الربا


الحلقة مفرغة

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:1-3].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحق الحق بكلماته ولو كره الكافرون، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمداً رسول الله، البشير النذير، والسراج المنير، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها المسلمون عباد الله! ( فإن الله تعالى قد فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تنتهكوها، وسكت عن أمور رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ) ، وإن من أعظم المحرمات التي نهى ربنا جل جلاله عنها في كتابه الكريم أكل الربا، الربا المؤذن بخراب الدنيا وخسارة الآخرة، الربا الذي ما أنزل الله شريعة، ولا بعث نبياً إلا بتحريمه والنهي عنه والتحذير من سلوك طريقه، الربا فضل مخصوص مشروط لأحد المتعاقدين خال عن العوض، مأخوذ من الزيادة.

مراحل تحريم الربا

قال الله عز وجل في تحريمه: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39] .

هذه الآية مكية بين فيها ربنا جل جلاله أن الربا لا تكون معه بركة، ولا تكون معه زيادة، ولا يكون معه نماء، فلا يربو عند الله، فالذي يربو عند الله هو ما يبذله الإنسان مبتغياً به وجه الله عز وجل: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، هذه آية مكية، ثم جاء بعدها ثلاثة مواضع في القرآن كلها مدني، فيها تحريم للربا على التدرج:

الموضع الأول: في سورة النساء، يقول الله عز وجل وهو يفضح ما عليه اليهود من خبث طوية وسوء عمل: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161]، بين ربنا جل جلاله هنا أن اليهود قد أحل عليهم لعنته، وأنزل بهم نقمته، وحرم عليهم ما أحله لهم لأنهم ظلموا، وعتوا، وطغوا، وتجبروا، وأكلوا أموال الناس بالباطل، وأخذوا الربا وقد حرمه الله عليهم، فكان الجزاء من جنس العمل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].

الموضع الثاني: قول ربنا جل جلاله في سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، هذا الموضع حرم فيه ربنا جل جلاله الربا إذا كان أضعافاً مضاعفة، وإذا كان زيادة مترادفة، أما ما دون ذلك فبقي على أصله.

الموضع الثالث: في سورة البقرة في آيات متتابعة فيها تحريم الربا كله، قليله وكثيره، دقيقه وجليله، ما يراه الناس صغيراً أو كبيراً، كله حرام، يقول الله عز وجل: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:275-281].

أدلة تحريم الربا من السنة

أيها المسلمون عباد الله! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبدأ وأعاد في تحريم الربا والتحذير منه، فإنه لما وقف بين الناس خطيباً في يوم عرفة في حجة الوداع، بين قواعد الإسلام، وحقوق الإنسان، وأصول الحلال والحرام، وكان مما قال صلوات ربي وسلامه عليه: ( أيها الناس! ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، ألا وإن أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ألا وإن دماء الجاهلية تحت قدمي موضوعة، وأول دم أضعه دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، ألا وإن ربا الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول رباً أضعه ربانا، ربا عمي العباس بن عبد المطلب فهو تحت قدمي موضوع ) .

بدأ صلى الله عليه وسلم بأهل بيته، فبدأ بعمه أقرب الناس إليه، ليبين للناس أن الأمر جد لا هزل فيه، وأنه تحريم قاطع، ونهي جازم، ( أول رباً أضعه ربانا )، نسبه إلى نفسه صلوات ربي وسلامه عليه, ثم قال: ( ربا عمي العباس بن عبد المطلب فهو تحت قدمي موضوع ).

ثم بين صلوات ربي وسلامه عليه أن الربا من أكبر الكبائر، ومن أعظم الموبقات، جاء في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إياك والذنوب التي لا تغفر! إياك والغلول! فمن غل شيئاً أوتي به يوم القيامة، وإياك وأكل الربا فإن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يتخبط, ثم تلا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] ).

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( اجتنبوا السبع الموبقات! قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )، فعد أكل الربا من السبع الموبقات.

وفي حديث عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( درهم واحد من الربا أشد من ست وثلاثين زنية )، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه )، هذا هو أخف نوع من أنواع الربا.

