زاد المستقنع - كتاب البيع [2]


الحلقة مفرغة

ما ينفسخ به عقد الإجارة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

قال المؤلف رحمه الله: [والراكب إن لم يخلف بدلاً].

يعني: لو أن راكباً استأجر جملاً أو سيارة فهلك في الطريق أو مرض ولم يستطع دخول المستشفى، هل الراكب الآن يستطيع أن يخلف بدله؛ لكي يندفع من العين المؤجرة التي استأجرها شهراً؟

قالوا: لا يستطيع، فيما أن الراكب لم يخلف بدلاً فقد فسخ العقد، وإن خلف بدلاً فإن العقد ماض، وهذا مذهب متقدمي الحنابلة.

ودليل الحنابلة أنهم قالوا: إن قولنا في الفسخ: هو أن في ذلك الفسخ ضرراً للطرفين، ومنفعة للطرفين، لماذا؟ قالوا: لأن بقاء العقد مع عدم إمكان المكتري -الذي هو المستأجر- فيه ضرر عليه، وكذلك بقاء العين من غير انتفاع لمالكها فيه ضرر عليه، وإذا كان الضرر عليهما كان منفعة الجميع إبطال العقد، فهذا التعليل له وجه.

لكن -وانظر ما بعد لكن- لكن نقول: إنكم نظرتم إلى الضرر من زاوية واحدة، ومن حالة واحدة، فقد يكون الضرر على أحدهما في بعض الأحوال دون الآخر، مثاله: لو أن المستأجر عجز عن استئجار هذا النقل، ولم يخلف بدله مكانه، مثل: النقل البحري، لأن النقل البحري الآن عندما ارتفع النفط صارت تكلفته عالية، ولهذا ارتفعت المنتجات الصينية بسبب ارتفاع تكلفة النقل، لو قلنا: إن المستأجر لو عجز أن يخلف بدلاً وفسخ العقد في أثناء المدة قلتم: إن في ذلك ضرراً على الجميع، قلنا: ليس كذلك؛ لأن المؤجر لو فسخ العقد بعد المدة، وقد قل سعر النصف إلى أربعة وثلاثين، وقلّت تكلفة النقل البحري لصار في ذلك ضرر على المؤجر؛ لأن المؤجر يقول: أبقي العقد كما هو أنفع لي؛ لأنني لو فسخت وأبرمت عقداً آخر لكان في ذلك ضرر عليّ، فصار في ذلك ضرر على المؤجر.

وعلى هذا فالأقرب والله تبارك وتعالى أعلم -وهو المذهب عند الحنابلة كما في الإقناع والمنتهى-: أن الراكب إن مات ولم يخلف بدلاً فإن العقد صحيح لازم.

قال المؤلف رحمه الله: [انقلاع ضرس أو برئه].

انقلاع الضرس أو برئه، هذا في حالة تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه، أو من قبل المستأجر نفسه، وكان الأولى بالمؤلف أن يقول: وتنفسخ بتلف العين المؤجرة وانقلاع ضرس أو برئه، ثم يقول: وبموت المرتضع؛ لأن هذه تعتبر من تعذر استيفاء المعقود عليه من قبل نفسه، والثانية من قبل المستأجر.

يعني: الآن هلاك العين المؤجرة، هذا تعذر الاستيفاء المعقود عليه نفسه، وانقلاع ضرس أو برئه أيضاً تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه، لكن قوله: (بموت المرتضع، والراكب إن لم يخلف بدلاً) هذا تعذر استيفاء المعقود عليه من قبل المستأجر، فكان الأولى أن يرتب المسائل ترتيباً يحصل لطالب العلم الفهم والإدراك.

ما لا ينفسخ به عقد الإجارة

قال المؤلف رحمه الله: [لا بموت المتعاقدين أو أحدهما].

يعني بذلك أن موت أحد المتعاقدين أو كلاهما لا يمنع من استمرارية العقد، لماذا؟

قالوا: لأن الأصل في العقد اللزوم والمضي فيه، وموت أحد المتعاقدين لا يمنع من استمرار العقد؛ لأن ورثته سوف يقومون مقامه، وهنا فرق صاحب الزاد بين موت أحد المتعاقدين الذي خلف بدلاً وبين من لم يخلف بدلاً.

