كتاب الطهارة [11]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

أخذنا سابقاً المسألة الرابعة: في حكم سؤر الآدمي وبهيمة الأنعام وغيرها من الحيوانات.

وذكرنا في ذلك أقوال العلماء وهي خمسة أقوال، وأسباب الخلاف وأنها ثلاثة أسباب: وهي القياس ومعارضته للقرآن ومعارضته لظاهر الأحاديث، ومعارضة الأحاديث بعضها بعضاً، وذكرنا ما استدل به الإمام مالك ، وهو العمل بالقياس، ورأى أن الأحاديث الواردة في ذلك وأصحها حديث: ولوغ الكلب ومحمولة على التعبد، وقال: إن الأسآر كلها طاهرة، وذكرنا مذهب الشافعي وأنه استثنى الكلب والخنزير؛ لأن الكلب ورد فيه الحديث الصحيح، والخنزير وردت فيه الآية، فاستثنى من القياس الكلب والخنزير.

وسنأخذ فيما يأتي مذهب الإمام أبي حنيفة .

مذهب أبي حنيفة في الأسآر

قال المصنف رحمه الله: [وأما أبو حنيفة فإنه زعم أن المفهوم من تلك الآثار الواردة بنجاسة سؤر السباع والهر والكلب هو من قبل تحريم لحومها وأن هذا من باب الخاص أريد به العام فقال: الأسآر الواردة في ذلك تابعة للحوم الحيوان].

بمعنى أنه قد وردت أحاديث دالة على نجاسة سؤر السباع والهر والكلب، وإن كان ما ورد في الهر ضعيفاً، فهو يرى أن السبب في ذلك: أن هذه الثلاثة الأشياء التي ذكرت في الحديث لحومها محرمة الأكل؛ وعلى هذا فهو يقول: إنها من باب الخاص أريد به العام، فالخاص ذكر السباع والهر والكلب، ولكن أريد به العام وهو كل ما حرم أكل لحمه؛ فسؤره حرام، أما ما كان أكل لحمه حلالاً فسؤره طاهر.

[ وأما بعض الناس فاستثنى من ذلك الكلب والهر والسباع على ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك ] أي استثنى ما ورد في الحديث، وقال: كل ما لم يرد به حديث فهو طاهر، فورد الحديث في السباع، وورد في الهر ولكنه ضعيف، وورد في الكلب وهو حديث صحيح، فاستثنى هذه الثلاثة الأشياء، فهو من باب الخاص أريد به الخاص.

قال: [ وأما بعضهم فحكم بطهارة سؤر الكلب والهر، فاستثنى من ذلك السباع فقط ] يعني: الكلب سؤره طاهر، والهر سؤره طاهر، لكن السباع سؤرها غير طاهر.

علة من لم يحرم سؤر الكلب والهر

[ أما سؤر الكلب؛ فللعدد المشترط في غسله ] يعني: أنه استثنى سؤر الكلب لأشياء:

أولًا: أنه ورد بالعدد في غسله، والعدد هذا لا يعقل، فهو عبادة.

[ولمعارضة ظاهر الكتاب له] أي قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ[المائدة:4]، فظاهرها يدل على أن الكلب طاهر؛ فهو أخذ بظاهر الآية وهي معارضة لحديث الولوغ.

[ولمعارضة حديث أبي قتادة له] وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( إنما هي من الطوافين عليكم )، لما توضأ من إناء شربت منه الهر.

[ إذ علل عدم نجاسة الهرة من قبل أنها من الطوافين، والكلب طواف ].

فمفهوم هذا الحديث أن الكلب من الطوافين علينا، إذاً الهر والكلب طاهر.

ويؤخذ من مفهومه: أن السباع ليست من الطوافات علينا، فسؤرها نجس، أي: السباع المتوحشة.

قال: [ وأما الهرة فمصيراً إلى ترجيح حديث أبي قتادة على حديث قرة عن ابن سيرين .. ].

