زاد المستقنع - كتاب البيع [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

أما بعد:

أحبتي في الله! قبل الشروع في باب السبق اسمحوا لي أن أقول: إن هناك وخزة من وخزات الشيطان الذي يدخل بها على طالب العلم وهي: أن طالب العلم يتصور أن بحضوره للدروس ربما لا يستفيد، ولو قرأ هذه الدروس في بيته لكان قد استجمع بعض المسائل أكثر مما يستجمعها في الدرس، وهذا في حقيقة الحال والواقع خلاف ذلك؛ حيث إن طالب العلم يستفيد من حضوره للدروس فوائد علمية، وطريقة الاستدلال ربما لا يستنتجها في بداية الأمر؛ نعم لكثرة الممارسة والقراءة والتأمل، فربما يحصل على هذه الأشياء، لكن طبيعة الحال أنك إذا بدأت تقرأ يعتريها ما يعتري الذهن من شرود وعدم تأمل لكل قول يقوله؛ لأن بعض الناس إذا قرأ لـابن تيمية رحمه الله يجد أنه يأسره ابن تيمية أسراً لا يستطيع أن يخرج عن غيره، ولو قرأ للحنفية لربما أسره الحنفية ما لا يأسره غيرهم.

ولأجل هذا وجد من أصحاب المذاهب من يأخذ بمذهب إمامه ولا يأخذ بالمذهب الآخر؛ لأن أصوله قد تبناها على نحو أصول إمامه، ولهذا يصعب على طالب العلم إذا كان قد أخذ بمقدمات شيخ أن ينتهي بخلاف النتيجة التي انتهى إليها هذا الشيخ.

وعلى هذا فأقول للطلاب وإخواني: إن القراءة على الشيخ وكذا المذاكرة فيها خير أكثر من القراءة الفردية، ولهذا يقول الزهري رحمه الله: مذاكرة ساعة خير لي من مداومة اطلاع شهر، وأنا أنصح طلاب العلم أن يجتمع اثنان أو ثلاثة، ثم يأخذوا باباً من أبواب الفقه، ويقرأ كل واحد منهم باباً، ثم بعد ذلك يجتمعون ولا يزيدون عن خمسة، وأفضل شيء ثلاثة، ويكون كل واحد منهم متسابقاً، واشترطوا في المسابقة أن تتكافأ الخيول، وأنا أقول أيضاً في الثلاثة أن تتكافأ العقول، ثم يعتمدون على كتاب، ويجتمعون كل أسبوع فيتناقشون: ما ترون في هذه المسألة؟ فيقول: أنا أرى كذا، والثاني يقول: أرى كذا، وأنتم في وقت مذاكرة ليعطي الإنسان ثقته بنفسه، ولا يعني الثقة بالنفس الغرور بمعنى: أنه لو قرأ قول شيخ من مشايخه أن ينظر هل للأئمة الكبار قول لهذا أم لا؟ وإذا أخذ بقول ينظر إلى القول الثاني كأنه يستدلهم ويتأنى في ذلك، هذه الطريقة تساعد طالب العلم بإذن الله على الإدراك وعدم التعصب، ودواليك دواليك فإن الإنسان يكون بإذن الله طالب علم.

ولتعلموا يا رعاكم الله! أن الفقيه حقاً هو الذي يفهم المسألة، ويستدل لها بالكتاب والسنة وفهم أقوال سلف هذه الأمة، وكثير من طلاب العلم الآن أوجدوا أقوالاً لم يكن عليها سلف هذه الأمة، ويظنون في أول وهلة أن أقوالهم قوية، لكن لو تأملوا وتدبروا وتأنوا لوجدوا أن أقوالهم بعيدة كل البعد عن أقوال السلف، وبعيد أن يتفطن طلاب العلم إلى أقوال لم يكن لها ذكر، ولا قول لأئمة فقهاء الإسلام، ومسائل الحج فيها شيء كثير من ذلك، ومسائل السبق فيها شيء كثير من ذلك، كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله.