قال المؤلف رحمه الله: [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه].

مثاله: لو استأجر شخص في الحج دراجة نارية بألف ريال على أن يسلمها في نهاية الحج، والحج مدته الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر، وفي نهاية الثاني عشر يعطيه إياها مع ألف ريال، وكانت قيمة الدراجة النارية ألفاً وستمائة في غير الحج، وهذا استأجرها بألف ريال، فلما كان يوم الثاني عشر أو الحادي عشر وجد أن نفقته قد سرقت، فبحث عن صاحب الدراجة فلم يجده إلا في اليوم الثاني عشر قال: تعال يا أخي! لقد انفسخ العقد بيننا، قال: لماذا؟ قال: لأن نفقتي قد سرقت، والقاعدة أن تعذر استيفاء المعقود عليه من قبل المستأجر يفسخ العقد، قال: لا يا أخي! أنت فهمت خطأ؛ لأن تعذر استيفاء المعقود عليه قد حصل من قبلك، وليس من قبل العين المؤجرة، ألم تركب الدراجة النارية؟ قال: بلى، قال: إذاً التعذر إنما هو من نفقتك، وليس من عدم إمكان استيفائك، وفرق بين الأمرين، وعلى هذا فضياع النفقة لا تمنع من استمرارية ولزومية العقد.

يقول المؤلف: (ونحوه)، يعني: كاحتراق الدكان، مثلاً: فلو استأجرت من شخص دكاناً ووضعت فيه البضاعة، وكانت البضاعة عبارة عن أقمشة أو خشب، فجئت بعد مدة فوجدت أن البضاعة كلها قد احترقت وخسرت، فذهبت إلى صاحب العمارة فقلت: جزاك الله خيراً، أنا عقدت معك على هذا الدكان؛ لأجل بيع هذا الخشب أو هذه الأقمشة، وقد احترقت فتعذر استيفاء المعقود عليه، فقال المؤجر وكان فقيهاً: هل المعقود عليه هي بضاعتك أم دكاني؟ فقلت: بل المعقود عليه دكانك، قال: إذاً لم يتعذر استيفاء المعقود عليه، فالعقد لازم عليك؛ لأن الأصل أن جميع الأركان قد توفرت، وهي عاقدان وعين مؤجرة، وصيغة، والمحل التي هي المنفعة المعقود عليه.

ما ينفسخ به عقد الإجارة في بعضه دون الآخر

قال المؤلف رحمه الله: [وإن اكترى داراً فانهدمت، أو أرضاً لزرع فانقطع ماؤها، أو غرقت، انفسخت الإجارة في الباقي].

القاعدة: أن تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه يفسخ العقد، فلو اكترى داراً فهلكت بعد مدة انفسخ العقد فيما بقي وبقي عليه أجرة مثله فيما مضى، وكذلك لو استأجر أرضاً لزرع فانقطع الماء، أفادنا المؤلف على أنه لو استأجرها من غير تحديد فانقطع الماء فلا يسوغ له أن يطلب الفسخ؛ لأن العقد إنما هو لأجل الأرض؛ لأنه يمكن أن ينتفع بالأرض من غير زرع، كأن يضع فيها متاعاً أو يجعلها مستودعاً لحطبه أو لمنتجاته ونحو ذلك، فهذا يدل على أن من استئجار الأرض لشيء معين فانتزع منه هذا الشيء المعين كان تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه، فإذا استأجر أرضاً لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت، مثل أن يستأجر فلة أو عمارة في واد، ولم يعلم أن هذا واد في طريق السيل، والناس أخذوه من باب الأمان، فجاءهم وادي الرمة فأخذ بيتهم أو أغرقها، أو أخذ أرضاً ليزرعها قمحاً فجاء وادي الرمة فأهلك الزرع، فهل له أن يطالب بالفسخ مدة إيجار الباقي؟

