خطب ومحاضرات
سلسلة السيرة النبوية الطريق إلى أحد
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدروس السابقة تحدثنا عن غزوة بدر وآثارها العظيمة في الجزيرة العربية، وذكرنا موقف قريش وموقف المدينة المنورة وموقف الأعراب، ووقفنا عند ردة فعل اليهود على هذا الانتصار المبهر في غزوة بدر الكبرى.
فأنتم تعلمون أن داخل المدينة المنورة ثلاث قبائل يهودية: قبيلة بني قينقاع، وقبيلة بني النضير، وقبيلة بني قريظة.
وفي شمال المدينة المنورة تجمع ضخم لليهود يقال لهم: يهود خيبر، وقد عمل الرسول عليه الصلاة والسلام معاهدة مع اليهود، وحاول اليهود مراراً وتكراراً حاولوا أن يخالفوا هذه المعاهدة وأن ينقضوا الميثاق، وتحدثوا كثيراً بالسوء عن الصحابة وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وعن رب العالمين سبحانه وتعالى، وتطاولوا كثيراً في هذه الكلمات، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يضبط النفس ويحاول التحكم قدر المستطاع في أعصاب الصحابة، لكي يمنعهم من الصدام مع اليهود؛ لأن الوضع ما زال مضطرباً داخل المدينة المنورة.
وبعد انتصار الرسول عليه الصلاة والسلام على قريش في بدر عاد إلى المدينة المنورة وهو يرفع رأسه بعزة وقوة وبأس، وأرهب ذلك معظم الجزيرة العربية، لكن كان رد فعل اليهود غريباً، فقد جمع الرسول عليه الصلاة والسلام بداية دخوله المدينة المنورة جمع اليهود -يهود بني قينقاع، وحذرهم من مغبة الطغيان والمخالفة المستمرة التي كانوا عليها، وقال لهم: (يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم مثلما أصاب قريشاً)، وبالطبع هو لا يكرههم على الإسلام أو على الإيمان، ولكن يقول لهم: إن قريشاً لما ظهرت على أمر الله عز وجل أذلها الله عز وجل، وهذا له بوادر وظواهر عند اليهود، فهم يخالفون بصورة مستمرة ويسيئون الأدب مع الأنبياء ومع رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن رد فعل بني قينقاع كان عنيفاً جداً، قالوا: يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لن تلقى مثلنا.
إذاً: فهذا إعلان صريح من اليهود وتهديد واضح من اليهود بالحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وقد عرفنا المعاهدة التي بها كف الحرب بين الطائفتين، بل وتجعل واجباً على اليهود أن يناصروا المسلمين في حربهم ضد من يغزو المدينة المنورة سواء من قريش أو من غيرها، لكن الآن بدأ انشقاق كبير داخل المدينة المنورة، وأعلنوا استعدادهم لحرب الرسول عليه الصلاة والسلام وهددوه وتوعدوه؛ ضعوا كل هذا بجانب؛ الذكريات القديمة لليهود في خلال السنتين الماضيتين من التكذيب المستمر والادعاء بالباطل على المسلمين وعلى آيات الله عز وجل وعلى الحبيب صلى الله عليه وسلم.
عندما قابل كان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام، أنزل الله عز وجل آيات بينات توضح العلاقة بين اليهود والمسلمين في مرحلة قادمة، وهي آيات أنزلت في يهود بني قينقاع، قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، ويخبر الله بني قينقاع أن يتعظوا بما حدث في لقريش: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، لكن كانت بصائر اليهود مطموسة تماماً، فلم يفقهوا هذه الآيات ولم يهتموا بها.
إذاً: هذا هو الموقف الذي كان بين اليهود وبين المسلمين، ولم يقف الموقف إلى هنا، بل إنه تصاعد أكثره، فقد حدث أن امرأة من المسلمين قدمت إلى سوق بني قينقاع، وجلست إلى أحد الصاغة اليهود تبيع وتشتري منه، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، أي: يحاولون أن يقنعوها بأن تكشف وجهها، فرفضت المرأة ذلك، فأتى أحد اليهود من ورائها وربط طرف ثوبها في رأسها دون أن تنتبه، فعندما وقفت انكشفت سوءتها فصرخت، فجاء مسلم وقتل اليهودي الذي فعل ذلك، فاجتمع يهود بني قينقاع على المسلم وقتلوه، فكانت بوادر أزمة ضخمة جداً في داخل المدينة المنورة؛ حيث إن قبيلة بني قينقاع اجتمعت على قتل المسلم بعد أن قامت بجريمة كشف عورة المرأة المسلمة، ووصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبمجرد أن وصل إليه الأمر جمع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وجهز الجيش وانطلق مباشرة إلى حصون بني قينقاع، وحاصر يهود بني قينقاع فيها، وأصر صلى الله عليه وسلم على استكمال الحصار حتى ينزل اليهود على أمره.
