خطب ومحاضرات
زاد المستقنع - كتاب البيع [5]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
قال المؤلف رحمه الله: [باب الغصب].
الغصب في اللغة: مصدر غصب يغصب بكسر الصاد، وهو أخذ الشيء ظلماً وقهراً، فإن كان في غير القهر فإنه يكون له مسميات كما سوف يأتي، إما سرقة وإما نهبة وإما اختلاس.
واصطلاحاً: عرفه المؤلف بقوله: [وهو الاستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق].
وقوله: (الاستيلاء) يعني: أن يأخذ مال الغير ويستولي عليه بحيث لا يستطيع مالكه التصرف.
يقول المؤلف: (على حق غيره)، وهذه العبارة أنفع مما لو قلنا: من مال غيره؛ لأن الحق عام يشمل المال ويشمل الحق حقوق الاختصاصي والحق المعنوي. والآن هناك الخدمات المالية التي يسمونها الخدمية، هناك عين ونقد وخدمي، الآن الخدمية أحياناً أقوى من وجود المال نفسه، فشركة الاتصالات مثلاً خدمية، تعطيك خدمة فهو حق لك، لو جاء شخص وأخذ هذا الحق واستولى عليه فهو ليس مالاً معيناً، وإن كان هو مال من حيث المنفعة، فهو حق.
قوله: (حق غيره) لو قال المؤلف: حق معصوم لكان أحسن؛ لأن قوله: (حق غيره) يحتمل من المسلمين وغير المسلمين، وغير المسلمين يحتمل المحاربين وغير المحاربين، لكن إذا قلنا: حق معصوم، علمنا أن كل من ماله معصوم مثل المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن فإن ماله معصوم.
قول المؤلف: (قهراً) يخرج بذلك المسروق والمنتهب والمختلس، فإن المنتهب ليس بغصب؛ لأنه لم يؤخذ قهراً، وكذلك المختلس، فإنه ليس بغصب، والمختلس لا يسمى غاصباً.
قول المؤلف: (بغير حق) يخرج بذلك ما لو استولى الغير على مال معصوم بحق، مثل: تصرف الحاكم على مال المفلس، فإنه يتصرف ويستولي عليه ويمنعه من التصرف؛ لأنه بحق، وليس بغصب، كذلك مال الولي على الصغير، فإنه يستولي عليه، وجعل الشارع مال الصبي مالاً للولي بقوله: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5].
طيب! المؤلف مثل على ذلك قال: [من عقار] العقار: هو كل ملك ثابت له أصل يسمى عقاراً، فالدار عقار، والأرض عقار، والنخل عقار، خلافاً لما يظنه العامة من الناس الآن أن العقار هو الأرض وما بني عليها؛ لكن عند الفقهاء أن العقار يشمل حتى النخل الذي له أصل.
يقول المؤلف: [ومنقول] والمنقول، هو: كل ما ينقل من أثاث وحيوان ونحو ذلك.
غصب الكلب أو خمر ذمي وما يلزم من فعل ذلك
الكلب كلبان: كلب يجوز اقتناؤه مثل كلب الصيد والزرع والماشية، وكلب لا يجوز اقتناؤه وهو كلب الدار وكلب غير هذه الأشياء الثلاثة، فأما كلب الأشياء الثلاثة -وهو كلب الزرع والماشية والصيد- فهو كلب مأذون بالانتفاع فيه، وهو حق اختص به صاحبه، لكنهم اختلفوا هل كل ما لا يجوز بيعه لا يضمنه الغاصب أم أن ثمة فرق بين ما لا يجوز بيعه وبين ما يضمنه لو تلف؟
فالحنابلة يرون أن ثمة تلازماً بين ما يجوز بيعه فيجب ضمانه، وبين ما لا يجوز بيعه فلا يجب ضمانه، هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
وذهب المالكية والحنفية إلى أنه ليس ثمة تلازماً بين ما لا يجوز بيعه، وبين ما يلزم ضمانه، فيمكن أن نلزم بالضمان وإن لم نجوز البيع ككلب الصيد والماشية والزرع، واستدلوا بدليل بعيد قالوا: مثل غرة الجنين؛ لأن الجنين لا يجوز بيعه، ولكن يضمن بغرة عبد أو وليدة خمس الدية، وهذا فرق بعيد، والراجح هو مذهب الحنابلة والشافعية.
قال المؤلف: [أو خمر ذمي].
خمر الذمي إن كان مستوراً قد ستره صاحبه -يعني: الذمي- فإنه يكون محترماً، ومع ذلك لا يصح بيعه، فقال الحنابلة: أو خمر ذمي يعني: مستوراً [ردهما] يعني: يجب على الغاصب أن يرد كلب الصيد أو الزرع، أو يرد خمر الذمي المستور الذي ستره، مثاله: صنع الذمي خمراً في بيته فجاء رجل من الخمارين المسلمين فغصب هذه الجرة، فاشتكى هذا الذمي إلى القاضي فقال: دخل جاري وأخذ الخمر، فالقاضي يحكم بالرد.
فلو غصب داره ودخله أخذ منه آلات اللهو، فهل يأمر القاضي بردها؟ ولو جاءنا الذمي، وقد تعامل مع ذمي مثله بالربا، وجاءنا يتقاضى هل نقضيه بالربا؟ فيه إشكال أو ما فيه إشكال؟
إذاً ثمة فرق، وهو أننا في ديننا أذنا للذمي أن يشرب خمراً إذا كان مستوراً، فهذا إذن له، ولكن إذا كان سوف يظهره فلا؛ لأننا حينما أذنا له بالبقاء فمعنى ذلك أننا أذنا له بجميع ما يعمله أهل الذمة، لكن يجب أن يكون مستوراً.
