زاد المستقنع - كتاب البيع [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

يقول المؤلف رحمه الله: [باب العارية.

وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه، وتباح إعارة كل ذي نفع مباح، إلا البضع، وعبداً مسلماً لكافر، وصيداً ونحوه لمحرم، وأمة شابة لغير امرأة أو محرم، ولا أجرة لمن أعار حائطاً حتى يسقط، ولا يرد إن سقط إلا بإذنه.

وتضمن العارية بقيمتها يوم تلفت ولو شرط نفي ضمانها، وعليه مئونة ردها لا المؤجرة، ولا يعيرها فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها، وعلى معيرها أجرتها، ويضمن أيهما شاء، وإن أركب منقطعاً للثواب لم يضمن.

وإذا قال: آجرتك قال: بل أعرتني أو بالعكس عقب العقد قبل قول مدعي الإعارة، وبعد مضي مدة: قول المالك بأجرة المثل.

وإن قال: أعرتني أو قال: آجرتني، قال: بل غصبتني أو قال: أعرتك قال: بل آجرتني، والبهيمة تالفة، أو اختلفا في رد: فقول المالك].

تعريف العارية لغة واصطلاحاً

قول المؤلف: (باب العارية) يجوز فيها التشديد والتخفيف، والعارية في اللغة: من العري، وهو التجرد، ويجوز إطلاق العارية من العري وهو التفرد والذهاب، كما قال الفقهاء في مسألة العرايا؛ لأن بعض الشجر قد تجرد، وذهبت عن أحكام مثيلاتها، ولهذا العارية ذهبت وخرجت عن تصرف صاحبها.

والعارية يمكن إطلاقها على معنيين: الأول: الذهاب والخروج، والثاني: التجرد.

وهي في الاصطلاح كما عرفها المؤلف بقوله: هي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه، ولو قيل في تعريفها وهو أقوى: إباحة نفع عين بلا عوض تبقى بعد استيفائه، لكان أوجه.

مشروعية العارية

والعارية ثبتت في الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة.

أما الكتاب فإن أكثر المفسرين من الصحابة ومن جاء بعدهم فسر الماعون في قول الله تعالى في سورة الماعون: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7]، بالعارية، قال ابن مسعود الماعون: الميزان والدلو والقدر، وقال ابن عباس رضي الله عنه: أي منع العواري، يعني: أن من كان عنده شيء فاضل عن حاجته من الأمور التي يستهين بها الناس فيجب بذلها لمن احتاجها كالقدر والدلو والحبل ونحو ذلك، وهذه قاعدة أن الذين منعوا ما لم يحتاجوه، ولا يضرهم فقده ممن احتاجه دليل على البخل وعلى الأنانية، ولهذا أنكر الله صنيعهم.

ولا يلزم أن يكون في المال حق غير الزكاة، فإن عامة أهل العلم يرون أنه ليس في المال حق غير الزكاة خلافاً لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله، وقد استدل ابن تيمية على أن في المال حق غير الزكاة بما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة تطؤه بأخفافها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) الحديث، وفيه: ( قالوا: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: إعارة دلوها وحلبها يوم وردها ). والجمهور يرون أن هذا ليس بحق، ولكنه بذل ما لا يحتاجه إلى من يحتاجه، ومن المعلوم أن اللبن لو بقي في ضرع البهيمة لضرها، ولذلك تجد أن بعض الناس يحلبه وهو لا يحتاجه ويصبه في الأرض، فإذا كان الأمر كذلك فلا يسوغ أن يمنعه من ابن السبيل، ومن منعه فإن فيه بخلاً وأنانية؛ ولأجل هذا فليس فيه دليل على أن في المال حقاً غير الزكاة.

وأما في السنة: فقد ثبت: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـصفوان بن أمية حينما طلب منه أن يعيره دروعه، قال: أغصب يا محمد؟! قال: بل عارية مضمونة )، وفي رواية: ( عارية مؤداة )، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، و أبو داود و الترمذي وغيرهم.

وأما الإجماع فقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل العلم على العارية.

عقد العارية بين الإباحة والتمليك والفرق بينهما

قوله: (هي إباحة) يخرج به التمليك، فالعارية ليست تمليك منفعة، كما ظن ذلك المالكية والحنفية، والراجح هو مذهب الحنابلة والشافعية حيث قالوا: إنها إباحة.