وأنا دائماً أقول: فهم أقوال الصحابة فيها خير كثير لطالب العلم، وفيها منفعة؛ لأن كل إمام من أئمة الإسلام خاصة الفقهاء الأربعة تجد أنهم يقيدون بعض الأدلة بقيود تتناسب مع العصر الذي يعيشون فيه، والواقع الذي يجتمعون ويحيون فيه، في حين أن الصحابة أخذوا من مشكاة النبوة وطبقوها، ولم يظهر منهم بعض القيود التي أحياناً تذهب رونق القول الراجح، وعلى هذا فنحن في هذا الزمان بحاجة إلى أن ننظر في أقوال الصحابة وكبار التابعين. ‏

قال المؤلف رحمه الله: [باب السبق.

يصح على الأقدام وسائر الحيوانات والسفن والمزاريق، ولا تصح بعوض إلا في إبل وخيل وسهام، ولا بد من تعيين المركوبين واتحادهما، والرماة، والمسافة بقدر المعتاد، وهي جعالة لكل واحد فسخها، وتصح المناضلة على معينين يحسنون الرمي].

تعريف السبق

قول المؤلف: (باب السبق)، وهو بتحريك الباء، والمقصود به: العوض الذي يسابق عليه، ويطلق السبق على القدمة والأولية في الجري، وفي كل شيء، فتقول: إذا تسابق إنسان وصار الأول منهم وتقدم عليهم: سبق فلان، إذا تقدم، وسبق بمعنى تقدم.

حكم السبق والأدلة الواردة فيه

والمسابقة جائزة بإجماع أهل العلم في الجملة، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم كـابن حزم في مراتب الإجماع، و ابن قدامة و أبي عمر بن عبد البر وغيرهم كثير، وقد ثبتت المسابقة بالكتاب مثل قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ [الأنفال:60]. ومن الآيات التي تدل أيضاً على أن المسابقة كانت موجودة قبل عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعند رسل الله وأنبيائه هو قول إخوة يوسف: إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا [يوسف:17]، ومعنى نستبق أي: نتسابق، إما بالأقدام وإما بالنصل وإما بالخف.

وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر فأرسلها من الثنية إلى مسجد بني زريق)، وجاء عند الإمام أحمد وأهل السنن أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فسابقته فسبقته، فلما أخذني اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة )، وهذا يدل على أن المسابقة كانت معروفة معلومة في عهد الصحابة وعهد النبوة، والإجماع قائم كما مر معنا.

قول المؤلف: (باب السبق)، وهو بتحريك الباء، والمقصود به: العوض الذي يسابق عليه، ويطلق السبق على القدمة والأولية في الجري، وفي كل شيء، فتقول: إذا تسابق إنسان وصار الأول منهم وتقدم عليهم: سبق فلان، إذا تقدم، وسبق بمعنى تقدم.

والمسابقة جائزة بإجماع أهل العلم في الجملة، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم كـابن حزم في مراتب الإجماع، و ابن قدامة و أبي عمر بن عبد البر وغيرهم كثير، وقد ثبتت المسابقة بالكتاب مثل قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ [الأنفال:60]. ومن الآيات التي تدل أيضاً على أن المسابقة كانت موجودة قبل عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعند رسل الله وأنبيائه هو قول إخوة يوسف: إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا [يوسف:17]، ومعنى نستبق أي: نتسابق، إما بالأقدام وإما بالنصل وإما بالخف.

وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر فأرسلها من الثنية إلى مسجد بني زريق)، وجاء عند الإمام أحمد وأهل السنن أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فسابقته فسبقته، فلما أخذني اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة )، وهذا يدل على أن المسابقة كانت معروفة معلومة في عهد الصحابة وعهد النبوة، والإجماع قائم كما مر معنا.

قول المؤلف في السبق: (يصح)، ومعنى يصح أي: يجوز المسابقة.