وهكذا حرك الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الجيش بأكمله من أجل كشف عورة امرأة مسلمة واحدة، وإنه ليحز في نفس الإنسان الآن أن يرى عورات المسلمات تكشف في أماكن كثيرة من العالم، بل وتنتهك الحرمات إلى درجة القتل والاعتداء على المرأة، وإلى درجة أمور يستحي الإنسان من ذكرها، تحصل كل هذه الأشياء ولا تتحرك جيوش المسلمين.
حرك الرسول عليه الصلاة والسلام حرك جيشاً كاملاً من أجل كشف عورة امرأة مسلمة واحدة، هذه هي عزة الدولة الإسلامية وكرامتها، فإنه حصل نوع من الامتهان لهذه الكرامة بهذه العملية الفاجرة من اليهود، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، وانطلق بجيشه إلى حصار بني قينقاع مع احتمال سقوط دماء كثيرة نتيجة القتال بينه وبين بني قينقاع، وتعرفون أن بني قينقاع من أصحاب السلاح والقلاع والحصون والبأس الشديد في الحرب، لكن مع هذا كله رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ذلك هو ثمن بسيط جداً جداً أمام حفظ كرامة الدولة الإسلامية.
وبالفعل بدأ الحصار يوم السبت في نصف شوال سنة (2) هجرية، يعني: بعد غزوة بدر بأقل من شهر، وحاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع أسبوعين بالتمام، حتى ظهر هلال ذي القعدة، وقذف الله عز وجل الرعب في قلوب اليهود فنزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حكم الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم قتلهم لهذه المخالفة الشنيعة التي فعلوها، وليس فقط لكشف وجه المرأة المسلمة ولا لقتل المسلم، بل لتراكمات طويلة جداً، فإن اليهود في مخالفات مستمرة منذ أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وفي سب علني لله ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وسب للصحابة، وإثارة للفتن بين المسلمين، فكان لابد أن تكون هناك وقفة من الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن هذا يعرفنا على واقعية المنهج الإسلامي، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى في هذه اللحظة أن قوة المسلمين تسمح بردع قوة اليهود، فقام صلى الله عليه وسلم بحصار اليهود وقتالهم، ولو قارنا هذا الموقف مع موقف سابق مر بنا في فترة مكة، وهو قتل سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، فإنه عندما قتلت سمية اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، ولم يحرك مجموعة الشباب المسلم الموجود في فترة مكة لقتال أبي جهل ؛ لأنه يعرف أن القوة الإسلامية لا تسمح بهذا الأمر في ذلك الوقت؛ من أجل ذلك لم يقم الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الإجراء في فترة مكة، لكن الآن قد أذن بالقتال، بل فرض على المسلمين، وقوة المسلمين تسمح، فاختار الرسول عليه الصلاة والسلام هذا القرار.
فإذا أردنا أن نتأسى به صلى الله عليه وسلم في علاقتنا مع المشركين أو مع اليهود أو مع أعداء الأمة بصفة عامة، علينا أن ندرس جيداً الظرف الذي أخذ فيه صلى الله عليه وسلم القرار أياً كان هذا القرار.
نزل اليهود على حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وخرجوا من حصونهم، والقرار كان قتل بني قينقاع، هنا جاء وكان عبد الله بن أبي ابن سلول قد أسلم منذ أيام قليلة، أي: لم يمض على إسلامه شهر، وكان حليفاً لبني قينقاع، فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسن في مواليه في بني قينقاع، فرفض الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه جريمة عسكرية كبرى وفتنة كبيرة تحدث في المدينة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ القرار، فكرر ابن أبي الطلب مرة وثانية وثالثة، ثم أدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لبسه أثناء الحرب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسلني)، وغضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال له: (ويحك أرسلني)، لكن المنافق عبد الله بن أبي أصر على إمساك الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر. هكذا قال بمنتهى التصريح.
