خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
كتاب التوحيد - باب قوله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون)
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
قال المؤلف رحمه الله: [ باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا [الأعراف:191-192] الآية، وقوله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13] الآية.
وفي الصحيح عن أنس قال: ( شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شَجُّوا نبيهم؟ فنزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] )، وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلاناً وفلاناً، بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] الآية )، وفي رواية: ( يدعو على
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] فقال: يا معشر قريش! -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً ) ].
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: فجميع من سوى الله هذه صفتهم أي: لا يقدرون على خلق شيء وهم يخلقون، ولا يستطيعون نصر من عبدهم ولا ينصرون أنفسهم، فبطلت عبادتهم من دون الله.
المؤلف رحمه الله في كتابه العظيم كتاب التوحيد الذي هو إفراد الله تعالى بالعبادة، والذي يعتبر أساساً في بيان كل ما يتعلق بإفراد الله تعالى بالعبادة، يقول رحمه الله: إن أعظم ما يستدل به على وجوب توحيد الله وإفراده بالعبادة هو توحيد الله بأفعاله الذي هو توحيد الربوبية.
والتوحيد له أنواع، أو طرق في القسمة: إما أن يقال: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، أو يقال: توحيد الطلب والإرادة، وهو المقصود بتوحيد الألوهية، أو توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فأتى المؤلف رحمه الله بهذا الباب لإثبات أنه إذا عجز المخلوق عن بعض صفات الخالق جل جلاله وهي الخلق والنصرة والقوة الكاملة، فلئلا يعبد من باب أولى، فذكر المؤلف هذه الآية: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:191-192]، ومناسبة هذه الآية أنه إذا كان من يعبد من دون الله من الملائكة والأنبياء والأولياء والحجر والشجر والشمس والقمر وغيرهم لا يخلقون شيئاً، ولا أنفسهم يخلقون، ولا نصروا أحداً ولا أنفسهم ينصرون، فإذا كانت هذه الأشياء وهي الخلق والملك والتدبير التي يختص الله سبحانه وتعالى بها في توحيد الربوبية فلئلا يعبد إلا من اتصف بهذه الصفات من باب أولى وأحرى؛ ولهذا رحمه الله أتى بهذه الآية العظيمة التي تدل على أنه لا يصلح للعبادة إلا من كان متصفاً بصفات كمال الخلق وكمال التدبير وكمال النصرة، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42]، وهذه الأشياء مهمة.
إثبات عجز رسول الله وهو أفضل الخلق عن نفع نفسه والآخرين
وهذا من أعظم الأدلة والبراهين الدالة على أن كل مخلوق إذا وجه إرادته لمخلوق فإنه يخذله، ولهذا ذكر المؤلف من الآيات والأحاديث التي تدل على أن أفضل الخلق من الملائكة والأنبياء كلهم هو محمد صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن ينصر نفسه، فكيف ينصر غيره؟ ولم يستطع أن يخلق نفسه فكيف يخلق غيره؟ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].
الحث على عدم تعلق القلب بغير الله من جلب نفع أو دفع ضر
قال قتادة: يعني: نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة ].
قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13] يعني: كل من يدعى من دون الله من نبي أو ملك أو ولي أو حجر أو شجر, كل هؤلاء لا يستطيعون أن يخلقوا أو أن يملكوا من دون إرادة الله وقدرته ومشيئته اللفافة التي تكون على النواة فوق الفصام الذي يكون في التمر، هذه اللفافة البسيطة الصغيرة لا يستطيعون أن يملكوها، ولا يستطيعون أن يحصلوا عليها إلا بإرادة الله.
