عمدة الفقه - كتاب الجهاد [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نضل، أو نزل أو نزل، أو أن نظلم أو نظلم، أو أن نجهل أو يجهل علينا، وبعد:

الجهاد خلف كل بر وفاجر من سلاطين المسلمين

فقد قال المؤلف رحمه الله: [ويغزى مع كل بر وفاجر]، هذا مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز للمسلمين أن يتركوا الجهاد بحجة أن السلطان أو الإمام ليس بتقي، ولهذا ذكر الشيخ أبو جعفر الطحاوي أن أهل السنة والجماعة يرون الجهاد خلف كل بر أو فاجر، وقال الإمام أحمد حينما سُئل: أبا عبد الله ما ترى أن يكون قائد الجيش رجلاً فيه ضعف قوي الدين أو رجلاً ضعيف الدين قوي الشكيمة؟ قال: أرى أن يولى قوي الشكيمة أما فسقه فعلى نفسه، وهذا من فقهه رحمه الله، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي قيادة الجيش للقوي، فولى خالد بن الوليد ، وولى علي بن أبي طالب ، وأعطى الراية أبو دجانة ، ومن المعلوم أن أبا بكر و عمر أفضل من الجميع، وقد قال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبقي أبا بكر و عمر معه؛ لأنهما وزراء النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يحتاج إليهما في المشورة والرأي.

حكم قتال المسلمين من يليهم من العدو

قال المؤلف رحمه الله: [ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو]، وهذا إذا كانت بلاد المسلمين يتولاها إمام واحد، أما لو كانت بلاد المسلمين مثل زماننا هذا، كل سلطان أو كل إقليم أو كل بلد له إمام فإنه يُنظر؛ فإن كان هذا البلد (سين) يقاتل وبلد (صاد) لم يُقاتل وجب على بلد (صاد) أن يعين بلد (سين)، قال تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72] ، فيجب أن تعينوهم بالمال والسنان والبدن؛ هذا هو الأصل لكن لو أن بلد (صاد) لديه اتفاق وحلف مع بلد كافر، وبلد (سين) معه اتفاق وحلف مع بلد كافر آخر فهنا يقول الله: إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [الأنفال:72] ، يعني هذه الاتفاقية عهد وميثاق فلك أن تصبر وتنظر للمصلحة هنا، هل هي في بقاء الحلف والمعاهدة أو في إلغاء هذه الاتفاقية والمعاهدة، والذي يحكم بإلغائها أو عدمها هو السلطان وأهل الحل والعقد.

وإذا رأى السلطان إزالة هذا الحلف يجب أن يُعلنها صريحة، يقول الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، انبذ إليهم أي أعطهم عهدهم، وقل: أنا الآن ليس بيني وبينكم عهد وأريد أن ألغي الاتفاقية، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58] ، وهذا يدل على أن كل من دخل بأمان واتفاق مع البلد، لا يجوز له أن يفعل في هذا البلد ما يخالف الأمان الذي أُعطيه؛ لأن الله لا يحب الخائنين، فالذي يدخل آمناً في بلد أياً كان هذا البلد وأُعطي الأمان وأُعطي التأشيرات في الدخول على أن يكون مرتبطاً بهذا الأمان فلا يجوز له أن يصنع شيئاً فيه نوع من الخيانة كالتفجير أو غير ذلك؛ لأنه خفر الأمان الذي أُعطيه، والله قد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم إذا خشيت من الكفار وبينك وبينهم اتفاق فلا يجوز لك أن تخرم هذا العهد حتى تنبذ إليهم على سواء؛ ولهذا حذيفة بن اليمان ووالده حينما خرج من مكة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاعترضتهما قريش فقالا: نريد أن نذهب إلى المدينة، قالوا: لا، تريدون أن تذهبوا إلى محمد وصاحبيه، فأعطوهم عهد الله وأمانه ألا يقاتلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة بدر، فأطلقوا سراحهم، فلما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! إنا أعطينا اليهود عهد الله وأمانه ألا نقاتل معك، قال: نفي بعهدهم، ونستعين الله عليهم )، كما رواه البخاري و مسلم ، وهذا من الفضل، وهو من الدين، فالغاية لا يمكن أن تبرر الوسيلة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم )، لم يقل لهم: هؤلاء كفار وليس لهم عهد ولا ذمة وليس لهم قيمة، فتعالوا قاتلوا معنا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بدر بحاجة إلى ذلك، وهم ثلاثمائة، وقال هذا الكلام العظيم!