إن عبد الله بن أبي كان حليفاً لبني قينقاع، وبنو قينقاع فيهم جيش قوامه (700) رجل، (400) حاسر و(300) دارع، يعني: (400) من غير دروع، و(300) عليهم دروع الحرب، هؤلاء السبعمائة قد منعوا عبد الله بن أبي -كما يقول هو- من الأحمر والأسود، فهي القوة العسكرية الرئيسية المساعدة لـعبد الله بن أبي زعيم الخزرج قبل أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا يمنعونه من الأحمر والأسود أي: من كل الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يقتلهم جميعاً في لحظة واحدة، لكن ابن أبي يقول: إني والله امرؤ أخشى الدوائر، أي: تدور الدوائر بعد ذلك على المدينة فلن ألقى شخصاً يحميني، قال ذلك ولم يفكر في الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يفكر في الجيش الإسلامي، ولم يفكر في انتمائه، بل إن كل تفكيره كان في عقائده الجاهلية التي كان عليها، فعلاقته باليهود كانت أشد توثيقاً من علاقته برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعذره؛ لأن إسلامه لم يزل حديثاً، وكان يؤمل كثيراً في إسلامه خاصة أن وراءه مجموعة كبيرة من الناس، فعامله صلى الله عليه وسلم بالحسنى في هذا الموقف، وقبل منه أن يفتدي هؤلاء، ولكن اشترط عليه أن يتركوا المدينة المنورة بأكملها، فقبل اليهود بذلك، وخرجوا من المدينة المنورة إلى منطقة تسمى أذرعات بالشام، ويقال: إنهم قد هلكوا بعد فترة وجيزة هناك، وبهذا انتهت قصة بني قينقاع من المدينة المنورة.
أخذ القرار بإجلاء اليهود بعد الاطمئنان إلى قوة الدولة الإسلامية
ظهر لنا في قصة بني قينقاع بعض الملامح.
أولاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يقف هذه الوقفة الجادة القوية مع اليهود إلا بعد أن اطمأن على قوة الجيش والاقتصاد والدولة الإسلامية، بحيث إن السوق الإسلامي أصبح قوياً وموجوداً وله حضور في المدينة المنورة، وتعلمون أن كل التجارة كانت في سوق بني قينقاع، فإذا كانت التجارة معتمدة اعتماداً كاملاً على بني قينقاع، وبعد ذلك خرجوا إلى الشام، فكيف سيكون الحال داخل المدينة المنورة؟ لذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أمن نفسه من هذا الأمر من أول يوم نزل فيه المدينة المنورة، وعمل السوق الإسلامي، وصار الماء ملكاً للمسلمين بعد أن كان ملكاً لليهود، وقد تكلمنا على بئر رومة قبل ذلك في الدروس الماضية من العهد المدني.
إن الجيش المسلم جيش معتمد على أفراده تماماً لا يعتمد على معونات خارجة عن المدينة المنورة، بل يعتمد على المهاجرين والأنصار، ليس مثل عبد الله بن أبي الذي يعتمد على اليهود في حمايته، وهذا الوضع شجع الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يأخذ قرار الحرب بسهولة.
الرد السريع على بني قينقاع وعدم التساهل فيما فعلوه مع المرأة المسلمة
الملمح الثاني مهم لنقف عليه في غزوة بني قينقاع: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ير التساهل مطلقاً مع اليهود بعد هذا الموقف الذي فعلوه مع المرأة المسلمة ومع الرجل المسلم الذي قتل؛ لأن فعلهم كان مخالفة صريحة للمعاهدة التي بينه وبينهم، ولو سكت صلى الله عليه وسلم على مخالفة اليهود للمعاهدة مرة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك -لزاد اليهود من تطاولهم، وبالتالي يبدءون الدخول في مرحلة ثانية من الاستهزاء بالدولة الإسلامية وبكرامتها، وعندما يكون هناك تساهل بالأمر الجديد سيعملون أشياء أخرى أكثر وأكثر، وحدود اليهود ليست لها نهاية.
ورأينا هذا الفعل من اليهود سواء في السابق أو في اللاحق، وسنظل نراه من اليهود إلى يوم القيامة؛ لأن هذه طبيعة من طبائع اليهود.
ففي العصر الحديث خالف اليهود القوانين الإسلامية، وبدءوا بالهجرة إلى فلسطين وكانت الهجرة إلى فلسطين ممنوعة عليهم، وسكت المسلمون، وبعد ذلك تملك اليهود الاقتصاد الفلسطيني في داخل فلسطين بكاملها، كذلك المسلمون لم يحركوا ساكناً، واستقدم اليهود السلاح الخفيف في داخل فلسطين، كذلك سكت المسلمون عن ذلك، واستقدم اليهود السلاح الثقيل في داخل فلسطين، وكذلك سكت المسلمون عن ذلك، ثم جاء قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والمسلمين، وكذلك السكوت هو السائد، فقامت إسرائيل سنة (1948) ثم قامت حرب سنة (1956)، ثم قامت الحرب سنة (1967)، ثم أشعلت حرب سنة (1982) ضد لبنان وهكذا كلما نسكت يأخذ اليهود منطقة أكبر، كنا نطالب بالعودة إلى حدود التقسيم، وبعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود (1967)، وبعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود الانتفاضة، والآن اليهود يعملون الجدار، وسنطالب بالعودة إلى حدود الجدار، وهكذا تساهل وراء تساهل وراء تساهل، حتى أدي للذي نراه الآن.
