خطب ومحاضرات
كتاب التوحيد - باب من الشرك النذر لغير الله - وباب من الشرك الاستعاذة بغير الله
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب من الشرك النذر لغير الله.
وقول الله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، وقوله : وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270].
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ).
قال الشارح في قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7] وجه الدلالة من الآية أن الله مدح الموفين بالنذر، واللّه تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب، أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة، فمن فعل ذلك لغير اللّه متقربًا إليه فقد أشرك ].
هذا الباب من الأبواب التي ابتلي فيها مجدد هذه الدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وادعى خصومه أنه قال قولاً لم يقله سلفه، وهو أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وأنه ليس من الشرك النذر لغير الله، يقولون: إنه بمنزلة من حلف بغير الله، وأشغب عليه خصومه، والصحيح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن النذر عبادة قلبية يقصد ناذرها تعظيم من نذر له، وهذا ليس مثل الحلف بغير الله، فإن الحلف بغير الله يقصد به تعظيم المحلوف له وتبجيله، وهذه عبادة قلبية، فإذا جعله في مصاف الألوهية فهو شرك أكبر، هذا هو الفرق الأول.
الفرق الثاني: أن يكون ذلك بسبب لفظ تربى عليه أو اعتاده مثل أن يقول والعياذ بالله: واللات، أو يقول: والنبي، فهذا وإن لم يقصد تعظيم المحلوف به كتعظيم الخالق، إلا أنه اعتاد على لسانه، وأما النذر فإنه عبادة يقصد بها الناذر تعظيم المنذور لأجله، وقد نص أبو العباس بن تيمية رحمه الله في منهاج السنة أن النذر لغير الله شرك كالسجود والعبادة لغير الله فهي شرك، فدل ذلك على أن الإمام محمد بن عبد الوهاب لم يأت بجديد، بل هو اتبع أسلافه على أن النذر لغير الله شرك، هذا واحد.
الثاني: قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله -وهذا نقله الشيخ عبد الرحمن بن حسن- وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وهذا الكلام من أبي العباس بن تيمية لا يفهم منه أنه لا يرى أن النذر لغير الله شرك لأمور:
الأمر الأول: لأنه نص في غير ما موضع أن النذر لغير الله شرك.
الأمر الثاني: أن إيراده رحمه الله هذه العبارة ليس من باب القياس على أنه ليس من العبادة والشرك، وإنما قاس بها لأجل أن الناذر لغير الله لا يجب عليه الوفاء بما نذر، كالحالف بغير الله لا وفاء ليمينه بلا خلاف، فقد أجمع العلماء على أن من حلف بغير الله لا يجب الوفاء بحلفه، فكذلك الناذر لغير الله من باب أولى.
الأمر الثالث: أن الإمام المجدد رحمه الله أراد بهذا الباب وبهذه الأدلة بيان أن النذر عبادة، وإذا ثبت أنه عبادة فصرف العبادة لغير الله شرك، هذه المقدمات لا بد أن يفقهها طالب العلم عند الدخول في هذا الباب.
إذا ثبت لك هذا فإن إيراد المؤلف رحمه الله لقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7]، في هذا الباب أن الله امتدح الذين يوفون بعهدهم ولا يمدح الله قوماً إلا لأنهم تقربوا إليه، وإذا تقرب العباد إلى الله بالنذور دل ذلك على أن النذر عبادة، فصرفها لغير الله شرك.
ولو أتى المؤلف رحمه الله بالآية التي في سورة الحج، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، لكان أولى؛ لأن هذا أمر بالوفاء به، وفرق بين امتداح من فعل وبين إيجاب الفعل، فإن المدح يمكن أن يكون لأمر مشروع في الجملة مستحب أو واجب، أما أن يأتي الأمر بالوفاء به فإن ذلك يدل على أنه أعظم، وما تقرب العباد إلى الله بأحب مما افترضه عليهم.