نقول: له أن يطلب الفسخ؛ لأنه إنما استأجر هذه الأرض لزرع وغرقت هذه الأرض، فينفسخ عقد الإجارة فيما بقي وعليه أجرة المثل فيما مضى، لكنه لا يمكن أن ينتفع بها لأن المياه موجودة فيها، وإذا كان إزالة الماء يمنع من الانتفاع بها ونحن قلنا: إذا هلكت العين المعقود عليها، أو وجد فيها عيباً فللمستأجر الخيار بين الإمضاء وبين الفسخ، وهذا كثير وليس الخبر كالمعاينة، ففي مدينة الرياض عندما جاء المطر في حي من الأحياء، وكان بيت أحد المشايخ في هذا الحي، فلما أصبح الفجر وجدنا جميع المكتبة طافحة! واضطر إلى إيجاد شركات لسحب هذا الماء، تخيل معي لو أنك استأجرت هذا البيت وهلكت كتبك وثيابك، فإنك لا تعوض بثمن، ولهذا نقول: تنفسخ فيما بقي، وعليه أجرة المثل فيما مضى؛ لأن المقصود بالعقد وهو الانتفاع من العين قد فات أو قل، فإن فات جاز الفسخ، وإن قل فللمستأجر الخيار والله أعلم.

مثل آخر: لو استأجر شخصاً ليحرس البيت، أو شركة لتحرس البيت، وأبرم العقد، فتفاجأ أن لم الشركة شخصاً فسأل عنه، فقالوا: والله الشخص الذي نحن قد وضعناه لك توفيت أمه وسافر، أو مات أو هلك، أو عطب أو غير ذلك، ونحن نطلب الفسخ؛ لأن المعقود عليه قد تلف، فهل هذا صحيح؟

نقول: لا؛ لأن المعقود عليه ليس معيناً إنما هو موصوف بالذمة، فيجب على الشركة أن تقيم شخصاً آخر، ولو زادت الأجرة فنقول للشركة: يجب عليكِ أن تبحثي عن شخص آخر؛ لأن العقد يجب المضي فيه، ولو امتنعوا جاز للمستأجر أن يطالب بأجرة المثل، وليس بأجرة العقد، وهذا بين لمن تأمله.

ومثل ذلك: لو تعاقد مع شخص على أن يخط له، فأصيب بحادث في يده، هل ينفسخ العقد أم يجب المضي فيه؟

الجواب: إن كان المقصود بالعقد هو ذاك الشخص فإن الإجارة حينئذٍ تنفسخ، وإن كان المقصود هو العمل ويمكن إقامة شخص مقامه فحينئذٍ نقول: إن العقد لم ينفسخ.

ولهذا لو ذهب إلى مستشفى وقال: أريد الطبيب الفلاني أو أريد جراحاً، فالطبيب الفلاني غير الجراح؛ لأن الطبيب الفلاني مقصود، أما الجراح غير مقصود، ولهذا يخطئ بعض أصحاب العيادات الخاصة حينما يأتي الشخص بماله لأجل ذلك الطبيب وبعد المراجعات يفاجأ المريض أن هذا الطبيب ليس هو المقصود، وإنما جاءوا بشخص آخر، ويقول: نحن نتابع حالتك، وهذا خطأ ولا يجوز؛ لأنه قد أبرم عقداً معك بذاتك، ولم يبرم العقد مع العيادة إنما جاء إلى العيادة لأجلك، فهذا لا يجوز، والله أعلم.

وعلى هذا فإن كان الاستئجار مقصود به العمل وجب على المؤجر أن يقيم مقامه شخصاً آخر، وإن كان مقصود به الشخص نفسه فإن الإجارة تنفسخ ويبقى الخيار للمستأجر إن شاء أمضى وإن شاء فسخ.

انفساخ عقد الإجارة عند وجود عيب في العين المستأجرة

قال المؤلف رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى].

يعني بذلك: إن وجد المستأجر بالعين المعقود عليها عيباً فإنه يجوز له أن يفسخ الإجارة، فلو استأجرت برجاً فوجدت أن الكيبلات في البرج لا تتحمل لفتح كل البرج، فبمجرد فتح دور أو دورين ينطفئ النور، فهذا عيب كبير، فيجوز لك أن تفسخ العقد.

ولو حدث عيب من غير سبب من المستأجر، مثل أن يستأجر برجاً فيفاجأ أن الصرف الصحي يطفح على الدور الأول كثيراً، فهذا عيب حادث قد يكون أحياناً المسدات تمنع فهو حادث، فنقول: لو كان العيب أيضاً حادثاً فإن المستأجر يجوز له الفسخ؛ لقول المؤلف: (وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب) يعني: في المستقبل فله الفسخ، ولكن نقول: إذا جاز له الفسخ فيما بقي فللمؤجر أجرة مثله فيما مضى، لكن لو زال العذر فليس للمستأجر الفسخ، مثل: لو استأجر برجاً فوجد أن الصرف الصحي يطفح فجاءت شركة الصرف الصحي فأصلحته، فهذا عذر قد زال، فحينئذٍ ليس له الفسخ.