حديث أبي قتادة يحكم بطهارة سؤر الهرة وهو صحيح، أما حديث قرة فإنه يقول: إنها نجس، لكنه ضعيف فنرجح حديث أبي قتادة .

وأما قوله بنجاسة سؤر السباع فلترجيح حديث ابن عمر ، وهو حديث القلتين، لما سئل عليه الصلاة والسلام عن الماء وما يرده من السباع؟ فقال: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وهذا الحديث صحيح، ويفهم منه أن السباع نجسة، وأنه لا ينجس الماء لأنه كثير.

وأما الحديث الذي عارضه، وهو الحديث المروي عن عمر وعن ابن عمر مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعن عمر موقوفاً عليه: ( نرد على السباع وترد علينا، فلها ما حملت في بطونها، وما بقي فهو شراب طهور )، فهذا الحديث المرفوع، والأثر الموقوف كلها ضعيفة.

إذاً: يبقى حديث القلتين هو صحيح؛ فلهذا أخذ صاحب هذا القول به، وقال: إن الذي يستثنى منها هو سؤر السباع.

وهذ القول هو مذهب ابن القاسم من المالكية.

علة أبي حنيفة في القول بنجاسة الكلب وعدم اشتراطه لعدد مرات الغسل

وأما أبو حنيفة فقد مضى الكلام عليه أنه قال: تبعاً للحوم.

وقال في الكلب: بما أنه لا يؤكل لحمه فكذلك لا يجوز سؤره، ولم ير العدد في غسله شرطاً، فله أن يغسله مرتين أو ثلاثًا، كما تغسل سائر النجاسات، أما غسله سبعاً إحداهن بالتراب؛ فهذا ليس بشرط عنده.

فـأبو حنيفة أخذ جزءاً من الحديث وترك الآخر، أخذ القول بالنجاسة وترك القول بالعدد، وسبب ذلك أن الحديث أوله لا يخالف أصول الحنفية، وهو أنه نجس، ولكن آخره يخالف الأصول الموضوعة عند الحنفية وهو أن النجاسة لا يشترط العدد لها، وإنما الإزالة.

ومن قواعد الحنفية أن الحديث الصحيح الذي روي بالآحاد إذا خالف قواعد أصولية مستقرأة من أحاديث عامة كثيرة، فإنه لا يقبل هذا الحديث الذي تفرد بأمر واحد عن بقية الأحاديث، كما قالوا في حديث المصراة أنه يضمن اللبن بمثله وهذا هو الأصل، وقوله في الحديث: (يرده وصاعاً من تمر) كلام خالف القواعد؛ فلا يقبل هذا الحديث، وإن كان صحيحاً!

فقالوا: حديث الولوغ حديث صحيح متفق عليه، ولكنهم ردوه وقدموا عليه القياس، وبعد ذلك عضدوا هذا القياس بأن أبا هريرة هو الذي روى هذا الحديث، ولكنه لما روى هذا الحديث كان يفتي بالغسل ثلاثاً.

فإذاً هل نأخذ بروايته وهو الغسل سبعاً أو نأخذ بفتواه؟

فقالوا: نأخذ بفتواه ولا نأخذ بروايته؛ لأنا نحسن الظن بـأبي هريرة ! وما أفتى بالثلاث إلا وعنده علم من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالغسل ثلاثاً، وأن السبع منسوخة.

أما لو قلنا: إن أبا هريرة لم يكن عنده علم بالنسخ وقد رأى الإفتاء بعد علمه بالحديث، وخالف الحديث؛ فهذا جرح لـأبي هريرة ، وإذا جرحنا أبا هريرة ؛ لأنه خالف ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا ينتج منه رد روايته في السبع، فنحن نحسن الظن بـأبي هريرة ونقول: إن عنده ما اعتمد عليه من نسخ هذا الحديث، ونرد هذا الحديث ونقول: منسوخ به الظن.. هذا ما قاله الإمام الطحاوي من الحنفية توجيهاً لرأي الحنفية.