ثم اعلم رعاك ربي أن بعض العلماء استشكل هذه الآية مع الحديث المتفق عليه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال: إنما يستخرج به من البخيل ) أي: ما كان البخيل يريد أن يخرجه، وقالوا: كيف ينهى الشارع عن النذر، ثم يمتدح الموفين بالنذر؟
أجاب العلماء بأجوبة منها، الجواب الأول: قال بعضهم: إن الله امتدح الذين أوفوا بنذورهم، لكنه لم يمتدح الذين أنشأوا النذر، وفرق بين إنشاء النذر والإيفاء به، وهذا الجواب وإن كان في الظاهر فرقاً، لكنه غير مؤثر والله أعلم.
الجواب الثاني: أن الله امتدح الذين يوفون بالنذر وهو نذر الطاعة، والمقصود بنذر الطاعة أن يقول: لله عليّ أن أفعل كذا، فهذا نذر أن يفعل طاعة غير مشروطة بالمجازاة، وهذا بلا شك مأجور عليه مثنى عليه، ممتدح لفعله.
أما حديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر)، فلأن سبب النذر التعاوض فكأنه قال: يا رب! إن شفيت مريضي تصدقت وصليت وصمت، فكان ذلك داخلاً من باب المعاوضة مع الرب جل جلاله، وهذا الذي يسمى نذر المجازاة، وهو المنهي عنه لأمور:
الأول: لأنه دخل مع الله من باب المعاوضة.
الثاني: أنه لا يكون إلا من بخيل؛ لأنه لم يفعل هذه الطاعة إلا لأن الله جازاه، ولولا هذه المجازاة لم يفعل.
الثالث: لأنه بهذا النذر يرى أن الله مكره تعالى الله، فكأنه يرى أنه إن أذهب الله عنه القدر الكوني فإنه يتصدق، فكأنه يريد المغالبة والعياذ بالله، فهذه ثلاث معان في نذر المجازاة، ولأجل هذا ذهب ابن جرير الطبري وأومأ إليه أبو العباس بن تيمية في كتابه وقال: إن نذر المجازاة محرم.
إذا ثبت لك هذا فإن قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7] يقصد به نذر الطاعة، وهذا هو المراد بقول الله: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فالآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر، وقد أجمع العلماء على أن الوفاء بنذر الطاعة واجب، ومدح الله من فعل هذا الواجب، ولا يمدح الله على فعل إلا وهو مرضي عنه وهو عبادة.
إذاً النذر يختلف حكمه باختلاف مقصود الناذر، فإن كان المقصود هو المجازاة كأن يقول: يا رب! إن شفيت مريضي فعلت هذا فهو المنهي عنه، فابتداء نذر الطاعة من غير اشتراط مأجور عليه الإنسان كأنه يقول: حق عليّ أن أفعل الطاعة، فإذا نذرت تأكدت بأمرين:
الأول: بما أوجب الله عليّ فيه.
والثاني: بما ألزمت به على نفسي، فإذا نذر نذر طاعة من غير اشتراط فهذا مندوب إليه في الجملة، لكن العلماء رحمهم الله قالوا: إن كان واجباً فهذا واجب بأصل الشرع، وإن كان مستحباً فإنه لا ينبغي للإنسان؛ لأنه يخشى ألا يتحمل هذا الفعل، مثل أن يقول: لله عليّ أن أصوم شهرين، فيقال له: لماذا تكلف نفسك صيام شهرين وأنت لا تطيقه فتقع في الإثم؟ هذا هو السبب، لكن إذا كان الإنسان يريد أن يفعل ولا يشق عليه ذلك، فهذا في الجملة مأجور عليه وهو مندوب، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية وغيره.
وأما إذا نذر نذراً لا يطيقه فليكفر كفارة يمين، يقول ابن عباس كما عند الدارقطني وغيره: (من نذر نذراً لا يطيقه فليكفر كفارة يمين).
إذاً: فقول الله: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29] ابتداء، يوفون نذورهم التي كانوا يفعلونها، لكن كما قلنا: إن كان نذر طاعة مشروعة مستحبة فالأولى تركه؛ لأجل أنه ربما لا يتحمل فعله، وأما إذا كان واجباً بأصل الشرع فنذر من باب أن يلزم نفسه، فهذا أصلاً يجب أن يفعله، وهذا لا إشكال فيه، والله لا يكلف العباد إلا بما يطيقون، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
قال المؤلف: [ قوله: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270] ].
وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن اللّه تعالى أخبر بأن ما أنفقناه من نفقة، أو نذرناه من نذر متقربين بذلك إليه أنه يعلمه، ويجازينا عليه، فدل ذلك على أنه عبادة، وبالضرورة يتعلم كل مسلم أن من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير اللّه فقد أشرك.
قال المؤلف رحمه الله: [ قال شيخ الإسلام : وأما ما نذره لغير اللّه كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير اللّه من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء ولا كفارة، فإن كليهما شرك، والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر اللّه من هذا العقد، ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا اللّه ) ].
يقول تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270] تعليق هذا النذر بعلم الله دلالة على أننا لا نعلم علم الله هنا إلا المجازاة، وذلك لأن الله عالم بالخفايا والجزئيات، كما أنه عالم بالعلانية والكليات، فلما علق الله هذا النذر بعلمه دل على أنه لا فائدة من هذا البيان بالعلم إلا المجازاة، وإذا ثبتت المجازاة دل على أن ذلك عبادة يثاب عليها المرء، فإيراد المؤلف للنذر بهذه الآية فيه دلالة على أن النذر عبادة وصرفها لغير الله شرك.
وشيخنا عبد العزيز بن باز عندما ذكر كلام أبي العباس بن تيمية قال: وكلام شيخ الإسلام خطأ، والإنسان يؤخذ من قوله ويترك، يعني بذلك أن النذر كالحلف بغير الله، والذي يظهر -كما قلت- أن مقصود أبي العباس بن تيمية هو الوفاء بالنذر كما بين ذلك الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في كتابه (منهاج التأسيس).
وهل ينقسم النذر إلى قسمين: شرك أكبر وشرك أصغر؟
لم أجد ذلك عند أئمة الدعوة، ولا من شرح هذا الكتاب، والظاهر أن النذر لغير الله شرك أكبر، ويدخل فيه مسألة العذر بالجهل من عدمه، لكنه مثل ما لو سجد لغير الله، أو صلى لغير الله، أو طاف لغير الله، ولهذا قال الله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]، وعلى هذا فإن النذر لغير الله من الشرك الأكبر، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ثم إن قول من قال: إنه يمكن أن يكون شركاً أصغر، كما هو قول أبي العباس بن تيمية فهذا لا يتأتى؛ لأن الشرك الأصغر متعلق بسبب، ومن المعلوم أن المشركين الذين كانوا يدعون غير الله من الأموات وغيرهم كانوا يقولون: إنما ندعوهم لأنهم سبب، كما أخبر عنهم تعالى بقوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، ومع ذلك فهذا هو الشرك، فكون الناس يعتقدون أن الشرك الأكبر يفعل سبباً ليس معناه أنه يخرج عن الشرك الأكبر إلى الشرك الأصغر، والله أعلم.
ويقصد شيخنا ابن باز بقوله: إن ابن تيمية جعل النذر كالحلف، والحلف منه شرك أكبر ومنه شرك أصغر، وأما النذر فهو شرك أكبر، فإذا كان ابن تيمية يقول هذا فهو خطأ، ولكن الراجح أن ابن تيمية ما قصد هذا وإنما قصد أنه كالحلف بغير الله لا يجب الوفاء به.
قال المؤلف رحمه الله: [ (من نذر أن يطيع الله فليطعه ) أي: يجب عليه الوفاء بنذر الطاعة كما تقدم في الأحاديث التي تتعلق بالباب.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
متى يكون النذر من الشرك الأصغر؟
يكون النذر من الشرك الأصغر إذا نذر لله عند قبر أو نذر لله في مكان يعظم فيه غير الله، فهو إنما فعل ذلك ظاناً منه أن هذا المكان سبب في مرضاة الله، كما لو نذر أن يذبح لله تعالى عند قبر معظم، فهذا بلا شك من البدع ومن المحرمات، وهو وسيلة من وسائل الشرك، لكنه إنما نذر لله كما في حديث ثابت بن الضحاك : ( إني نذرت أن أذبح إبلاً ببوانة )، وهذا الحديث يرويه شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك ، وقلنا: إن هذا الحديث فيه علل وهي:
الأولى: أن أكثر أصحاب الأوزاعي لم يذكروا هذا كـالوليد بن مسلم .