(على الأقدام، وسائر الحيوانات والسفن) وقد جاء في الحديث: ( ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة )، وهذا يدل على أن الغزو في البحر من أفضل القربات، وهذا القول هو اختيار ابن تيمية، فكل ما فيه إعلاء لكلمة الله، وانتفاع في إظهار الدين، وكان وسيلة للجهاد فإنه لا بأس بأخذ العوض فيه؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر ) ومعنى: (لا سبق) أي: لا أخذ عوض، وإنما ذكرت هذه الثلاثة على سبيل المثال، وبدلالة الإيماء والالتزام، فكل ما أدى إلى ما أدت إليه أحد هذه الثلاثة أو أولى فهو جائز.

ومن المعلوم أن النصل هو الرمح والسهم، والبارود الآن هل هو نصل؟ الجواب: لا، وهل يجوز المسابقة على البارود؟ الجواب: من باب أولى، فإذا كان النصل قد جاز فأي شيء يعمل مثل عمل هذه الثلاثة أو أولى فهو أولى وأحرى، وهذا القول هو وجه عند الحنابلة وعند الشافعية، وإليه يذهب بعض الحنفية في بعض المسائل، وإن كانوا يخالفون في السفن ونحو ذلك.

قول المؤلف: (المزاريق) هي الرماح القصيرة؛ لأن الرماح جزء منها يكون طويلاً، وجزء منها يكون قصيراً، والطويل نوع، والقصير هو الذي يوضع في الجعاب ويسهل نقله والحركة معه.

قول المؤلف: (والمناجيق) جمع منجنيق وهي: الآلة التي يرمى بها الحجارة لكسر شوكة العدو، وكسر حصونه، ورمي الأحجار أيضاً بالمقاليع أو باليد، أو حمل الأثقال ورميها، فإن هذا كله جائز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سابق عائشة على قدمه، وصارع ركانة كما عند أبي داود ، وأما حديث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صارع ركانة فصرعه على شاة ) فهذا الحديث فيه ضعف، رواه الترمذي و أبو داود ، وفي سنده ثلاثة مجاهيل، يرويه أبو الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه محمد بن ركانة ، وهؤلاء الثلاثة مجاهيل، وعلى هذا فالحديث ضعيف، وقد قال الترمذي : حديث غريب، وإسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن محمد يعني: أبا جعفر بن محمد بن ركانة .

واختلف أهل العلم في جواز أخذ العوض على المصارعة، فذهب عامة الفقهاء إلى المنع، وهو المذهب عند الحنابلة، وفي وجه عند الحنابلة واختاره أبو العباس بن تيمية جواز أخذ العوض على المسابقة على المصارعة، يقول ابن تيمية : لأن المصارعة فيها قوة وتدريب على الجهاد، ولا شك أن من تأمل أقوال أبي العباس بن تيمية رحمه الله، فإنما جوز ما كان يتعامل في زمانه، إذ أن ثمة أعمالاً في زماننا لم تكن مشهورة أو معلومة أو واقعة في زمانهم، والأقرب والله أعلم أن المسابقة إذا كانت مباحة وليس فيها ضرر على الطرفين، وفيها إعلاء لكلمة الله، وتدريب على الجهاد، وقوة في البدن فلا بأس بأخذ العوض فيها، إذا كانت منتفعة في الجهاد. ولا شك أن مسابقة الأقدام فيها من القوة والانتفاع في الجهاد أكثر من الخيل أحياناً خاصة في عصرنا هذا، الآن هذا العصر يحتاج في الجهاد إلى اللياقة ما لا يحتاج إلى الخيل ولا النصل ولا الخف، وربما مشت الكتيبة خمساً وأربعين كيلاً، ولولا ذاك لهزموا وكسرت شوكتهم، وعلى هذا فالمسابقة على الأقدام لا بأس بها، وهو مذهب الحنفية، واختيار ابن تيمية رحمه الله.

وأما المصارعة فإننا نقول: إن كانت المصارعة لإظهار قوة المسلمين أو لكسر شوكة الكافرين والمنافقين فلا حرج، وأما إن كانت عامة فلا، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم -إن صح الحديث- إنما صارع ركانة لأجل أن يبين له أن المسلمين أقوياء، ولهذا حينما صرعه مرة أو مرتين وثلاث أسلم، وكان ركانة لا يصرع أبداً.