رد الجمهور على الإمام الطحاوي في توجهه لرأي الحنفية

فأجابوا عليه بثلاثة ردود: الأول: أن القواعد الأصولية المقرر فيها أنه إذا تعارضت رواية الصحابي مع فتواه، فإنا نقدم روايته على فتواه؛ لأنا مأمورين باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أن من المعروف أن الإنسان الأصل فيه النسيان، فمن المحتمل أن أبا هريرة بعد ما روى حديث السبع نسي وأفتى بالاجتهاد، ولا نقول: إنه أحفظ من عمر ، فـعمر قد كانت له قصة مع عمار ، وهي أن عماراً تيميم وتمرغ في التراب، فأفتاه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه إذا أجنب ولم يجد ماءً أن يضرب بيديه الأرض ويمسح وجهه ويديه، فأنكر عمر ، وقال: لا أعلم بهذا، فقال عمار : إن شئت أن أحدث وإلا تركت. فـعمر قد نسي هذه القصة فلا مانع أن يكون أبا هريرة نسي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: أنه من المعروف أن أبا هريرة كان مشغوفًا بحب الحديث، فكان يتلقى من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ويتلقى من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته في ذلك الوقت أن يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة كلهم عدول، فمن المحتمل أن أبا هريرة أخذ هذا الحكم أخيراً عن بعض الصحابة، فكان أولاً يفتي بالثلاث، ثم إنه لما أخذ حديث السبع عن بعض الصحابة وأسندها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عند ذلك رجع عن فتواه، وذكر ابن المنذر أنه رجع عن الفتوى ثلاثاً وأفتى بالسبع.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن الفتوى الأولى كانت صحيحة، صححها ابن دقيق العيد و الزيلعي ، ولكن الحافظ ابن حجر يقول في فتح الباري: إن فتوى السبع أصح من فتوى الثلاث؛ لأن الرجال الذين رووا السبع أقوى في الحفظ من الرجال الذين رووا الثلاث.

وهنا نقول: فتوى أبي هريرة خالفت روايته، وفتوى أصح من الأولى وافقت روايته، فنأخذ بروايته وفتواه.

وعضد ذلك المصنف بأنه مذهب أبي هريرة الذي روى الحديث.

إذاً ما جاء عن أبي هريرة أنه أفتى بالغسل ثلاثاً، فقد صححه ابن دقيق العيد في الإمام، و الزيلعي في نصب الراية.

وقال الطحاوي : فثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن بـأبي هريرة ، ولا يجوز له أن يترك ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا سقطت عدالته ولم تقبل روايته.

ومعناه: أنا أحسنا به الظن وقلنا: خالف الحديث.

ورد بأن المقرر في الأصول أن العمل بما روى الراوي، لا بما أفتى، فلا نقول: نسيء الظن به، ونقول: لا نقبل فتواه إساءة للظن به، بل نقول: إنه من المحتمل في حقه النسيان، كما نسي عمر حديث التيمم مع عمار ، وكما أنه من المحتمل أنه أفتى قبل العلم بالحديث، لاسيما وأن أبا هريرة له عدة أحاديث تلقاها من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن المنذر أن أبا هريرة أفتى بوجوب السبع موافقاً لروايته، وقال الحافظ في الفتح: ورواية من روى عنه موافقة فتواه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد والنظر.

يعني: أن إسنادها قوي، والنظر معناه: كونه يوافق روايته، هذا هو الذي يقبله النظر.

أما ما يخالفه فلا يقبل، إذاً فالرواية بأنه أفتى بالسبع أرجح من حيث الإسناد والنظر.

أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة .

وهذا من أصح الأسانيد.

وأما الرواية المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير.

إذاً فقد صح أن أبا هريرة أفتى بالغسل سبعاً.