الثانية: أن رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير فيها خطأ كما قال الإمام أحمد .
الثالثة: أن أيوب السختياني تابع يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة فلم يذكر هذه اللفظة.
الرابعة: أن البخاري و مسلم رويا أصل هذا الحديث ولم يذكرا هذه الزيادة.
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كفارة النذر إن لم يسم كفارة يمين ) رواه مسلم وابن أبي شيبة والأربعة، وعن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج من البخيل ) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ].
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف فيها كلام طويل في مسألة من أبواب الفقه، ولم أشأ أن أذكر هذا لأن المسائل الفقهية تطول، لكن أذكر من حيث الجملة أن من نذر لله تعالى فلا يخلو نذره من أمور:
الأول: أن يكون النذر مما ابتغي به وجه الله تعالى، فهذا يجب الوفاء به إلا إذا شق ذلك عليه، بحيث لا يطيقه، فإن الراجح والله أعلم أنه لا يجب الوفاء به وعليه كفارة يمين وهو مذهب ابن عباس كما رواه الدارقطني وأصله عند أبي داود : ( من نذر نذراً لا يطيقه فليكفر كفارة يمين )، وقد روى الدارقطني أن امرأة نذرت أن مالها كله إلى رتاج الكعبة، وهذه عبادة إن لم تفرق بين عبدها وبين مولاتها حينما رأتهما في مكان لا يصلح إلا للرجل مع امرأته، فسألت ابن عمر رضي الله عنه فأمرها أن تكفر كفارة يمين، وهو نذر طاعة لا تطيقه، أو نذرت أن تفعل الطاعة ولا تطيقه.
الثاني: أن ينذر نذر معصية، فهذا أجمع العلماء على أنه لا يجب الوفاء به، إلا أنهم اختلفوا هل فيه الكفارة أم لا؟
فذهب مالك و الشافعي إلى أنه ليس فيه كفارة؛ لأنه لا وفاء لنذر إلا فيما ابتغي به وجه الله، وهذا لم يبتغ به وجه الله، فلم ينعقد أصلاً حتى يكفر.
أما ما جاء في الأحاديث ( وكفارته كفارة يمين ) فإنها أحاديث ضعيفة ضعفها الإمام البخاري كما في التاريخ الصغير أو الأوسط من حديث عائشة و عمران بن حصين.
الثالث: أن ينذر نذراً مباحاً، فهذا على حسب المصلحة، فإن كانت المصلحة الوفاء به فإنه يفي، وإن كانت المصلحة عدم الوفاء به فإنه لا يفي، وعليه أن يكفر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في اليمين: (والله لأن يلج أحدكم في يمينه آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي أمر الله)، ومعنى يلج: يوغل، ويستمر وهذا يسميه العلماء: نذر اللجاج والغضب، ومنه ما ذكره المؤلف في قصة أبي إسرائيل الذي نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم فهذا فيه مشقة وكلفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مروه فليتكلم )، وقال: ( ولا يستظل قال: مروه فليستظل )، وكذلك في قصة المرأة التي نذرت أن تمشي إلى الكعبة فإذا كان لا يشق عليها، فإنها تنظر المصلحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فلتمش ولتركب).
إذاً: إذا نذرت بنذر وكان لا يشق عليها ذلك فإن الوفاء به حسن، لأنها ألزمت نفسها ذلك، أما إذا كان ذلك يشق عليها أو يضر بها، فإنها تركب.
فالحنابلة يرون أن فيه الكفارة أي: كفارة تكفير المعصية وهو مذهب بعض الحنفية واختيار أبي العباس بن تيمية كما في كتابه (قاعدة العقود)، وقد جاء عن بعض الصحابة ما يفيد هذا، لكن الذي يظهر أن الصحابة إنما أمروا بالكفارة ليس من باب الكفارة الواجبة، ولكن من باب أنه فعل معصية فيكفر، وهذه قاعدة عند الصحابة، بدليل أنهم قالوا: عليه الهدي، والهدي ليس في كفارة اليمين، ولا النذر؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (كفارة النذر كفارة يمين)، وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين، أما أن يذبح الهدي كما جاء ذلك في رواية همام وغيره عن بعض الصحابة فالذي يظهر -والله أعلم- أنهم قصدوا ليس الكفارة التي لها حكمها الشرعي، ولكنهم قصدوا التقرب إلى الله بفعل طاعة بعد ذنب.
