال الإكراه

السؤال: هل على المكرَه ضمان إذا أتلف شيئاً؟

الجواب: نعم، عليه ضمان، وعلى من أكرهه أيضاً كذلك ضمان، فينقسم الضمان بين المتسبب والمباشر.

حكم من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام خطأً أو نسياناً

السؤال: من نسي أو أخطأ فارتكب محظوراً من محظورات الإحرام فهل تلزمه الكفارة؟

الجواب: نعم، العلماء ذكروا أنها تلزمه الكفارة، كونه ترك واجباً من واجبات الإحرام، كأن يترك مثلاً: طواف الوداع أو نحوه، فعليه الكفارة، لقول ابن عباس : (من ترك نسكاً فعليه دم).

وأما من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام خطأً أو نسياناً، كالجماع الذي يفسد معه الحج، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم على قولين:

منهم من قال: إذا كان ناسياً لا يكون عليه شيء.

ومنهم من قال: بل يكون عليه شيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل وأخبره بارتكاب المحظور، أمره بالكفارة دون أن يسأله عن كونه ناسياً أم لا، فدلّ هذا على أن الكفارة لازمة في كل حال.

حكم من نسي التشهد الأول ولم يسجد للسهو

السؤال: إذا ترك واجباً من واجبات الصلاة، ناسياً، مثل: التشهد الأول، ومضى وقت عليه، فماذا يفعل؟

الجواب: هذا ترك واجباً يجبره سجود السهو، فإذا لم يأتِ به فإنه يعيد الصلاة؛ لأنه لم يأتِ بجبر الواجب؛ فإذا كان قد مضى عليه وقت وهو لم يسجد للسهو فإنه يعيد الصلاة.

معنى (أو) في حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)

السؤال: يقول البعض في (أو) عند قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) أنها بمعنى: بل، فيكون معنى الحديث: كن في الدنيا كأنك غريب، بل عابر سبيل. فهل هذا المعنى صحيح؟

الجواب: ليس هناك حاجة إليها؛ لأن (أو) للتنويع بين حالتين: حالة إنسان مقيم في بلد، وحالة إنسان مار في بلد، وهما شيئان وكل منهما ليس بمستقر، لا هذا ولا هذا، لكن لا شك الذي هو عابر السبيل أشد غُربة، فـ(أو) هي للتنويع، يعني: هذا أو هذا، والنتيجة واحدة، فكلهم غرباء.

حكم من أُكره على ترك الصلاة

السؤال: هل يترك الصلاة من أكره على ذلك؟

الجواب: يمكن للإنسان المكره أن يصلي على حسب حاله، فيراه الناس جالساً، وهو يصلي وهم لا يدرون عنه، فلو أُكره على عدم الركوع والسجود فيمكنه أن يصلي وهو جالس أو واقف، ويأتي بأفعال الصلاة على حسب طاقته، مثل: الإنسان المربوط في سارية لا يستطيع أن يركع أو يسجد، فيصلي على حسب حاله.

فلهذا إذا أُكره فإنه لا يظن أنه لا يستطيع أن يصلي، بل يصلي على الوضع الذي يقدر عليه، دون أن يعلم الذين أكرهوه والله تعالى هو الذي يعلمه.

درجة حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )

السؤال: حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، بناء على الشاهد الذي ذكره الحافظ ابن حجر من حديث أبي هريرة ، والشواهد العامة التي ذكرها الحافظ ابن رجب ، فهل يُجزم بصحة هذا الحديث؟

الجواب: الذي يبدو أنه يكون صحيحاً أو حسناً.

حكم تقوية الحديث بظاهر القرآن

السؤال: هل من الممكن أن نأخذ قاعدة: الحديث يتقوى بظاهر القرآن؟

الجواب: القرآن هو الدليل، وأما الشيء الذي لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يضاف إليه، ولا يقال: إن هذا هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولكن من ناحية أخرى: أنه إذا كان المعنى موجوداً في القرآن، فالحكم مأخوذ من القرآن، والحديث الضعيف وجوده كالعدم.

حكم قتل الكافر المحارب

السؤال: ذكرتم أنه لا يجوز قتل المعاهد لإبقاء النفس، فهل يجوز قتله إن لم يكن معاهداً، كأن يكون حربياً؟

الجواب: إذا كان حربياً يجوز قتله.

