الشيطان


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

يقول ربنا جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25].

و(الشيطان) هذه الكلمة ذكرت في القرآن ستاً وخمسين مرة، وأما كلمة (إبليس) الذي هو اسمه، فقد ذكرت في القرآن إحدى عشرة مرة، في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف والحجر والإسراء وطه والشعراء، وفي سورة سبأ وفي سورة ص. ومعظم هذه المواضع في قصته مع أبينا آدم عليه السلام.

وكلمة (الشيطان) كما قال أهل التفسير: مأخوذة من قولهم: شط، أو شطن إذا بعد، ومنه تقول العرب: بئر شطون، إذا كان قعرها بعيداً، يعني: لما كان الشيطان أبعد خلق الله من رحمة الله؛ فإن الله عز وجل سماه شيطاناً.

وأما كلمة (إبليس) فهي على وزن إفعيل من الإبلاس، بمعنى اليأس والانقطاع من رحمة الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل قال له: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [الحجر:35]، وقال: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:78]، فهو ملعون، لا أمل له في رحمة الله قط.

والسؤال هنا: هل كان إبليس من الملائكة؟

ذهب بعض أهل العلم فيهم عبد الله بن عباس، و عبد الله بن مسعود، و مجاهد بن جبر، و عكرمة، ورجح ذلك شيخ المفسرين أبو جعفر بن جرير رحمة الله على الجميع إلى أن إبليس كان من الملائكة، واستدلوا بالاستثناء في قول الله عز وجل: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ[البقرة:34]، قالوا: هذا استثناء متصل.

وفي قول الله عز وجل: إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ[الكهف:50]، قال بعضهم: فصيل من الملائكة يسمون (الجنة) أو يسمون (الجن).

والذي عليه المحققون من أهل العلم وفيهم ابن عباس نفسه في قول آخر: بأن إبليس ما كان من الملائكة أبداً، أولاً بظاهر القرآن، قال الله عز وجل: إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ[الكهف:50]، ومعلوم بأن الجن صنف من خلق الله غير الملائكة، وغير الإنس، ثم الدليل أيضاً قول إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ[الأعراف:12]، والملائكة مخلوقون من نور، وكذلك: أن الله وصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، وإبليس وقعت منه المعصية، ووقعت منه المعارضة لأمر الله عز وجل؛ بفساد رأيه وعطن فكره.

ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: قاتل الله أقواماً زعموا أن إبليس كان من الملائكة، والله ما كان منهم طرفة عين. والاستثناء في قول الله عز وجل: إِلاَّ إِبْلِيسَ[البقرة:34] استثناء منقطع، كما في قول الله عز وجل: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً[النساء:29]، بمعنى: لكن أن تكون تجارة، وإلا فالتجارة ليست من أكل أموال الناس بالباطل؛ ولهذا نظائر في القرآن كثيرة.

وإذا نظرنا إلى صفات إبليس وأفعاله من خلال نصوص القرآن، نجد أنه موصوف بالإباء والاستكبار والعلو والكفر والفسق، وهذا في نصوص كثيرة، كما في قول الله عز وجل: أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ[الكهف:50]، أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ [ص:75].

ومن صفاته كذلك: إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[المائدة:91].

ومن أفعاله كذلك: التخويف بالفقر، والأمر بالفحشاء، كما قال الله عز وجل: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ[البقرة:268]، يعني: لو أن الإنسان أراد أن يتصدق وأن يخرج شيئاً لله، فإن الشيطان يقف أمامه حجر عثرة، ويخوفه بالفقر، ويقول له: احبس مالك، فذريتك أولى به، قال الله عز وجل: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ[البقرة:268]، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169].

أيضاً من أفعاله -قاتله الله-: إضلال بني آدم وإغواؤهم؛ ولذلك قال: وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ[النساء:119]، هذه طريقته.

ومن صفاته أيضاً: عداوة بني آدم عداوة لا حدود لها، قال سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً[فاطر:6]، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ[الكهف:50]، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60]؛ ولذلك قالوا: بدأت عداوته منذ أن خلق الله آدم ، قبل أن ينفخ فيه الروح، لما كان آدم عليه السلام في السماء، وقد خلقه الله عز وجل وطوله ستون ذراعاً، وكان جسداً مصمتاً لا حركة فيه، قالوا: كانت الملائكة تطوف به وتنظر إليه، وتعجب من خلقته، وهذا اللعين -قاتله الله- كان في نفسه يقول: لأمر ما خلقت، يعني: أنت وراءك شيء لا يسر، لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك؛ ولذلك بدأت عداوته مع آدم قبل أن ينفخ الله الروح في آدم.