قال المؤلف رحمه الله: [ فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله.
وقول الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك ) رواه مسلم .
والاستعاذة: الالتجاء والاعتصام والتحرز، وذلك من أعظم أنواع العبادة، فمن فعله لغير الله فقد أشرك. قوله: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] الآية].
المؤلف رحمه الله يقول: باب من الشرك الاستعاذة بغير الله، والاستعاذة: هي العون والاعتصام والالتجاء والملتجأ، وهذه الأشياء الأربعة هي عمل قلبي وإن اكتنفها أعمال الجوارح فهي من لوازمها، وعلى هذا فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في الكتاب تعوذ أنبيائه، وتعوذ عباده الصالحين، وأمر بذلك بقوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، فدل ذلك على أن ذلك مما يحبه الله، والاستعاذة أعم من الدعاء، لأمور: الأول: أن دعاء العبد يشمل دفع المكروه وحصول المرغوب.
وأما الاستعاذة فهي أنواع:
النوع الأول: تكون بدفع المكروه بعد حصوله كما تقول: أعوذ بالله من شر ما أجد وأحاذر، فهذا استعاذة بدفع المكروه، فهو وجد شراً فيطلب من ربه ويستعيذ به أن يزيله.
النوع الثاني: استعاذة لعدم وقوع المكروه كما تقول: أعوذ بالله من شر ما خلق، فإنك تسأل ربك وتستعيذ به بأن لا يصيبك شيء من المكروه، وأما الدعاء فإنك تسأل الأمرين، فدل ذلك على أن الدعاء أعم.
وإذا قلت: أعوذ من شر سيدي فلان والعياذ بالله فإنك ما فعلت ذلك إلا لأنها خوف سر والعياذ بالله، وخوف السر ليس مثل الخوف الظاهر، فإن الإنسان قد يخاف من السلطان وسطوته، أو يخاف من أسد وقبضته، لكن أن يخاف فيما بينه وبين نفسه من مخلوق فهذا والعياذ بالله هو خوف السر.
والاستعاذة التي جاءت في الآية إنما ذلك لخوفه منه، وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن:6]، وهذا والعياذ بالله من الشرك.
قال المؤلف رحمه الله: [ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن:6] الآية.
وجه الدلالة من الآية أن الله حكى عن مؤمني الجن أنهم لما تبين لهم دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ذكروا أشياء من الشرك كانوا يفعلونها في الجاهلية من جملتها الاستعاذة بغير الله، قوله: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] قيل: فزاد الإنس الجن تكبراً وإثماً وطغياناً وشراً، وقيل: فزاد الجن الإنس إغواءً وإضلالاً، ولا يبعد أن تشمل الآية ذلك فإن الجن ازدادوا إثماً وتكبراً وطغياناً، والإنس ازدادوا إغواءً وإضلالاً؛ فكان أهل الجاهلية إذا هبطوا وادياً قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقول أحدهم إذا نزل منزلاً: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) التامات أي: الكاملات].
يقول المؤلف: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، هذه الآية ظاهرة أن الجن خلق من خلق الله، وإن أعطاهم الله بعض الصفات من حيث القوة والاستتار، وسرعة المضي والانتقال، إلا أنهم ليسوا بأقوى قلباً من بني آدم إلا إذا خارت قوى بني آدم، فالجن إذا علموا من بني آدم أنهم يخافونهم زادوهم خوفاً بأن يجلبوا عليهم بخيلهم ورجلهم ما يبالغ المخلوق الإنسي به، وهذا إن خافه فإنه حتماً سيخار ويتقرب إليه، ويعظمه، وهذا هو استمتاع الجن بالإنس، فاستمتاع الجني بالإنسي أن يعظم الإنسي الجني ويتقرب إليه، وربما كتب الطلاسم ووضعها على رقبته أو تحت وسادته أو غير ذلك من الأشياء التي يرى الجني أن ذلك إنما هو تعظيم له، وهذا استمتاع الجني بالإنسي.