التوفيق بين حديث: (الحلف على نية المستحلف) وبين جواز الحلف على التورية

السؤال: ذكرتم أن للمرء أن يورّي ويحلف على توريته، فكيف يوفق هذا مع حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك)، وفي رواية: (الحلف على نية المستحلف) ؟

الجواب: نعم، هذا يكون في الأمور التي لابد منها، وأما أمور التي يمكن للإنسان أن يتخلص من الناس، كأن يُسأل سؤالاً ليس من حقه أن يُسأل عنه؛ لأنه ما كل طلب يُحقق، لكن من الناس من يكون فضولياً، فيسأل عن أشياء لا ينبغي أن يسأل عنها، فإذا تخلص الإنسان منه بتورية، فما في ذلك بأس.

حكم من لم يحرم من ميقاته وأراد الإحرام من ميقات آخر

السؤال: من ترك الإحرام من الميقات ناسياً وهو مغادر من المدينة فهل له أن يؤخر الإحرام حتى يمر على ميقات أهل رابغ؟

الجواب: لا، ليس له ذلك؛ لأنه تجاوز ميقاته الذي يجب عليه أن يحرم منه، فكونه يذهب إلى ميقات آخر ليحرم منه، فليس له ذلك.

حكم العلاج بترديد أسماء الله الحسنى

السؤال: هناك علاج انتشر، وهو: كيف تعالج نفسك بطاقة الشفاء الموجودة في أسماء الله الحسنى؟ فكل مرض تردد عليه اسماً من أسماء الله فيُشفى بإذن الله، مثل: مرض الأذن، قل: السميع السميع السميع...، والعمود الفقري، قل: الجبار الجبار الجبار...، العضلات، قل: القوي القوي ...، فما حكم هذا العمل؟

الجواب: هذا مجرد كون الإنسان يسمع هذه الحكاية فإنه يعرف الجواب، وهو أن هذا شيء مخترع محدث، وليس له أساس.

معنى التردد في حديث: (وما ترددتُ في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن)

السؤال: ما معنى التردد في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن

الجواب: قد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما تردّدتُ في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) ما معنى: (تردد الله

فأجاب بقوله: المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه لا يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله به، كالشيء الواحد الذي يُحَبُّ من وجه، ويُكرَه من وجه كما قيل:

الشيب كُرْهٌ وكُرْهٌ أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوبُ

وهذا مثل إرادة المريض للدواء الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: (حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات).

وقال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في الحديث، فإنه قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوباً للحق محباً له، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها، ثم يجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين، بقصد اتفاق الإرادة، وبحيث يحب ما يحب محبوبه ويكره ما يكره محبوبه.

والرب يكره أن يُساء عبده ومحبوبه، والله تعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره للمساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مراداً للحق من وجه، مكروهاً من وجه آخر، وهذا حقيقة التردد، وهو أن يكون الشيء الواحد مراداً من وجه مكروهاً من وجه آخر.

وإن كان لا بد من ترجيح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة الرب المساءة لعبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره إساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ولا يريده.

فالفرق بينهما أن المؤمن عندما يموت ينتقل إلى نعيم، والكافر ينتقل إلى جحيم، كما جاء في صحيح مسلم وهو أول حديث عنده في كتاب الزهد يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).

فهذا هو معنى كلام شيخ الإسلام الأخير هذا، لكن كون الله عز وجل يقال: من صفاته التردد، فلا أدري عن هذا.

حكم ترك الجماعة بسبب قنوت الإمام في صلاة الفجر

السؤال: هل يجوز ترك صلاة الجماعة لأن الإمام في بلدنا يقنت في صلاة الصبح دائماً؟

الجواب: ليس للإنسان أن يترك صلاة الجماعة من أجل القنوت في الفجر، بل يصلي مع الناس ولو قنتوا، ولكن إذا أمكن أن يكون هناك مسجد آخر لا يقنت فيه الإمام -ولو كان أبعد من الأول- فهذا هو المناسب.

حكم استماع الأناشيد الإسلامية كبديل عن الموسيقى في وليمة العرس

السؤال: رجل عاش في مجتمع لهم عادة في وليمة العرس أن يستمعوا الموسيقى، فأراد أن يغير هذا المنكر، فجاء بالأناشيد الإسلامية لمصلحة الدعوة، فهل هذا البديل سائغ؟

الجواب: لا، بل هناك بديل أحسن من هذا وهذا، وهو الكلام الذي فيه فائدة، والنفع ليس في الأصوات، ولا الاستماع للنغمات، وإنما يكون بالكلام المفيد الذي يحرك القلوب وينفع الناس.