فضل الرباط في سبيل الله وتمام مدته

قال المؤلف رحمه الله: [وتمام الرباط أربعون يوماً]، الرباط: هو الإقامة بالثغر مقوياً للمسلمين على الكفار، والثغر معناه: كل مكان يُخيف أهلّه العدوُ ويخافونه، ويتبين من هذا أن الإقليم إذا كان ذا جهة معينة والعدو في جهة ما، فإن بقاء المسلم في هذه الجهة التي يحمي فيها المسلمين أفضل من الجهة الأخرى، مثل: لو أن معركة في بلد والعدو في جهة الجنوب فإن بقاء المسلم في جهة الجنوب مع المسلمين يتدرب معهم أعظم من بقائه في جهة الشمال؛ لأن العدو إذا أراد أن يدخل بطريقة حربية في البر ويعلم أن الجيوش في جهة الجنوب كثُر فإنه يهاب، لكنه لو علم أن جهة الشمال هي الكثيرة أو الوسط أو الشرق أو الغرب ربما يتمادى ويدخل بلاد المسلمين من جهة الجنوب؛ لأن العدد فيها قليل، وهذا هو الثغر؛ ولهذا سُميت الشام الثغور؛ لأنها قريبة من أعداء الدين وهم النصارى والروم، فإذا بقي المسلم يحمي بسيفه كان أعظم من الذي يبقى في البلد حتى متى أعلن النفير خرج، فكل على حسب نيته.

والرباط فضله عظيم قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث سلمان : ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات أُجري عليه عمله الذي كان يعمل وأُجري عليه رزقه وأُمن الفُتان )، فقط هذا الثواب بسبب بقائه يحمل سلاحه ويأكل ويشرب وربما قرأ من القرآن الكثير، وربما طلب من العلم الكثير؛ ولذلك جعل له الفضل العظيم؛ لأن في وجوده وجود المسلمين وحماية بيضتهم وحماية أعراض المسلمات.

والثغر أنواع، فمن بقي في مكان يحمي فيه المسلمين من أعداء الدين ومن المنافقين فإنه على ثغر وعلى خير عظيم، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص النية وأحسن الطوية واستشعر هذه الحِسبة فإنه على خير عظيم، والعالم الذي يبقى في تعليم الناس وينشرح صدره بتعليمهم ويُحسن النية في ذلك لقلة من ينشر آثار النبوة ويكتب ويُبين، ولا يخاف في الله لومة لائم، مستعيناً بالحكمة والروية والتؤدة على خير عظيم، كما حصل لأئمة الإسلام قبل ذلك، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه )، فهذا الحديث رواه النسائي من حديث عثمان وإسناده جيد.

حكم الجهاد مع وجود الأبوين

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجاهد من أحد أبويه مسلم إلا بإذنه إلا أن يتعين عليه].

يعني: الجهاد إن كان فرض كفاية فلا يسوغ لمسلم أن يجاهد إلا أن يستأذن والديه، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أُجاهد؟ قال: ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد )، وهذا الحديث أخرجه البخاري و مسلم ، وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما ).

أما إن كان الجهاد واجباً وجوباً عينياً فإنه يجب عليه أن يخرج ولا يستأذن والديه، والوجوب العيني أحياناً قد يلزم شخصاً دون شخص، كأن يكون إنسان يعرف إطلاق الصواريخ -ومعرفة برمجة إطلاق الصواريخ لا يجيدها مثلاً إلا ثلاثة في هذا البلد، مع أن المسلمين كثُر ومعهم أسلحة من الدبابات وغيرها، لكن إطلاق الصواريخ هنا لا يعرفها إلا فلان وفلان؛ لأن الغزو الجوي أعظم من الغزو البري، وأنكأ للعدو فهذا وجب في حقه وجوباً عينياً ما لا يجب على غيره من المجاهدين، فالوجوب العيني يختلف على حسب ما يُنكأ ويُثخن العدو.

ضابط دخول نساء المسلمين أرض الحرب

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يدخل من النساء أرض الحرب إلا امرأة طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى].

المؤلف هنا رحمه الله منع من دخول النساء الشابات؛ لأنه لا يؤمن عليهن من أن يستولي الأعداء عليهن فيتكون أعراضهن، ولأنهن لسن من أهل القتال، هذا قول.