يقول المصنف: بعد أن أورد الأحاديث، وأورد أوجه الجمع بينها، وأوجه الاستدلال في كل قول.

قال: [ فهذه هي الأشياء التي حركت الفقهاء إلى هذا الاختلاف الكثير في هذه المسألة، وقادتهم إلى الافتراق فيها ] يعني: أن هذا الافتراق ليس عن هوى، بل هو عن اجتهاد وبذل الجهد، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر.

[ والمسألة اجتهادية محضة يعسر أن يوجد فيها ترجيح ].

الراجح فيما يستثنى من طهارة الأسآر

قال المصنف رحمه الله: [ ولعل الأرجح أن يستثنى من طهارة أسآر الحيوان: الكلب ] فالقاعدة تقول: إن سؤر الحيوان كله طاهر ويستثنى منها: ثلاثة أشياء وردت فيها آيات وأحاديث صحيحة.

فيستثنى منها الكلب؛ لأنه ورد فيه حديث صحيح، وهو حديث الولوغ.

[والخنزير والمشرك؛ لصحة الآثار الواردة في الكلب، ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع في القول بنجاسة عين الخنزير والمشرك من القياس وكذلك ظاهر الحديث ] يعني فنقدم القرآن على القياس، والقرآن قد نص على أن المشرك نجس، والخنزير نجس، والحديث الصحيح ظاهره على أن لعاب الكلب نجس.

[وعليه أكثر الفقهاء، أعني: على القول بنجاسة سؤر الكلب؛ فإن الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب مخيل ومناسب..] مظنون بنجاسته [في الشرع لنجاسة الماء الذي ولغ فيه أعني: أن المفهوم بالعادة في الشرع من الأمر بإراقة الشيء وغسل الإناء منه هو لنجاسة الشيء، وما اعترضوا به من أنه لو كان ذلك لنجاسة الإناء لما اشترط فيه العدد فغير نكير أن يكون الشرع يخص نجاسة دون نجاسة بحكم دون حكم تغليظًا لها].

أي كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يرش من بول الصبي ويغسل من بول الجارية ).

ولهذا فالشافعية يقولون: النجاسة ثلاثة أقسام: القسم الأول: مغلظة، وهي نجاسة الكلب والخنزير؛ فتغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.

والقسم الثاني: مخففة، وهي بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، وهو في الحولين فيكتفى بالرش عليه كما في الحديث.

والقسم الثالث: متوسطة وهي: سائر النجاسات.

فأتوا بالمغلظة والمخففة وأبقوا ما بينهما وهي المتوسطة فلا هي من المغلظة ولا هي من المخففة، وهي: سائر النجاسات وتنقسم إلى قسمين: عينية وحكمية.

فالعينية: التي لها طعم أو لون أو ريح، فلابد من إزالة طعمها ولونها وريحها.

ثم قالوا: فإن عسر بقاء اللون فقط، أو الريح فقط، لا يضر، أما لو اجتمعا ضرا، أي: الريح واللون، ولو بقي طعم النجاسة ضر؛ لأنه يدل على بقايا. وأما المخففة فيكفيك جري الماء عليها.

وأما الحكمية وهي التي لا عين ولا طعم ولا ريح، كبول منقطع الرائحة وقع في الثوب وليس له رائحة وجف الثوب، فيكفيك أن تجري الماء عليه حتى يغمره.

ولهذا قال ابن رسلان المحدث الشافعي في الزبد:

يكفيك جري الما على الحكمية وأن تزال العين من عينية

وقال في الكلب:

نجاسة الخنزير مثل الكلب تغسل سبعة مرة بترب

وبول طفل غير در ما أكل يكفيه رش أن يصب كل المحل

قال الإمام مالك فيما سبق: إن الغسل سبعاً تعبدي وأن الكلب طاهر وليس بنجس، ومن القواعد أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وأن ولوغ الكلب لا يغير الماء، بل هو محتفظ بصفاته، والأمر تعبدي.