حكم السفر إلى بلاد الكفار لغرض التجارة

السؤال: ما هو التفصيل في السفر إلى بلاد الكفار؟ وهل يجوز السفر للتجارة إذا لم تكن التجارة متوفرة في بلاد إسلامية؟

الجواب: يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلاد الكفار لغرض صحيح مع قيامه بما يجب عليه في دينه، وعدم تقصيره في شيء مما يجب عليه، وأما إذا كان لا يتمكن من أداء شعائر دينه، وأنه يمنع من ذلك ،فإنه لا يسافر ولا يبقى في البلد الذي يكون كذلك.

وكونه يسافر لعلاج أو يسافر لتجارة أو يسافر لأي مصلحة شرعية مع تمكنه من قيامه بشعائر دينه فلا بأس بذلك.

والأولى ترك ذلك والحرص على عدم الذهاب إلى بلاد الكفار.

وأما الجواز: فهو جائز إذا تمكن من أداء شعائر دينه ولم يحصل له الإخلال بشيء من ذلك.

حكم صيام من احتجم أثناء صيامه

السؤال: احتجمت وأنا صائم، فهل صيامي صحيح؟

الجواب: إذا احتجم وهو صائم فإنه يقضي ذلك اليوم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم).

مسامحة من أخذ شيئاً للانتفاع به فأخلّ به أو أتلفه

السؤال: أعطيت سيارتي لأحد أصحابي، وردّها إلي بعد يومين، فوجدت أن السيارة قد خربت بسبب إعطائي له، فهل أسامحه على هذا الخطأ وأسكت، أم آخذ حقي منه؟

الجواب: لا شك أن مسامحتك أحسن.

حكم صلاة الظهر قبل صلاة الجمعة

السؤال: الناس في بلادي لا يصلون يوم الجمعة الجمعة وحدها، بل يصلون الظهر أيضاً قبل صلاة الجمعة، فهل أصلي معهم؟

الجواب: لا، أبداً، هذا لا يجوز؛ فالله سبحانه وتعالى لم يفرض في اليوم والليلة إلا خمس صلوات، ولم يفرض ست صلوات في اليوم والليلة، وهذا من التنطّع والتكلّف، وليس هذا هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة والأسوة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هُمْ أحرص الناس على كل الخير، وأسبق الناس إلى كل خير، ومع ذلك لم يفعلوا هذا، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، لكنه شر سلموا منه وابتلي به من ابتلي من بعدهم.

كيفية الخروج من الخلاف والأخذ بالقول الأحوط

السؤال: ما معنى القول: بأن الخروج من الخلاف أولى؟ ومتى يكون؟

الجواب: إذا كانت المسألة فيها خلاف وكان أحد القولين إذا أتى به الإنسان فإنه يكون قد أخذ بالاحتياط، فهذا هو المقصود بالخروج من الخلاف، يعني: الأخذ بالقول الأكثر احتياطاً، مثل ما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في آداب المشي إلى الصلاة: أن الإنسان إذا جاء وأدرك الركوع فيكبر تكبيرتين تكبيرة الإحرام ثم تكبيرة الركوع، وبعض العلماء قال: تُجزئ تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع، قال: والأولى الإتيان بهما جميعاً؛ خروجاً من خلاف من أوجب التكبيرتين، فكون الإنسان يأتي بالتكبيرتين فهذا هو الاحتياط.

حكم تطبيق قاعدة الأخذ بالأحوط في الذهب المحلّق

السؤال: هل يمكن تطبيق قاعدة: الأخذ بالأحوط في مسألة الذهب المحلّق للخروج من الخلاف؟

الجواب: لا؛ لأن هذا فيه مقابلة بين الأدلة، ثم أيضاً هذا تضييق على النساء، والنساء قد وسّع الله لهن في لبس الحلي، فيكون ما جاء في النهي عن ذلك شاذاً، ثم الخلاف نادر في هذه المسألة.