والقول الثاني: أن النساء إذا كانت قادرة على إعانة المسلمين محتشمة في ذلك فلا بأس من معالجتها وسقيها للمسلمين، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال: : ( كأني أنظر إلى عائشة و أم سلمة رضي الله عنهن وهما تنقزان القِرب )، ومعنى تنقزان القِرب يأخذن القِرب ويسرعن، تعرفون كلمة ينكز هذه لغة عربية؛ ولهذا قال أنس : ( ينقزان القِرب )، وفي رواية أنه قال: ( كأني أرى خدم سوقهما )، يعني: أول سوقهما، ( وهما تنقزان القِرب وتفرغانه في أفواه المجاهدين )، ولا يسوغ، ولا يجوز أن يُستدل للتمريض مطلقاً بهذا الدليل إلا أن يكون فيه الحِشمة والستر، أما أن تخرج المرأة متبرقعة وغير ذلك فهذا لا يجوز؛ لأن المسلمين يجب أن يُحموا من خلفهم، فإذا خرجت المرأة متبرجة تداوي الجرحى وتضحك مع الممرضين والأطباء ففيه إثخان للمسلمين في ثغورهم، وربما آذين المجاهدين في مثل ذلك بفتنتهم بهن، ومن المعلوم أن المجاهد يجب ألا يتغير أو تتغير عليه نفسه؛ لأنه سوف يقارع أعداء الدين؛ ولهذا قالت الرُبيع: ( كنا نغزو مع الرسول صلى الله عليه وسلم لسقي الماء ومعالجة الجرحى )، وقال أنس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بـأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى ).

حكم الاستعانة بالمشركين

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يُستعان بمشرك إلا عند الحاجة]، ما حكم الاستعانة بالمشركين؟ الاستعانة بالمشركين تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: استعانة بالمشركين وتكون الإمرة والغلبة لهم مثلاً: أراد الكفار أن يغزوا بلاد المسلمين فاستعان المسلمون بالكفار بحيث يتنازل المسلمون عن بعض حقوقهم، ويتولى الكفار الذين استعين بهم بلاد المسلمين بدلاً من الكفار الآخرين، هذا لا يجوز كما أشار إلى ذلك ابن حزم وغيره، فلا بد أن تكون الإمرة والغلبة للمسلمين؛ لأن الاستعانة بالمشرك هنا من باب إزالة شر طارئ فلا يسوغ أن نكافح الشر الطارئ بشر أعظم منه وهو الاستيلاء على بلاد المسلمين.

القسم الثاني: هذا هو المراد، الاستعانة بالمشركين من باب الإعانة والولاية والإمرة للمسلمين، بحيث تكون بلاد المسلمين يحكمها المسلمون لا يحكمها الكفار، فهذا الفرق بين الأول والثاني، الأول كأنه نوع من الاستعمار من الكفار للمسلمين بحيث يتولى الكفار الإمرة كلها، وهذا لا يجوز، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].

وأما القسم الثاني أن يكون إمام المسلمين يستعين بالمشركين لإزالة شر طارئ مع بقاء الولاية للمسلمين فهذا اختلف العلماء فيه على قولين:

القول الأول: لا يجوز، واستدلوا بما رواه مسلم من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر فأدركه رجل من المشركين كان يُذكر منه جرأة ونجدة فسُر المسلمون بذلك )، شخص يجيد الغزو، قال: ( فقال يا محمد! جئت لأغزو معك وأصيب معك، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: قال: لا، فلن أستعين بمشرك، قال: ثم جاءه حتى إذا بلغ مكاناً يسمى التبيت أو كلمة نحوها، قال: جئت لأغزو معك وأغنم معك، قال: ألست مسلماً؟ قال: لا، قال: فلا أستعين بمشرك، فلما كانت الثالثة فجاءه في مكان آخر، قال: نعم، قال: ادخل، أو أذن له )، وجه الدلالة: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الاستعانة به، واستدل على ذلك بأنه لن يستعين بمشرك.

القول الثاني في المسألة: أنه لا بأس بالاستعانة بالمشركين إذا كانت الولاية للمسلمين ودليل ذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا معه بعض كفار قريش يوم غزوة هوازن كـصفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل وقد كانا كافرين )، وقالوا: إن الاستعانة بالمشركين المفسدة فيها أن يكون للمشركين على المسلمين يد ومِنة، وهذه المفسدة بلا شك ليست بأعظم من مفسدة تولي الكفار بلاد المسلمين وهتك أعراضهم، وإزالة الأمن والأمان في هذه البلدة، حتى ولو كان الغازي من المسلمين وممن يظهر الإسلام فلا بأس بالإعانة؛ لأن فيه مصلحة عظيمة.

حالات جواز الجهاد بدون إذن الأمير

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأمير إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه أو تعرض فرصة فوتها].

