كتاب التوحيد - باب ما جاء في الذبح لغير الله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم.

قال المؤلف رحمه الله: [ باب ما جاء في الذبح لغير الله، وقول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163] الآية. أي: من الدلالة على أنه حرام وشرك.

قوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] الآية، أي: قل يا محمد! لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغيره: إن صلاتي ونسكي أي ذبحي، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي [الأنعام:162] أي: ما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163] أي: في شيء من ذلك ولا في غيره من أنواع العبادة، فالصلاة أجلّ العبادات البدنية، والنسك أجلّ العبادات المالية، فمن صلى لغير الله فقد أشرك، ومن ذبح لغيره فقد أشرك.

وقوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163] قال قتادة: من هذه الأمة ].

قول المؤلف رحمه الله: (باب: ما جاء في الذبح لغير الله) يعني: من الوعيد ومن الآيات ومن الأحاديث الدالة على هذا الباب.

والذبح أنواع:

النوع الأول: أن يذبح لله سبحانه وتعالى بقصد اللحم فهذا جائز مثل أن يحتاج إلى لحم فيذبحها، لكنه يستعين بالله تعالى، فيقول: بسم الله، فهذا جائز.

النوع الثاني: أن يذبحها للعبادة يعني: لأجل عبادة يتقرب بها إلى الله مستعيناً بها لله، مثل أن يقول: بسم الله وهو ينوي بها الأضحية، أو ينوي بها النذر لله، أو ينوي بها العقيقة فهذا مأجور، ويتقرب بها إلى الله.

النوع الثالث: أن يذبح لقدوم الضيف فيسمي بها الله سبحانه وتعالى، لكنه لا يذبحها إلا إذا قدم الضيف، وهذا يفعله أجلاف العرب، وهذا فيه إشكال، وذلك أن النوق تقدم بين يدي الرئيس أو المعظم عند قومه، فإذا تقدم وجاء ذبحت وإن كانوا يسمون عليها الله تعالى، فهذا أنكره أئمة الدعوة ومنهم من أجازه، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن هذا لا يسوغ ولا ينبغي، وإن ذكر اسم الله تعالى فيها؛ كما جاء عند أهل السنن من حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام متباريين) يعني: اللذان يتعاظمان بذبحهما أيهما أكثر نادياً وقوماً ووافداً، فهذا من الفخر والخيلاء الذي نهى الشارع عنه.

وهذا معروف، وقد كان يفعل إذا قدم الملك أو قدم الرئيس أو قدم المعظم فتقدم النوق أمامه، ثم ما إن يمر حتى تنحر هذه الإبل لتسقط، وبعضها يؤكل وبعضها لا يؤكل، فهذا كأن فيه نوعاً من التعظيم له، وأنها ذبحت لأجلك، فبعضهم يقول: إنما ذبحت لأجلك كما تذبح للضيف فهي جائزة، وبعضهم يقول: إن فعلها بهذه الطريقة كأنه تقرب بها إلى نفس الضيف، وهذا هو الإشكال، ولهذا منعها أقرب مع ما فيها من الخيلاء والكبر والتعظيم للضيف وللفاعل، فإن الفاعل يتباهى بذلك، والله المستعان.

النوع الرابع: أن يذبح بسم الله خوفاً من الجن، فهو يتقرب بها إلى الله يقول: بسم الله، لكن يظن أن ذلك يدفعه عن الجن أو يصده عن العين، فهذا من الشرك الأصغر والله المستعان، وهذا يفعله الإنسان إذا سكن بيتاً جديداً وخاف من العين فيذبحها بسم الله، لكنه بقصد الصد عن العين ظاناً أنها سبب، وهذا من الشرك الأصغر.

النوع الخامس: أن يذبحها باسم الجن أو سيد الوادي، أو عبد القادر أو الست زينب، فهذا هو الذي عناه المؤلف رحمه الله، وهو من الشرك؛ لأن الله يتقرب إليه بالعبادة في الصلاة كما يتقرب إليه بالنسك، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، وقد نزلت هذه الآية كما ذكر ذلك بعض المفسرين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في صحن الحرم، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الذي يرائي في صلاته، فهلا تقدم أحدكم إلى سلا جزور بني فلان فيضعها على ظهره! فقام أشقاهم فوضعها )، والحديث أصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].