[ قال القاضي ] أي: ابن رشد هذه علة.. وقد يكون الفقيه عجز عن العلة، فيرجع إلى هذا، ولكن هناك علة مناسبة، وهو على أن الغسل سبعاً لسبب وهو أن الكلب الذي ولغ فيه قد يكون مصاباً بداء الكلب، فالغسل سبعاً لإزالة هذا السم الذي هو داء الكلب.

ويسمى أيضاً: الشبق.

قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسله لداء الكلب، ولكن نحن لا مانع أن نقول: على أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بأحكام النجاسات والطاهرات، ولا مانع أن يكون ذلك لما فيه من الإعجاز العلمي، وهو: أن فيه داء الكلب، أما أن نبطل الحكم الأصلي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( طهور إناء أحدكم )، فلا، فنقول: هذا الحديث وارد بالطهور، وداء الكلب من الإعجاز العلمي، وثبت في العلم الحديث أن هناك جراثيم في لعاب الكلب لا يقتلها شيء إلا التراب مع الماء؛ فكان هذا من الإعجاز العلمي.

وكذلك يقول ابن رشد الجد : إن العلة هي السم؛ لأني تتبعت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة، فوجدته يعلق التداوي بالسبع، فيقول في الحديث الذي أخرجه البخاري و مسلم عن سعد بن أبي وقاص ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تصبح كل يوم سبع تمرات عجوة، لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر )، ويقول كذلك فيما أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: ( أهريقوا علي من سبع قرب)، فهذا يدل على أن السبع تأتي للمداوة.

فنحن نعلل للمذهب المالكي بهذا التعليل حتى لا نقول: إن المالكية ليست عندهم علة، ويقول الحفيد ابن رشد صاحب الكتاب: لكنهم قد اعترضوا عليه، وقالوا: إن الكلب الكلب لا يقرب الماء.

فأجاب الحفيد عن الجد بوجهين:

الوجه الأول: أن الكلب الكلب لا يقرب الماء عندما يكون قد استحكم فيه الكلب، أما في بدايته فيقرب الماء.

الوجه الثاني: يقول: إن الحديث لم يذكر الماء، وإنما ذكر الإناء، فمن المحتمل أن يكون فيه لبن، ومن المحتمل أن يكون فيه ماء.

وجوابه صحيح.

يقول: على إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يعلل الأحكام بالشمول، كقوله فيما ورد في الحديث الصحيح عند البخاري وهو في حديث أبي هريرة ، الأمر بغمس الذباب إذا وقع في الطعام، وعلل ذلك بأن في إحدى جناحيه داءً وفي الآخر شفاء، فهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم يعلـله بالأشياء الطبية.

وقال بعض العلماء: في أن المراد بالكلب الذي يغسل سبعاً هو الكلب الحضري، الذي لا يحرس ولا يصطاد؛ لأن الكلاب البدوية ينتفع بها وتمنع العدو السارق فتلك فيها منفعة، أي: الكلاب البدوية.

والذي رجحه ابن رشد الحفيد في النجاسات المستثنيات من القياس، ثلاثة.

وهي: الكلب والخنزير والمشرك.

ونحن نوافقه على الكلب والخنزير، ونخالفه في المشرك، ونريد الأدلة؛ لأن الكلب والخنزير وردت أحاديث لا معارضة لها، وأما المشرك فوردت أحاديث وآثار تدل على أن نجاسة المشرك نجاسة معنوية لا نجاسة حكمية إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28].

فنحمل نجاسة المشرك على النجاسة المعنوية لا النجاسة الحكمية الشرعية؛ لأنه كما أن النجاسات تكون عينية وتكون حكمية، فالنجاسات العينية التي ترى بالعين تنقسم إلى قسمين: نجس العين ونجس الذات، فالكلب نجس الذات؛ فلا يطهر بالغسل، ولو غسلناه مائة مرة، فهو كلب! ولكنه يطهر بالاستحالة، وهو أن يموت ذلك الكلب ويرمى ويأتي عليه وقت من الزمن فيصير ملحاً فيخرج لنا ملحاً، فهذا يسمى ملحاً.