والقصة فيها دلالة على أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ورأيت أبا بكر ينزع بها ذنوباً أو ذنوبين فيهما ضعف والله يغفر لـأبي بكر ، ثم أخذ عمر فاستحالت غرباً ) وذلك لقوته رضي الله عنه، وهذا يدل على أن المؤمن القوي خير، ولهذا ينبغي للمسلم أن يكون قوياً لا يخلد إلى الراحة والسكون، فإن ذلك مدعاة إلى كثرة الأمراض، وحب الدعة، وحب السكون، وحب الدنيا.

قول المؤلف: (ولا تصح بعوض إلا في إبل وخيل وسهام)، يعني: لا تصح المسابقة في عوض إلا بثلاثة أشياء، وقد مر معنا كثير من المسائل، وجوزنا أخذ العوض في كل ما ينتفع به في الحرب، أو فيه إعلاء لكلمة الله كالعلم، فالجهاد جهادان: جهاد سنان وجهاد لسان.

والعلم لا بأس بأخذ العوض عليه، لكن ينبغي أن نعرف أن العلم المراد هو العلم المنتفع به في إعلاء كلمة الله كالعلم الشرعي، أما المسابقات سؤال وجواب: من أول من رمى سهماً في سبيل الله؟ ومن أول من صنع الكهرباء؟ ومن أول من صنع القطار؟ ومن هذه الأشياء فليس فيها إعلاء كلمة الله، فينبغي أن تكون المسابقات الثقافية فيها نوع من المنفعة الدينية، مثل أن يتسابقوا على كتاب شرعي ينتفع الناس بقراءته، فلا حرج في ذلك.

قول المؤلف: (بعوض إلا في إبل وخيل وسهام) قال أبو عمر بن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف والحافر والنصل، ولا شك أن هذا إجماع، والمقصود به هذه الأشياء وما يدخل تبعها، وإلا فإن بعض المسائل لم ينقل فيها إجماع، وإن كان بعض المذاهب على تجويزها كما في المصارعة جوزها الحنفية، وكما في الأقدام جوزها الحنفية، وكما في مسابقة السفن جوزها وجه عند الحنابلة، فالمقصود بنقل الإجماع أن الذي أجمع عليه هذه الأشياء وما عداها فليس فيها إجماع.

والعوض في هذه الأشياء الثلاثة: الخف والنصل والحافر، وغيرها مما جوزنا أخذ العوض عليها كالأقدام والمصارعة التي فيها إعلاء كلمة الله أو العلم الشرعي على عدة أحوال:

الحالة الأولى: أن يبذل الإمام العوض، أي: أن يكون من بيت المال، أو يبذله آحاد المسلمين من غير المتسابقين، فهذا جائز بالإجماع، وقد جاء عند الإمام أحمد و البيهقي من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وأعطى السابق سبقه )، وهذا الإسناد جيد، وإذا جاز للإمام وهو من غير المتسابقين، فإعطاء أحد الرعية هذه العطية من غير المتسابقين فيه فضل وإحسان، وهو جائز.

الحالة الثانية: أن يكون العوض من أحد المتسابقين، فجمهور الفقهاء وهو مذهب الحنابلة على جوازه؛ لأنه إذا جاز بذله من غير المسلمين، أو من غير المتسابقين، فآحاد المتسابقين من باب أولى، قالوا: ولانتفاء شبهة القمار؛ لأن شبهة القمار هو أن يبذلا جميعاً، فيكون أحدهما غارماً والآخر غانماً، أما لو كان أحدهما غارماً والآخر لا غارماً ولا غانماً، فإنه جائز وليس فيها شبهة، فأنا تسابقت مع محمد، فقلت لمحمد: هذه خمسين ريالاً أو ألف ريال نتسابق أنا وإياك على الإبل أو على الخيل، إن سبقتك فليس لك شيء، وإن سبقتني أعطيتك الألف، الآن محمد دخل إما غانماً أو ليس غارماً؟ قالوا: ودخول محمد معي يبعد عن شبهة القمار.