إذاً: الجهاد واجب خلف كل بر أو فاجر، ولا يسوغ لمسلم أن يتولى أمراً من الولايات العامة التي تعود على المسلمين أحياناً بالضرر، وهذه القضية من الأهمية بمكان، فالاجتهادات الفردية ولو كانت من جماعة لأمر يعود على المسلمين بالضيق والحرج لا يجوز؛ لأنه لا بد من إذن الأمير، والأمير هنا إما أن يكون أمير الجيش، وإما أن يكون أمير البلد، فكل ما يعود على البلد الذي يعيش فيه المسلمون لا يجوز أن يفتات أحد عليهم بما يعود عليهم من الأعداء بالضيق والحرج؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ولأن ذلك يُعد افتياتاً في حق الإمام، والافتيات على حق الإمام يُغضب الله والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولهذا حينما تقدم عمر على أبي بكر وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مروا أبا بكر فليصل بالناس )، قال صلى الله عليه وسلم حينما فتح سجف حجرة عائشة فرأى عمر يصلي فقال: ( يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر )؛ لأنه رأى أن هذا نوع من الافتيات، وأن عمر رضي الله عنه لم يعلم بذلك؛ لأن بلالاً قدم عمر وقد كان أبو بكر بعيداً غير موجود، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يأبى الله ورسوله والمؤمنون )، وهذا من الفقه، والفقيه الذي ينظر المسألة بشموليتها لا بجزئيتها.

قول المؤلف رحمه الله: (إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه) يعني إذا جاء العدو إلى بلد أو إلى جهة فلا يقال: لا نقاتله حتى يأتي أمر؛ لأنهم يخافون شره ووثوبه عليهم بل لا بد من استئصال شأفته.

قول المؤلف رحمه الله: (أو تعرض فرصة يخافون فوتها) أحياناً في وقت الحرب والجهاد تتحين فرص للمسلمين لا يتسنى الوقت لأخذ المشورة والرأي؛ لأنه أحياناً لا يوجد أن يتأخروا وقت إلا إذا كان القائد أمرهم ألا يصنعوا شيئاً حتى ولو وجدوه يصنع كذا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولو وجدتمونا تخطفنا الطير فلا تتحركوا من أمكنتكم ) يقصد بذلك الرماة، وقال لـحذيفة رضي الله عنه حينما أراده أن يكون عيناً للمسلمين في غزوة الخندق: ( اذهب فانظر ما يصنع القوم ولا تذعرهم علي)، يعني: لا تشككهم فيك، بحيث يبحثون عني ويبحثون عن المسلمين، ( فلما دخل حذيفة قال: فنادى أبو سفيان إن محمداً قد بث عيونه فليسأل كل واحد من بجانبه، قال حذيفة : فالتفت على من بجانبي فقلت: من أنت؟ قال: فلان وفلان، قلت: حسن، قال: فلم يسألني، قال: ورأيت -هذا الشاهد- أبا سفيان يصلي ظهره بالنار )؛ لأنه كان وقت ريح وبرد، ( قال: ورأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، قال: فأخذت القوس، ثم أردته فتذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ولا تذعرهم عليّ، ولو رميته لأصبته )، أي: أنه قريب جداً، ولكن تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا تذعرهم عليّ)، ومن المعلوم أن قتل أبي سفيان رضي الله عنه وقت ذلك فيه إثخان للعدو؛ لأنه أميرهم، والمعلوم أن قتل الأمير وقت الحروب دليل على فشل ذريع في الجيش، ومع ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ولا تذعرهم عليّ ).

قال المؤلف رحمه الله: [وإذا دخلوا أرض الحرب لم يجز لأحد أن يخرج من العسكر؛ لتعلف أو احتطاب أو غيره إلا بإذن الأمير].

ففي الوقت الذي يكون فيه عسكر المسلمين في جهة والعدو في جهة لا يجوز لأحد من الجيش أن يخرج عن الجيش، ولو كان لمصلحته أو مصلحة سيارته، فلا يقول: أنا أنزل السيارة من غير إذن، أو يقول: أذهب أعبي بنزين في أقرب محطة؛ لأنه أحياناً تكون عيون الأعداء متربصة للمسلمين فلا بد من إذن في الذهاب؛ لأن الأمير يعلم تحركات جيشه أعظم مما يعلمها الأفراد؛ لأن عنده عيون تخبره فعنده معلومات أعظم من غيره، فلا يجوز أن يخرج أحد الجيش لا لمصلحته ولا لمصلحة دابته، بتعلف أو احتطاب أو غيره إلا بإذن الأمير؛ ولهذا قال تعالى: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ [الأحزاب:13] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يأذن لبعض الناس ولا يأذن لبعض؛ ولهذا قال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62] ، ومن المعلوم أن قول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62] ، المشيئة هنا ليست على حسب التشهي، وإنما هي على حسب مصلحة الجيش وحاجة الجيش، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مرة في غزوة فقال: ( لا يذهبن أحدكم الليلة إلى الوادي ) حيث كانوا مجتمعين، ( فخرج بعض الصحابة من هذا الأمر النبوي، قال: فأتته الريح فقذفته إلى جبال طيء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالوا: يا رسول الله! خرج فجاءت الريح ...)، وهذا بسبب عصيان الأمير.