والفرق بين الإباحة والتمليك: هو أن المستعير يجوز له أن يتصرف بالإعارة إذا قلنا: إنها ملك، ولا يجوز له أن يبذلها للغير إلا بإذن مالكها إذا قلنا: إنها إباحة، وهذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم؛ لأن المعير يجوز له أن يرجع في عاريته، وعقود التمليكات ليس فيها رجوع إلا برضا المتعاقدين، فدل ذلك على أنها إباحة منفعة.

قول المؤلف: (إباحة نفع عين) أي: هذه المنفعة يجب أن تكون مباحة النفع، مثل الدلو والإبل والكلب؛ لأن كلب الصيد يباح اقتناؤه فيجوز أن يعطي شخصاً كلب صيده أو كلب الزرع، أو كلب الماشية، أما الكلب العادي فلا يجوز؛ لأنه لا يجوز اقتناؤه. وله أن يعطيه قرده؛ لأن القرد يجوز اقتناؤه وبيعه، ويجوز أن يعطيه هرته؛ لأن الصحيح وهو قول أكثر أهل العلم، وقول جماهير فقهاء الأمصار كما حكى ذلك أبو عمر بن عبد البر أن الهر يجوز بيعه، وأما ما جاء في صحيح مسلم من حديث معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير أن جابراً : ( سئل عن السنور والكلب، فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك )، فإنه ضعيف، ضعفه الإمام أحمد و ابن رجب كما في فتح الباري، وأكثر أهل العلم على جواز بيع الهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند أهل السنن: ( إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوافين عليكم والطوافات ).

حكم إعارة ما لا تبقى عينها بعد الانتفاع بها أو ما لا ينتفع به

قول المؤلف: (تبقى بعد استيفائه)، يعني: أن العارية يجب أن تبقى عينها بعد الانتفاع بها من قبل المستعير، فإن أعطاه شيئاً بلفظ الإعارة مما يفنى في الغالب مثلما لو أعطيتك تفاحاً، وقلت: هذه عارية، فالأصل أن استعمال التفاح في العادة هو الأكل، وعلى هذا فليست عارية، وإن كانت بلفظ العارية، بل هي هبة، والأصل في العقود المقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني.

وحينئذٍ نقول: إن قول المؤلف: تبقى بعد الانتفاع بها يخرج ما لا يبقى، وكذلك ما لا ينتفع به كما مر معنا، ومن أمثلة ما لا ينتفع به إلا على وجه المحرم: أن يعطيه خمراً أو أفلاماً محرمة، أو أشرطة أو آلة لهو، فهذه لا تجوز، وهي من باب الإعانة على الإثم والعدوان.

أركان عقد العارية

ومن المعلوم أن العارية عقد، من باب عقود التبرعات، والأصل في العقد أن يتوفر فيه ثلاثة أركان:

الركن الأول الصيغة، وتصح الإعارة بكل لفظ دل على المراد سواء كان بلفظ أو بفعل، أما اللفظ كأن يقول: خذ هذه عارية، أو خذ هذه فانتفع بها فإنها تكون عارية، أو قال شخص في قاعة الامتحانات من معه قلم: فجاء شخص وأعطاه القلم، فهذه إعارة، وهي فعل من أحدهما، لفظ من الآخر، وهذا يسمى إعارة من باب المعاطاة، مثل: إعطاء الرفيق أو الصديق سيارته ليحج بها، فعلى قول الحنابلة إذا قال: يا فلان! أريد أن تعطيني سيارتك أو باصك لأحج به، والعادة أنه يقود السيارة فلا يسوغ له أن يعطي شخصاً آخر يقود السيارة؛ لأن الأصل أن الإذن في العارية لمن استعارها، ولا يجوز أن يبذلها لغيره إلا بإذن مالكها.

والقول الآخر: أنه إذا كان الشخص الآخر سينتفع بها على نحو انتفاع المستعير، أو كان في العادة يستخدمها هذا الشخص وغيره فلا حرج، مثل الكاسات، فلو استعرت من شخص كأساً فمن المعلوم أن الكاسات ينتفع بها أهل البيت، هذا الركن الأول.

الركن الثاني: العاقدان، ويشترط في العاقدين: أهلية المعير للتبرع، وهو أن يكون مكلفاً رشيداً مختاراً غير سفيه، ولا محجور عليه. ويشترط في المستعير أن يكون ممن يصح منه قبول التبرع، وهو ما يسميه العلماء: بأهلية المستعير للتبرع والتملك، وهذا يكون من جائز التصرف.

الركن الثالث: المحل، والمحل هو العين المعقود عليها، وهي نفس العارية، ويشترط فيها أن تكون مباحة النفع، وأن تبقى بعد استيفائها.