هذا مذهب الحنابلة والجمهور كما سوف يأتي تفصيله، وهذا هو الراجح خلافاً للمالكية، ولا داعي لتفصيل مذهب المالكية.

الحالة الثالثة: أن يكون العوض من المتسابقين جميعاً، أو من المتسابقين، فإذا كانوا ثلاثة فكل واحد منهم يدفع ألف ريال، والفائز يحصل على الثلاثة الآلاف، أو يحصل على ألفين، والثاني على ألف، فذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة ذلك، إلا أن يدخلوا محللاً لا يبذل عوضاً، وأن يأخذ إن سبق، وأن يكون سبقه ممكناً بأن يكون خيله أو إبله تتكافأ مع المتسابقين، هذه هي قاعدة المحلل عند جمهور الفقهاء.

واستدلوا على ذلك بحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود و الحاكم من حديث أبي هريرة : ( من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس، ومن أدخل فرساً بين فرسين وهو يأمن أن يسبق فهو قمار )، وهذا الحديث في سنده سفيان بن حسين ، و سفيان بن حسين لا بأس بحديثه، إلا إذا كان يروي عن الزهري ، فإنه منكر، ولا يقبل حديثه، وهذا منها، وله شاهد آخر من حديث ابن عمر ، وفي سنده شريك بن عبد الله القاضي ، ولا يصح حديثه في المحلل كما أشار إلى ذلك ابن تيمية و ابن القيم رحمة الله تعالى عليهم.

قالوا: ولأنه بدون محلل يكون قماراً، كيف يكون قماراً؟ قالوا: لأن كل واحد من المتسابقين إما غانم وإما غارم، وهذه قاعدة القمار والغرر والرهان، فإذا أدخلوا شخصاً آخر صار هذا الشخص محللاً؛ لأن منهم من لا يغرم، فـابن تيمية رد على هذا القول، وقال: إن المسابقة وأخذ العوض في النصل أو الخف أو الحافر جوزت مع شبهة القمار من باب تعارض مصلحة ومفسدة، وكانت مصلحتها أعظم من مفسدتها، وأما دخول المحلل فإنه يزيدها قماراً على الجهالة التي فيها، كيف هذا؟

قالوا: لأن دخول الشخص الرابع يزيد من شبهة القمار؛ لأنه ربما يحصل على الشيء وهو لم يتضرر، في حين إن بقي ثلاثة تضرروا، وربما قبل الواحد منهم أن يدخل مثلما دخل غيره، لكن أن يدخل غيره مما لم يدخل هو ربما لا تتحمل النفوس، وربما قال واحد منهم: أنا المحلل ونتسابق نحن الثلاثة، فكل يقول: أنا المحلل الذي لا يريد أن يدفع، فصار في ذلك إشكال، ولهذا تجويزها صار من باب جواز المصلحة ولو ترتب عليها مفسدة، ولهذا ذهب ابن تيمية رحمه الله إلى تجويز هذه المسابقة من غير محلل، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أنس راهن على فرس، يقول: وما علمت بين الصحابة خلافاً في عدم اشتراط المحلل.

والدليل الثالث وهو قريب من هذا نقول: لا شك أن المسابقة كانت موجودة معلومة ظاهرة عند الصحابة رضي الله عنهم، ولو رأيت مصنف ابن أبي شيبة أو عبد الرزاق لرأيت نصوصاً عن الصحابة أنهم كانوا يتسابقون وكانت معلومة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يدخل بين الغرضين، ويقول: أنا بها أنا بها، فكانوا يشتدون ويتحمسون لأجل الفوز بمثل هذا، فكان معلوماً بينهم، وإذا كان معلوماً فلا يسوغ لنا أن نشترط شروطاً لم تكن ظاهرة معلومة عندهم.