ولهذا يقول المؤلف: (وعليه أجرة ما مضى) لماذا؟ لأن الخراج بالضمان، وقد استوفى المستأجر شيئاً من منفعة عين المؤجر، والأصل حرمة أموال الناس إلا بالرضا أو المعاوضة، وحينئذٍ استيفاء المنفعة فيما مضى يجب على المستأجر أن يبذلها للمؤجر في أجرة المثل.

وهنا مسألة وهي: بعض كبار السن لا يعلم عن هذه المسائل الفقهية شيئاً، فربما استأجر عمارة، فلما انتهت المدة علم أنه بهذا العيب الحادث الذي منعه من الانتفاع بالعين المؤجرة انتفاعاً كاملاً على ما نص عليه في العقد له حق الفسخ، ولما انتهى قال: والله إني استأجرت سنتين الفلة الفلانية وقد تضررت وبقيت، قالوا له: لك حق أن تطالب بالفسخ، قال: والله ما علمت، قالوا: أيضاً لك حق الأرش، وهذه هي المسألة: هل للمستأجر مطالبة المؤجر بأرش العيب الحادث بعد مضي المدة؟

أما قبل مضي المدة فليس له إلا البقاء على ما هو عليه أو الفسخ، لكن لو مضت المدة هل له ذلك؟

قولان عند أهل العلم، والأقرب والله تبارك وتعالى أعلم أن يقال: إن كان العيب يمنع من الانتفاع بالعين المؤجرة انتفاعاً له وقع في الثمن، أو يتضرر المستأجر بوجوده فله الأرش، فإن لم يطالب بأرشه في المدة وهو يعلم أن له الحق في المطالبة فإن حقه حينئذٍ يكون ساقطاً، فإن لم يعلم أن له حقاً جاز ويكون يمينه فاصلة للنزاع، يعني: أنه يقول المؤجر: احلف بالله أنك ما تعلم أن لك الحق فيحلف، والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

قال المؤلف رحمه الله: [والراكب إن لم يخلف بدلاً].

يعني: لو أن راكباً استأجر جملاً أو سيارة فهلك في الطريق أو مرض ولم يستطع دخول المستشفى، هل الراكب الآن يستطيع أن يخلف بدله؛ لكي يندفع من العين المؤجرة التي استأجرها شهراً؟

قالوا: لا يستطيع، فيما أن الراكب لم يخلف بدلاً فقد فسخ العقد، وإن خلف بدلاً فإن العقد ماض، وهذا مذهب متقدمي الحنابلة.

ودليل الحنابلة أنهم قالوا: إن قولنا في الفسخ: هو أن في ذلك الفسخ ضرراً للطرفين، ومنفعة للطرفين، لماذا؟ قالوا: لأن بقاء العقد مع عدم إمكان المكتري -الذي هو المستأجر- فيه ضرر عليه، وكذلك بقاء العين من غير انتفاع لمالكها فيه ضرر عليه، وإذا كان الضرر عليهما كان منفعة الجميع إبطال العقد، فهذا التعليل له وجه.

لكن -وانظر ما بعد لكن- لكن نقول: إنكم نظرتم إلى الضرر من زاوية واحدة، ومن حالة واحدة، فقد يكون الضرر على أحدهما في بعض الأحوال دون الآخر، مثاله: لو أن المستأجر عجز عن استئجار هذا النقل، ولم يخلف بدله مكانه، مثل: النقل البحري، لأن النقل البحري الآن عندما ارتفع النفط صارت تكلفته عالية، ولهذا ارتفعت المنتجات الصينية بسبب ارتفاع تكلفة النقل، لو قلنا: إن المستأجر لو عجز أن يخلف بدلاً وفسخ العقد في أثناء المدة قلتم: إن في ذلك ضرراً على الجميع، قلنا: ليس كذلك؛ لأن المؤجر لو فسخ العقد بعد المدة، وقد قل سعر النصف إلى أربعة وثلاثين، وقلّت تكلفة النقل البحري لصار في ذلك ضرر على المؤجر؛ لأن المؤجر يقول: أبقي العقد كما هو أنفع لي؛ لأنني لو فسخت وأبرمت عقداً آخر لكان في ذلك ضرر عليّ، فصار في ذلك ضرر على المؤجر.