وأقسم بالله لو أننا حققنا التوحيد حق الأمر والله لا نخاف أحداً، ولا ننتظر من أحد شيئاً، لا نفعاً ولا ضراً ولا نصرة ولا شيئاً، ولهذا فإن إمام الحنيفية إبراهيم حينما كان في السماء موجه إلى النار يقول له جبرائيل: (ألك بي حاجة؟) الواحد في مثل هذه الحالة يتمنى شيئاً يتمسك فيه، يقول: ( أما منك فلا، وأما من الله فنعم )، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا [الأنبياء:69]؛ لأنه علق مشيئته بالله، ولا تجد أحداً يتضرع إلى الله فيخذله أبداً، والتضرع له معنى غير معنى الدعاء، لا تجد أحداً يلقي حاجته وفاقته وذله وانكساره بين يدي الله فيخذله، هذا لا يمكن، ولهذا زار طاوس رضي الله عنه مريضاً فقال: يا طاوس! ادع الله لي، قال: لو كنت مضطراً لاستجاب الله دعاءك، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، فهذه الآية تدل على أنك لست بحاجة إلى أن تجعل بينك وبين الله وسائط.
ثم أورد المؤلف قول الله تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14] يعني: كأن الله يريد أن يقطع عنهم كل احتمال، فيقول الله: إِنْ تَدْعُوهُمْ [فاطر:14] هؤلاء الأموات الذين في قبورهم فإنهم لا يسمعون دعاءكم، فالله أعطاهم حكماً؛ أنهم لا يسمعون دعاءكم، وَلَوْ سَمِعُوا [فاطر:14] هذا من باب قطع الشك الآخر، فإنه يمكن أن يأتيهم أحد فيقول: أنا رأيت في الرؤيا أن النبي يقول لي: سمعت نجواك، أو سمعت دعاءك، ممكن بعضهم يقول: لا، هو يسمع؛ لأننا عندنا أحاديث كذا وكذا وهي أحاديث ضعيفة، فأراد الله أن يقطع عنهم حتى هذا الاحتمال فيقول: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14] حتى لو سمعوا فلن يستجيبوا لكم.
إذاً: إذا كان هؤلاء لو دعوتموهم لا يسمعون، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، إذاً ادع الله الخالق الواحد الأحد، ادع الصمد ادع المتفرد، ادع القوة، ادع الإرادة الكاملة من الله سبحانه وتعالى.
دعاء الحي للميت وأقسامه
لكن المسألة الأخرى أن يدعو مخلوقاً بأن يشفع له بين يدي الله، فهذا مختلف، لأنه يطلب من المخلوق الشفاعة، الآن عندما يقول: يا محمد! اشفني، يا محمد! افعل لي كذا، تقول: لماذا تدعو هذا المخلوق وهو لا يفعل شيئاً؟ يقول: لأن له عند الله منزلة، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، هذا شرك أكبر ولا إشكال فيه، وهذا هو القسم الأول.
القسم الثاني: أن يدعو المخلوق بأن يقبل الله دعاءه، يا محمد! ادع الله لي أن يقبل دعائي، يا محمد! ادع الله لي أن يعافيني، إذاً هو يعلم أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، ولكنه يدعو هذا المخلوق بأن يشفع بين يدي الله، هل هذا شرك أكبر أم لا؟
استدل الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بهذه الآية على أن دعاء الحي للميت بأن يشفع له عند الله، وليس هو الذي ينفع أو يضر أن ذلك أيضاً شرك أكبر.
وأقول قبل ذكر الخلاف: أجمع العلماء على أن هذا بدعة منكرة، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية في رده على البكري، وهل يكون شركاً أكبر أم لا؟
أكثر شراح كتاب التوحيد على هذا وهو أنه شرك أكبر، واستدلوا بهذه الآية وهي قوله: إِنْ تَدْعُوهُمْ [فاطر:14] وهذا الدعاء لا بد أن يكون دعاء، لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14] فسمى الله سبحانه وتعالى دعاء الحي للميت مطلقاً سواء قصد به أن ينفعه أو يضره، أو قصد به غير ذلك من أن يشفع بين يدي الله كل ذلك شرك؛ لقوله: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
والقول الثاني في المسألة: اختاره الألوسي والشيخ بكر أبو زيد وبعض العلماء: أن دعاء الحي للميت بأن يشفع له عند الله أن ذلك من الشرك، لكنه ليس من الشرك المخرج من الملة؛ لأنه تعلق بسبب لم يجعله الشارع سبباً، وكل من جعل سبباً ولم يجعله الشارع فهو شرك أصغر، فهو لم يجعل هذا شافياً ولا ضاراً، ولكنه جعله سبباً في قبول الله دعاء وشفاعة هذا، والمسألة محتملة.