وخذ هذا الدليل لأننا سوف نحتاجه في كثير من الشروط التي ذكر الحنابلة، شروطاً لم يكن عليها دليل ولا عمل من الصحابة مع توافر الدواعي لنقل مثل ذلك.

يقول ابن تيمية رحمه الله: فالمغالبة الجائزة تحل بعوض إذا كان مما ينتفع به في الدين، كما راهن أبو بكر رضي الله عنه في قتال الروم، في قصة هزيمة الفرس من الروم ومراهنة أبي بكر في ذلك.

إذا ثبت هذا فإن الحنابلة قالوا: (ولا بد من تعيين المركوبين)، الآن شرع المؤلف في المسابقة وذكر شروطاً لها، ولو رجعت إلى كتب الحنابلة التي هي أوسع من هذا لذكروا شروطاً أخرى، ولعلي أذكر ابتداءً شروط المسابقة التي دل عليها الدليل، وما عداها سوف نناقشها.

شروط المسابقة بعوض ثلاثة شروط:

أولاً: دخول المتسابقين على علم ومعرفة فيما يختلف فيه من مركوب، فلا بد من معرفة المركوبين، فلو قلت: أسابقك على خيل وأدفع مائة ألف، وتدفع أنت مائة ألف، لكن لا بد أن أنظر إلى خيلك، فربما أن خيلي صغير، وأن خيلك كبير، فلا بد من معرفة الخيول، فمثلاً أنا معي خيل مولود فهذا ليس كالخيل الذي قد ضمر وعود على الجري، فلا بد من تعيين المركوبين؛ لأن في الجهالة بهما ضرر ودخول في حصول العوض أكثر من غيره.

وقلنا: لا بد فيه من معرفة وعلم فيما يختلف فيه من مركوبين، ومن رماة، مثلاً أنا أحسن الرماية، فقلت: أنا أتحداكم، والذي يفوز عليّ أعطيه ألف ريال، فجاء واحد واتصل على أحد الرماة المشهورين ودخل، ولم أعلم أنا به، فدخل فأخذ العوض، هل أرضى أنا بذلك؟ لا، فلا بد من معرفة ما يختلف فيه.

ولهذا قلنا: من معرفة المركوبين، وكذلك الرماة وكذلك المسافة، ولهذا قال ابن عمر كما في الصحيحين: ( سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي قد أضمرت من الحيفاء وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية، وكان أمدها مسجد بني زريق )؛ لأن المسافة معلومة.

وأنتم تعلمون أن من الخيول من تفوز إذا كانت المسافة بعيدة، فإذا كانت المسافة قريبة لا تستطيع، فهي تحسن اللياقة، وبعض الخيول تسبق في المسافة القصيرة، لكنها في المسافة البعيدة لا تسبق، فلهذا قلنا: لا بد من معرفة المسافة بينهما، ولأن عدم معرفة المسافة بينهما فيه جهالة، فمثلاً: أتسابق أنا وإياك فأقول: أتحداك تسابقني، فتسابقنا حتى كل خيلك، وأنا خيلي لا يكل، فهذه جهالة، وهذا غرر.

إذاً الشرط الأول: دخول المتسابقين أو المتسابقين على علم ومعرفة مما يختلف فيه من مركوب ورمي ومسافة، من حيث البداية والنهاية؛ لحديث ابن عمر ، وللجهل والضرر الحاصل من عدم معرفة ذلك.

ثانياً: أن يكون العوض معلوماً، فلو كان العوض غير معلوم لأدى إلى التنازع، مثل أن أقول: الذي يسبقني أعطيه فلة، وتحمس الناس وتسابقوا، فلما سبقوني قلت لهم: تعالوا معي، فذهبنا إلى منزل فيه زهور، فقطفت زهرة فقلت: هذه فلة، فالزهرة تسمى فلة، فهل يرضى بذلك؟ إذاً لا بد أن يكون العوض معلوماً؛ لأن عدم معرفة العوض فيه تنازع وخصام.