لذلك تجنب الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المأساة، وأخذ قراراً حاسماً وسريعاً بحصار بني قينقاع، وعقابهم بالطريقة التي شرعت في المعاهدة التي بينه وبينهم قبل ذلك بسنتين.
إذاً: هذا هو الوضع الحاسم الذي علمنا إياه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوة العلاقة بين اليهود والمنافقين
الملمح الثالث من ملامح غزوة بني قينقاع: قوة العلاقة بين اليهود وبين المنافقين من المسلمين، المنافقون أسماؤهم إسلامية وصفاتهم إسلامية وشكلهم إسلامي، لكن يتعاملون مع اليهود بمنتهى الحمية والقوة؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، واستغل اليهود هذه العلاقة في أيام الرسول صلى عليه الصلاة والسلام، واستغلوها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى زماننا الآن وإلى يوم القيامة، فالعلاقة وطيدة وأكيدة بين اليهود والمنافقين، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه بتعبير غريب وواضح جداً، قال سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ [الحشر:11].. إلى آخر الآيات، فجعل الله عز وجل المنافقين إخواناً للذين كفروا من أهل الكتاب، فهذا الأمر واضح جداً في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، وواضح من خطوات السيرة النبوية كما ترون.
إذاً: هذا هو موقف الرسول عليه الصلاة والسلام من بني قينقاع.
ظهر لنا في قصة بني قينقاع بعض الملامح.
أولاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يقف هذه الوقفة الجادة القوية مع اليهود إلا بعد أن اطمأن على قوة الجيش والاقتصاد والدولة الإسلامية، بحيث إن السوق الإسلامي أصبح قوياً وموجوداً وله حضور في المدينة المنورة، وتعلمون أن كل التجارة كانت في سوق بني قينقاع، فإذا كانت التجارة معتمدة اعتماداً كاملاً على بني قينقاع، وبعد ذلك خرجوا إلى الشام، فكيف سيكون الحال داخل المدينة المنورة؟ لذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أمن نفسه من هذا الأمر من أول يوم نزل فيه المدينة المنورة، وعمل السوق الإسلامي، وصار الماء ملكاً للمسلمين بعد أن كان ملكاً لليهود، وقد تكلمنا على بئر رومة قبل ذلك في الدروس الماضية من العهد المدني.
إن الجيش المسلم جيش معتمد على أفراده تماماً لا يعتمد على معونات خارجة عن المدينة المنورة، بل يعتمد على المهاجرين والأنصار، ليس مثل عبد الله بن أبي الذي يعتمد على اليهود في حمايته، وهذا الوضع شجع الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يأخذ قرار الحرب بسهولة.
الملمح الثاني مهم لنقف عليه في غزوة بني قينقاع: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ير التساهل مطلقاً مع اليهود بعد هذا الموقف الذي فعلوه مع المرأة المسلمة ومع الرجل المسلم الذي قتل؛ لأن فعلهم كان مخالفة صريحة للمعاهدة التي بينه وبينهم، ولو سكت صلى الله عليه وسلم على مخالفة اليهود للمعاهدة مرة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك -لزاد اليهود من تطاولهم، وبالتالي يبدءون الدخول في مرحلة ثانية من الاستهزاء بالدولة الإسلامية وبكرامتها، وعندما يكون هناك تساهل بالأمر الجديد سيعملون أشياء أخرى أكثر وأكثر، وحدود اليهود ليست لها نهاية.
ورأينا هذا الفعل من اليهود سواء في السابق أو في اللاحق، وسنظل نراه من اليهود إلى يوم القيامة؛ لأن هذه طبيعة من طبائع اليهود.