إذاً فنجاسة الذات لا تطهر إلا بالاستحالة.

أما المتنجس مثل الثوب فيطهر بالإزالة.

أقسام النجاسة العينية

إذاً النجاسة العينية تنقسم إلى قسمين:

نجس الذات ونجس العين فنجس الذات لا يطهر إلا بالاستحالة، ونجس العين كالثياب يطهر بالإزالة.

وأما النجاسة المعنوية وهي: الكفر والشرك والمعاصي.

فالكافر نجس نجاسة معنوية ذاتية، فلا يطهر بما يبذل من الصدقات، ولا يطهر بما يصيبه من المصائب، وإنما يطهر بالاستحالة وهي التوبة، وأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ فيستحيل من اسم الكافر إلى اسم المسلم.

فالاستحالة مطهرة للنجس الأصلي وللمتنجس.

كما أن المؤمن إذا ألم بذنب؛ فتاب وحسنت توبته يطهر؛ لأنه جاء بمطهر أعظم وهو الاستحالة، ولكنه إذا لم يتب من ذلك الذنب وبقي مصراً على ما عمل، ولم تحصل منه توبة؛ فهناك مطهرات الإزالة، وهي أن يعمل من الحسنات ما تصير هذه السيئة التي أصر عليها كنقطة بول بين قلال من الماء؛ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ[القارعة:6-7].

فهذه من مطهرات الإزالة، وإذا كانت أعماله الصالحة أقل من مما اقترف من الجرائم، ولكن الله أنزل به أمراض وأسقام وأتعاب حتى أتت على تلك الذنوب؛ فإنه يطهر عند ذلك بهذه الأمراض، حتى الشوكة يشاكها.

ولكنه إذا كانت حسناته، وكان ما أصيب به من البلاء لم يأت على تلك الذنوب، فهناك مطهرات أخرى وهي: صلاة المؤمنين عليه؛ فإذا أتت على ما تبقى من الذنوب طهر، وإن لم تأت على ما تبقى من الذنوب خففت عنه صلاته، وإذا لم تأت الصلاة على تلك الذنوب فهناك مطهرات أخرى للمؤمن، وهو عذاب القبر، فإذا أتى عذاب القبر على تلك الذنوب فطهرها، خرج من القبر إلى البعث طاهراً، تتلقاه الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ[الزمر:73]، ولكنه إذا لم يطهر؛ فهناك خمسين ألف سنة، فيقف في المحشر، وينزل عليه العذاب وتأتي الشمس ويأتيه العذاب على قدره، فإن أتى على ذنوبه خرج من الموقف طاهراً.

ولكنه إذا خرج من الموقف وعليه ذنوب فهناك الصراط، وهناك الحبو، وهناك الكلاليب، تخدشه فإذا أتى الصراط على ذنوبه، وكان آخرهم رجل يقول: الحمد لله الذي جعلني أسعد خلقه لما رأى العصاة يتساقطون عن اليمين والشمال، ولكنه إذا لم يأت الصراط على الذنوب، وبقيت ذنوباً لم تطهر على الصراط.

فآخر الدواء الكي، ينزل في النار، تأخذه الكلاليب وينزل ويبقى ما شاء الله أن يبقى، حتى تأتي الشفاعات، ويأتي قول الله كما جاء في الحديث: ( أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان )، فتكون النار مطهرة له، فلما يخرج من النار تتلقاه الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ[الزمر:73] فما طاب إلا بعد شدة، وبعد ساعات وتعب.

أما الكافر فليس له إلا مطهر الاستحالة وهي التوبة، فالنار إذا دخلها لا تطهره؛ لأن الله يقول: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ[النساء:56].