وأما استمتاع الإنسي بالجني فإنما هو قضاء حوائج الإنسي وغير ذلك، وقد ذم الله تعالى أن يستمتع الجن بالإنس، أو أن يستمتع الإنس بالجن، فقال تعالى: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [الأنعام:128]، فدل ذلك على أن استمتاع الإنسي بالجني محرم، واستمتاع الجني بالإنسي محرم.
إذا ثبت هذا فإن الفقهاء اختلفوا في حكم استخدام الإنسي للجني في الأمور المباحة، على قولين:
القول الأول: مذهب أكثر أهل العلم أن ذلك منهي عنه، وقال الإمام أحمد رحمه الله: تركه أحب إليّ، وقال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: إن استمتاع الإنسي بالجني ليس من هدي السلف. وهذا هو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز واللجنة الدائمة وهو رأي الملا علي الحنفي وغيرهم، وأكثر من فسر قول الله تعالى: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128]، ذكر أن الإنسي يستمتع بالجني بقضاء الحوائج، وقد ذم الله ذلك بقوله: النَّارُ مَثْوَاكُمْ [الأنعام:128].
القول الثاني: قالوا بجواز استخدام الإنسي الجني واستمتاعه به، شريطة ألا يكون ذلك على حساب الدين أو التقرب إلى غير رب العالمين، ومال إليه شيخنا محمد بن عثيمين ونسب لـأبي العباس بن تيمية ، ولا شك أن نسبة القول لـأبي العباس ليس بظاهر، والذي يظهر أن أبا العباس بن تيمية إنما قال: إنه لا حرج، ومفهوم كلامه أنه لا حرج أن يعمل الإنسي بخبر الجني إذا لم يطلبه، مثل ما لو قرأ القارئ على الممسوس فقال الممسوس: إن السحر في المكان الفلاني، فذهب لذلك، فهذا نوع من الاستمتاع والإخبار، لكنه لم يطلبه، أو إذا قرأ عليه وتكلم الجني فقال: فلان أعانني أو غير ذلك، فطلب من العائن شيئاً من الماء الذي يكون من مغابنه.
والذين قالوا بالجواز استدلوا بما رواه عمر بن محمد عن سالم بن عبد الله عن أبي موسى أنه راث عمر -يعني: استأخر عمر ، وكان هناك امرأة معها القرين- فسألوا الجني الذي في المرأة، فقال: إني تركته يسم إبل الصدقة، وهذا ليس ظاهراً لأمور:
الأول: أن هذا الحديث ضعيف؛ لأن سالم بن عبد الله لم يسمع من أبي موسى.
الثاني: أنهم لم يتقصدوا مجيء المرأة وسؤالها، وإنما حينما راث عليهم ذلك فوجدوا المرأة الممسوسة فقالت: إني تركته، وهذا إيحاء علم أن الذي كلمهم هو الممسوس أو الجن، وإلا فإنهم لم يسألوا الجن، وإنما سألوا المرأة، هل رأت عمر مثلما يسألون أصحاب الطرقات والله أعلم.
والذي أقول به هو المنع وهو الأولى، فإن غالب من يستخدم الجني شعر أم لم يشعر يصاب بخلل إما إعجاب أو وقوع في منكر وغير ذلك؛ ولهذا فإن المنع أولى وأحرى، وهو نوع من الاستمتاع الذي لم يكن إلا لسليمان عليه السلام، وهو أن الله سخر له الجن، وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ [الأنبياء:82]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( والله لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان المدينة )، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من ذلك؛ لأن الله جعل ذلك خاصاً بسليمان : وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35].
وأما حديث خولة بنت حكيم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء ) الكلمات هي كلامه سبحانه، وهذا يدل على أنه لما أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق دل ذلك على أن كلامه ليس بمخلوق، كما قال الإمام أحمد وهذه الكلمات هي كلامه الكوني الذي إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وكذلك كلامه الشرعي الذي هو أمره ونهيه.