لكن الذي ينبغي لطالب العلم إذا ذكر هذه المسألة ألا يذكر هذا الخلاف عند العوام؛ لأنه ليس بحاجة إلى ذلك الخلاف، ولا يعلق إذا وقع أحد بمثل ذلك، فلا يطلق الكفر عليه بعينه حتى يقيم عليه الحجة وتظهر المحجة، وهذه الآية أتى بها المؤلف ليبين أن هذا المخلوق أياً كانت منزلته من نبي مرسل أو ملك مقرب إذا كان لا يسمع دعاء الحي ولو سمع فإنه لا يستجيب له، فكيف يصلح أن يعبد من دون الله؟ ثم إن هؤلاء سوف يتبرءون من دعائكم ومن عبادتكم لهم من دون الله وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14]، فكانت هذه هي مناسبة هذه الآية في هذا الباب، ثم ذكر المؤلف الحديث.
ذكر ما أصاب رسول الله يوم أحد والحكمة من ذلك
وذكر ابن هشام أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال القرطبي: (الرباعية) بفتح الراء وتخفيف الياء، كل سن بعد ثنية، وقال النووي : للإنسان أربع رباعيات ].
الرسول صلى الله عليه وسلم كما أشار الحافظ ابن حجر وكما ذكر ابن هشام أصيب يوم أحد بعدة إصابات منها: شج رأسه وكسرت رباعيته، وشقت شفته السفلى من الباطن، ودخلت حلق المغفر في وجنتيه، وانفك كتفه الأيمن بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، قيل: إن الذي كسر رباعيته هو عتبة بن أبي وقاص وجرح شفته السفلى، وأن الذي شج وجهه هو عبد الله بن شهاب الزهري ، وأن الذي جرح وجنته حتى دخلت حلقة المغفر في وجنتيه هو عبد الله بن قمئة ، فقام مالك بن سنان رضي الله عنه فمص الدم من وجنة النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فقال له: ( لن تمسك النار أبداً ).
والنبي صلى الله عليه وسلم لم تسقط ثناياه، إنما الذي سقطت ثناياه من نزع المغفر من وجنته صلى الله عليه وسلم، جاء في الترمذي في كتاب الشمائل ( أنه صلى الله عليه وسلم كان له فجة ) فلم تسقط ثناياه عندما سقطت رباعيته، وإنما الذي سقطت ثناياه هو الصحابي الذي نزع المغفر منه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فكانت أسنانه أجمل مما كانت، هذا الذي هو معروف عند العلماء رحمهم الله.
والله سبحانه وتعالى أراد لنبيه حكمة عظيمة، وهو أن النبي الذي هو أفضل الخلق على الإطلاق لو أراد لنفسه نفعاً لم يستطع، فكيف تتوجه النفوس إليه؟ وهذا من أعظم الأدلة على أن حق الله أعظم من حق كل أحد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أصيب مع أنه أحب الخلق إلى الله، وهذا يدل على حديث: ( إن الله إذا أراد بعبده خيراً يصب منه ).
فكون العبد يصاب بالرزايا والبلايا والفتن والمحن، فإن ذلك لأمور:
الأمر الأول: أنه بسبب ذنبه، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11]، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، لا يوجد أحد يصاب بمصيبة إلا بسبب نفسه، وقولنا: بسبب نفسه إما أن يكون بسبب ذنب صنعه، أو قصور في عبادة لا بد منها.