فلو دخل شخص على ذمي في بيته وهو يعبد النصرانية المحرفة، ثم اشتكاه عند الهيئة، فهل نقول لرجال الهيئة أن يأخذوه؟ لا؛ لأنا أذنا له بالبقاء، لكن لو أنه ذهب ففتح كنيسة وصارت غير معلنة، فيجب علينا أن ننكر؛ لأنه ما أذنا له بذلك، إذاً خمر الذمي إن كان مستوراً فللقاضي أن يطلب من الغاصب أن يرده إليه، يعني: لأنه محترم عنده، أما آلات اللهو فإنها غير محترمة، هذا قول الحنابلة.
غصب جلد الميتة
الحنابلة يرون أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، هذا مذهب الحنابلة، ولكن يجوز استعماله في اليابسات، ولو جاء شخص ورأى عندك جلود ميتة، فأخذها منك فاشتكيت عند القاضي فإن القاضي على مذهب الحنابلة لا يلزمه بالرد؛ لأنها نجسة.
والقول الثاني وهو قول الجمهور: أنه ما كان يمكن الانتفاع به بعد إصلاحه كجلد الميتة فإنه يجب على القاضي أن يأمره بالرد فهو مال، ولو أتلفه ضمنه، ولو غصبه وجب رده؛ لأنه يؤول إلى المال.
إتلاف الكلب والخمر وجلد الميتة
يعني: لو أن الغاصب غصب كلباً يقتنى، أو خمر ذمي مستور، أو جلد ميتة أتلفها، فإنها هدر يعني: لو جاء إلى القاضي قال: إنه أتلفه، فإن القاضي لا يحكم بذلك؛ قالوا: لأنه ثمة فرق بين كون الشيء محترماً وهو موجود فيجب رده، وبين ما لو تلف، هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
وذهب المالكية والحنفية إلى أن هذه الأشياء تضمن بالقيمة، أما نحن فنقول: الراجح أن جلد الميتة يضمن؛ لأنه يؤول إلى المالية، وأما كلب الصيد فإني أقول: إن القاضي يعزر متلف كلب الصيد، ولو عاقبه بالمال ليصرف في منافع العامة يعني: بيت المال، فيكون من باب التعزير بالمال، فلو أن رجلاً غضب على صاحبه وهو عنده كلب صيد فقتله، قال: وأنا ما أضمن شيئاً، فأدى في ذلك إلى التنازع، فأقول: إن القاضي يعزر متلف كلب الصيد إذا كان قاصداً وله أن يعزره أيضاً، أولاً يعزره جسدياً بسجن ونحوه، وله أيضاً أن يعزره بمال، لكن يبذله في المصارف العامة، وهذا جمع بين الأقوال، والله تبارك وتعالى أعلم.
ومثلها الخمر لا يضمن، وللقاضي أن يعزر الغاصب إذا كان قد دخل بيت الذمي ومنعه، لكن التعزير يكون تعزيراً جسدياً، وما أذن لهم في بيوتهم، أذن لهم أن يعملوا بما شاءوا، لكن آلات اللهو غير مأذون لهم فيها شرعاً، ولو فعلوا المنكر، واشتكاهم شخص أنهم فعلوا المنكر ما يعزرون؛ لأن دينهم محرف كله، نحن لو قيل بذلك لقيل بعدم عبادتهم بشرعنا، وهذا ما يلزم.
الآن شرع المؤلف في بيان ما يضمنه الغاصب، يقول المؤلف: [وإن غصب كلباً يقتنى].
الكلب كلبان: كلب يجوز اقتناؤه مثل كلب الصيد والزرع والماشية، وكلب لا يجوز اقتناؤه وهو كلب الدار وكلب غير هذه الأشياء الثلاثة، فأما كلب الأشياء الثلاثة -وهو كلب الزرع والماشية والصيد- فهو كلب مأذون بالانتفاع فيه، وهو حق اختص به صاحبه، لكنهم اختلفوا هل كل ما لا يجوز بيعه لا يضمنه الغاصب أم أن ثمة فرق بين ما لا يجوز بيعه وبين ما يضمنه لو تلف؟
فالحنابلة يرون أن ثمة تلازماً بين ما يجوز بيعه فيجب ضمانه، وبين ما لا يجوز بيعه فلا يجب ضمانه، هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
وذهب المالكية والحنفية إلى أنه ليس ثمة تلازماً بين ما لا يجوز بيعه، وبين ما يلزم ضمانه، فيمكن أن نلزم بالضمان وإن لم نجوز البيع ككلب الصيد والماشية والزرع، واستدلوا بدليل بعيد قالوا: مثل غرة الجنين؛ لأن الجنين لا يجوز بيعه، ولكن يضمن بغرة عبد أو وليدة خمس الدية، وهذا فرق بعيد، والراجح هو مذهب الحنابلة والشافعية.
قال المؤلف: [أو خمر ذمي].
خمر الذمي إن كان مستوراً قد ستره صاحبه -يعني: الذمي- فإنه يكون محترماً، ومع ذلك لا يصح بيعه، فقال الحنابلة: أو خمر ذمي يعني: مستوراً [ردهما] يعني: يجب على الغاصب أن يرد كلب الصيد أو الزرع، أو يرد خمر الذمي المستور الذي ستره، مثاله: صنع الذمي خمراً في بيته فجاء رجل من الخمارين المسلمين فغصب هذه الجرة، فاشتكى هذا الذمي إلى القاضي فقال: دخل جاري وأخذ الخمر، فالقاضي يحكم بالرد.
فلو غصب داره ودخله أخذ منه آلات اللهو، فهل يأمر القاضي بردها؟ ولو جاءنا الذمي، وقد تعامل مع ذمي مثله بالربا، وجاءنا يتقاضى هل نقضيه بالربا؟ فيه إشكال أو ما فيه إشكال؟
إذاً ثمة فرق، وهو أننا في ديننا أذنا للذمي أن يشرب خمراً إذا كان مستوراً، فهذا إذن له، ولكن إذا كان سوف يظهره فلا؛ لأننا حينما أذنا له بالبقاء فمعنى ذلك أننا أذنا له بجميع ما يعمله أهل الذمة، لكن يجب أن يكون مستوراً.
