شرح الأربعين النووية [2]


الحلقة مفرغة

الحديث الأول هو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ونذكر ما كتبناه عن هذا الحديث:

أولاً: أخرجه البخاري و مسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وقد تفرد براويته عن عمر علقمة بن وقاص الليثي ، وتفرد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي ، وتفرد به عنه يحيى بن سعيد الأنصاري ، ثم كثر الآخذون عنه، فهو من غرائب صحيح البخاري ، وهو فاتحته، ومثله في ذلك خاتمته، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ..).

افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم كتبهم به، منهم الإمام البخاري ، فقد افتتح (صحيحه) به، و عبد الغني المقدسي في كتابه (عمدة الأحكام)، و البغوي ، في كتابيه (مصابيح السنة)، و(شرح السنة) به، وافتتح السيوطي كتابه (الجامع الصغير) به.

وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصلاً قال فيه:

(فصل في الإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع الأعمال البارزة والخفية) وأورد فيه ثلاث آيات من القرآن، ثم حديث: (إنما الأعمال بالنيات).

ثم قال: (حديث صحيح متفق على صحته، ومجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو إحدى قواعد الإيمان وأول دعائمه وآكد الأركان).

قال الشافعي رحمه الله: (يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه)، وقال أيضاً: (هو ثلث العلم)، وكذا قاله -أيضاً- غيره.

وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدها، فقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة. وقيل: اثنان. وقيل: حديث. وقد جمعتها كلها في (جزء الأربعين) فبلغت أربعين حديثاً، لا يستغني متدين عن معرفتها؛ لأنها كلها صحيحة، جامعة قواعد الإسلام في الأصول والفروع والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك، وإنما بدأت بهذا الحديث تأسياً بأئمتنا ومتقدمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم، وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث -بلا مدافعة- أبو عبد الله البخاري صحيحه.

ونقل جماعة أن السلف كانوا يستحبون افتتاح الكتب بهذا الحديث تنبيهاً للطالب على تصحيح النية وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفية.

وروينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله أنه قال: (لو صنفت كتاباً بدأت في أول كل باب منه بهذا الحديث)، وروينا أيضاً عنه أنه قال: (من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث).

وقال الإمام أبو سليمان حَمْد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه المعالم: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث: (إنما الأعمال بالنيات) أمام كل شيء يُنشأ ويبتدأ من أمور الدين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها). انتهى كلام النووي -رحمه الله تعالى- في شرح المهذب.

جاء في حاشية (جامع العلوم والحكم):

أخرجه البخاري ، و مسلم ، و الحميدي ، و الطيالسي ، و أحمد ، و ابن المبارك في الزهد، و أبو داود ، و الترمذي ، و النسائي ، و ابن ماجه و مالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن ، و ابن حبان ، و ابن الجارود ، و الطحاوي في شرح معاني الآثار، و الدارقطني في السنن وفي العلل، و القضاعي في مسند الشهاب، و البيهقي في السنن الكبرى وفي المعرفة، و أبو نعيم في الحلية وفي أخبار أصبهان، و الخطيب البغدادي في تاريخه، و البغوي في شرح السنة.

قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم:

واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول، وبه صدّر البخاري كتابه الصحيح، وأقامه مقام الخطبة له؛ إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة.

قال ابن رجب : وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها، فروي عن الشافعي أنه قال: (هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين باباً من الفقه).

وعن الإمام أحمد قال: (أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر (الأعمال بالنيات)، وحديث عائشة رضي الله عنها (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما (الحلال بين والحرام بين) ).

وقال ابن رجب أيضاً في توجيه كلام الإمام أحمد : (فإن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات، وترك المحظورات، والتوقف عن الشبهات)، وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير ، وإنما يتم ذلك بأمرين:

أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة، وهذا هو الذي تضمنه حديث عائشة (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).

والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل، كما تضمنه حديث عمر (الأعمال بالنيات).

وأورد ابن رجب نقولاً عن بعض العلماء في الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، وأن منهم من قال: إنها اثنان ومنهم من قال: أربعة. ومنهم من قال: خمسة. والأحاديث التي ذكرها عنهم بالإضافة إلى الثلاثة الأولى هي: حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه ..)، وحديث (من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه)، وحديث (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وحديث (لا ضرر ولا ضرار)، وحديث (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم)، وحديث (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)، وحديث (الدين النصيحة ..)، وكل هذه الأحاديث من الأحاديث التي أوردها النووي في (الأربعين).