الأمر الثاني: أن ذلك من باب رفع الدرجات: ( إن العبد لتكون له المنزلة عند الله لا يبلغها بعمله فيبتليه الله بنفسه وولده حتى يبلغه إياها )، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى قد يسلط ظالماً على ولي من أوليائه، فإذا أراد الله عقوبة الظالم سلطه على ولي من أوليائه؛ لأن له منزلة عند الله لم يبلغها بعمله، فيتسلط الظالم على ولي من أولياء الله، فيريد الله إظهار تلك العقوبة عليه؛ لأنه ( ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم )، وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه:61] فكيف إذا افترى على ولي من أولياء الله؟ ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) فالله أراد لمحمد صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة، ولهذا كانت أعظم منزلة هي ما بينها بقوله: ( ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تكون إلا لأحد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو ) وقد كانت له بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم الذي شج رأسه وجرح وجهه، وشقت شفته السفلى، وكسرت رباعيته، وانفك كتفه، وأصيبت وجنتاه لم يستطع أن ينجي نفسه من هذه المصائب كلها، ومع ذلك يدعى من دون الله، ولو كان فيه نفع لنفع نفسه؛ ولهذا فإنه ينبغي أن تتوجه النفوس إلى الله سبحانه وتعالى، فمن أراد نجاة نفسه فعليه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالألوهية والعبادة.
ولهذا ذكر المؤلف هذه القصة ليبين أن النبي مهما كانت منزلته عند الله فإنه لا يستطيع أن ينجي نفسه، ولهذا قال: ( كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فقال الله له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] ) أنت ليس لك إلا شيئاً واحداً وهو هداية الإرشاد، أما هداية التوفيق فإنها ليست لأحد؛ ولهذا محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ فيقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
وقفة مع قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء)
قوله: ( كيف يفلح قوم شجوا نبيهم -زاد
قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128].
قال ابن إسحاق: أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم ].
أشار ابن عطية رحمه الله في قول الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يئس من فلاح كفار قريش، فقال: ( كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ ) أعظم ذنب عند الله أن يؤذي أحد من عباده أعظم ولي من أوليائه، فكأن ذلك يأس منه صلى الله عليه وسلم، فيئس من هداية هؤلاء، فقال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم) يعني: لن يفلحوا، فأراد الله أن يبين عجز محمد صلى الله عليه وسلم فكيف بعجز من دونه؟ فقال: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، فأسلم صفوان ، وأسلم عكرمة ، وأسلم الحارث بن هشام ، وأسلم سهيل بن عمرو الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، هؤلاء حاربوا نبياً من أنبياء الله، وأعظم أوليائه، واليوم بعض طلاب العلم وبعض الدعاة إذا رأوا بعض المسئولين وقد فعل بعض المنكرات ووقع فيها يقولون: والله لا يفلح فلان، والله ما فيه خير، ويمحون عنه كل أنواع الخيرية فيه، فينبغي للإنسان أن يكون متعلقاً بالله سبحانه وتعالى، وما يدريه فلعله يكون من أعظم أنصار دينه وحزبه وأوليائه.
قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: ( اللهم العن فلاناً وفلاناً ) هذا بعد وقعة أحد.
قوله: (سمع الله لمن حمده) قال ابن القيم: عدي باللام لتضمينه معنى: استجاب، والحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ].
المؤلف شرح حديث: ( أن
وكأن في هذا إشارة إلى المخلوق أنك لو دعوت نبياً -فكيف بمحمد- فإنه لا ينفعك ولا يضرك، فاختصر الطريق وادع من خلقهم.
دفع الإشكال في قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء)
بعض العلماء يقول: إنه لا مانع أن تكون الآية نزلت مرتين وكانت الثانية من باب التذكير، وهذا أيضاً لا مانع منه والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ولهذا كان خبراً يتضمن الإنشاء بخلاف المدح فإنه خبر مجرد.
قوله: وفي رواية: (يدعو على
ذكر بعض العلماء منهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله وغفر الله لنا وله في حديث ابن عمر (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بعد ما رفع رأسه) قال: لأنه كسرت رباعيته وشج وجهه، والواقع خلاف ذلك، وذلك لأن كسر الرباعية وشج الوجه إنما كان في غزوة أحد، وغزوة أحد في السنة الثالثة، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم القنوت إنما كان في السنة السادسة، ولم يقنت صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، ولم يقنت مرتين، فدل ذلك على أن قوله: إنما سمعه يدعو بعد الركوع بسبب أنه شج رأسه، محل نظر، ولعله سبق قلم والله أعلم.