فلو دخل شخص على ذمي في بيته وهو يعبد النصرانية المحرفة، ثم اشتكاه عند الهيئة، فهل نقول لرجال الهيئة أن يأخذوه؟ لا؛ لأنا أذنا له بالبقاء، لكن لو أنه ذهب ففتح كنيسة وصارت غير معلنة، فيجب علينا أن ننكر؛ لأنه ما أذنا له بذلك، إذاً خمر الذمي إن كان مستوراً فللقاضي أن يطلب من الغاصب أن يرده إليه، يعني: لأنه محترم عنده، أما آلات اللهو فإنها غير محترمة، هذا قول الحنابلة.
يقول المؤلف: [ولا يرد جلد ميتة].
الحنابلة يرون أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، هذا مذهب الحنابلة، ولكن يجوز استعماله في اليابسات، ولو جاء شخص ورأى عندك جلود ميتة، فأخذها منك فاشتكيت عند القاضي فإن القاضي على مذهب الحنابلة لا يلزمه بالرد؛ لأنها نجسة.
والقول الثاني وهو قول الجمهور: أنه ما كان يمكن الانتفاع به بعد إصلاحه كجلد الميتة فإنه يجب على القاضي أن يأمره بالرد فهو مال، ولو أتلفه ضمنه، ولو غصبه وجب رده؛ لأنه يؤول إلى المال.
يقول المؤلف: [وإتلاف الثلاثة هدر].
يعني: لو أن الغاصب غصب كلباً يقتنى، أو خمر ذمي مستور، أو جلد ميتة أتلفها، فإنها هدر يعني: لو جاء إلى القاضي قال: إنه أتلفه، فإن القاضي لا يحكم بذلك؛ قالوا: لأنه ثمة فرق بين كون الشيء محترماً وهو موجود فيجب رده، وبين ما لو تلف، هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
وذهب المالكية والحنفية إلى أن هذه الأشياء تضمن بالقيمة، أما نحن فنقول: الراجح أن جلد الميتة يضمن؛ لأنه يؤول إلى المالية، وأما كلب الصيد فإني أقول: إن القاضي يعزر متلف كلب الصيد، ولو عاقبه بالمال ليصرف في منافع العامة يعني: بيت المال، فيكون من باب التعزير بالمال، فلو أن رجلاً غضب على صاحبه وهو عنده كلب صيد فقتله، قال: وأنا ما أضمن شيئاً، فأدى في ذلك إلى التنازع، فأقول: إن القاضي يعزر متلف كلب الصيد إذا كان قاصداً وله أن يعزره أيضاً، أولاً يعزره جسدياً بسجن ونحوه، وله أيضاً أن يعزره بمال، لكن يبذله في المصارف العامة، وهذا جمع بين الأقوال، والله تبارك وتعالى أعلم.
ومثلها الخمر لا يضمن، وللقاضي أن يعزر الغاصب إذا كان قد دخل بيت الذمي ومنعه، لكن التعزير يكون تعزيراً جسدياً، وما أذن لهم في بيوتهم، أذن لهم أن يعملوا بما شاءوا، لكن آلات اللهو غير مأذون لهم فيها شرعاً، ولو فعلوا المنكر، واشتكاهم شخص أنهم فعلوا المنكر ما يعزرون؛ لأن دينهم محرف كله، نحن لو قيل بذلك لقيل بعدم عبادتهم بشرعنا، وهذا ما يلزم.
يقول المؤلف: [وإن استولى على حر لم يضمن].
يعني: لو أن شخصاً أمسك بحر واستولى عليه، قال المؤلف: (لم يضمن)؛ لأن الحر ليس بمال، لكن إن استعمله كرهاً مثل ذهب إلى مزرعة صاحبه وأركب عامل المزرعة وأخذه إلى الربع الخالي وعنده أبعره وغنمه، قال: ارع هذه وإلا أمتك جوعاً، فاستعمله، أو استولى على حر وقال له: اعمل لي كذا، غصبه على العمل، فإن المؤلف يقول: (وإن استعمله كرهاً) فلا شك أن عمل الحر منفعة هي متقومة، فإنه يضمن هذا الاستعمال.
يقول المؤلف: [أو حبسه].
يعني: حبسه مدة [فعليه أجرة مثله]، يعني: لو أن شخصاً حبس حراً مدة شهر مثلاً فإنه يلزمه أجرة مثله.
مثال ذلك: أحد الموظفين في القطاع الخاص جاءه شخص بينه وبينه خصومة فأخذه فحبسه مدة عشرة أيام، فخصم من راتبه لأجل الغياب مدة العشرة الأيام، فللموظف هذا أن يطالب الغاصب بأجرة ما خصم من راتبة، وهذا إذا كان له عمل.
ومثل ذلك: إذا كان الموظف عند رب العمل له منافع، فغصبها مدة، فللقاضي أن يقضي بمنافع هذه كما سوف يأتي بيانه.
أما لو فوت عليه منفعة، ومعنى فوت عليه منفعة: مثل صورة واقعية هناك اكتتاب في شركة ما، مدة الاكتتاب عشرة أيام، جاء شخص فاستولى على حر خمسة عشر يوماً فعندما خرج انتهى الاكتتاب، ومن عادة هذا المحبوس أن يكتتب، ففوت عليه منفعة، ومثل ذلك: إذا طلب العميل في الأسهم من البنك أمراً، فكتب له ورقة وأعطوه أمراً، وقال: أريد أن تشتري لي كذا وكذا من الأسهم، فلم يشتر البنك ذلك حتى ارتفعت السهم، ففوت عليه منفعة، وهو قاصد إضرار العميل، أو منعه من التداول في محفظته، كلما يأتيهم يقولون: اصبر، محفظتك فيها إشكال، فالناس يتبايعون إلا هو، فالبنك هنا قد منعه من إدارة محفظته، ولو كان هو يضارب يومياً لربح، ففوت عليه الربح، فهل يضمن؟ وهل للمغصوب أن يطالب بما فوت؟
عامة أهل العلم يقولون: ما فات من الربح فليس فيه ضمان، والله أعلم.
