كتاب الصلاة [7]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [ الفصل الثاني من الباب الثاني من الجملة الثانية:

اختلفوا في الإقامة في موضعين: في حكمها، وفي صفتها.

أما حكمها فإنها عند فقهاء الأمصار في حق الأعيان والجماعات سنة مؤكدة أكثر من الأذان، وهي عند أهل الظاهر فرض، ولا أدري هل هي فرض عندهم على الإطلاق أو فرض من فروض الصلاة؟ والفرق بينهما ] أي الفرق بين فرض الإقامة على الإطلاق وكونها فرضاً من فروض الصلاة. [ أن على القول الأول لا تبطل الصلاة بتركها]. إذا قلنا: فرض على الإطلاق.

[وعلى الثاني ]: أنها فرض من فروض الصلاة [ تبطل ] الصلاة بتركها، وقال ابن كنانة من أصحاب مالك : من تركها عمداً بطلت صلاته ] وبه قال ابن حزم .

[ وسبب هذا الاختلاف اختلافهم هل هي من الأفعال التي وردت بياناً لمجمل الأمر بالصلاة، فيحمل على الوجوب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( صلوا كما رأيتموني أصلي)].

فإذا كان بياناً لهذا الامر فتحمل على الوجوب؛ لأنا ذكرنا في المقدمة: أن الفعل المداوم عليه إذا كان بياناً لما أجمل فهو يأخذ حكمه, وهنا: (صلوا) أمر فيأخذ حكمه في الوجوب.

[ أم هي من الأفعال التي تحمل على الندب؟ وظاهر حديث مالك بن الحويرث يوجب كونها فرضاً إما في الجماعة]. ولفظ حديث مالك بن الحويرث في الأذان: ( فليؤذن لكما أحدكما وليقم ).

[وإما على المنفرد]. أما المنفرد فبدلالة حديث المسيء صلاته.

[ وأما صفة الإقامة: فإنها عند مالك و الشافعي : أما التكبير الذي في أولها فمثنى، وأما ما بعد ذلك فمرة واحدة إلا قوله: قد قامت الصلاة، فإنها عند مالك مرة واحدة، وعند الشافعي مرتين.

وأما الحنفية فإن الإقامة عندهم مثنى مثنى، وخير أحمد بن حنبل بين الإفراد والتثنية على رأيه في التخيير في النداء ].

والراجح أن هذا من العمل المخير.

[ وسبب الاختلاف: تعارض حديث أنس في هذا المعنى وحديث ابن أبي ليلى المتقدم، وذلك أن في حديث أنس الثابت: ( أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويفرد الإقامة إلا: قد قامت الصلاة ).

وفي حديث ابن أبي ليلى أنه عليه الصلاة والسلام: ( أمر بلالاً فأذن مثنى وأقام مثنى) ].

وحديث ابن أبي ليلى صحيح بشواهده، وقد تقدم في صفة الأذان.

[والجمهور على أنه ليس على النساء أذان ولا إقامة, وقال مالك : إن أقمن فحسن، وقال الشافعي : إن أذن وأقمن فحسن، وقال إسحاق : إن عليهن الأذان والإقامة.

وروي عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم فيما ذكره ابن المنذر . والخلاف آيل ..]. يعني: يرجع. [ إلى هل تؤم المرأة أو لا تؤم؟ وقيل: الأصل أنها في معنى الرجل في كل عبادة ].

وهذا هو الراجح: أنها تكون في كل عبادة تفعلها مثل الرجل.

[إلا أن يقوم الدليل على تخصيصها. أم في بعضها هي كذلك وفي بعضها يطلب الدليل؟ ].

والراجح أن المرأة كالرجل في كل صلاتها إلا ما ورد الدليل فيه بالتفريق, فيصار إليه؛ كالتسبيح والتصفيق, وإلا فلا، وما ثبت من التفريق المنبني على الرأي المجرد فلا يقبل, وقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك في التعليق على القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الثاني (263، 264) الذي رجحنا فيه أن الأذان واجب والإقامة واجبة على الرجال والنساء.

[ الباب الثالث: من الجملة الثانية في القبلة.

اتفق المسلمون على أن التوجه نحو البيت شرط من شروط صحة الصلاة؛ لقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:149], أما إذا أبصر البيت، فالفرض عندهم هو التوجه إلى عين البيت، ولا خلاف في ذلك.

وأما إذا غابت الكعبة عن الأبصار فاختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما: هل الفرض هو العين أو الجهة؟ ].

يعني: أنك تجتهد في إصابة العين أو في إصابة الجهة.

[والثاني: هل فرضه الإصابة أو الاجتهاد ].

فإذا كان الفرض الإصابة فعند الخطأ في القبلة تبطل صلاتك, وإذا كان الفرض الاجتهاد فعند الخطأ في القبلة لا تبطل صلاتك.

[ أعني: إصابة الجهة أو العين عند من أوجب العين؟

فذهب قوم إلى أن الفرض هو العين ].

وهم الشافعية, يقولون: يجب أن يجتهد لإصابة العين, وقال غيرهم: يجب أن يجتهد لإصابة الجهة.