الأدلة على وجوب الالتجاء إلى الله وتعلق القلب به دون غيره
ولهذا جاء عند الترمذي حديث بسند قال عنه: حديث حسن، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين يقول: اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل ) هذه المعاني عظيمة جداً جداً، فكل من حال بينه وبين مخلوق في أي شيء فليقل هذا الدعاء فإنه نافع بإذن الله؛ لأنه افتقار إلى الله سبحانه وتعالى في حال العبد، وأنه لا أحد يحول ولا يصول إلا بإذنه سبحانه وتعالى، ( اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول وبك أقاتل ) والحديث وإن كان في سنده ضعف، لكن معناه صحيح.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]].
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، كيف عباد القبور يقولون: لا يوجد دليل يبين حرمة عبادة القبور؟ سبحان الله العظيم! لا توجد آية في توحيد الله في القرآن إلا وهي رد على عباد القبور، يقرءون القرآن لكنهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] عشيرة الرجل بنو أبيه أو قبيلته، و(الأقربين) أي الأقرب فالأقرب.
قوله: (اشتروا أنفسكم) أي: بتخليصها من عذاب الله بالطاعة؛ لأنها ثمن النجاة.
قوله: (لا أغني عنكم) أي: لا أدفع عنكم من عذاب الله شيئاً.
قوله: (يا عباس بن عبد المطلب!) يجوز في عباس الرفع والنصب، وينصب (ابن) لا غير، وكذا ما بعده، فإذا صرح صلى الله عليه وسلم أنه لا يغني عن ابنته وعمه وعمته شيئاً ].
هذا الكلام ذكره اختصاراً من كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن يقول: إنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـفاطمة : ( سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً ) ويقول لعمه العباس : ( يا
ابتلاء الله لعباده إذا ابتعدوا عنه
قال المؤلف رحمه الله: [ وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق، ثم عرف ما وقع في قلوب الضالين؛ تبين له غربة الدين، وفيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار؛ منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128].
السابعة: قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] فتاب عليهم فآمنوا ].
في وقت الحروب مع الأعداء أحياناً يتعلق المخلوق بنفسه، فيريد الله سبحانه وتعالى أن يبين أن هذا المخلوق ولو كان طائعاً لله سبحانه وتعالى فإنه لا ينفع نفسه، فيبتلى بقتل أو بجرح ليكون الدين كله لله، فإن الأمة أحياناً تبتلى بالصالحين بأن يعذبوا أو يقتلوا لا لشيء إلا لإرادته النافذة وحكمته العظيمة؛ أن يبين أن الأمة لم تصلح بعد لأن تقود العالم فثمة أمور بحاجة إليها.
ولهذا يا ليت أن يفقه كثير من شبابنا أن أعظم جهاد هو جهاد العلم؛ بأن يبين للناس الضلال الذي وقعوا فيه، وأن يبين للناس الخلل الذي وقعوا فيه، فالإنسان يظن أنه حينما يقرأ أو يسمع بعض الذين يعبدون من دون الله في عهد الجاهلية يظن أنه لا يوجد هذا، وهو الآن موجود في أقرب دولة عندنا، يأتون إلى قبر ما يسمى بقبر الحسين الذي لا علاقة له به، ولم يأت إلى مصر أصلاً، وكيف جاء قبر الحسين؟ بل قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وقد أخبرني بعض العلماء الثقات أن هذا الذي يعبد من دون الله ليس هو قبر الحسين!! ولكنه قبر نصراني، فهذا قبر نصراني وليس بمسلم، وليس هو قبر الحسين ولا قبر ولي من أولياء الله غير الحسين، ولا قبر رجل مسلم، بل هو قبر نصراني ومع ذلك تجد بعضهم يدخل المسجد على مرفقيه والعياذ بالله يحبو حبواً، وهو نوع من التذلل للمخلوق، الله المستعان! ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( فإنها لا تزيدك إلا وهناً )، ولذا لا تجد مخلوقاً يتذلل لمخلوق مثلما يتذلل للخالق إلا أن الله يفضحه بيد من تذلل له، ولهذا تجده يعذب بسبب هذا الذي تذلل له؛ لأنه جعله فوق قدرته وطاقته، نسأل الله التوفيق والسلامة.