قوله: (إنما الأعمال بالنيات).

(إنما): أداة حصر.

والألف واللام في (الأعمال) قيل: إنها خاصة بالقُرَب، وقيل: إنها للعموم في كل عمل، فما كان منها قُربة أثيب عليها فاعلها، وما كان منها من أمور العادات كالأكل والشرب والنوم فإن العامل يثاب عليها إذا نوى بها التقوي على الطاعة.

والألف واللام في (النيات) بدلاً من الضمير، والأصل: الأعمال بنياتها، ومتعلق الجار والمجرور محذوف تقديره (معتبرة) أي: الأعمال معتبرة بنياتها.

والنية في اللغة: القصد، وتأتي للتمييز بين العبادات كتمييز فرض عن فرض، أو فرض عن نفل، وتمييز العبادات، عن العادات كالغسل من الجنابة، والغسل للتبرد والتنظف.

العمل تابع للنية خيراً وشراً

خامساً: قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى).

قال ابن رجب : هذا إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه، فإن نوى خيراً حصل له خير، وإن نوى شراً حصل له شر، وليس هذا تكراراً محضاً للجملة الأولى، فإن الجملة الأولى دلّت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة، وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحاً، فلا يحصل له به ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه، المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب نيته التي صار العمل صالحاً أو فاسداً أو مباحاً بها.

الهجرة وأنواعها

قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

الهجرة: مأخوذة من الهجر، وهو الترك، وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد الأمن، كالهجرة من مكة إلى الحبشة، وتكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، كالهجرة من مكة إلى المدينة، وقد انتهت الهجرة إليها بفتح مكة، والهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة.

وقوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) اتحد فيه الشرط والجزاء، والأصل اختلافهما، والمعنى: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً، وبهذا يحصل التغاير.

قال ابن رجب : لما ذكر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر، وهاتان كلمتان جامعتان، وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالاً من أمثال الأعمال التي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال.

وقال أيضاً: فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات والمقاصد بها، فمن هاجر إلى دار الإسلام حباً لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهار دينه الذي قد يعجز عنه في دار الشرك، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقاً، وكفاه شرفاً وفخراً أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة، ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول: تاجر، والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر.

وفي قوله: (إلى ما هاجر إليه) تحقير لما طلبه من أمر الدنيا، واستهانة به، حيث لم يذكره بلفظه.

وأيضاً فالهجرة إلى الله ورسوله واحدة، فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة، ومحرمة أخرى، وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: (فهجرته إلى ما هاجر إليه ) يعني: كائناً ما كان.

وهذا هو آخر ما كتبناه حول هذا الحديث، والله تعالى أعلم.

خامساً: قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى).

قال ابن رجب : هذا إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه، فإن نوى خيراً حصل له خير، وإن نوى شراً حصل له شر، وليس هذا تكراراً محضاً للجملة الأولى، فإن الجملة الأولى دلّت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة، وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحاً، فلا يحصل له به ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه، المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب نيته التي صار العمل صالحاً أو فاسداً أو مباحاً بها.

قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

الهجرة: مأخوذة من الهجر، وهو الترك، وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد الأمن، كالهجرة من مكة إلى الحبشة، وتكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، كالهجرة من مكة إلى المدينة، وقد انتهت الهجرة إليها بفتح مكة، والهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة.

وقوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) اتحد فيه الشرط والجزاء، والأصل اختلافهما، والمعنى: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً، وبهذا يحصل التغاير.

قال ابن رجب : لما ذكر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر، وهاتان كلمتان جامعتان، وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالاً من أمثال الأعمال التي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال.

وقال أيضاً: فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات والمقاصد بها، فمن هاجر إلى دار الإسلام حباً لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهار دينه الذي قد يعجز عنه في دار الشرك، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقاً، وكفاه شرفاً وفخراً أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة، ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول: تاجر، والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر.

وفي قوله: (إلى ما هاجر إليه) تحقير لما طلبه من أمر الدنيا، واستهانة به، حيث لم يذكره بلفظه.

وأيضاً فالهجرة إلى الله ورسوله واحدة، فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة، ومحرمة أخرى، وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: (فهجرته إلى ما هاجر إليه ) يعني: كائناً ما كان.

وهذا هو آخر ما كتبناه حول هذا الحديث، والله تعالى أعلم.