[وذهب آخرون إلى أنه الجهة ]. يعني: الفرض في حق البعيد الجهة.

[ والسبب في اختلافهم: هل في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:144]، محذوف حتى يكون تقديره: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر أي: جهة المسجد الحرام أم ليس هاهنا محذوف أصلاً، وأن الكلام على حقيقته؟ ]. و شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:149], يعني: عين المسجد الحرام.

فمن قدر هنالك محذوفاً قال: الفرض الجهة، ومن لم يقدر هنالك محذوفاً قال: الفرض العين ]. كما قال الشافعي .

[والواجب حمل الكلام على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز ]. ولكن هنا الأقرب أنه يدل على المجاز كما سيأتي.

[ وقد يقال: إن الدليل على تقدير هذا المحذوف قوله عليه الصلاة والسلام: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) إذا توجه نحو البيت. قالوا: واتفاق المسلمين على الصف الطويل خارج الكعبة يدل على أن الفرض ليس هو العين ].

أما الصف الطويل فإن الإنسان كل ما بعد تسهل الوجه بأدنى شيء.

[ أعني: إذا لم تكن الكعبة مبصرة.

والذي أقوله: إنه لو كان واجباً قصد العين لكان حرجاً ].

وهو كذلك لأن الأحكام الشرعية تثبت بمقتضى الفطرة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:144], فالفطرة تقتضي أن المطلوب من البعيد الجهة؛ لأن العين لا يتوصل إليها عامة المسلمين المخاطبين بالآية.

[وقد قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78], فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك، فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد ].

كالذي يجتهد بالريح والشمس والجبال والنجوم, لا يدرك بها عين القبلة.

[ ونحن لم نكلف الاجتهاد بطرق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها ].

تكلمت على الربع المجيب وقلت: هي آلة تعرف بها أوقات الصلاة وتعرف بها قبلة الصلاة, ويطلب به عين الكعبة, إذا أردت أن تعرف عين الكعبة بالاجتهاد فعليك أن تأخذ الربع المجيب؛ لتعرف عرض هذه البلاد وطولها, وهناك طرق مشروحة في الربع المجيب تعرف به كيف تستقبل عين الكعبة, وهناك بلد يقع على الكرة الأرضية يستقبل عين الكعبة من الجهات الأربع, وهو المركز الذي يكون في الكرة الأرضية الكعبة تحت قدميه, والكعبة الأبعاد فيها كلها مائة وثمانون.

فهو يراها كأنها تحت قدميه، ففي هذه الحالة يجيء الربع المجيب فهذا يعرف يقول: هذا يستقبل, وهو يقول في هذه الموضع في جهة أمريكا ما أدري أين هذا الموضع, هذا لو كان إنسان يستقبل الجهات الأربع يكون مستقبلاً لعين الكعبة. أنا معي مسألة بسيطة يستطيع يشترك فيها الناس الآن كلهم، ويعرفون أنهم مستقبلون عين الكعبة أو غير مستقبلين, كل إنسان وهو يأخذ الراديو، ولما يؤذن الظهر يأخذ الظل الشاخص ويستقبل الظل الشاخص، فإنه يكون مستقبلاً لعين الكعبة.

أليس عندنا يؤذن في مكة بعد الزوال بخمس دقائق أو عشر أو كذا, هذا يدل على أننا ننحرف إلى جهة الغرب شيئاً قليلاً, فنستقبل عين الكعبة, أنت عندما تسمع الأذان شوف الظل، فإذا كان الظل كذا فأنت اعكسه كذا, إذا كان ظلك هنا استقبل عين الكعبة، ولكن إذا كان ظلك قد مال, أنت بميله اعكسه واستقبل عين الكعبة.

وهنا الآن البوصلة هذه تعرف بها الدرجة وعين الكعبة, تستقبل عين الكعبة, وقد أخبرني بعض الناس: أن هناك جهازاً في السعودية هكذا تعمله حتى عندما تستقبل عين الكعبة, يقول لك: أنت الآن مستقبل عين الكعبة، يكلمك كلاماً, قالوا: إنه يباع بأربعة آلاف ريال سعودي.

قلت: لكن إذا توصل إليه بطريق الهندسة فلا يعدل عنه إذا كان بغير تعب، مثلاً عندك سجادة فيها كتاب البوصلة, يمكنك أن تضعه بغير تعب ولا اجتهاد فلا تعدل عنه، أما من يقول بالجهة فيجيز العدول عنه.

ولا ينبغي بناء المساجد اليوم بطريق الجهات؛ لما يحدث ذلك من التشويش والخلاف بين المسلمين, بل يطلب اليوم في بناء المساجد أن توضع قبلتها بالطرق الهندسية؛ لأنه أصبح من المتوفر والمتيسر، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم لما أمر حافر القبر: أمره أن يحسنه, ثم قال: ( أما إنه لا ينفع الميت إلا أن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه), ومن باب أولى إتقان بناء المساجد, بوضع قبلتها بالطرق الهندسية الدالة على القبلة, والمتيسرة جداً ولا تكلف غير شراء البوصلة مع دليلها, ولهذا نقول: على إنه يجب على المهندس المعماري ألا يضع المسجد إلا على بوصلة, كما أنه كان يجب عليه في الماضي أن يضعه على الشمس أو على القمر؛ لتحديد الجهة.