قال المؤلف رحمه الله: [ الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم ].
يعني: جواز ذلك.
المؤلف رحمه الله سوف يذكر أدلة تبين على أن أفضل الخلق كلهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هو نفسه إذا دعا ربه لنفسه فإن الله لا يستجيب دعاءه؛ لقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فإذا كان أفضل الخلق لو أراد نصرة نفسه لا يستطيع، فكيف ينصر غيره؟ وكيف بمن هو دونه من نبي أو ولي أو ملك أو حجر أو شجر؟
وهذا من أعظم الأدلة والبراهين الدالة على أن كل مخلوق إذا وجه إرادته لمخلوق فإنه يخذله، ولهذا ذكر المؤلف من الآيات والأحاديث التي تدل على أن أفضل الخلق من الملائكة والأنبياء كلهم هو محمد صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن ينصر نفسه، فكيف ينصر غيره؟ ولم يستطع أن يخلق نفسه فكيف يخلق غيره؟ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].
قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13] الآية، أخبر تعالى أن المدعوين من دون الله لا يملكون من قطمير، وهو اللفافة التي على ظهر النواة، أي لا يملكون قليلاً ولا كثيراً، وأخبر أنهم لا يسمعون دعاء الداعي وأنهم لو سمعوه ما أجابوه، وأنهم يوم القيامة يجحدون عبادتهم وإياهم، وهذه الآية نص في أن دعاء غير الله شرك لقوله: يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
قال قتادة: يعني: نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة ].
قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13] يعني: كل من يدعى من دون الله من نبي أو ملك أو ولي أو حجر أو شجر, كل هؤلاء لا يستطيعون أن يخلقوا أو أن يملكوا من دون إرادة الله وقدرته ومشيئته اللفافة التي تكون على النواة فوق الفصام الذي يكون في التمر، هذه اللفافة البسيطة الصغيرة لا يستطيعون أن يملكوها، ولا يستطيعون أن يحصلوا عليها إلا بإرادة الله.
وأقسم بالله لو أننا حققنا التوحيد حق الأمر والله لا نخاف أحداً، ولا ننتظر من أحد شيئاً، لا نفعاً ولا ضراً ولا نصرة ولا شيئاً، ولهذا فإن إمام الحنيفية إبراهيم حينما كان في السماء موجه إلى النار يقول له جبرائيل: (ألك بي حاجة؟) الواحد في مثل هذه الحالة يتمنى شيئاً يتمسك فيه، يقول: ( أما منك فلا، وأما من الله فنعم )، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا [الأنبياء:69]؛ لأنه علق مشيئته بالله، ولا تجد أحداً يتضرع إلى الله فيخذله أبداً، والتضرع له معنى غير معنى الدعاء، لا تجد أحداً يلقي حاجته وفاقته وذله وانكساره بين يدي الله فيخذله، هذا لا يمكن، ولهذا زار طاوس رضي الله عنه مريضاً فقال: يا طاوس! ادع الله لي، قال: لو كنت مضطراً لاستجاب الله دعاءك، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، فهذه الآية تدل على أنك لست بحاجة إلى أن تجعل بينك وبين الله وسائط.
ثم أورد المؤلف قول الله تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14] يعني: كأن الله يريد أن يقطع عنهم كل احتمال، فيقول الله: إِنْ تَدْعُوهُمْ [فاطر:14] هؤلاء الأموات الذين في قبورهم فإنهم لا يسمعون دعاءكم، فالله أعطاهم حكماً؛ أنهم لا يسمعون دعاءكم، وَلَوْ سَمِعُوا [فاطر:14] هذا من باب قطع الشك الآخر، فإنه يمكن أن يأتيهم أحد فيقول: أنا رأيت في الرؤيا أن النبي يقول لي: سمعت نجواك، أو سمعت دعاءك، ممكن بعضهم يقول: لا، هو يسمع؛ لأننا عندنا أحاديث كذا وكذا وهي أحاديث ضعيفة، فأراد الله أن يقطع عنهم حتى هذا الاحتمال فيقول: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14] حتى لو سمعوا فلن يستجيبوا لكم.