وقد قالوا: بعدما حصل منه ما حصل، وطرد من رحمة الله، وأهبط إلى الأرض، وصير شيطاناً رجيماً، قال: يا رب! أخرجتني من الجنة بسبب آدم وذريته فأعطني، قال الله عز وجل له: لا يولد لــآدم ولد إلا ولد لك عشرة، قال: يا رب! زدني، قال: جعلت صدورهم مساكن لك ولذريتك، قال: يا رب! زدني، قال: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً [الإسراء:64]، قال: وعزتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عز وجل: وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروا؛ ولذلك الشيطان يغوي ابن آدم، ويوقعه في المعاصي، كما قال الله عز وجل على لسانه: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16]، أي: على صراطك المستقيم، ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ[الأعراف:17].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها، قال له: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وأجدادك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال له: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال له: تجاهد وإنما الجهاد ذهاب المال والنفس، فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقاً على الله إن قتل أن يدخله الجنة، وإن مات أن يدخله الجنة، وإن وقصت دابته أن يدخله الجنة )، فهذا جزاء الذي جاهد الشيطان وقاومه واتخذه عدواً.

أيضاً من أفعاله: أنه يزين المعاصي لابن آدم، كما قال الله عز وجل: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ[الأنفال:48]، فالمعصية التي هي مدمرة للنفس البشرية، والقلب الإنساني، يزينها الشيطان ويصورها حلوة، خضرة، ويقربها مثل ما فعل مع أبينا آدم عليه السلام، ما قال له: هل أدلك على الشجرة التي نهاك عنها ربك، وإنما قال له: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]، فصور له تلك الشجرة الممنوعة المحذورة بصورة زاهية جميلة، ومثل ما صور للناس في زماننا أن يسموا الخمر بالمشروبات الروحية، وصور لهم أن يسموا الزنا عشقاً وحباً وصداقة، وصور لهم أن يسموا الربا بالفوائد، أو بالعائد الاستثماري، وبغير ذلك من الأسماء الزاهية التي تخفي عن الناس حقيقة الشر الذي تحمله تلك المعاصي.

أيها الإخوة الكرام! في قول إبليس لعنه الله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، قال العلامة الشيخ محمد الأمين عليه رحمة الله في أضواء البيان: وقياس إبليس فاسد من وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أنه في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار، فالله عز وجل قال له: اسجد، فعليه أن يسجد، وهذا مثل أمر الله عز وجل لنا: أن نصلي المغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والصبح ركعتين، فعلينا أن نقول: سمعنا وأطعنا ولا نعترض، وإذا قال الله عز وجل: هذا حلال وهذا حرام، نقول: سمعنا وأطعنا، سواء أدركنا العلة أم لم ندركها، لكن إبليس اعترض، وقاس في مقابلة النص، فصيره الله شيطاناً رجيماً.

الوجه الثاني: نقول: لا نسلم بأن النار خير من الطين، بل نقول: الطين خير من النار، فأصلنا خير من أصله، فإن النار طبيعتها إحراق وتدمير وتخريب وطيش، وأما الطين فطبيعته رزانة ووقار، وتودعه البذرة فتخرج لك ثمرة، وتنبت لك شجرة، والطين هو الذي يقبل منا ما يخرج منا، والطين هو الذي يقبلنا بعد أن نصير جثثاً هامدة، كما قال ر بنا: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً [المرسلات:25-26]، (كفاتاً): تكفتكم، أي: تضمكم على ظهرها أحياء، وفي بطنها أمواتاً.

الوجه الثالث: نقول لإبليس: لو سلمنا أن النار خير من الطين، فلا نسلم لك أنك خير من آدم؛ لأن شرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، وكما قيل:

إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئسما ولدوا

وكما قيل:

وما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة

بمعنى أن النار لو كانت خيراً من الطين فلا يلزم من ذلك أن يكون إبليس خيراً من آدم، فشرف الأصل ليس بالضرورة أن يتبعه شرف الفرع؛ ولذلك نوح عليه السلام من أشرف خلق الله، وولده من أخس خلق الله، كافر، شيطان رجيم.