ففي العصر الحديث خالف اليهود القوانين الإسلامية، وبدءوا بالهجرة إلى فلسطين وكانت الهجرة إلى فلسطين ممنوعة عليهم، وسكت المسلمون، وبعد ذلك تملك اليهود الاقتصاد الفلسطيني في داخل فلسطين بكاملها، كذلك المسلمون لم يحركوا ساكناً، واستقدم اليهود السلاح الخفيف في داخل فلسطين، كذلك سكت المسلمون عن ذلك، واستقدم اليهود السلاح الثقيل في داخل فلسطين، وكذلك سكت المسلمون عن ذلك، ثم جاء قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والمسلمين، وكذلك السكوت هو السائد، فقامت إسرائيل سنة (1948) ثم قامت حرب سنة (1956)، ثم قامت الحرب سنة (1967)، ثم أشعلت حرب سنة (1982) ضد لبنان وهكذا كلما نسكت يأخذ اليهود منطقة أكبر، كنا نطالب بالعودة إلى حدود التقسيم، وبعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود (1967)، وبعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود الانتفاضة، والآن اليهود يعملون الجدار، وسنطالب بالعودة إلى حدود الجدار، وهكذا تساهل وراء تساهل وراء تساهل، حتى أدي للذي نراه الآن.
لذلك تجنب الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المأساة، وأخذ قراراً حاسماً وسريعاً بحصار بني قينقاع، وعقابهم بالطريقة التي شرعت في المعاهدة التي بينه وبينهم قبل ذلك بسنتين.
إذاً: هذا هو الوضع الحاسم الذي علمنا إياه الرسول صلى الله عليه وسلم.
الملمح الثالث من ملامح غزوة بني قينقاع: قوة العلاقة بين اليهود وبين المنافقين من المسلمين، المنافقون أسماؤهم إسلامية وصفاتهم إسلامية وشكلهم إسلامي، لكن يتعاملون مع اليهود بمنتهى الحمية والقوة؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، واستغل اليهود هذه العلاقة في أيام الرسول صلى عليه الصلاة والسلام، واستغلوها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى زماننا الآن وإلى يوم القيامة، فالعلاقة وطيدة وأكيدة بين اليهود والمنافقين، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه بتعبير غريب وواضح جداً، قال سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ [الحشر:11].. إلى آخر الآيات، فجعل الله عز وجل المنافقين إخواناً للذين كفروا من أهل الكتاب، فهذا الأمر واضح جداً في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، وواضح من خطوات السيرة النبوية كما ترون.
إذاً: هذا هو موقف الرسول عليه الصلاة والسلام من بني قينقاع.
شبيه بهذا الموقف في هذه الفترة أيضاً ما فعله صلى الله عليه وسلم مع رجل من يهود بني النضير، كان هذا الرجل يقود حرباً ضروساً ضد المسلمين، ليس كل القبيلة يقودون هذه الحرب، وإنما هو واحد منها كان اسمه كعب بن الأشرف ، وهو من قادة بني النضير وزعمائها، هذا الرجل كان يصرح بسب الله عز وجل وبسب رسوله الكريم وكان شاعراً مجيداً ينشد الأشعار في هجاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولم يكتف بذلك الأمر، ولكنه ذهب ليؤلب القبائل على الدولة الإسلامية، ولم يكتف بهذا الأمر، بل ذهب إلى مكة المكرمة، وألب قريشاً على المسلمين، وبدأ يتذاكر معهم قتلى المشركين في بدر، بل إنه فعل ما هو أشد من ذلك وأنكى، وتعلمون أنه من اليهود وهو يعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام رسول من عند رب العالمين؛ سأله القرشيون وهم يعبدون الأصنام، قالوا: أديننا أحب إليك، أم دين محمد وأصحابه، وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال الكافر: أنتم أهدى منهم سبيلاً، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51].
طبعاً هذا الكلام شجع قريشاً على الحرب، ولم يكتف كعب بذلك، بل زاد على ذلك أموراً تخرج عن فطرة العرب وأدبهم بصفة عامة، سواء كانوا في الإسلام أو في الجاهلية، بدأ يتحدث بالفاحشة في أشعاره عن نساء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
إذاً: كعب بن الأشرف ارتكب عدة جرائم ضخمة، سب الله عز وجل، وسب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهجى الصحابة، وهجى الصحابيات بأفحش الكلام، وحرض قريشاً على الانتقام لقتلاها في بدر، وكل هذا مخالفة صريحة للمعاهدة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان في المعاهدة: ألا تجار قريش ولا تنصر على المسلمين، فكل هذه الأشياء جعلت الرسول يأخذ قراراً في منتهى الحسم بقتل كعب بن الأشرف ، فقال صلى الله عليه وسلم: (من لـ
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور | 4061 استماع |
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً | 3973 استماع |
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى | 3936 استماع |
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك | 3782 استماع |
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة | 3719 استماع |
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية | 3649 استماع |
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن | 3637 استماع |
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة | 3571 استماع |
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام | 3453 استماع |
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية | 3401 استماع |