حكم العارية

والعارية مستحبة؛ لقوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

ولقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل كما في الحديث: ( يا رسول الله! وما إعارتها؟ قال: إعارة دلوها وإطراق فحلها، ومنحة لبنها يوم وردها ) رواه مسلم .

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( العارية مؤداة، والمنيحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم ).

الأمور التي تباح فيها العارية

قول المؤلف: (وتباح إعارة كل ذي نفع مباح) كالدار والثياب والسيارات، وكلاب الصيد، وكلاب الزرع، وكلاب الماشية، والقاعدة: أن كل ما جاز الانتفاع به جازت إعارته، ولهذا يجوز الانتفاع بكلب الصيد، ولا يجوز الانتفاع بالكلب العادي؛ لأنه ينتقص من أجر المنتفع به كل يوم قيراطان، وعلى هذا فلا يجوز إعارة الرسيفر في القنوات الفضائية المحرمة، ولا يجوز إعارة المودم (dsl) إذا كان الشخص الذي ينتفع به سوف ينتفع به على جهة الحرمة، وإذا كان هناك شباب في شقة وتبرع شخص بال(ـdsl) عن طريق الواير لس فلا يجوز إذا كانوا سوف ينتفعون به انتفاعاً محرماً.

ما تجوز إعارته

وقد استثنى المؤلف أموراً، فقال: (إلا البضع، وعبداً مسلماً لكافر، وصيداً ونحوه لمحرم، وأمة شابة لغير امرأة أو محرم)، هذا الاستثناء قصد به أموراً:

أولاً: أنه يستثنى من الإعارة: عارية ما لا ينتفع به إلا هو، فإذا كان الشيء لا ينتفع به إلا نفس الشخص فلا يجوز بذله لغيره مثل البضع، فإن الانتفاع به إنما هو لشخص واحد، فلا يجوز بذل البضع إلا بنكاح أو ملك يمين.

ثانياً: لا يجوز بذل العارية إذا كان سوف ينتفع بها على وجه محرم مثل إعطاء الكافر عبداً مسلماً ليخدمه، فإن المؤلف قال: لا يجوز استخدامه؛ لأن الله يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، والراجح والله تبارك وتعالى أعلم أنه لا بأس بذلك إذا كان هذا المسلم لا يستذل، ولا يفعل محرماً؛ لأن العارية هنا لا تعدو أن تكون شبيهة بالإجارة، ومن المعلوم أن من الصحابة من كان راعياً لقومه الكفار ولم ينقل أن أحداً منهم منع ذلك، وقد كان أويس القرني قبل أن يسلم جميع قومه راعياً لإبلهم ومواشيهم، وعلى هذا فإذا كان لا يستذل ولا يعمل محرماً فلا بأس، كالذي يعمل في المطاعم في البلاد الغربية، فإذا كان يعمل محرماً فلا يجوز.

قوله: (وصيداً ونحوه لمحرم)، (ونحوه) كالمخيط، فلو أن محرماً طلب منك أن تعطيه مثلاً جاكتك، وسوف يستخدمه بمحرم، فقالوا: إن هذا محرم؛ لأنه لا ينتفع به إلا على وجه محرم، وينتفع به على وجه محرم من وجهين:

الوجه الأول: أن يلبسه من غير حاجة، فإن لبسه من حاجة فلا حرج؛ لما جاء عند الطحاوي و ابن أبي شيبة أن ابن عباس قال لـأبي معبد : ناولني طيالستي قال: أو لست كنت تنهى عن ذلك؟ قال: نعم، ولكني سأفتدي.

الوجه الثاني: أن يلبسه غيره على وجه محرم. فإن كان سوف يستخدمه بمباح مثل أن يكون محتاجاً، أو يريد أن يلف به جسده من غير لبس، فهذا لا بأس.

(أو أمة شابة لغير امرأة أو محرم) فالأمة الشابة إذا كانت ستعطى لرجل وسيخلو بها فلا شك في حرمة ذلك. ومن ذلك أيضاً ما تقوم به بعض العوائل من تأجير خادمتهم لأناس لا يعلمون عنهم، هل هم رجال أو رجل واحد، ولهذا نقول: لا يجوز مثل هذا العقد ولو كان عقد إجارة؛ لأن مثل هذا ربما يكون ضرره واضحاً؛ لأننا نقول: لا يؤمن على هذه الأمة، أو الخادمة من وقوع في محرم كالخلوة أو التأذي بفعل ما يستقبح مع هذه المرأة، وأما إذا أمنت الفتنة فإن الحنابلة يقولون: يكره، والأقرب إذا أمنت الفتنة ولم يوجد محرم مثل الخلوة أنه لا حرج، مثل أن يكون شخص عنده خادمة فيعطيها أخاه، فهنا نقول: لا بأس؛ لأن هذا من باب العارية، وقد أمنت الفتنة ولا حرج في ذلك، ولو كانت شابة، لكن الحنابلة يفرقون بين الشابة والكبيرة أو الشوهاء التي لا تشتهى، والأقرب أن نقول: إذا أمنت الفتنة.