إذاً: إذا كان هؤلاء لو دعوتموهم لا يسمعون، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، إذاً ادع الله الخالق الواحد الأحد، ادع الصمد ادع المتفرد، ادع القوة، ادع الإرادة الكاملة من الله سبحانه وتعالى.
إن قوله تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [فاطر:14] من أعظم الأدلة التي استدل بها بعض العلماء وهو الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على أن دعاء الحي للميت بأن يقول: يا محمد! ادع الله أن يغفر لي، هذا غير أن يقول: يا محمد! اغفر لي، يا محمد! اشفني، يا محمد! عاف مريضي، يا محمد! انجني، والعياذ بالله، فهذا شرك ولا إشكال.
لكن المسألة الأخرى أن يدعو مخلوقاً بأن يشفع له بين يدي الله، فهذا مختلف، لأنه يطلب من المخلوق الشفاعة، الآن عندما يقول: يا محمد! اشفني، يا محمد! افعل لي كذا، تقول: لماذا تدعو هذا المخلوق وهو لا يفعل شيئاً؟ يقول: لأن له عند الله منزلة، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، هذا شرك أكبر ولا إشكال فيه، وهذا هو القسم الأول.
القسم الثاني: أن يدعو المخلوق بأن يقبل الله دعاءه، يا محمد! ادع الله لي أن يقبل دعائي، يا محمد! ادع الله لي أن يعافيني، إذاً هو يعلم أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، ولكنه يدعو هذا المخلوق بأن يشفع بين يدي الله، هل هذا شرك أكبر أم لا؟
استدل الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بهذه الآية على أن دعاء الحي للميت بأن يشفع له عند الله، وليس هو الذي ينفع أو يضر أن ذلك أيضاً شرك أكبر.
وأقول قبل ذكر الخلاف: أجمع العلماء على أن هذا بدعة منكرة، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية في رده على البكري، وهل يكون شركاً أكبر أم لا؟
أكثر شراح كتاب التوحيد على هذا وهو أنه شرك أكبر، واستدلوا بهذه الآية وهي قوله: إِنْ تَدْعُوهُمْ [فاطر:14] وهذا الدعاء لا بد أن يكون دعاء، لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14] فسمى الله سبحانه وتعالى دعاء الحي للميت مطلقاً سواء قصد به أن ينفعه أو يضره، أو قصد به غير ذلك من أن يشفع بين يدي الله كل ذلك شرك؛ لقوله: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
والقول الثاني في المسألة: اختاره الألوسي والشيخ بكر أبو زيد وبعض العلماء: أن دعاء الحي للميت بأن يشفع له عند الله أن ذلك من الشرك، لكنه ليس من الشرك المخرج من الملة؛ لأنه تعلق بسبب لم يجعله الشارع سبباً، وكل من جعل سبباً ولم يجعله الشارع فهو شرك أصغر، فهو لم يجعل هذا شافياً ولا ضاراً، ولكنه جعله سبباً في قبول الله دعاء وشفاعة هذا، والمسألة محتملة.
لكن الذي ينبغي لطالب العلم إذا ذكر هذه المسألة ألا يذكر هذا الخلاف عند العوام؛ لأنه ليس بحاجة إلى ذلك الخلاف، ولا يعلق إذا وقع أحد بمثل ذلك، فلا يطلق الكفر عليه بعينه حتى يقيم عليه الحجة وتظهر المحجة، وهذه الآية أتى بها المؤلف ليبين أن هذا المخلوق أياً كانت منزلته من نبي مرسل أو ملك مقرب إذا كان لا يسمع دعاء الحي ولو سمع فإنه لا يستجيب له، فكيف يصلح أن يعبد من دون الله؟ ثم إن هؤلاء سوف يتبرءون من دعائكم ومن عبادتكم لهم من دون الله وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14]، فكانت هذه هي مناسبة هذه الآية في هذا الباب، ثم ذكر المؤلف الحديث.