وفيه فائدة وهو أن المنافقين والليبراليين إذا اتهموا الداعية والصاد والمنافح عن دينه بأنه يريد الاستعلاء أو يتدثر بعباءة الدين؛ لأنه يريد شيئاً من حطام الدنيا، فإنه لا حرج أن يقول: والله ما أردت إلا وجه الله والدار الآخرة، وأن يعلن ما في قلبه كما أمر الله نبيه بذلك حينما نزلت فقال: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: ( لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض ) رواه مسلم.

وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله فضربوا عنقه، فدخل الجنة ) رواه أحمد ].

قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] قال شيخ الإسلام : أمره أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] الآية، والنسك: هي الذبيحة لله عز وجل ابتغاء وجهه، فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله من الكوثر، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها كما عرفه أرباب القلوب الحية، وما يجتمع له عند النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن أمر عجيب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة، كثير النحر. اهـ.

قوله: (لعن الله من ذبح لغير الله) قال النووي: وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح لغير اسم الله كمن يذبح للصنم أو للصليب أو لعيسى أو للكعبة ونحو ذلك فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان هذا الذابح مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له كان ذلك كفراً ].

هذا الصحيح، وهذا هو الذي أشرنا إليه وهو أنه يذبح لله يظن أن ذلك سبباً يمنعه أو يدفعه، فهذا من الشرك الأصغر، أما أن يذبحها للمسيح وهذا من الأنواع السابقة، أو يذبحها للجن الذي هو النوع السادس، أو يذبحها للزهرة أو للكوكب، وإن ذكر اسم الله فإن ذلك مما أهل به لغير الله كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم، فـأبو العباس بن تيمية أشار إلى أن ما أهل به لغير الله سواء ذكر اسم الله أم لا، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية أن ذبحها لغير الله أعظم من الاستعانة بها لغير الله، فإنك إذا قلت: بسم الله فقد استعنت بالله، وإذا قلت: باسم المسيح فقد استعنت بـالمسيح، لكن أن تتقرب إلى المسيح أعظم من الاستعانة به؛ لأن الاستعانة من باب توحيد الربوبية، ويدخل في باب الألوهية من باب اللازم، وأما التقرب إليه فهو من باب الألوهية ويدخل في الربوبية من باب اللازم.

وعلى هذا فلا يجوز أن يذبح لغير الله تعالى سواء ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر، فإن ذكر اسم الله عليها حرم كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم، وإن لم يذكر اسم الله عليها فقد جمع شرين شر الاستعانة وشر التقرب، والعياذ بالله.

ثم إن المؤلف قال: حديث علي بن أبي طالب : ( لعن الله من ذبح لغير الله ) وقد ذكر المؤلف رحمه الله أن في حديث علي ابتدأ به بالذبح لغير الله لعظمه، فقال بعد ذكر الذبح لغير الله: ( لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض )، والحديث رواه مسلم من حديث أبي الطفيل عن علي.

اللعن في الكتاب والسنة بين الخبر والإنشاء

وفي هذا الحديث مسألة وهي أن قوله: (لعن الله) هل اللعن من باب الإخبار بأن الله لعن، أو هو من باب الدعاء فيكون من باب الإنشاء؟

أولاً: ما جاء من لعن في كتاب الله كقول الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:78]، وقوله تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا [الأحزاب:61]، فهو من باب الإخبار، والعلماء رحمهم الله يقولون: إن ما كان من باب الإخبار فإنه بمعنى الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا من باب التفسير باللازم أن اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ولا مانع بأن يكون الله قد ذكر ذلك منه سبحانه، وقد ذكره الشيخ محمد بن إبراهيم في تقريراته على كتاب التوحيد، ونسبه لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله، فيكون اللعن الذي ذكره الله سبحانه وتعالى من لوازمه الطرد والإبعاد عن رحمة الله.

أما ما جاء في السنة، مثل أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض ) هل هو من باب الإخبار أم هو من باب الإنشاء؟

قولان عند أهل العلم:

القول الأول: قد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن ذلك من باب الدعاء، يقول: وأما ما جاء في السنة من ذلك فهو من باب الدعاء، وعلى هذا فتكون إنشائية وليست خبرية.