فقد قال المؤلف رحمه الله: [ويغزى مع كل بر وفاجر]، هذا مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز للمسلمين أن يتركوا الجهاد بحجة أن السلطان أو الإمام ليس بتقي، ولهذا ذكر الشيخ أبو جعفر الطحاوي أن أهل السنة والجماعة يرون الجهاد خلف كل بر أو فاجر، وقال الإمام أحمد حينما سُئل: أبا عبد الله ما ترى أن يكون قائد الجيش رجلاً فيه ضعف قوي الدين أو رجلاً ضعيف الدين قوي الشكيمة؟ قال: أرى أن يولى قوي الشكيمة أما فسقه فعلى نفسه، وهذا من فقهه رحمه الله، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي قيادة الجيش للقوي، فولى خالد بن الوليد ، وولى علي بن أبي طالب ، وأعطى الراية أبو دجانة ، ومن المعلوم أن أبا بكر و عمر أفضل من الجميع، وقد قال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبقي أبا بكر و عمر معه؛ لأنهما وزراء النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يحتاج إليهما في المشورة والرأي.

قال المؤلف رحمه الله: [ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو]، وهذا إذا كانت بلاد المسلمين يتولاها إمام واحد، أما لو كانت بلاد المسلمين مثل زماننا هذا، كل سلطان أو كل إقليم أو كل بلد له إمام فإنه يُنظر؛ فإن كان هذا البلد (سين) يقاتل وبلد (صاد) لم يُقاتل وجب على بلد (صاد) أن يعين بلد (سين)، قال تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72] ، فيجب أن تعينوهم بالمال والسنان والبدن؛ هذا هو الأصل لكن لو أن بلد (صاد) لديه اتفاق وحلف مع بلد كافر، وبلد (سين) معه اتفاق وحلف مع بلد كافر آخر فهنا يقول الله: إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [الأنفال:72] ، يعني هذه الاتفاقية عهد وميثاق فلك أن تصبر وتنظر للمصلحة هنا، هل هي في بقاء الحلف والمعاهدة أو في إلغاء هذه الاتفاقية والمعاهدة، والذي يحكم بإلغائها أو عدمها هو السلطان وأهل الحل والعقد.

وإذا رأى السلطان إزالة هذا الحلف يجب أن يُعلنها صريحة، يقول الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، انبذ إليهم أي أعطهم عهدهم، وقل: أنا الآن ليس بيني وبينكم عهد وأريد أن ألغي الاتفاقية، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58] ، وهذا يدل على أن كل من دخل بأمان واتفاق مع البلد، لا يجوز له أن يفعل في هذا البلد ما يخالف الأمان الذي أُعطيه؛ لأن الله لا يحب الخائنين، فالذي يدخل آمناً في بلد أياً كان هذا البلد وأُعطي الأمان وأُعطي التأشيرات في الدخول على أن يكون مرتبطاً بهذا الأمان فلا يجوز له أن يصنع شيئاً فيه نوع من الخيانة كالتفجير أو غير ذلك؛ لأنه خفر الأمان الذي أُعطيه، والله قد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم إذا خشيت من الكفار وبينك وبينهم اتفاق فلا يجوز لك أن تخرم هذا العهد حتى تنبذ إليهم على سواء؛ ولهذا حذيفة بن اليمان ووالده حينما خرج من مكة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاعترضتهما قريش فقالا: نريد أن نذهب إلى المدينة، قالوا: لا، تريدون أن تذهبوا إلى محمد وصاحبيه، فأعطوهم عهد الله وأمانه ألا يقاتلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة بدر، فأطلقوا سراحهم، فلما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! إنا أعطينا اليهود عهد الله وأمانه ألا نقاتل معك، قال: نفي بعهدهم، ونستعين الله عليهم )، كما رواه البخاري و مسلم ، وهذا من الفضل، وهو من الدين، فالغاية لا يمكن أن تبرر الوسيلة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم )، لم يقل لهم: هؤلاء كفار وليس لهم عهد ولا ذمة وليس لهم قيمة، فتعالوا قاتلوا معنا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بدر بحاجة إلى ذلك، وهم ثلاثمائة، وقال هذا الكلام العظيم!