رد العين المغصوبة بزيادتها وضمان منافعها
يعني: ويلزم الغاصب رد المغصوب إن كان باقياً وقدر على رده، هذا بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك ابن قدامة رحمه الله، فمن غصب شيئاً لزمه رده إذا كان باقياً.
وهل للمغصوب أن يطالب الغاصب بضمان منافع الأعيان المغصوبة كالدار والدابة ونحو ذلك؟
صورة المسألة: جاء شخص وغصب دارك، أو غصب أرضك، أو غصب سيارتك، ومكثت في يده سنة، ثم ردها ولم تتغير، الآن يجب الرد، فهل للمغصوب أن يطالب الغاصب بأجرة المنفعة التي حبسها الغاصب عن المغصوب؟
الراجح والله تبارك وتعالى أعلم وهو مذهب جمهور الفقهاء أن منافع المنافع الأعيان مضمونة خلافاً للأحناف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) كما رواه أبو داود و الترمذي ، ولأن المنافع أموال متقومة، وقد جعل الشارع هذه المنافع مهراً: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27] فهي مهر، وهذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم.
أما النقد: كأن غصب منك نقوداً وأبقاها عنده مدة سنة فهل تطالبه بمنفعة، بحيث إنك لو لم تتعامل بهذه الأموال لاستطاع البنك حبس حسابك الجاري ولم تستطع أن تدخل عليه، وهذا واقع كثيراً، أو عندك حساب في بنك، وحولته إلى بنك آخر، فالحوالة هنا قيمتها مليون، كلما جئت إلى البنك المحال إليه، قال لك: لا لم يدخل بحسابك، وكلما ذهبت إلى البنك المحيل قال: حولناه، والأصل أن الإشكال من البنك المحيل، فمنعه لأن أكثر البنوك هنا يسحبون من حسابك ويبقيها عنده الفرع نفسه، ينتفع منها عشرة أيام، خمسة عشر يوماً، عشرين يوماً، أو شهراً، ثم بعد ذلك يحولها لك، هذا الغصب وهو ما زاد على نقل المثل؛ لأن له عشرة أيام، وهم يجعلون الحوالة من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام إذا كانت مبلغاً كبيراً، فما زاد على ذلك فهل لك أن تطالب بمنفعة النقود؟
عامة الفقهاء خلافاً للمالكية يقولون: إن النقود لا تضمن؛ لأن ضمانها هنا ضمان فوات منفعة، وفوات المنفعة لا يضمن إلا إذا تصرف الغاصب بالدراهم بالمضاربة أو بشراء سلع ونحو ذلك.
مثال ذلك: جاء الغاصب فاشترى بها، مثل ما يفعل أصحاب المساهمات العقارية فإنه يفتح مساهمة أرض معينة، ثم يتبين أن الأرض فيها إشكال، فيقضي القاضي بأن الأرض ليست لفاتح المساهمة، فتبقي الأموال عنده، فيطالبه الناس بها وهي عنده يضارب بها بالأسهم، أو يشتري بها أرضاً أخرى فهو غاصب أليس، كذلك؟
قالوا: إذا تصرف بهذا المال فإن ربح المال كله يكون للمغصوب، و( ليس لعرق ظالم أجر ) وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة.
وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن الغاصب إن كان قد تصرف تصرفاً ينفع المال فإن الربح يكون بينه وبين المغصوب على مضاربته، أو ربح مضاربة المثل.
وأقول: إنه إذا كان غاصباً فـ( ليس لعرق ظالم أجر )، ويجب عليه رده ورد المال؛ لأن هذا المال عين لصاحبه، إلا إذا تصرف الغاصب ظاناً أنه يجوز له فحينئذٍ نقول: له مضاربة المثل، مثل الذين يفتحون مساهمات عقارية ويبيعون بعض الأراضي وتكون عندهم سيولة فيتصرفون بها قبل تصفية الأراضي.
للتوضيح أكثر: رجل عنده أرض فتح بها مساهمة وخططها، وعدد الأراضي ألف قطعة، باع خمسمائة قطعة وخمسمائة لم تبع، العادة أن صاحب المساهمة لا يوزع رأس المال ولا الربح للمساهمين حتى تنتهي باقي القطع بيعاً.
الملاحظ مع الأسف الشديد أن أصحاب المساهمات يشترون بالأموال الموجودة عندهم أرضاً أو يضاربون بها أصحاب المضاربات العقارية أو بالأسهم، يقول أحدهم: أنا ضامن، وعندي شيء يغطي هذه الأشياء، نقول: لا، يرحمك الله هذا تصرف، لكنك حينما تصرفت ظاناً أن هذا يجوز لك، فإنه يجب عليك مضاربة المثل، فتأخذ جزءاً من الربح، والربح الباقي كله للمساهمين، ولا يجوز لك التصرف أصلاً ابتداءً؛ لأن هذا في حكم الغصب، لكنك إذا اجتهدت ظاناً أن ذلك يجوز لك فإن فيها مضاربة المثل.
إذاً: ثمة فرق بين الأمرين، وهذا مع الأسف الشديد كثر، بل إن بعض الإخوة -هداهم الله- يظن أن له المنة على المساهمين، ولا يسوغ ذلك.
المؤلف قال: (يلزم رد المغصوب) إن كان باقياً لما رواه أبو داود و الترمذي و أحمد وغيرهم من حديث عبد الله بن السائب بن يزيد بن السائب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا جاداً ولا هازلاً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها )، وهذا الحديث إسناده جيد.