القول الثاني: إنها خبرية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وما ذكره في السنة إنما علمه إما وحياً من القرآن أو وحياً من الإلهام وكلاهما من الوحي، ولعل هذا القول أظهر، فتكون إنشائية دعاءً، وخبرية من حيث إنه لا ينطق عن الهوى فالإنشائية قد يستجاب لدعائه وقد لا يستجاب، مثل: ( اللهم العن رعلاً وذكوان وعصية عصت الله ورسوله، فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] )، فدعاؤه قد يستجاب وقد لا يستجاب، وأما إذا كانت خبرية فهو كما أخبر من أنه مطرود من رحمة الله، وأما دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إنشاء وهذا جائز، وذلك مثل أن يقال: لعن الله الكافر فلاناً، وقد مات على الكفر، فإن من مات على الكفر فقد طرد من رحمة الله، فهذا خبر، فإذا قلت: اللهم العن فلاناً الكافر، اللهم العن أبا لهب، فقد جمعت فيه بين الخبر والإنشاء والدعاء، ولعل هذا القول أظهر، وهو أن تكون خبرية وإنشائية.

حكم الذابح لغير الله

قال المؤلف رحمه الله: [ فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً ].

صار مرتداً، يعني: إذا كان مسلماً ثم ذبح لغير الله، وتقرب بها إلى غير الله سبحانه وتعالى فإنه بذلك يعد مرتداً والعياذ بالله؛ وذلك لأنه قد صرف عبادة لغير الله، وقولنا: إنه مرتد، فهذا كما هو معلوم أنه من باب الوصل، وأما إذا كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقد وقع في ناقض من نواقض الإسلام.

ومن المعلوم أن العلماء رحمهم الله ذكروا الخلاف في أن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم وقع بناقض ومثله يجهل، فهل يعذر بجهله أم لا؟ المعروف عن جمهور أهل العلم أنهم يرون أنه معذور، وأنه لا عقوبة إلا بعلم، ولا علم إلا مع التكليف كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم، وقد فصلنا هذه المسألة مراراً، ولعل من أفضل الكتب في هذا للعصريين كتاب اسمه (إشكالية الإعذار بالجهل) فإنه جمع المسائل ونقحها ودققها.

قال المؤلف رحمه الله: [ وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله تعالى، أملاه على شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن : وقال شيخ الإسلام في قوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173] ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه ].

يقول: كما أننا ما ذبحناه بسم الله نتقرب به إلى الله كالأضحية أعظم من الذبيحة التي نقول فيها: بسم الله، ونقصد بها اللحم، فعلى هذا فالذين يقولون: بسم الله ويقصدون اللحم فهذا جائز، لكن الذين يقولون: بسم الله ويتقربون بها إلى الملوك أو المسيح أو غير ذلك فهذا مما أهل به لغير الله، والله أعلم.

المراد باللعن للوالدين المذكور في حديث علي

قال المؤلف رحمه الله: [ كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح والزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم وإن قال فيه: بسم الله.

قوله: (لعن الله من لعن والديه) قال بعضهم: أباه وأمه وإن عليا، وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن ( يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه ).

قوله: (لعن الله من آوى محدثاً).

هذا الحديث الذي ذكره المؤلف: (لعن الله من لعن والديه) يشمل أمرين:

الأمر الأول: وهو أن يلعن والديه مباشرة، فيسبهما والعياذ بالله، كما نقل عن بعضهم أنه سب نفسه وسب أمه وسب أباه، والعياذ بالله فهذا من سوئه كما ينقل عن الحطيئة أنه سب نفسه فقال:

فقبح من وجه وقبح حامله

وسب أمه وسب والده فهذا منه.

الأمر الثاني: أن يسب الرجل أبا الرجل فيكون ذلك سبباً لأن يأتي المسبوب فيسب أبا الساب الأول أو أمه، فيكون قد عرض لسب والديه، فيكون هو أيضاً ملعوناً والعياذ بالله، وعلى هذا فيشمل الأمرين.