وعلى هذا فالأقرب والله تبارك وتعالى أعلم -وهو المذهب عند الحنابلة كما في الإقناع والمنتهى-: أن الراكب إن مات ولم يخلف بدلاً فإن العقد صحيح لازم.

قال المؤلف رحمه الله: [انقلاع ضرس أو برئه].

انقلاع الضرس أو برئه، هذا في حالة تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه، أو من قبل المستأجر نفسه، وكان الأولى بالمؤلف أن يقول: وتنفسخ بتلف العين المؤجرة وانقلاع ضرس أو برئه، ثم يقول: وبموت المرتضع؛ لأن هذه تعتبر من تعذر استيفاء المعقود عليه من قبل نفسه، والثانية من قبل المستأجر.

يعني: الآن هلاك العين المؤجرة، هذا تعذر الاستيفاء المعقود عليه نفسه، وانقلاع ضرس أو برئه أيضاً تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه، لكن قوله: (بموت المرتضع، والراكب إن لم يخلف بدلاً) هذا تعذر استيفاء المعقود عليه من قبل المستأجر، فكان الأولى أن يرتب المسائل ترتيباً يحصل لطالب العلم الفهم والإدراك.

قال المؤلف رحمه الله: [لا بموت المتعاقدين أو أحدهما].

يعني بذلك أن موت أحد المتعاقدين أو كلاهما لا يمنع من استمرارية العقد، لماذا؟

قالوا: لأن الأصل في العقد اللزوم والمضي فيه، وموت أحد المتعاقدين لا يمنع من استمرار العقد؛ لأن ورثته سوف يقومون مقامه، وهنا فرق صاحب الزاد بين موت أحد المتعاقدين الذي خلف بدلاً وبين من لم يخلف بدلاً.

قال المؤلف رحمه الله: [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه].

مثاله: لو استأجر شخص في الحج دراجة نارية بألف ريال على أن يسلمها في نهاية الحج، والحج مدته الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر، وفي نهاية الثاني عشر يعطيه إياها مع ألف ريال، وكانت قيمة الدراجة النارية ألفاً وستمائة في غير الحج، وهذا استأجرها بألف ريال، فلما كان يوم الثاني عشر أو الحادي عشر وجد أن نفقته قد سرقت، فبحث عن صاحب الدراجة فلم يجده إلا في اليوم الثاني عشر قال: تعال يا أخي! لقد انفسخ العقد بيننا، قال: لماذا؟ قال: لأن نفقتي قد سرقت، والقاعدة أن تعذر استيفاء المعقود عليه من قبل المستأجر يفسخ العقد، قال: لا يا أخي! أنت فهمت خطأ؛ لأن تعذر استيفاء المعقود عليه قد حصل من قبلك، وليس من قبل العين المؤجرة، ألم تركب الدراجة النارية؟ قال: بلى، قال: إذاً التعذر إنما هو من نفقتك، وليس من عدم إمكان استيفائك، وفرق بين الأمرين، وعلى هذا فضياع النفقة لا تمنع من استمرارية ولزومية العقد.

يقول المؤلف: (ونحوه)، يعني: كاحتراق الدكان، مثلاً: فلو استأجرت من شخص دكاناً ووضعت فيه البضاعة، وكانت البضاعة عبارة عن أقمشة أو خشب، فجئت بعد مدة فوجدت أن البضاعة كلها قد احترقت وخسرت، فذهبت إلى صاحب العمارة فقلت: جزاك الله خيراً، أنا عقدت معك على هذا الدكان؛ لأجل بيع هذا الخشب أو هذه الأقمشة، وقد احترقت فتعذر استيفاء المعقود عليه، فقال المؤجر وكان فقيهاً: هل المعقود عليه هي بضاعتك أم دكاني؟ فقلت: بل المعقود عليه دكانك، قال: إذاً لم يتعذر استيفاء المعقود عليه، فالعقد لازم عليك؛ لأن الأصل أن جميع الأركان قد توفرت، وهي عاقدان وعين مؤجرة، وصيغة، والمحل التي هي المنفعة المعقود عليه.