رجوع المعير في إعارته ومدى ثبوت الأجرة له على المستعير

قول المؤلف: (ولا أجرة لمن أعار حائطاً)، هذه المسألة مبنية على أمر وهو أن للمعير الرجوع في إعارته متى شاء، هذا مذهب الحنابلة، وهو مذهب الحنفية والشافعية، قالوا: إن للمعير أن يرجع في إعارته متى شاء ما لم يعيره لشيء يستضر المستعير برجوعه فيه، مثل أن يقول له: فلان يريد سيارتك ليحج بها، فوافق على ذلك فلما وصل إلى الميقات، قال: أعطني سيارتي، وقد أذن له بالانتفاع بها بمقدار الحج فهذا ضرر، أو قال لفلان: أعطني سيارتك أريد أن أحمل بها أغراضاً من الرياض إلى مكة، فلما كان في الطريق قريباً من الحوية قال: ارجع أنا أريدك.

أو أعاره منزله أو شقته، فسكن فيها هو وأهله، فاتصل عليه صاحب البيت في منتصف الليل وقال: اخرج أنا جئت إلى بيتي، فهذا فيه ضرر، ولو كان محسناً.

وذهب المالكية إلى أن الإعارة تكون لازمة إذا أعاره لعمل أو وقتها بوقت، والأقرب والله أعلم أن العارية تبرع وما على المحسنين من سبيل، بيد أنه إن أعاره شيئاً يستضر المستعير برجوعه فإننا نقول: لا يحق له الرجوع؛ لأن المعير أذن للمستعير أن ينتفع بما أذن فيه، فكأنه أذن له من أول العمل إلى منتهاه.

يقول المؤلف: (ولا أجرة لمن أعار حائطاً حتى يسقط)، يعني: لو أن المعير أراد أن يرجع في إعارته، قلنا: لا يحق له؛ لأن العارية مشغولة بما أذن فيه المعير، فهل يستحق المعير أجرة المثل من حين طلب رجوعه إلى أن ينتهي المستعير من المنفعة التي أريد الاستعارة لأجلها، يقول الحنابلة: (ولا أجرة لمن أعار حائطاً حتى يسقط)، يعني: ثم رجع لا إعارة له إذا رجع ولا أجرة حتى يسقط الحائط؛ لأن ما ترتب على المأذون فلا ضمان عليه؛ ولأجل أن بقاءه بحكم العارية، والعارية من أولها لا أجرة فيها، فكذلك باقيتها استصحاباً لحالها أول العقد أو أول القبض.

ومثل ذلك لو أنني أعطيتك سيارة لتحمل بها أغراضك من الرياض إلى مدينة أخرى وقد نزلت في مدينة أخرى، أو كنت في الرياض وتعينت في جدة وطلبت من زميلك أن يعيرك سيارته، فحملت عليها أغراضك، فلما كنت في وسط الطريق اتصل عليك وقال: ارجع. فقلت: والله لا أرجع، فقال: إذاً عليك إيجار، نقول: ليس عليك إيجار؛ لأنك أخذتها لطلب إعارتها من الرياض إلى جدة، وإرجاعها فيه ضرر على المستعير، والأصل أن العارية يجوز الرجوع فيها متى شاء المعير ما لم يستضر المستعير برجوعه؛ لأن ضرر المستعير بالرجوع يمنع أساساً من أصل العارية؛ لأن أصل العارية هو الإحسان، فإذا كان سوف يستضر المستعير فإنه يقول: يا ليت ما أحسنت ولا فعلت!

وللعلماء قاعدة مهمة هي أن كل شرط أو فعل يعود على أصل المعقود عليه، أو أصل الشيء المراد إيجاده بالبطلان أو بالإتلاف فإنه لا يصح؛ لأن كل شرط أو فعل يعود على أصله بالإبطال أو بالإتلاف يكون باطلاً، وهناك شروط في البيع تعود على أصل البيع بالإبطال فيكون البيع باطلاً مثل شرط الضمان على المستأجر، فهذا الشرط يعود على أصل الإجارة بالإبطال؛ لأن أصل الإجارة الضمان فيها على المؤجر، فإذا عاد الشرط على أصل العقد بالإبطال يكون الشرط أو الفعل باطلاً، فإذا طلبنا من المستعير أن يرجع فهذا الرجوع يعود على أصل العارية بالإبطال، وأصل العارية هو الإحسان.