أيها الإخوة الكرام! الشيطان يتدرج بابن آدم في طريق المعاصي والغواية؛ إنفاذاً للعهد الذي قطعه على نفسه، كما قال ربنا: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].

قال أهل العلم: خطوات الشيطان مع ابن آدم تتمثل في أمور ستة:

أولها -والعياذ بالله-: الكفر، قال سبحانه: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:16-17].

فإذا عجز عن إيقاعه في الكفر، ينتقل إلى التي بعدها: البدعة، بأن يعبد الله بغير ما شرع، وبغير ما جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وخطورة البدعة: أن صاحبها لا يرى نفسه على خطأ، ولهذا كانت شراً من المعصية، يعني: العاصي الذي يشرب خمراً، فإنه يعلم بأنه مخطئ، ويرجو من الله أن يتوب عليه، أما المبتدع فإنه يرى نفسه على هدى، كما قال ربنا: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً[فاطر:8]، قال: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:103-104].

قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله تعالى قد حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ).

فإذا عجز عن إيقاعك في البدعة يوقعك في الكبائر، في الموبقات، في أكل الربا، في الزنا، في قتل النفس، في ممارسة السحر، في الاستطالة في أعراض المؤمنين والمؤمنات، في قذف المحصنات الغافلات، ونحو ذلك من كبائر الذنوب.

فإذا عجز عن هذه ينتقل إلى الخطوة الرابعة: يوقعك في الصغائر، محقرات الذنوب، يقول: هذه صغيرة، هذه يسيرة، هذه بسيطة، وكما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على العبد حتى يهلكنه )، ومثل لذلك صلوات ربي وسلامه عليه بقوم كانوا في سفر، فأرادوا أن يوقدوا ناراً، فجعل هذا يأتي بحطبة، وذاك يأتي بخشبة، وهذا يأتي بورقة، حتى جمعوا هذا، وأججوا فيه ناراً عظيمة، كذلك الذنوب الصغائر التي يستهين بها الإنسان، قد تكون سبباً في هلاكه والعياذ بالله!

فإذا عجز عن هذه الأربع، يعني: ما استطاع أن يوقعك في الكفر ولا البدعة ولا الكبائر ولا الصغائر، فإنه يشغلك بالعمل المباح عن العمل الواجب، وكما نرى مثلاً شباباً يلعبون كرة القدم، نفترض بأنهم يلبسون ثياباً ساترة وليس بينهم عداوة ولا بغضاء، ولا تنابز بالألقاب، وخلت الكرة من هذه المحاذير كلها، تجدهم يلعبون فإذا أذن المغرب أحمى الشيطان المباراة، وأحرز أحد الفريقين هدفاً في وقت قاتل، فيقسم الفريق الآخر بأنه لن يخرج إلا بعد أن يثأر، فلا يزالون يلعبون حتى تشتبك النجوم، وبعد ذلك إذا رجعوا إلى بيوتهم توضأوا، أو اغتسلوا بعد أن يكون وقت المغرب قد ذهب، فهؤلاء شغلهم الشيطان بالعمل المباح عن العمل الواجب، وهذا من تزيين الشيطان وتسويله.

فإذا عجز عن هذا كله يشغلك بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، كمن يصلي التهجد ثم ينام عن صلاة الصبح، فمثل هذا نقول له: لا تتهجد، فإن التهجد نافلة، وصلاة الصبح هي الفريضة، وإن الله تعالى لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وفي الحديث: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )؛ ولذلك ( لما جاء الصحابي، فقال: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا، وتركت أبوي وهما يبكيان، قال له عليه الصلاة والسلام: فإن الله لا يقبل منك جهاداً حتى ترجع إليهما فتضحكهما كما أبكيتهما )، فالنبي عليه الصلاة والسلام هنا يعلمنا ترتيب الأمور، وقد حكى لنا خبر ذلك العابد الصالح جريج رضي الله عنه الذي شغل بصلاة النافلة عن إجابة نداء أمه، فدعت عليه: (اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات)، فاستجيب دعاؤها، فالإنسان لا بد أن يرتب أولوياته من أجل أن لا يقع فيما حرم الله عز وجل، أو فيما يبغضه الله وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.

أسأل الله أن يقينا وساوس الشيطان.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.