أنواع إيواء المحدث

قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: (لعن الله من آوى محدثاً) أي: ضمه إليه وحماه، يروى بفتح الدال وكسرها ].

أما قوله: (لعن الله من آوى محدثاً) فإنه يشمل أمرين:

الأمر الأول: أن يؤويه ويحميه وينصره رضاً بما يصنع، أو منعاً من أذيته لأجل ما يصنع، فهذا -والعياذ بالله- ملعون.

الأمر الثاني: أن يؤويه بمعنى يحويه، لا لنصرته، ولا لنصرة بدعته، ولا ليقام عليه الحد ونحو ذلك، فهذا على حسب المصلحة، وعلى هذا فربما يؤوي المحدث لا لحدثه وإنما لأنه أتاه ضيفاً كما يأتي المبتدع إلى الرجل فيؤويه ويكرمه لا لأجل بدعته ولا لنصرته، ولا لإظهار ما يقول، وإنما من باب إكرام الضيف فهذا الثاني جائز، وهي على حسب المصلحة هل يسوغ هجره أم لا؟ والهجر إنما هو من باب المصلحة، والله أعلم.

أما النوع الأول فهو يؤويه ويحميه وينصره ويمنع من يؤذيه؛ لأنه محدث، ولأنه مبتدع، ولأنه غير تحكيم الشريعة، فهذا والعياذ بالله على خطر عظيم.

حكم لعن الفاسق المعين وبيان معنى تغيير منار الأرض

قال المؤلف رحمه الله: [ (لعن الله من غير منار الأرض) قال المصنف رحمه الله: هي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك فتغيرها بتقديم أو تأخير، وفيه جواز لعن أنواع الفساق عموماً، فأما لعن الفاسق المعين فقيل: يجوز، واختاره ابن الجوزي ، وقيل: لا يجوز، واختاره شيخ الإسلام ].

حكم المكره على فعل الكفر

قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: (في ذباب) أي: من أجله وبسببه.

قوله: (فدخل النار) قال المصنف: وفيه أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافراً لم يقل: (دخل النار في ذباب).

قوله: (فضربوا عنقه)، قال المصنف: وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر ].

هذا حديث طارق بن شهاب لا يصح مرفوعاً، وأحسن شيء في الباب ما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من طريق أبي معاوية الضرير عن الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي من قوله، ولا يصح مرفوعاً، والله أعلم.

والمؤلف رحمه الله إنما ذكره مرفوعاً أخذاً من كتاب ابن القيم (الجواب الكافي)، وهذا يدل على أنه لا مانع أن يأخذ الإنسان من شخص إذا نسبه إليه، أو نسب إلى من أحال عليه كل ذلك سائغ، لكن الذي لا يسوغ أن يأخذ منه ثم لا ينسبه إليه، فهذا هو الممنوع؛ لأنه من باب المتشبع بما لم يعط، والله أعلم.

ثم إن حديث: ( مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوز أحد حتى يقرب، فقيل لأحدهما: قرب ولو ذباباً، قال: ما كنت لأقرب لأحد إلا لله تعالى فذبحوه، وقيل لآخر: قرب، قال: ما عندي ما أقرب، فقيل: قرب ولو ذباباً فقرب ذباباً فدخل النار ).

فهذا الحديث استدل به بعض أهل العلم على أنه يكفر الإنسان بالفعل ولو مع الإكراه، وقالوا: إن قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، إنما هو في حق القول لا الفعل، وهذا القول ضعيف، وذلك لأن الإكراه قائم ومعذور صاحبه بالفعل أو القول، فلو أكره للسجود لغير الله فإنه إذا كان قلبه صادقاً أن ذلك السجود ليس لهذا المخلوق فإن فعله هذا معذور فيه، وهو فعل، والقلوب بيد الله، فإذا أكره الإنسان على أن يذبح ذباباً فذبح الذباب مع أنه قاصد عدم التقرب مع هذا الإكراه فإنه لا يكفر كما هو معلوم، فيكون إكراهه إن كان عن رضاً فهذا هو الشرك المخرج من الملة، وإن كان عن غير رضاً فإن الله قد رفع عن الأمة الإكراه.