يقول المؤلف: وجب رده [بزيادته] يعني: لو أنه غصب شاة أو فرساً أو ناقة، ثم طرقها فحل هذا الغاصب فحملت، ووضعت، ثم تكاثرت بسبب الحمل، فكل هذا المال يكون للمالك فيجب رده، سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة، متصلة مثل الحمل يعني: صارت حاملاً، منفصلة: يعني: وضعت جنينها.
يقول المؤلف: [وإن غرم أضعافه].
يعني: يجب على الغاصب أن يرد المغصوب ولو غرم بسبب الرد أضعاف أضعاف قيمة المغصوب، مثل من غصب مالاً في السعودية، ثم ذهب به إلى مصر، التكلفة بنقله من مصر إلى السعودية تكون أضعاف قيمة السلعة المغصوبة، فإن المؤلف يقول: يجب على الغاصب أن يرده، فلا يقول: خذ هذا مالك وانتهينا، بل يجب عليه أن يرده ولو غرم أضعاف أضعافه إلا أن يأذن المغصوب.
إزالة ما أحدثه في الأرض المغصوبة ودفع أرش النقص
يعني: أن الغاصب لو بنى في الأرض المغصوبة أو غرس فيها، والغرس دائماً يكون فيه النخل ثابتاً فإن المؤلف يقول: (لزمه القلع) يعني: لزمه بإذن أو بطلب من المالك.
[وأرش نقصها وتسويتها والأجرة]، يعني: أن الغاصب إن بنى في الأرض أو غرس، لكنه غرس غير زرع، فالزرع ليس مثل الغرس، فالغرس شيء ثابت مثل النخل، فإن بنى أو غرس فإنه يلزم الغاصب أربعة أشياء:
الأول: يلزمه القلع.
الثاني: يلزمه أرش النقص الحاصل بسبب الأرض، مثل الذين يزرعون أراضي الناس، تعرفون أن الأرض إذا زرع عليها مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً فإنها تنقص، فلا بد من إعادة وضع السماد لها، فأرش النقص يضمنه.
الثالث: يلزمه تسوية الأرض إن احتاجت إلى تسوية، مثل: بعض الناس يغصب الأرض ثم يضع فيها عقم أو عقوم -رملية- فإنه يجب عليه تسوية الأرض.
الرابع: يجب عليه الأجرة؛ لأنها أجرة منفعة أعيان، يجب عليه أربعة أشياء.
الدليل: ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس لعرق ظالم حق )، وعرق الظالم مأخوذ من عروق الشجر، وهو أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها صاحبها، فيستولي على هذه الأرض ويضع فيها غرساً أو يبني فيها شيئاً، ثم تثبت لدى مالكها البينة على أنها له، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليس لعرق ظالم حق )، يعني: هذه العروق ليس لك فيها أجر فيجب عليك أن تقلع، حتى ولو نبتت هذه الزروع، أو هذه النخل، فهذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليس لعرق ظالم حق ).
ومن الأدلة أيضاً: أن الغاصب قد استوفى بعض منافع الأرض، ومنافع الأرض متقومة ومضمونة فيضمن جميع ما حصل بسببه.
أما لو زرع الغاصب في الأرض المغصوبة فلا يخلو الأمر من حالين:
الحال الأولى: أن يحصد الزرع قبل رد الأرض إلى مالكها، فإن أهل العلم يقولون: إن الزرع والحصد كله للغاصب؛ لأنه ماله.
مثال ذلك: زرع الغاصب قمحاً بأرض مغصوبة، ثم أدخلها على الصوامع، وحصل على مليون ريال، فإن هذا المليون للغاصب؛ لأن الغاصب زرع من ماله هو، فهو نماء ماله، ولكن للمالك أن يطالبه بأجرة المثل، هذا إذا قلنا: إنه حصد الزرع.
الحال الثانية: إذا استطاع المالك أن يرد المغصوب والزرع موجود، فإن أهل العلم اختلفوا؛ لكن الراجح هو مذهب الحنابلة قالوا: إن المالك مخير، يعني: صاحب الأرض مخير بين أن يبقي زرع الغاصب إلى حصاده بأجرته، وبين أن يأخذ الزرع ويعطي الغاصب نفقة البذر وأتعابه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج : ( من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته ) يعني: ليس للغاصب شيء من الزرع، ولكن له النفقة يعني: نفقة البذر ونفقة التعب والماء إذا كان قد جلبه من غير هذه الأرض، والحديث رواه أبو داود و الترمذي وحسنه الإمام البخاري رحمه الله.
رد الغاصب ما صاده بالجارحة المغصوبة إلى مالكها
يعني: جاء الغاصب وغصب صقراً لزيد من الناس، وأخذ هذا الصقر وذهب يصيد فصاد حبارى وأرانب وثعالب، فيقول المؤلف: هذا الصيد لمالك الصقر، فيلزم هنا أن يرجع الغاصب الحبارى والأرانب والثعالب، الثعالب ليس بصيد فلا يرجعه؛ لكن يرجع الصيد؛ لأن الثعلب غير متقوم، ليس بمال.
يقول المؤلف: فهذا الصيد لمالكه؛ لأن هذا الصيد إنما جاء من المال المغصوب.
ومثل ذلك: ما لو سرق منه شبكة لصيد البحر أو لصيد الطيور، الآن يوجد شبكات توضع وقت مهاجرة الطيور فمجرد أن الطير يضع رجليه في هذه الشبكة إلا وينقلب إلى أسفله، وصار هذا ميسوراً، فربع ساعة يصيدون فيها ألفاً من الطيور، فلو حصل غصب لهذه الشبكة فإن الطيور كلها تكون للمالك.
طيب! ولو غصب منشاراً ومطرقة وبدأ يعمل بها في إصلاح الأبواب والنجارة، فهل يلزمه أن يعيد أجرة هذا الصنع للمالك أم لا؟
نقول: لا يلزم؛ لأن هذا العمل من عمل يده، ولكن للمغصوب أن يطالب بأجرة مثل المنشار والمطرقة.