وعلى هذا فإذا قال المرء: أعوذ بكلمات الله التامات، فإنما يسأل ربه الالتجاء والاعتصام من أن يصاب بكلامه الكوني وهي المصائب، ويسأل ربه ويستعيذ من أن يصيبه كلامه الشرعي وهو مخالفة المأمور، فإن مخالفة أمره ونهيه تستحق عليها العقوبة، فيستعيذ أن يخالف أمره أو أن يفعل نهيه، وهذا من قوله: أعوذ بكلمات الله التامات.
وكلما قال المرء ذلك وهو مستحضر كلامه الكوني وكلامه الشرعي كان ذلك أدعى لتجنيب الله له المكروه الواقع عليه، وهذا فضل العالم على العابد، فإن الإنسان إذا قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق في منزل، فإنه يسأل ربه ألا يصاب بمصيبة وهذا هو الكلام الكوني، وألا يقع في محظور شرعي لئلا يعصه في هذا المكان؛ لأنه يسأل ربه أن يتعوذ بكلماته بمخالفة أمره ونهيه والله تعالى أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقول أحدهم إذا نزل منزلاً: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) التامات أي: الكاملات اللاتي لا يلحقهن عيب ولا نقص كما يلحق كلام البشر، وقيل: الكافية الشافية، وقيل: الكلمات هنا هي القرآن، فإن الله قد أخبر عنه بأنه هدى وشفاء، قاله القرطبي، وقال شيخ الإسلام: وقد نص الأئمة على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك.
قوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2] أي: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله ].
قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، (ما) هنا ما معناها؟ بعض العلماء يقول: إنها (ما) الموصولة يعني: من شر الذي خلق، وقالوا: إنها لا تصلح إلا أن تكون موصولة، ولا يصح أن تكون مصدرية، وإذا كانت مصدرية فتقول: أعوذ بالله من شر خلقه، وإذا قلت: من شر خلقه فإن خلقه الخير والشر، فإنك لا تستعيذ من الخير لأن الخير ليس فيه شر، فلهذا فإنك لا تقول: إن (ما) المصدرية، بل تقول: (ما) الموصولة، ولهذا قال: (والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر لا من شر كل ما خلقه الله)؛ لأن الله خلق الملائكة وخلق كذا، وخلق الأنبياء، وهؤلاء ليس فيهم شر ألبتة، وعلى هذا فهي مصدرية.
قال المؤلف رحمه الله: [ أي: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله، فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر. هذا معنى كلام ابن القيم.
قال: والشر يقال على الألم وعلى ما يفضي إليه.
قوله: (لم يضره شيء) قال المصنف: فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره ].
قوله: (لم يضره شيء) لم يقل صلى الله عليه وسلم: لم يصبه شيء، فدل ذلك على أن الضرر غير الإصابة فقد يصاب لكنه لا يضره، ومثل ذلك الابتلاء، فإن الابتلاء يصيبه، لكنه إن صبر وآمن به وشكر فإن ذلك لا يضره ولكن مآله إلى خير، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ [النور:11]، وهذا يجب على الإنسان أن يفقه هذا أشد الفقه، نعم عند الابتلاء تختلط الأمور، وتشكل على الإنسان حتى إنه ربما يضيق صدره، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، كما قال الله تعالى في حق كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118]، وهذا هو الالتجاء والاعتصام والتعوذ بالله سبحانه وتعالى، فإذا ابتلي المرء بأي بلوى فإنه كما قال عمر : إن الله إذا ابتلاني عرفت أني في أربع نعم:
الأولى: أنه لم يجعلها في ديني.
الثانية: أنه لم يبتليني بأعظم منها.
الثالثة: أنه أعانني عليها فشكرت.
الرابعة: أنني صبرت عليها.
فهذه أربع نعم، إذا ابتلي العبد بها، فالله سبحانه وتعالى سيصيب العبد لا محالة، كما قال تعالى: ( ويكره الموت، وأكره مساءته ) ولابد له من ذلك، لابد للمؤمن مهما كان من ابتلاء، ولو لم يكن من الابتلاء إلا الموت لكفى، ( إن للموت لسكرات )، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر، أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك ].