هذه كلها أيها المسلمون عباد الله! أحاديث ثابتة صحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعاقل من التزم بما فيها، والعاقل من اجتنب الربا كله، قليله وكثيره، والعاقل من التمس الحلال من أبوابه.

أنواع الربا وصوره

أيها المسلمون عباد الله! كيف يكون الربا؟ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الربا على نوعين: ربا نسيئة، وربا فضل، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح ربا إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ).

بين صلوات ربي وسلامه عليه في هذ الحديث أن الربا يقع في هذه الأصناف الستة، الذهب والفضة، وهما اللذان كانا فيما مضى أثماناً للأشياء، وقيماً للأعيان والمنافع، وقيماً للمتلفات، وقد حل محلها في زماننا هذه الأوراق النقدية، فالإنسان في زماننا لو أراد أن يبيع أو يشتري فإنه يستعمل هذه الأوراق النقدية التي تتابع الناس على التعامل بها في المشارق والمغارب، فهي قائمة مقام الذهب والفضة.

ثم تأتي بعدها هذه الأصناف الأربعة: القمح وهو البر، والشعير، والتمر، والملح، وهذه الأصناف الأربعة تشترك في كونها مقتاتة أي: تستعمل كقوت، مدخرة يمكن أن تدخر وأن تخزن، وهي مطعومة كلها، إذاً: هي مقتاتة، مدخرة، مطعومة، فكل ما شاركها في هذه العلل فإنه يأخذ حكمها، فكل ما كان مقتاتاً مطعوماً مدخراً، فإنه يأخذ حكم البر، والشعير، والتمر، والملح.

فإذا كان البدلان متحدي الجنس، كتمر بتمر، أو قمح بقمح، فلا بد من أن يتوافر شرطان.

الشرط الأول: أن يحصل تماثل في الوزن أو الكيل، فلا يجوز أن تبيع صاعاً من تمر بصاعين، ولا يجوز أن تبيع كيساً من ملح بكيسين، مهما اختلفا في الجودة، أو في النوعية، لا بد من أن يتماثلا كيلاً ووزناً، هذا شرط.

الشرط الثاني: لا بد من حصول تقابض، يداً بيد, هاء وهاء، فمن أراد أن يبيع جنيهات بجنيهات فلا بد من تماثل وتقابض.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، فلو أن إنساناً أراد أن يبيع تمراً بملح، أو أراد أن يبيع قمحاً بشعير، فلا يشترط التماثل لكن يشترط التقابض، يعني: لا يشترط أن يكون التمر كالملح وزناً وكيلاً، بل لا بأس أن يختلفا، وأن يتفاوتا، لكن لا بد من التقابض.

ومثله الآن لو أراد إنسان أن يبتاع عملة بعملة، مثلاً: أن يشتري بالجنيهات ريالات أو العكس، فلا بأس بالتفاضل لكن لا بد من التقابض، يعني: لا يصح التأجيل وإلا وقعنا في ربا النسيئة الذي هو حرام بإجماع المسلمين.

أيها المسلمون عباد الله! إن الأصل الذي لا بد أن يلتزم في كل معاملة هو التسليم لله عز وجل في أمره وحكمه، قال سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

الداعي لطرق موضوع الربا

أيها المسلمون! إن الداعي لطرق هذا الموضوع هو أن معاملات ربوية سرت بين الناس، وتتابع فيها الناس، من كان مزارعاً، ومن كان تاجراً، وكثير منهم إذا ذكر بأحكام الله عز وجل فإنه لا يبالي بها، أو لربما أظهر الامتعاض، أو لربما قال: وما وجه الحكمة في ذلك، مثلما قال الله عن أهل الجاهلية الأولى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275].