رد العين المغصوبة وضمان أرش نقصها
[ونسج الغزل، وقصر الثوب]، القصار: هو الذي يصبغ الثوب، أو يبيض الثوب.
[ونجر الخشبة] حتى صارت باباً [ونحوه، أو صار الحب زرعاً والبيضة فرخاً، والنوى غرساً رده وأرش نقصه].
هنا يقول المؤلف: (رده وأرش نقصه)، لا شك أننا قلنا: إن الرد واجب، ولكن هنا مسألة الرد تنقسم إلى قسمين: ما يمكن رده إلى الحال الأولى كالحلي والأواني ونحو ذلك، فهنا يجب أن يعيده الغاصب إلى حالته الأولى، ولو كان ثمة نقص بعد الإعادة فيجب عليه أن يتحمل أرش النقص.
الحال الثانية: ما لا يمكن رده على حالته مثل الخشب إذا صنعه أبواباً، ومثل الطين الفخار إذا صنعه بعض الصناعات، فهنا لا يلزم رده؛ لأن رده سوف يجعله أقل وأكثر نقصاناً، فإنه حينئذٍ يلزمه أرش نقصه، ويلزمه أيضاً القيمة، يعني: مثل البيضة صارت فرخاً لا يمكن رده، ولكنه يمكنه أرش النقص، وقيمة هذه البيضة، ويرد الفرخ، ويرد الأرش الحاصل بسبب نقص البيض، هذا المقصود.
ضمان الغاصب نقص ما زاد عنده في المغصوب
مثل شخص غصب جملاً من أجمل ما يكون، وكانت المسابقة سوف تتم، وكانت قيمته مليوناً، والآن وصل بعضهم خمسة عشر مليون، وبعد انتهاء المسابقة أو المضمار أو الاجتماع نزلت قيمته إلى ثمانمائة ألف، فعلى رأي المؤلف أنه يضمن النقص الحاصل، يضمن إذا كان يقصد الجمال في الإبل، وأما إذا لم يكن يقصد الجمال في الإبل ولا يريده فإنه لا يضمن، جمعاً بين الأقوال والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ضمن النقص).
لماذا ضمن النقص بالتعلم؟ لأن الزيادة الثانية وهي تعلم السباق غير الزيادة الأولى وهي السمن، فإن كانت الزيادة الثانية مثل الزيادة الأولى فإنه لا يضمن شيئاً.
قال المؤلف رحمه الله: [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة].
(فإن تعلم أو سمن فزادت قيمته) أي: إن تعلم الشيء المغصوب. وهي العين المغصوبة، أو علمها الغاصب، أو زادت العين المغصوبة عند الغاصب فزادت قيمتها، ثم بعد ذلك نسي المغصوب الصنعة أو نقصت أو نقص الوزن، فإن الغاصب حينئذٍ يضمن الزيادة، ولو كانت الزيادة في أثناء الغصب هذا كلام الحنابلة.
مثاله: غصب جملاً هزيلاً، فأقامه عنده فسمن، وهذا السمن الذي زاد يقدر بألف ريال، ثم نقص إلى خمسمائة ريال وهي الحالة التي كانت وقت غصبه، يقول المؤلف: (وإن تعلم) يعني: أثناء الغصب، (أو سمن) أثناء الغصب (فزادت قيمته) جراء السمن وجراء تعلم الصنعة (ثم نسي) الصنعة، (أو هزل) فإنه يضمن، مع أن التعلم كان من قبل الغاصب، قالوا: لأن الزيادة الحاصلة في يد الغاصب تعامل معاملة الزيادة الموجودة حال الغصب؛ لأن زيادة العين زيادة في ملك صاحبها، والمالك هو غير الغاصب فيضمن الغاصب حينئذٍ؛ لأن العين الزائدة تابعة للعين الأصلية.
قال المؤلف رحمه الله: [ كما لو عادت من غير جنس الأول].
أي: عادت الزيادة، مثاله: غصب دابة فسمنت وصارت تساوي خمسة آلاف، ثم هزلت الدابة فصارت قيمتها مثلاً أربعة آلاف، فعلمها الجري فصارت تساوي قيمتها خمسة آلاف فإنه في هذه الحالة يضمن نقص الهزال.
والقول الثاني: أنه لا يضمن إذا كانت القيمة على نحو ما غصب، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ومن جنسها].
يعني: إن كانت الزيادة الثانية من جنس الزيادة الأولى؛ لأن عندنا زيادة أولى وزيادة ثانية، فلو نقصت الزيادة الأولى وتعلم الزيادة الثانية، فإن كانت الزيادة الثانية من غير جنس الزيادة الأولى فإنه يضمن النقص الحاصل في الزيادة الأولى، مثل: إن كانت سمينة وقيمتها خمسة آلاف، ثم هزلت فصارت قيمتها أربعة آلاف، ثم علمها صنعة مثل الجري فصارت قيمتها خمسة آلاف ريال فإنه في هذه الحالة يضمن؛ لأن الزيادة الأولى ليست من جنس الثانية.
أما إن كانت من جنسها كأن يكون علمها الجري، ثم نسيت الجري وعودها القفز، فإنه لا يضمن؛ لأن الضمان يكون في أكثرهما، فإن كان الأكثر في الأول فإنه يضمن الفرق.
مثل: إن كان الأول قيمته خمسة آلاف، والثاني قيمته خمسة آلاف فإنه لا يضمن، أما إن كان الأول قيمته ستة آلاف والثاني قيمته خمسة آلاف فإنه يضمن ألفاً، وإن كان الأول قيمته خمسة آلاف والثاني قيمته ستة آلاف لا يضمن.
وهذه الزيادة يأخذها الغاصب؛ لأنها تابعة للعين، هذه صورة المسألة وهي في الغالب لا تكون في زماننا إلا في بعض الصور مثل ما ذكرت لكم في بعض الدواب والآن الناس لا يأخذون مثل هذه الأشياء.