وقد أشكل ذلك على أهل العلم، فإذا كان قد استقر عند أهل السنة والجماعة وجمهور أهل العلم على أن المكره مرفوع عنه التكليف فكيف بهذا الحديث؟ فقال بعضهم: إن الحديث ضعيف وأنه لا يصح مرفوعاً كما مر معنا، وقيل: إن ذلك إنما كان من أخبار الأمم قبلنا، وليس شرع من قبلنا شرعاً لنا إذا جاء ما يثبت أن ذلك مخالف لنا، فإن الله سبحانه وتعالى في قوله: ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال: قد فعلت )، والإكراه أشد من الخطأ والنسيان، وجاء في حديث ابن عباس : ( إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).

وقد ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في قوله تعالى في سورة الكهف: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20]، فإذا أكرهوا على إخراجهم من الملة فإن الله قال: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20]، قال: وهذا في أخبار الأمم قبلنا أن المكره على الملة قد لا يعذر، وهذا خاص بمن قبلنا، ولعل هذا القول يقوي أن هذا في الأمم قبلنا.

وقال بعضهم وهذا التأويل الثالث: إن قوله: (قرب) أن هذا الذي امتنع من التقريب ولو ذباباً أنه أشعر أصحاب الصنم بإهانة صنمهم، ولهذا قال: والله! ما كنت لأقرب شيئاً إلا لله تعالى، فظنوا أن ذلك نوع من إهانة صنمهم فذبحوه، فدخل الجنة لأنه صدع بالحق، وأما هذا الذي دخل النار فالذي يظهر والله أعلم أن دخوله النار ليس لأنه أكره ففعل، وإنما لأجل أنه فعل ذلك عن رضا واختيار؛ وذلك لأن الإنسان قد يؤمر على فعل الشيء فيفعله مكرهاً أو يفعله عن طواعية ورضا واختيار، فهذا الشخص الذي قيل له: قرب قال: ما عندي ما أقرب، قيل له: قرب ولو ذباباً فقرب الذباب، فكان التقريب ولو كان حقيراً عن رضا واختيار، لكنه امتنع بأنه لم يجد، ولو وجد لفعل، فدخل النار بذلك، وأرى أن هذا حسن، والله أعلم؛ وذلك لأن هذا الشخص الذي قيل له: قرب لو أكره الإنسان على مثل ذلك فذبح لله تعالى قاصداً به وجه الله، وإن كان هؤلاء يرونه بهذا الأمر، فهذا صورته محرمة ولا شك؛ لأنه لو لم يكن من غير إكراه فإنما أهل به لغير الله؛ لأن الإهلال به لغير الله سواء ذكر اسم الله عليه أو لم يذكر، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ فيه مسائل:

الأولى: تفسير إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162].

الثانية: تفسير فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].

الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.

الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.

الخامسة: لعن من آوى محدثاً وهو الرجل يحدث شيئاً يجب فيه حق لله، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك.

السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك في الأرض وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير ].

المراسيم: هي التي توضع للتمييز بين أرض الجار وأرض جاره، فلا يجوز تغييرها، والحمد لله اليوم مع وجود الأمور الهندسية والتطبيقات التكنولوجية يصعب على الإنسان أن يغير كما يريد؛ لأن الأمور الآن أصبحت واضحة، لكن إلى يومك هذا قبل التحديد يزيد وينقص على حسب البتر كما يسميها العامة، أو على حسب الشبوك، فاليوم وقبل تحديد ذلك يمكن أن يزيد من الشبك وينقص من الشبك، فهذا من تغيير منار الأرض، والعياذ بالله.

وفي هذا الحديث مسألة وهي أن قوله: (لعن الله) هل اللعن من باب الإخبار بأن الله لعن، أو هو من باب الدعاء فيكون من باب الإنشاء؟

أولاً: ما جاء من لعن في كتاب الله كقول الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:78]، وقوله تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا [الأحزاب:61]، فهو من باب الإخبار، والعلماء رحمهم الله يقولون: إن ما كان من باب الإخبار فإنه بمعنى الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا من باب التفسير باللازم أن اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ولا مانع بأن يكون الله قد ذكر ذلك منه سبحانه، وقد ذكره الشيخ محمد بن إبراهيم في تقريراته على كتاب التوحيد، ونسبه لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله، فيكون اللعن الذي ذكره الله سبحانه وتعالى من لوازمه الطرد والإبعاد عن رحمة الله.