وهذا حال بعض الناس الآن، يقولون: ما الفرق؟ هذه فائدة وتلك فائدة؟ فالتاجر الذي يبيع سلعة يستفيد، وأنا الذي أبيع عملة أستفيد، فمثلما أن التاجر يصح أن أشتري منه سلعة إلى أجل، فكذلك العملة يصح أن أشتريها إلى أجل، هكذا بعض الناس يجادلون: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء )، الآكل، والموكل، والكاتب، والشاهدان، سواء في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم متعاونون على الحرام، يقول سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

من صور الربا التي يقع فيها كثير من الناس

أيها المسلمون عباد الله! من صور الربا التي تتابع عليها الناس في المدن، في الحاضرة، أن بعضهم يبيع العملة بجنسها متفاضلة بدعوى أنها فكة، فتجد بعض الناس قد يشتري عشرة جنيهات مصمتة بتسعة بدعوى أنه يعطيك فكة تستعملها وتستفيد منها، وهذا ربا.

ومن صور الربا التي تتابع عليها الناس، أن يشتري عملة بصك آجل، إذا كان الدولار بجنيهين أو ثلاثة أو أربعة مثلاً فإنه يشتريه مؤجلاً إلى شهر بستة أو سبعة، وهذا ربا.

ومن صور الربا التي تتابع عليها الناس خاصة في أماكن الزراعة أنه يبيع محصولاً بمحصول متفاضلاً، ربما يبيع شوالاً من التمر باثنين أو ثلاثة بدعوى أن هذا جديد وذاك قديم، وقد حرم هذا العمل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما جيء له بتمر فقال: ليس هذا تمرنا، ليس هذا من تمر المدينة، فقالوا: يا رسول الله! بعنا صاعين من تمرنا بصاع من هذا، فقال: هذا هو الربا، ولكن بيعوا تمرنا ثم ابتاعوا ما تشاءون )، ولما جاءه بلال رضي الله عنه بتمر من تمر خيبر، قال له صلى الله عليه وسلم: ( أكل تمر خيبر مثل هذا؟ قال: لا يا رسول الله! إنا نبتاع صاعاً من هذا بصاعين من ذاك, قال: أوه! عين الربا عين الربا ).

أيها المسلمون عباد الله! هذه المعاني التي أبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وأعاد، وفصل فيها تفصيلاً تحتاج إلى بيان، وتحتاج إلى تقعيد، وتحتاج إلى تفصيل من أجل أن يعرف الناس ما الذي أحله الله وما الذي حرمه الله؛ لأنه ليس كل الناس سواء.

أصناف الناس تجاه الربا

الناس بالنسبة للربا على أصناف ثلاثة:

الصنف الأول: ناس عرفوا حقيقة المال، أنه خادم لا مخدوم، وأنه وسيلة لا غاية، وأنه ظل زائل، وعارية مستردة، وأن المال سيزول عنك أو تزول عنه، ولذلك تعاملوا مع المال بشرع رب العالمين جل جلاله، ما جعلوا المال معبوداً يقولون له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، لا والله، وإنما جعلوا المال مطية للآخرة: ( نعم المال الصالح للعبد الصالح )، وهؤلاء هم الفائزون, نسأل الله أن يجعلنا منهم.

الصنف الثاني: أكلوا الربا جهاراً نهاراً، وهم يعلمون أنه ربا، معاندة ومكابرة، أو جهلاً أو تجاهلاً، وهؤلاء تشملهم نصوص الوعيد التي سبق ذكرها.

الصنف الثالث وهم شر من الثاني: من استعملوا الحيل، ولجئوا إلى بنيات الطريق لمخادعة الله جل في علاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن اليهود: ( قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحوم الميتة جملوه -أي: أذابوه- فباعوه وأكلوا ثمنه، فمسخهم الله قردة، قال سبحانه: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:166] ).

الآن بعض الناس يتعامل بالربا، لكن قد يعطيه بعض الأسماء الشرعية، ويعطيه بعض الأغلفة التي يريد بها أن يستر سوءته، لكن من قديم قال علماؤنا: العبرة في العقود بالأصول والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.

قال بعض السلف: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، ولو أنهم أتوا الأمر على وجهه لكان أهون، ما قيمة أن يزني الإنسان ثم يسميه نكاحاً، أو يسميه زواجاً عرفياً كما يقول الناس الآن؟ ما قيمة أن يشرب الخمر ثم يسميها مشروبات روحية، أو يسميها شراب الراحة؟ ما قيمة أن يأكل الإنسان الربا ثم يطلق عليه أسماء مما سيأتي بيانه وتفصيله إن شاء الله؟

نقول: هذا كله لا يغني عنك من الله شيئاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ). قال علماؤنا: الأمور بمقاصدها، فانظر في مقصدك، وفي نيتك، وفيما ينطوي عليه قلبك، وفيما تضمره نفسك: ( فالإثم ما حاك في نفسك, وتردد في صدرك, وكرهت أن يطلع عليه الناس ).