قول المؤلف: (ولا يرد إن سقط) يعني: لو أنه أعاره الحائط ليستخدم عليه الخشب، فإنه لا يجوز له الرجوع حتى ينتهي المستعير من الخشب، لكن لو سقط الحائط، وخرج الخشب، فإنه لا يجوز للمستعير أن يرد الخشب مرة ثانية إلا بإذن جديد.

والقول الآخر هو: إن كان المعير قد طلب من المستعير العارية، وكانت مشغولة فيما يضر رجوعها على المستعير، فإنها لو هلكت فلا يجوز للمستعير أن يعيدها إلا بإذن أما إذا لم يطلبها المعير فإن له أن يعيدها، وذكرنا الفرق؛ وذلك لأن المعير لما طلب الرجوع منعناه خوفاً من ضرر المستعير، فإذا انتفي الضرر رجع الحق للمالك، والأصل أن ملك الغير لا يجوز بذله إلا برضا، وأما إذا لم يطلب المعير فإن الأصل أن الإذن الضمني ما زال باقياً.

قول المؤلف: (باب العارية) يجوز فيها التشديد والتخفيف، والعارية في اللغة: من العري، وهو التجرد، ويجوز إطلاق العارية من العري وهو التفرد والذهاب، كما قال الفقهاء في مسألة العرايا؛ لأن بعض الشجر قد تجرد، وذهبت عن أحكام مثيلاتها، ولهذا العارية ذهبت وخرجت عن تصرف صاحبها.

والعارية يمكن إطلاقها على معنيين: الأول: الذهاب والخروج، والثاني: التجرد.

وهي في الاصطلاح كما عرفها المؤلف بقوله: هي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه، ولو قيل في تعريفها وهو أقوى: إباحة نفع عين بلا عوض تبقى بعد استيفائه، لكان أوجه.

والعارية ثبتت في الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة.

أما الكتاب فإن أكثر المفسرين من الصحابة ومن جاء بعدهم فسر الماعون في قول الله تعالى في سورة الماعون: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7]، بالعارية، قال ابن مسعود الماعون: الميزان والدلو والقدر، وقال ابن عباس رضي الله عنه: أي منع العواري، يعني: أن من كان عنده شيء فاضل عن حاجته من الأمور التي يستهين بها الناس فيجب بذلها لمن احتاجها كالقدر والدلو والحبل ونحو ذلك، وهذه قاعدة أن الذين منعوا ما لم يحتاجوه، ولا يضرهم فقده ممن احتاجه دليل على البخل وعلى الأنانية، ولهذا أنكر الله صنيعهم.

ولا يلزم أن يكون في المال حق غير الزكاة، فإن عامة أهل العلم يرون أنه ليس في المال حق غير الزكاة خلافاً لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله، وقد استدل ابن تيمية على أن في المال حق غير الزكاة بما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة تطؤه بأخفافها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) الحديث، وفيه: ( قالوا: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: إعارة دلوها وحلبها يوم وردها ). والجمهور يرون أن هذا ليس بحق، ولكنه بذل ما لا يحتاجه إلى من يحتاجه، ومن المعلوم أن اللبن لو بقي في ضرع البهيمة لضرها، ولذلك تجد أن بعض الناس يحلبه وهو لا يحتاجه ويصبه في الأرض، فإذا كان الأمر كذلك فلا يسوغ أن يمنعه من ابن السبيل، ومن منعه فإن فيه بخلاً وأنانية؛ ولأجل هذا فليس فيه دليل على أن في المال حقاً غير الزكاة.

وأما في السنة: فقد ثبت: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـصفوان بن أمية حينما طلب منه أن يعيره دروعه، قال: أغصب يا محمد؟! قال: بل عارية مضمونة )، وفي رواية: ( عارية مؤداة )، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، و أبو داود و الترمذي وغيرهم.

وأما الإجماع فقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل العلم على العارية.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
زاد المستقنع - كتاب البيع [3] 1615 استماع
زاد المستقنع - كتاب البيع [5] 1386 استماع
زاد المستقنع - كتاب البيع [1] 1181 استماع
زاد المستقنع - كتاب البيع [2] 866 استماع