أما ما جاء في السنة، مثل أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض ) هل هو من باب الإخبار أم هو من باب الإنشاء؟

قولان عند أهل العلم:

القول الأول: قد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن ذلك من باب الدعاء، يقول: وأما ما جاء في السنة من ذلك فهو من باب الدعاء، وعلى هذا فتكون إنشائية وليست خبرية.

القول الثاني: إنها خبرية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وما ذكره في السنة إنما علمه إما وحياً من القرآن أو وحياً من الإلهام وكلاهما من الوحي، ولعل هذا القول أظهر، فتكون إنشائية دعاءً، وخبرية من حيث إنه لا ينطق عن الهوى فالإنشائية قد يستجاب لدعائه وقد لا يستجاب، مثل: ( اللهم العن رعلاً وذكوان وعصية عصت الله ورسوله، فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] )، فدعاؤه قد يستجاب وقد لا يستجاب، وأما إذا كانت خبرية فهو كما أخبر من أنه مطرود من رحمة الله، وأما دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إنشاء وهذا جائز، وذلك مثل أن يقال: لعن الله الكافر فلاناً، وقد مات على الكفر، فإن من مات على الكفر فقد طرد من رحمة الله، فهذا خبر، فإذا قلت: اللهم العن فلاناً الكافر، اللهم العن أبا لهب، فقد جمعت فيه بين الخبر والإنشاء والدعاء، ولعل هذا القول أظهر، وهو أن تكون خبرية وإنشائية.

قال المؤلف رحمه الله: [ فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً ].

صار مرتداً، يعني: إذا كان مسلماً ثم ذبح لغير الله، وتقرب بها إلى غير الله سبحانه وتعالى فإنه بذلك يعد مرتداً والعياذ بالله؛ وذلك لأنه قد صرف عبادة لغير الله، وقولنا: إنه مرتد، فهذا كما هو معلوم أنه من باب الوصل، وأما إذا كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقد وقع في ناقض من نواقض الإسلام.

ومن المعلوم أن العلماء رحمهم الله ذكروا الخلاف في أن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم وقع بناقض ومثله يجهل، فهل يعذر بجهله أم لا؟ المعروف عن جمهور أهل العلم أنهم يرون أنه معذور، وأنه لا عقوبة إلا بعلم، ولا علم إلا مع التكليف كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم، وقد فصلنا هذه المسألة مراراً، ولعل من أفضل الكتب في هذا للعصريين كتاب اسمه (إشكالية الإعذار بالجهل) فإنه جمع المسائل ونقحها ودققها.

قال المؤلف رحمه الله: [ وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله تعالى، أملاه على شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن : وقال شيخ الإسلام في قوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173] ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه ].

يقول: كما أننا ما ذبحناه بسم الله نتقرب به إلى الله كالأضحية أعظم من الذبيحة التي نقول فيها: بسم الله، ونقصد بها اللحم، فعلى هذا فالذين يقولون: بسم الله ويقصدون اللحم فهذا جائز، لكن الذين يقولون: بسم الله ويتقربون بها إلى الملوك أو المسيح أو غير ذلك فهذا مما أهل به لغير الله، والله أعلم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
كتاب التوحيد - باب من الشرك النذر لغير الله - وباب من الشرك الاستعاذة بغير الله 2990 استماع
كتاب التوحيد - باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب [1] 2656 استماع
كتاب التوحيد - باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب [2] 2285 استماع
كتاب التوحيد - باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه 2010 استماع
كتاب التوحيد - باب قوله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون) 1920 استماع
كتاب التوحيد - باب من تبرك بشجر وحجر ونحوهم 1864 استماع
كتاب التوحيد - باب تفسير التوحيد وشهادة لا إله إلا الله 1815 استماع
كتاب التوحيد - العبادة 1663 استماع
كتاب التوحيد - باب الشفاعة 1573 استماع
كتاب التوحيد - من قوله: (حديث عبادة بن الصامت) 1385 استماع