أسأل الله عز وجل أن يعلمنا علماً نافعاً، وأن يرزقنا عملاً صالحاً، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يختم لنا بالحسنى, إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين. توبوا إلى الله واستغفروه.

قال الله عز وجل في تحريمه: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39] .

هذه الآية مكية بين فيها ربنا جل جلاله أن الربا لا تكون معه بركة، ولا تكون معه زيادة، ولا يكون معه نماء، فلا يربو عند الله، فالذي يربو عند الله هو ما يبذله الإنسان مبتغياً به وجه الله عز وجل: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، هذه آية مكية، ثم جاء بعدها ثلاثة مواضع في القرآن كلها مدني، فيها تحريم للربا على التدرج:

الموضع الأول: في سورة النساء، يقول الله عز وجل وهو يفضح ما عليه اليهود من خبث طوية وسوء عمل: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161]، بين ربنا جل جلاله هنا أن اليهود قد أحل عليهم لعنته، وأنزل بهم نقمته، وحرم عليهم ما أحله لهم لأنهم ظلموا، وعتوا، وطغوا، وتجبروا، وأكلوا أموال الناس بالباطل، وأخذوا الربا وقد حرمه الله عليهم، فكان الجزاء من جنس العمل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].

الموضع الثاني: قول ربنا جل جلاله في سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، هذا الموضع حرم فيه ربنا جل جلاله الربا إذا كان أضعافاً مضاعفة، وإذا كان زيادة مترادفة، أما ما دون ذلك فبقي على أصله.

الموضع الثالث: في سورة البقرة في آيات متتابعة فيها تحريم الربا كله، قليله وكثيره، دقيقه وجليله، ما يراه الناس صغيراً أو كبيراً، كله حرام، يقول الله عز وجل: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:275-281].

أيها المسلمون عباد الله! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبدأ وأعاد في تحريم الربا والتحذير منه، فإنه لما وقف بين الناس خطيباً في يوم عرفة في حجة الوداع، بين قواعد الإسلام، وحقوق الإنسان، وأصول الحلال والحرام، وكان مما قال صلوات ربي وسلامه عليه: ( أيها الناس! ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، ألا وإن أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ألا وإن دماء الجاهلية تحت قدمي موضوعة، وأول دم أضعه دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، ألا وإن ربا الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول رباً أضعه ربانا، ربا عمي العباس بن عبد المطلب فهو تحت قدمي موضوع ) .

بدأ صلى الله عليه وسلم بأهل بيته، فبدأ بعمه أقرب الناس إليه، ليبين للناس أن الأمر جد لا هزل فيه، وأنه تحريم قاطع، ونهي جازم، ( أول رباً أضعه ربانا )، نسبه إلى نفسه صلوات ربي وسلامه عليه, ثم قال: ( ربا عمي العباس بن عبد المطلب فهو تحت قدمي موضوع ).

ثم بين صلوات ربي وسلامه عليه أن الربا من أكبر الكبائر، ومن أعظم الموبقات، جاء في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إياك والذنوب التي لا تغفر! إياك والغلول! فمن غل شيئاً أوتي به يوم القيامة، وإياك وأكل الربا فإن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يتخبط, ثم تلا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] ).

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( اجتنبوا السبع الموبقات! قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )، فعد أكل الربا من السبع الموبقات.

وفي حديث عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( درهم واحد من الربا أشد من ست وثلاثين زنية )، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه )، هذا هو أخف نوع من أنواع الربا.

هذه كلها أيها المسلمون عباد الله! أحاديث ثابتة صحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعاقل من التزم بما فيها، والعاقل من اجتنب الربا كله، قليله وكثيره، والعاقل من التمس الحلال من أبوابه.