قال المؤلف رحمه الله: [وإن اكترى داراً فانهدمت، أو أرضاً لزرع فانقطع ماؤها، أو غرقت، انفسخت الإجارة في الباقي].

القاعدة: أن تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه يفسخ العقد، فلو اكترى داراً فهلكت بعد مدة انفسخ العقد فيما بقي وبقي عليه أجرة مثله فيما مضى، وكذلك لو استأجر أرضاً لزرع فانقطع الماء، أفادنا المؤلف على أنه لو استأجرها من غير تحديد فانقطع الماء فلا يسوغ له أن يطلب الفسخ؛ لأن العقد إنما هو لأجل الأرض؛ لأنه يمكن أن ينتفع بالأرض من غير زرع، كأن يضع فيها متاعاً أو يجعلها مستودعاً لحطبه أو لمنتجاته ونحو ذلك، فهذا يدل على أن من استئجار الأرض لشيء معين فانتزع منه هذا الشيء المعين كان تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه، فإذا استأجر أرضاً لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت، مثل أن يستأجر فلة أو عمارة في واد، ولم يعلم أن هذا واد في طريق السيل، والناس أخذوه من باب الأمان، فجاءهم وادي الرمة فأخذ بيتهم أو أغرقها، أو أخذ أرضاً ليزرعها قمحاً فجاء وادي الرمة فأهلك الزرع، فهل له أن يطالب بالفسخ مدة إيجار الباقي؟

نقول: له أن يطلب الفسخ؛ لأنه إنما استأجر هذه الأرض لزرع وغرقت هذه الأرض، فينفسخ عقد الإجارة فيما بقي وعليه أجرة المثل فيما مضى، لكنه لا يمكن أن ينتفع بها لأن المياه موجودة فيها، وإذا كان إزالة الماء يمنع من الانتفاع بها ونحن قلنا: إذا هلكت العين المعقود عليها، أو وجد فيها عيباً فللمستأجر الخيار بين الإمضاء وبين الفسخ، وهذا كثير وليس الخبر كالمعاينة، ففي مدينة الرياض عندما جاء المطر في حي من الأحياء، وكان بيت أحد المشايخ في هذا الحي، فلما أصبح الفجر وجدنا جميع المكتبة طافحة! واضطر إلى إيجاد شركات لسحب هذا الماء، تخيل معي لو أنك استأجرت هذا البيت وهلكت كتبك وثيابك، فإنك لا تعوض بثمن، ولهذا نقول: تنفسخ فيما بقي، وعليه أجرة المثل فيما مضى؛ لأن المقصود بالعقد وهو الانتفاع من العين قد فات أو قل، فإن فات جاز الفسخ، وإن قل فللمستأجر الخيار والله أعلم.

مثل آخر: لو استأجر شخصاً ليحرس البيت، أو شركة لتحرس البيت، وأبرم العقد، فتفاجأ أن لم الشركة شخصاً فسأل عنه، فقالوا: والله الشخص الذي نحن قد وضعناه لك توفيت أمه وسافر، أو مات أو هلك، أو عطب أو غير ذلك، ونحن نطلب الفسخ؛ لأن المعقود عليه قد تلف، فهل هذا صحيح؟

نقول: لا؛ لأن المعقود عليه ليس معيناً إنما هو موصوف بالذمة، فيجب على الشركة أن تقيم شخصاً آخر، ولو زادت الأجرة فنقول للشركة: يجب عليكِ أن تبحثي عن شخص آخر؛ لأن العقد يجب المضي فيه، ولو امتنعوا جاز للمستأجر أن يطالب بأجرة المثل، وليس بأجرة العقد، وهذا بين لمن تأمله.

ومثل ذلك: لو تعاقد مع شخص على أن يخط له، فأصيب بحادث في يده، هل ينفسخ العقد أم يجب المضي فيه؟

الجواب: إن كان المقصود بالعقد هو ذاك الشخص فإن الإجارة حينئذٍ تنفسخ، وإن كان المقصود هو العمل ويمكن إقامة شخص مقامه فحينئذٍ نقول: إن العقد لم ينفسخ.