وقد وجد في مدينة الرياض شركة مواد أغذية وضعت مسابقة، وقالت: الذي يفوز بهذه المسابقة له لاند كروزر، فدخل الناس واشتروا، وأخذوا الكوبونات وكاتبوا وسابقوا وسألوا، فأعلن أن الأول فلان بن فلان، وطلبوا منه وأعلنوه أن الفائز فلان بن فلان، فلما جاء إلى المكتب يريد أن يحصل على سيارته، وقد جاء بأهله وذويه كي يباركوا بهذه السيارة فأعطوه تحفة من لاند كروزر وأعطوه، قال: هذا لاند كروزر! فهذا لا يجوز، وله حق التقاضي في ذلك؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، ولاند كروزر معروف، وهذا لا يسمى لاند كروزر هذه صورة أو تمثال للاند كروزر، ولهذا قلنا: لا بد أن يكون العوض معلوماً.

ثالثاً: أن يكون السباق في شيء يجوز بذل العوض فيه كالخف والنصل والحافر والأقدام والمصارعة التي تكون لإعلاء كلمة الله، والسفن التي تخدم الجهاد، وكل ما ينتفع به في الدين والجهاد.

بعض الجمعيات والتوعيات والمدارس يضعون مسابقة بين الفصول والفائز يعطونه جائزة، وكذلك المراكز الصيفية تضع مسابقة في كرة الطائرة أو في كرة القدم، أو في الرسم أو في الخط، ويضعون جوائز، فهذه الجائزة لا أعلم أحداً من أهل العلم جوزها؛ فليس فيها إعلاء لكلمة الله، وليست خفاً ولا نصلاً ولا حافراً.

وبعض طلبة العلم نسب إلى الحنفية أنهم يقولون: إنها جائزة؛ لأنها من باب الجعالة، والواقع أنها ليست من باب الجعالة، ولم يقل أحد من المتقدمين: إنها من باب الجعالة، لكن لو قيل بالجواز إذا كان مقصود صاحب المصلحة هو جمع الرعية، أو شباب الأمة في مثل هذا ولم يكن المقصود لذاته يسابق بعينها، وإنما المقصود تشجيع مثل هذه الأشياء، ويكون بذلها من بيت مال المسلمين، أو من أحد المتبرعين، والمقصود منها: هو إشعال فتيل الحماس بينهم، وجمعهم من غير ضياع أوقاتهم، لو قيل لأجل هذا لم يكن بعيداً، فتكون المعاوضة أو العوض لا لذات المسابقة بعينها، ولكن لوجود هذا المحضن التربوي من ولي أمر المسلمين.

ومن المعلوم أن المراكز الصيفية تدعم من قبل بيت مال المسلمين، فتعطى منها جوائز هذه المسابقات، وهذا لا بأس به إذا كان المقصود تنشيط وجعل الشباب يأتون لمثل هذه المراكز، فيكون العوض ليس لأجل هذه المسابقة، ولهذا أنا أرى أن الفائز لا يعطى لأجل أنه سابق، ولكن يعطى لأجل أنه شارك في هذه المشاركة، يقال: إن الأول فلان وفلان، فيعطى الجائزة لا لأجل أنه فاز، ولكن لأجل مشاركته، وتكون الجوائز في الحفل من باب الأنشطة التربوية والمباحة في ذلك.

إذاً: أرى أن هذا لا بأس به؛ لأنه لم يعط العوض لأجل ذات المسابقة، إنما أعطي العوض لأجل التشجيع ووجود المصلحة، فيكون من باب الجعالة؛ لأن فيها مصلحة لباذل المال، بخلاف المسابقة بالكرة التي تصير بين اثنين فليس فيها مصلحة بينهما.

هذه ثلاثة شروط، وهي ظاهر كلام ابن تيمية رحمه الله و ابن القيم .


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
زاد المستقنع - كتاب البيع [4] 1782 استماع
زاد المستقنع - كتاب البيع [5] 1386 استماع
زاد المستقنع - كتاب البيع [1] 1182 استماع
زاد المستقنع - كتاب البيع [2] 867 استماع