هذا ما جاء في المطهرات.

دليل الشافعية على تسبيع غسل سؤر الخنزير

فإن قال قائل: ما دليل الشافعية على غسل سؤر الخنزير سبعاً؟

قلنا هو: من باب فحوى الخطاب عندهم؛ لأن الخنزير أردأ من الكلب، أخس من الكلب؛ لأن الكلب لم تذكر نجاسته في القرآن، وإنما الله سبحانه وتعالى ذكر الكلب في أحسن صورة، وذكره مع جماعة الدعاة والهاربين بدينهم: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ[الكهف:18]، فانظروا إلى الكلب هذا! لما كان مع أهل الخير، أصبح يذكر مع أهل الخير.

عليك بأرباب الصدور فمن غدا مضافاً لأرباب الصدور تصدرا

لما كان هذا الكلب أضيف إلى أرباب الصدور، ذكره الله، فقال: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ[الكهف:18]، فذكره، أما الخنزير ما ليس له إضافة إلى أرباب الصدور، قال الشافعية: بل أن القرآن نص على نجاسته، أما الكلب فأضافه على أرباب الصدور، وأمر بغسله سبعاً، لم؟ من فحوى الخطاب: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[الإسراء:23]، معناه: لا تضربهم.

فإذا كنا نغسل من الكلب سبعاً، فالخنزير أولى منه.

الراجح في نجاسة المشرك

والراجح أن المشرك نجاسته معنوية، فقد ورد ما يدل على ذلك، ومنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل ثقيفاً المسجد قيل: يا رسول الله! أنزلتهم المسجد وهم أنجاس، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء، إنما أنجاس القوم على أنفسهم )، وقد ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم: توضأ من مزادة مشركة، وربط ثمامة في المسجد حينما أسره المسلمون، فربطه صلى الله عليه وسلم في المسجد يتوقع منه الإسلام، فكان يمر النبي صلى الله عليه وسلم عليه فيقول: (ما عندك يا ثمامة ؟ -يريد منه الإسلام-، فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم -أي: لأني صاحب دم- وإن تمنن تمنن على شاكر، فيأتي اليوم الثاني فيقول: ما عندك يا ثمامة ؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر -يريد منه أن يشهد أن لا إله إلا الله فيتمنع-، ثم جاءه وقال: ما عندك يا ثمامة ؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، فقال: أطلقوا ثمامة ، فأطلقوه فذهب فأغتسل وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله )، ولم يسلم قبل؛ لأنه يقول: لو أسلمت وأنا في القيد سيقولون: خاف من القتل فدعاه القتل إلى الإسلام.

انظر! كما تقول العرب:

لا تسقني ماء الحياة بمذلة بل اسقني بالعز كأس الحنظل

ماء الحياة بمذلة كجهنم وجنهم بالعز أقرب منزل

وهذه البيت تقله العرب، فهو يفضل الموت على الكفر؛ لكي لا يقال: أسلم خوفاً، فيفضل جهنم ولا يسلم ولو قتلوه لقتل كافراً؛ فلهذا جاء بعد ذلك وأسلم.

فالنبي صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة في المسجد ولم يغسل مكانه، وأكل من الشاة التي أعطته إياها اليهودية، وهذه الأحاديث كلها صحيحة.

وكذلك تحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة، وهي من آخر ما نزل، والإجماع على جواز مباشرة المسبية قبل إسلامها، يعني: إذا سبيت امرأة كافرة وقضت عدتها وهي كافرة يجوز مباشرتها وجماعها؛ لأنها أصبحت مملوكة، ولو كانت نجسة لما جاز ذلك وكذلك إضافته صلى الله عليه وسلم الوفود من الكفار من دون غسل للآنية.

وكذلك لم ينقل عن السلف توخي رطوبات الكفار. أي: كرطوبات العرق وغيره.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.