ولهذا لو ذهب إلى مستشفى وقال: أريد الطبيب الفلاني أو أريد جراحاً، فالطبيب الفلاني غير الجراح؛ لأن الطبيب الفلاني مقصود، أما الجراح غير مقصود، ولهذا يخطئ بعض أصحاب العيادات الخاصة حينما يأتي الشخص بماله لأجل ذلك الطبيب وبعد المراجعات يفاجأ المريض أن هذا الطبيب ليس هو المقصود، وإنما جاءوا بشخص آخر، ويقول: نحن نتابع حالتك، وهذا خطأ ولا يجوز؛ لأنه قد أبرم عقداً معك بذاتك، ولم يبرم العقد مع العيادة إنما جاء إلى العيادة لأجلك، فهذا لا يجوز، والله أعلم.

وعلى هذا فإن كان الاستئجار مقصود به العمل وجب على المؤجر أن يقيم مقامه شخصاً آخر، وإن كان مقصود به الشخص نفسه فإن الإجارة تنفسخ ويبقى الخيار للمستأجر إن شاء أمضى وإن شاء فسخ.

قال المؤلف رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى].

يعني بذلك: إن وجد المستأجر بالعين المعقود عليها عيباً فإنه يجوز له أن يفسخ الإجارة، فلو استأجرت برجاً فوجدت أن الكيبلات في البرج لا تتحمل لفتح كل البرج، فبمجرد فتح دور أو دورين ينطفئ النور، فهذا عيب كبير، فيجوز لك أن تفسخ العقد.

ولو حدث عيب من غير سبب من المستأجر، مثل أن يستأجر برجاً فيفاجأ أن الصرف الصحي يطفح على الدور الأول كثيراً، فهذا عيب حادث قد يكون أحياناً المسدات تمنع فهو حادث، فنقول: لو كان العيب أيضاً حادثاً فإن المستأجر يجوز له الفسخ؛ لقول المؤلف: (وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب) يعني: في المستقبل فله الفسخ، ولكن نقول: إذا جاز له الفسخ فيما بقي فللمؤجر أجرة مثله فيما مضى، لكن لو زال العذر فليس للمستأجر الفسخ، مثل: لو استأجر برجاً فوجد أن الصرف الصحي يطفح فجاءت شركة الصرف الصحي فأصلحته، فهذا عذر قد زال، فحينئذٍ ليس له الفسخ.

ولهذا يقول المؤلف: (وعليه أجرة ما مضى) لماذا؟ لأن الخراج بالضمان، وقد استوفى المستأجر شيئاً من منفعة عين المؤجر، والأصل حرمة أموال الناس إلا بالرضا أو المعاوضة، وحينئذٍ استيفاء المنفعة فيما مضى يجب على المستأجر أن يبذلها للمؤجر في أجرة المثل.

وهنا مسألة وهي: بعض كبار السن لا يعلم عن هذه المسائل الفقهية شيئاً، فربما استأجر عمارة، فلما انتهت المدة علم أنه بهذا العيب الحادث الذي منعه من الانتفاع بالعين المؤجرة انتفاعاً كاملاً على ما نص عليه في العقد له حق الفسخ، ولما انتهى قال: والله إني استأجرت سنتين الفلة الفلانية وقد تضررت وبقيت، قالوا له: لك حق أن تطالب بالفسخ، قال: والله ما علمت، قالوا: أيضاً لك حق الأرش، وهذه هي المسألة: هل للمستأجر مطالبة المؤجر بأرش العيب الحادث بعد مضي المدة؟

أما قبل مضي المدة فليس له إلا البقاء على ما هو عليه أو الفسخ، لكن لو مضت المدة هل له ذلك؟

قولان عند أهل العلم، والأقرب والله تبارك وتعالى أعلم أن يقال: إن كان العيب يمنع من الانتفاع بالعين المؤجرة انتفاعاً له وقع في الثمن، أو يتضرر المستأجر بوجوده فله الأرش، فإن لم يطالب بأرشه في المدة وهو يعلم أن له الحق في المطالبة فإن حقه حينئذٍ يكون ساقطاً، فإن لم يعلم أن له حقاً جاز ويكون يمينه فاصلة للنزاع، يعني: أنه يقول المؤجر: احلف بالله أنك ما تعلم أن لك الحق فيحلف، والله أعلم.