يقول المؤلف رحمه الله: [ويلزم رد المغصوب].
يعني: ويلزم الغاصب رد المغصوب إن كان باقياً وقدر على رده، هذا بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك ابن قدامة رحمه الله، فمن غصب شيئاً لزمه رده إذا كان باقياً.
وهل للمغصوب أن يطالب الغاصب بضمان منافع الأعيان المغصوبة كالدار والدابة ونحو ذلك؟
صورة المسألة: جاء شخص وغصب دارك، أو غصب أرضك، أو غصب سيارتك، ومكثت في يده سنة، ثم ردها ولم تتغير، الآن يجب الرد، فهل للمغصوب أن يطالب الغاصب بأجرة المنفعة التي حبسها الغاصب عن المغصوب؟
الراجح والله تبارك وتعالى أعلم وهو مذهب جمهور الفقهاء أن منافع المنافع الأعيان مضمونة خلافاً للأحناف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) كما رواه أبو داود و الترمذي ، ولأن المنافع أموال متقومة، وقد جعل الشارع هذه المنافع مهراً: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27] فهي مهر، وهذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم.
أما النقد: كأن غصب منك نقوداً وأبقاها عنده مدة سنة فهل تطالبه بمنفعة، بحيث إنك لو لم تتعامل بهذه الأموال لاستطاع البنك حبس حسابك الجاري ولم تستطع أن تدخل عليه، وهذا واقع كثيراً، أو عندك حساب في بنك، وحولته إلى بنك آخر، فالحوالة هنا قيمتها مليون، كلما جئت إلى البنك المحال إليه، قال لك: لا لم يدخل بحسابك، وكلما ذهبت إلى البنك المحيل قال: حولناه، والأصل أن الإشكال من البنك المحيل، فمنعه لأن أكثر البنوك هنا يسحبون من حسابك ويبقيها عنده الفرع نفسه، ينتفع منها عشرة أيام، خمسة عشر يوماً، عشرين يوماً، أو شهراً، ثم بعد ذلك يحولها لك، هذا الغصب وهو ما زاد على نقل المثل؛ لأن له عشرة أيام، وهم يجعلون الحوالة من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام إذا كانت مبلغاً كبيراً، فما زاد على ذلك فهل لك أن تطالب بمنفعة النقود؟
عامة الفقهاء خلافاً للمالكية يقولون: إن النقود لا تضمن؛ لأن ضمانها هنا ضمان فوات منفعة، وفوات المنفعة لا يضمن إلا إذا تصرف الغاصب بالدراهم بالمضاربة أو بشراء سلع ونحو ذلك.
مثال ذلك: جاء الغاصب فاشترى بها، مثل ما يفعل أصحاب المساهمات العقارية فإنه يفتح مساهمة أرض معينة، ثم يتبين أن الأرض فيها إشكال، فيقضي القاضي بأن الأرض ليست لفاتح المساهمة، فتبقي الأموال عنده، فيطالبه الناس بها وهي عنده يضارب بها بالأسهم، أو يشتري بها أرضاً أخرى فهو غاصب أليس، كذلك؟
قالوا: إذا تصرف بهذا المال فإن ربح المال كله يكون للمغصوب، و( ليس لعرق ظالم أجر ) وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة.
وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن الغاصب إن كان قد تصرف تصرفاً ينفع المال فإن الربح يكون بينه وبين المغصوب على مضاربته، أو ربح مضاربة المثل.
وأقول: إنه إذا كان غاصباً فـ( ليس لعرق ظالم أجر )، ويجب عليه رده ورد المال؛ لأن هذا المال عين لصاحبه، إلا إذا تصرف الغاصب ظاناً أنه يجوز له فحينئذٍ نقول: له مضاربة المثل، مثل الذين يفتحون مساهمات عقارية ويبيعون بعض الأراضي وتكون عندهم سيولة فيتصرفون بها قبل تصفية الأراضي.
للتوضيح أكثر: رجل عنده أرض فتح بها مساهمة وخططها، وعدد الأراضي ألف قطعة، باع خمسمائة قطعة وخمسمائة لم تبع، العادة أن صاحب المساهمة لا يوزع رأس المال ولا الربح للمساهمين حتى تنتهي باقي القطع بيعاً.
الملاحظ مع الأسف الشديد أن أصحاب المساهمات يشترون بالأموال الموجودة عندهم أرضاً أو يضاربون بها أصحاب المضاربات العقارية أو بالأسهم، يقول أحدهم: أنا ضامن، وعندي شيء يغطي هذه الأشياء، نقول: لا، يرحمك الله هذا تصرف، لكنك حينما تصرفت ظاناً أن هذا يجوز لك، فإنه يجب عليك مضاربة المثل، فتأخذ جزءاً من الربح، والربح الباقي كله للمساهمين، ولا يجوز لك التصرف أصلاً ابتداءً؛ لأن هذا في حكم الغصب، لكنك إذا اجتهدت ظاناً أن ذلك يجوز لك فإن فيها مضاربة المثل.
إذاً: ثمة فرق بين الأمرين، وهذا مع الأسف الشديد كثر، بل إن بعض الإخوة -هداهم الله- يظن أن له المنة على المساهمين، ولا يسوغ ذلك.
المؤلف قال: (يلزم رد المغصوب) إن كان باقياً لما رواه أبو داود و الترمذي و أحمد وغيرهم من حديث عبد الله بن السائب بن يزيد بن السائب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا جاداً ولا هازلاً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها )، وهذا الحديث إسناده جيد.
يقول المؤلف: وجب رده [بزيادته] يعني: لو أنه غصب شاة أو فرساً أو ناقة، ثم طرقها فحل هذا الغاصب فحملت، ووضعت، ثم تكاثرت بسبب الحمل، فكل هذا المال يكون للمالك فيجب رده، سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة، متصلة مثل الحمل يعني: صارت حاملاً، منفصلة: يعني: وضعت جنينها.