حكم من رأى مخطئاً فأوصى صاحباً له بنصحه ولم يباشر نصحه بنفسه

السؤال: إذا وجدت أخاً أخطأ أمامي وأنا لا أعرفه، وصاحبي يعرفه، فقلت له: هذا فَعَل كذا فانصحه، فهل هذا الفعل مني صحيح أم لابد أن أنصحه أنا مباشرة؟

الجواب: لا شك أنك إذا نصحت المخطئ بنفسك، فهذا أفضل من أنك تأمر غيرك بالنصح.

حكم الدراسة في الجامعات المختلطة

السؤال: كثير من الشباب الملتزم عندنا يقاطعون المدارس والجامعات المختلطة؛ بحجة حرمة الدراسة فيها، وآباؤهم يُكرهونهم على الدراسة أو الطرد من البيت، فما جوابكم على هذه المسألة؟

الجواب: إن الدراسة في الجامعات المختلطة إذا كان الإنسان يجد سبيلاً إلى الابتعاد عنها، فهذا هو المطلوب بالنسبة للرجال.

أما بالنسبة للنساء فلا يجوز لهن الدراسة في الجامعات المختلطة مطلقاً، سواء وجدن دراسة غيرها أم لا، فإذا وجد الرجال دراسة مستقلة عن النساء فيتعين عليهم ذلك، وإن لم يجدوا إلا هذه الدراسة وتركوها فإنها تفوتهم هذه المصلحة التي يحتاج إليهم الناس في المستقبل، فإن الرجال يمكنهم أن يدرسوا في الجامعات المختلطة، ولكن عليهم أن يبتعدوا عن النساء، ولا يخالطوهن ولا يتكلموا معهن، والرجل يمكن أن يبتعد عن المرأة، لكن المرأة لا تستطيع أن تبتعد عن الرجل.

والحاصل أن الدراسة في الجامعات المختلطة فيما يتعلق بالنساء لا يجوز لهن مطلقاً؛ لأن المرأة ولو ابتعدت عن الرجال فكثير منهم لا يبتعدون عنها، بل يلاحقونها ويضايقونها، ويحصل منهم أفعال سوء وقلة حياء.

فإذا كان الرجل لا يجد إلا الدراسة في هذه الجامعات وإلا فسوف يبقى بدون دراسة، ومعلوم أن التدريس في المدارس إنما يكون لأصحاب الشهادات، فإذا ترك الطيبون والمستقيمون هذه الدراسة، فمعنى ذلك أنه يصفو الجو للناس الذين فيهم خلل ونقص، ويكونون هم الذين يتولون التدريس فيما بعد.

فله أن يدرس، ولكن عليه أن يبتعد عن النساء، والرجل إذا ابتعد عن المرأة فإنه يسلم منها بإذن الله.

شروط التكفير وموانعه

السؤال: أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا شروط التكفير وموانعه؟

الجواب: التكفير ليس بالأمر الهين، ومن الأشياء التي أكره الكلام فيها مسألتان: مسألة الطلاق، ومسألة التكفير، فهي من المسائل التي أجد مشقة عند الكلام فيها، ولا أحرص على الكلام فيها.

ومعلوم أن التكفير إنما يرجع فيه إلى ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فتكفيرنا لا يكون إلا لمن كفّره الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، أو أجمع المسلمون عليه، فهذا هو الأساس للتكفير، فإذا وجد شيء من كتاب الله عز وجل أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه أهل العلم، فهذا هو الأساس الذي يبنى عليه التكفير، وإذا كان بخلاف ذلك فيكون محل نظر.

حكم الاجتماع للحديث العام في أبواب المساجد وممراتها بعد الصلوات

السؤال: نريد منكم نصيحة توجهونها لطلبة العلم، حيث يقع من بعضهم الوقوف في ممرات الحرم النبوي بعد صلاة العشاء، فيتضايق بعض الناس من تجمعاتهم؟

الجواب: الإنسان عليه ألا يعمل شيئاً فيه إضرار بالغير، كأن يكون عند الأبواب أو في الطرق المؤدية إلى الأبواب، فهذا التجمع فيه مضرة، والإنسان إذا كان ولابد له من ذلك فليكن في مكان ليس طريقاً وليس ممراً، فيعدل وينحرف عن الجهة التي فيها الطريق، هذا إذا لم يحصل منه إلا الكلام والفعل الطيب، وأما إذا كان الحديث في أمور الدنيا فلا يصلح أن يكون ذلك في المسجد، بل يفعل ذلك خارج المسجد.