الاجتهاد في القبلة.

[ وأما المسألة الثانية: فهي هل فرض المجتهد في القبلة الإصابة، أو الاجتهاد فقط؟ ].

يعني: هل يشترط أن يصيب عين القبلة أو أن يجتهد في الإصابة.

[ حتى يكون إذا قلنا: إن فرضه الإصابة، متى تبين له أنه أخطأ أعاد الصلاة، ومتى قلنا: إن فرضه الاجتهاد لم يجب أن يعيد إذا تبين له الخطأ، وقد كان صلى قبل اجتهاده.

أما الشافعي فزعم أن فرضه الإصابة ] وعلى هذا يجب عند الشافعية الإعادة.

[ وأنه إذا تبين له أنه أخطأ أعاد أبداً.

وقال قوم: لا يعيد، وقد مضت صلاته ما لم يتعمد، أو صلى بغير اجتهاد وبه قال مالك و أبو حنيفة ]. و أحمد [ إلا أن مالكاً استحب الإعادة في الوقت ]. لكن المقرر في مذهب الشافعي : إن عدل باجتهاد فصلاته صحيحة, وإن كان استبان الخطأ فيصلي, وهكذا حتى لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات بالاجتهاد فصلاته صحيحة.

سبب الخلاف في الاجتهاد في القبلة

قال رحمه الله: [ وسبب الخلاف في ذلك معارضة الأثر للقياس, مع الاختلاف أيضاً في تصحيح الأثر الوارد في ذلك]. هل هو صحيح أو لا؟

[أما القياس فهو تشبيه الجهة بالوقت ].

فإنهم أجمعوا على أنه لو صلى قبل الوقت, فإن صلاته باطلة.

[(أعني: بوقت الصلاة) وذلك أنهم أجمعوا على أن الفرض فيه هو الإصابة، وأنه إن انكشف للمكلف أنه صلى قبل الوقت أعاد أبداً إلا خلافاً شاذاً في ذلك عن ابن عباس وعن الشعبي ، وما روي عن مالك من أن المسافر إذا جهل فصلى العشاء قبل غيبوبة الشفق، ثم انكشف له أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق أنه قد مضت صلاته، ووجه الشبه بينهما أن هذا ميقات وقت، وهذا ميقات جهة.

وأما الأثر، فحديث عامر بن ربيعة ]. وهو حديث حسن. [ قال: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء في سفر، فخفيت علينا القبلة، فصلى كل واحد منا إلى وجه وعلمنا، فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مضت صلاتكم ونزلت: وَللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ[البقرة:115] ), وعلى هذا فتكون هذه الآية محكمة ].

وليست منسوخة.

[ وتكون فيمن صلى فانكشف له أنه صلى لغير القبلة، والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:149]].

ويجوز أن تكون منسوخة في حق غير المجتهد, ومحكمة في حالة الاجتهاد.

[ فمن لم يصح عنده هذا الأثر قاس ميقات الجهة على ميقات الزمان، ومن ذهب مذهب الأثر لم تبطل صلاته].

أقول: الحديث حسن, وهو مقدم على القياس, فالراجح ما قاله الأئمة الثلاثة.

قال رحمه الله: [ وسبب الخلاف في ذلك معارضة الأثر للقياس, مع الاختلاف أيضاً في تصحيح الأثر الوارد في ذلك]. هل هو صحيح أو لا؟

[أما القياس فهو تشبيه الجهة بالوقت ].

فإنهم أجمعوا على أنه لو صلى قبل الوقت, فإن صلاته باطلة.

[(أعني: بوقت الصلاة) وذلك أنهم أجمعوا على أن الفرض فيه هو الإصابة، وأنه إن انكشف للمكلف أنه صلى قبل الوقت أعاد أبداً إلا خلافاً شاذاً في ذلك عن ابن عباس وعن الشعبي ، وما روي عن مالك من أن المسافر إذا جهل فصلى العشاء قبل غيبوبة الشفق، ثم انكشف له أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق أنه قد مضت صلاته، ووجه الشبه بينهما أن هذا ميقات وقت، وهذا ميقات جهة.

وأما الأثر، فحديث عامر بن ربيعة ]. وهو حديث حسن. [ قال: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء في سفر، فخفيت علينا القبلة، فصلى كل واحد منا إلى وجه وعلمنا، فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مضت صلاتكم ونزلت: وَللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ[البقرة:115] ), وعلى هذا فتكون هذه الآية محكمة ].

وليست منسوخة.

[ وتكون فيمن صلى فانكشف له أنه صلى لغير القبلة، والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:149]].

ويجوز أن تكون منسوخة في حق غير المجتهد, ومحكمة في حالة الاجتهاد.

[ فمن لم يصح عنده هذا الأثر قاس ميقات الجهة على ميقات الزمان، ومن ذهب مذهب الأثر لم تبطل صلاته].

أقول: الحديث حسن, وهو مقدم على القياس, فالراجح ما قاله الأئمة الثلاثة.