يقول المؤلف: [وإن غرم أضعافه].
يعني: يجب على الغاصب أن يرد المغصوب ولو غرم بسبب الرد أضعاف أضعاف قيمة المغصوب، مثل من غصب مالاً في السعودية، ثم ذهب به إلى مصر، التكلفة بنقله من مصر إلى السعودية تكون أضعاف قيمة السلعة المغصوبة، فإن المؤلف يقول: يجب على الغاصب أن يرده، فلا يقول: خذ هذا مالك وانتهينا، بل يجب عليه أن يرده ولو غرم أضعاف أضعافه إلا أن يأذن المغصوب.
الآن المؤلف يقول: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع].
يعني: أن الغاصب لو بنى في الأرض المغصوبة أو غرس فيها، والغرس دائماً يكون فيه النخل ثابتاً فإن المؤلف يقول: (لزمه القلع) يعني: لزمه بإذن أو بطلب من المالك.
[وأرش نقصها وتسويتها والأجرة]، يعني: أن الغاصب إن بنى في الأرض أو غرس، لكنه غرس غير زرع، فالزرع ليس مثل الغرس، فالغرس شيء ثابت مثل النخل، فإن بنى أو غرس فإنه يلزم الغاصب أربعة أشياء:
الأول: يلزمه القلع.
الثاني: يلزمه أرش النقص الحاصل بسبب الأرض، مثل الذين يزرعون أراضي الناس، تعرفون أن الأرض إذا زرع عليها مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً فإنها تنقص، فلا بد من إعادة وضع السماد لها، فأرش النقص يضمنه.
الثالث: يلزمه تسوية الأرض إن احتاجت إلى تسوية، مثل: بعض الناس يغصب الأرض ثم يضع فيها عقم أو عقوم -رملية- فإنه يجب عليه تسوية الأرض.
الرابع: يجب عليه الأجرة؛ لأنها أجرة منفعة أعيان، يجب عليه أربعة أشياء.
الدليل: ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس لعرق ظالم حق )، وعرق الظالم مأخوذ من عروق الشجر، وهو أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها صاحبها، فيستولي على هذه الأرض ويضع فيها غرساً أو يبني فيها شيئاً، ثم تثبت لدى مالكها البينة على أنها له، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليس لعرق ظالم حق )، يعني: هذه العروق ليس لك فيها أجر فيجب عليك أن تقلع، حتى ولو نبتت هذه الزروع، أو هذه النخل، فهذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليس لعرق ظالم حق ).
ومن الأدلة أيضاً: أن الغاصب قد استوفى بعض منافع الأرض، ومنافع الأرض متقومة ومضمونة فيضمن جميع ما حصل بسببه.
أما لو زرع الغاصب في الأرض المغصوبة فلا يخلو الأمر من حالين:
الحال الأولى: أن يحصد الزرع قبل رد الأرض إلى مالكها، فإن أهل العلم يقولون: إن الزرع والحصد كله للغاصب؛ لأنه ماله.
مثال ذلك: زرع الغاصب قمحاً بأرض مغصوبة، ثم أدخلها على الصوامع، وحصل على مليون ريال، فإن هذا المليون للغاصب؛ لأن الغاصب زرع من ماله هو، فهو نماء ماله، ولكن للمالك أن يطالبه بأجرة المثل، هذا إذا قلنا: إنه حصد الزرع.
الحال الثانية: إذا استطاع المالك أن يرد المغصوب والزرع موجود، فإن أهل العلم اختلفوا؛ لكن الراجح هو مذهب الحنابلة قالوا: إن المالك مخير، يعني: صاحب الأرض مخير بين أن يبقي زرع الغاصب إلى حصاده بأجرته، وبين أن يأخذ الزرع ويعطي الغاصب نفقة البذر وأتعابه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج : ( من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته ) يعني: ليس للغاصب شيء من الزرع، ولكن له النفقة يعني: نفقة البذر ونفقة التعب والماء إذا كان قد جلبه من غير هذه الأرض، والحديث رواه أبو داود و الترمذي وحسنه الإمام البخاري رحمه الله.
يقول المؤلف: [ولو غصب جارحاً أو عبداً أو فرساً فحصل بذلك صيد].
يعني: جاء الغاصب وغصب صقراً لزيد من الناس، وأخذ هذا الصقر وذهب يصيد فصاد حبارى وأرانب وثعالب، فيقول المؤلف: هذا الصيد لمالك الصقر، فيلزم هنا أن يرجع الغاصب الحبارى والأرانب والثعالب، الثعالب ليس بصيد فلا يرجعه؛ لكن يرجع الصيد؛ لأن الثعلب غير متقوم، ليس بمال.
يقول المؤلف: فهذا الصيد لمالكه؛ لأن هذا الصيد إنما جاء من المال المغصوب.
ومثل ذلك: ما لو سرق منه شبكة لصيد البحر أو لصيد الطيور، الآن يوجد شبكات توضع وقت مهاجرة الطيور فمجرد أن الطير يضع رجليه في هذه الشبكة إلا وينقلب إلى أسفله، وصار هذا ميسوراً، فربع ساعة يصيدون فيها ألفاً من الطيور، فلو حصل غصب لهذه الشبكة فإن الطيور كلها تكون للمالك.
طيب! ولو غصب منشاراً ومطرقة وبدأ يعمل بها في إصلاح الأبواب والنجارة، فهل يلزمه أن يعيد أجرة هذا الصنع للمالك أم لا؟
نقول: لا يلزم؛ لأن هذا العمل من عمل يده، ولكن للمغصوب أن يطالب بأجرة مثل المنشار والمطرقة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
زاد المستقنع - كتاب البيع [4] | 1781 استماع |
زاد المستقنع - كتاب البيع [3] | 1615 استماع |
زاد المستقنع - كتاب البيع [1] | 1181 استماع |
زاد المستقنع - كتاب البيع [2] | 866 استماع |