الفرق بين السحر واستمتاع الإنس بالجن
الجواب: استمتاع الإنسي بالجني، الجني يقضي له حوائج، يطير به، كما قال ابن تيمية : بعضهم يطير في السماء، والسحر كما قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66] لكن الإنسي يطير به في الجو، يجعله يطير يقول له: افعل بي، احملني فهذا يحصل له.
مدى صحة قول ابن تيمية بجواز استخدام الإنسي للجني
الجواب: الظاهر أن ابن تيمية لم يقصد به التجويز أساساً، وإنما وقع اتفاقاً، أنا أفسر كلام ابن تيمية الذي ذكر هذا الأثر، والشيخ محمد يستدل به، والأظهر أنه لا يستدل به، إنما وقع اتفاقاً كما في مجموع الفتاوى، وليس لـابن تيمية قولان، ولكن ليس هو ظاهر التحريم، وهذا يحصل أحياناً في الذين يفسرون الرؤى فهم يستخدمون الجن وهم لا يشعرون، فهناك قرين يقر في آذانهم وهم لا يشعرون فيفسرون تفسيراً ليس له دخل في التفسير أصلاً، لكنه إخبار عن واقع حال الرائي، فإذا سمع الناس ذلك قالوا: فلان يفسر مثل فلق الصبح، وهو والله بعيد عن التفسير كله، وقد سمعت لبعضهم بعض الأشياء المضحكة، حتى إن أحدهم تتصل عليه امرأة، فيقول: أنت الآن لابسة المشلح الأحمر أو الأبيض، فالواقع هذا إنما أخبره الجني، فالمرأة حينما تسمع هذا الأمر تقول: الشيخ على حق، وأحياناً يخبرها عن تفسيره البعيد كل البعد عن الواقع كأن يقول للرائية مثلاً: يأتيك خاطب أنت تدعين لأحد أن يخطبك؟ فتقول: نعم، أدعو واحداً ليخطبني، فيقول لها: إن شاء الله أن هذا هو الذي سيأتيك، فتقول: ما سيأتي خطاب غيره؟ فيقول: لا لا، وهذه مشاكل، وهناك قصص كثيرة.
أيضاً القراء الذين يقرءون فإنهم أحياناً يقر في آذانهم شعروا أم لم يشعروا أن فلاناً قد أعانه فلان، أو أن السحر في المكان الفلاني، وأقول: إن هذا لا يتأتى إلا ممن هو ضعيف العلم، دائماً الذي يفسر رؤى ويأتيه المس هذا خفيف، فهو وإن كان معه شيء من العلم فإنما معه ملح العلم وليس من متينه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الراجح في جواز استخدام الجن
الجواب: أنا لا أقول بجواز استخدام الجن، ولكن لو أتى واحد وقرأ على مريض وقال: فلان عاينه واستخدمنا ذلك فهذا لا يضير، لكن لا أذهب واتقصده.
استمتاع الإنس بجماع الجن والعكس
الجواب: أن يكون من استمتاع الإنس بالجن والعكس الجماع فهذا لم يثبت، يعني: جماع فيه حمل لم يثبت، أما الجماع فإن يحصل، الجني يتلذذ بالإنسي بطريقته الخاصة لكن نحن لا ندري كيفيته، يأمره أن يخرج من بيته إلى الحمام ويقضي حاجته ويستمتع الجني به هذا يحصل، لكن لا نعلم كيفيته، أما المرأة إذا كانت تحس أن رجلاً يأتيها، او الرجل يحس أنه يأتي امرأته فهذا كله خيال.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
كتاب التوحيد - باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب [1] | 2688 استماع |
كتاب التوحيد - باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب [2] | 2291 استماع |
كتاب التوحيد - باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه | 2014 استماع |
كتاب التوحيد - باب قوله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون) | 1924 استماع |
كتاب التوحيد - باب من تبرك بشجر وحجر ونحوهم | 1868 استماع |
كتاب التوحيد - باب تفسير التوحيد وشهادة لا إله إلا الله | 1819 استماع |
كتاب التوحيد - العبادة | 1667 استماع |
كتاب التوحيد - باب الشفاعة | 1578 استماع |
كتاب التوحيد - من قوله: (حديث عبادة بن الصامت) | 1391 استماع |
كتاب التوحيد - باب قوله: (ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين) | 1312 استماع |