حكم مخالفة أنظمة المرور ودفع الغرامة من الربا

السؤال: قطعت الإشارة الحمراء بسيارتي، فهل يجوز أن أدفع الغرامة بمال ربوي لحكومة كافرة؟

الجواب: مرورك أو عبورك الإشارة وهي حمراء غلط، ولا يليق بالإنسان أن يكون كذلك، بل عليه أن يتحلى بالأخلاق والآداب الكريمة، والمسلمون عليهم أن يظهروا بمظهر الإسلام، وأن يكونوا قدوة في الأخلاق والآداب، ولا يظهر منهم أشياء يعابون بها ثم يعاب الإسلام بها وهو بريء من ذلك، فإن من المسلمين من يدعو إلى الإسلام بفعله كما يدعو إليه بقوله، ومنهم من يكون بخلاف ذلك، فتكون أفعاله وأقواله مخالفة لما جاء في الإسلام، وهذا يجعل أعداء الإسلام ينتقدون الإسلام مع المسلمين، ويحسبون أن هذه من أمور الإسلام مع أن الإسلام منها بريء.

فعلى المسلم أن يتقيد بأنظمة المرور، ولا ينبغي أن يحصل منه تجاوز لها، لاسيما وهذا يترتب عليه أخطار؛ لأن الإنسان إذا رأى الإشارة حمراء ثم عبر، ويأتي من في الشارع الآخر فيعبرون لأن إشاراتهم خضراء، فحينئذٍ يحصل التصادم وتحصل المضرّة، وهذا لا يليق بالمسلم أن يعرض نفسه ولا يعرض غيره للضرر، بل إن وقوفه وعدم إقدامه أمر مطلوب منه، سواء في بلاد المسلمين أو في بلاد الكفار.

وأما قضية دفع الغرامة من الربا فليس للإنسان أن يأخذ الربا ولا أن يتعامل به، حتى يحتاج بعد ذلك إلى أن يصرفه هنا أو هناك.

حكم القول بأن التوحيد ينقص

السؤال: إذا كان الإيمان يزيد وينقص، فهل نقول: كذلك التوحيد يزيد وينقص؟

الجواب: إذا كان المقصود بالتوحيد كون الإنسان يشهد أن لا إله إلا الله مع ما يقوم في القلب، فإن الناس يتفاوتون فيما يقوم في القلب، ولا شك أن من يقولون كلمة الإخلاص هم متفاوتون في العلم بها والإيمان بها، فمن يجريها على لسانه دون العلم بها أو العمل بمقتضاها، يختلف عمن يقولها وهو عالم بمعناها مصدق بها وعامل بمقتضاها.

وكذلك أيضاً فيما يتعلق بتوحيد العبادة؛ فالناس يتفاوتون في ذلك، ففيهم المقصّر، وفيهم الذي يأتي بما هو مطلوب منه.

حكم تخميس الفيء

السؤال: هل الفيء يُخمّس؟

الجواب: الفيء لا يُخمّس، بل يصرف في مصالح المسلمين، وإنما الذي يُخمّس هو الغنيمة، فيكون أربعة أخماس للغانمين، وخمس يصرف في مصارف الخير.

حكم المداومة على رفع اليدين في مواطن الإجابة

السؤال: ما حكم المداومة على رفع اليدين في مواطن إجابة الدعاء مثل رفعها بين الأذان والإقامة؟

الجواب: لا نعلم شيئاً محدداً في هذا، بل جاء أن الدعاء مطلق، وليس فيه شيء يدل على رفع اليدين فيه، ولا جاء شيء يدل على المنع من رفعهما، والإنسان إذا رفع فلا بأس، وإن ترك لا بأس.

وكونه يداوم على رفع اليدين باعتبار أنها سنة، لا نعلم شيئاً يدل على هذا، وأما كونه يحرص على أن يرفع يديه؛ لأنه يرجو من الله أن يحقق رغبته، فلا نعلم شيئاً يمنع من هذا.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الأربعين النووية [30] 2558 استماع
شرح الأربعين النووية [17] 2543 استماع
شرح الأربعين النووية [32] 2455 استماع
شرح الأربعين النووية [25] 2333 استماع
شرح الأربعين النووية [11] 2305 استماع
شرح الأربعين النووية [23] 2270 استماع
شرح الأربعين النووية [5] 2205 استماع
شرح الأربعين النووية [33] 2205 استماع
شرح الأربعين النووية [31] 2139 استماع
شرح الأربعين النووية [20] 2138 استماع