سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الخامس عشر من دروس السيرة النبوة: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.

بعد فتح مكة وانتصار حنين دانت قبائل عربية كثيرة في الجزيرة العربية للمسلمين، ومن أشهر هذه القبائل هوازن، وأصبحت الجزيرة العربية أشبه بدولة إسلامية، لها وضعها وكيانها وهيبتها، ليس فقط في الجزيرة العربية، ولكن حول الجزيرة العربية أيضاً.

لا شك أن ذلك لفت أنظار الدول المحيطة بالدولة الإسلامية الجديدة، ومن أهم هذه الدول: الدولة الرومانية العظمى التي تقبع في شمال الجزيرة العربية في الشام وما فوقها، وبالنظر إلى الوضع في نظر الرومان يظهر لنا التحليل الآتي، مع العلم أن الرومان يراقبون الأحداث المتطورة في الدولة الإسلامية الجديدة.

الأمر الأول: الدولة الإسلامية تتنامى قواتها بشكل لافت للنظر، فقد تحولت من حركة مضطهدة في مكة المكرمة إلى دويلة صغيرة في المدينة المنورة، ثم إلى دولة عظمى تأخذ مساحة ضخمة في الجزيرة العربية بكاملها، وأنتم تعرفون أن اليمن وعمان والبحرين كانت في نطاق الدولة الإسلامية؛ لذا فالدولة الرومانية ستحصر شرقاً بالدولة الفارسية، وجنوباً بالدولة الإسلامية الجديدة، وهذا الشيء خطير بالنسبة للدولة الرومانية.

الأمر الثاني: الرومان يعرفون القوة الذاتية العظيمة في داخل الدولة الإسلامية؛ لأنهم يعرفون أن هذه الدولة تتبع نبياً، ويدينون بدين سماوي صحيح غير محرف، وهرقل أدرك ذلك بوضوح في حواره مع أبي سفيان قبل فتح مكة، ولو ترك لهذا الدين العنان فسوف يملك ما تحت أقدام هرقل نفسه، كما قال ذلك في الحوار مع أبي سفيان .

كما أن هذا الكلام يفسر لنا رعب الدول الكبرى في العالم الآن وفي كل زمن من أي حركة إسلامية تنمو وإن كانت ضعيفة في بدايتها؛ لأنهم يعرفون أن عندهم القابلية لا لحكم بلاد فقط، ولكن لحكم العالم أجمع، وهذا كان نص كلام هرقل زعيم الدولة الرومانية.

إذاً: كان الرومان يعرفون أن الدين الإسلامي فيه ذاتية تجعل العرب أقوياء، وتجعل كل من اتبع هذا الدين قوياً للدرجة التي يستطيع بها أن يبتلع قوى ضخمة عالمياً مثل الدولة الرومانية أو الدولة الفارسية أو غيرها.

الأمر الثالث: أن الحدود الرومانية المتاخمة للجزيرة العربية هي: الشام من الشمال، ومصر من الغرب، ولو ترك لهذه الدولة الإسلامية أن تقوى من نفسها، فإنه لا يستبعد أبداً أن تَضُم إليها هاتين المستعمرتين، واعلم أن مصر والشام في ذلك الوقت كانتا تتبعان الرومان، وهذا يعد خسارة كبيرة للرومان، خاصة أن مصر والشام في ذلك الوقت كان فيهما من الخيرات ما لا يعد ولا يحصى، بل كانت تسمى في ذلك الوقت بمخازن الغلال للدولة الرومانية.

الأمر الرابع: منطقة الشام ملأى بعملاء الدولة الرومانية خاصة من نصارى الشام، ولو تركوهم للمسلمين فليس من المستبعد أبداً أن يسلموا، لا سيما أنهم أهل كتاب، فـهرقل نفسه كان يفكر في الإسلام؛ لولا أن بطانة السوء منعته من ذلك، فهؤلاء النصارى في الشام كان من الممكن أن يسلموا -وهذا ما حدث بعد ذلك بالفعل- ومن المؤكد أن هذه خسارة ضخمة أخرى للدولة الرومانية.

الأمر الخامس: ذكريات مؤتة، فمؤتة لم يمض عليها إلا سنة تقريباً.

وثبات ثلاثة آلاف مقاتل وانتصارهم على مائتي ألف رومي وعربي في هذه الموقعة الشرسة أمر يستحق النظر، ولابد أن يؤخذ بالاعتبار.

الأمر السادس: كان من الواضح أن الرسول عليه والسلام جاد في التعامل مع الإمبراطوريات والممالك المحيطة بالدولة الإسلامية، فقد أرسل رسالة دعوة بالإسلام إلى هرقل عظيم الروم، ولم يتردد في مراسلته ودعوته إلى ترك دينه ودين آبائه لاعتناق الدين الإسلامي، والرسالة وإن كانت في لهجتها لطيفة، وأعطت هرقل وضعاً ومكاناً، إلا أنه لا يخفى على أحد التهديد غير المباشر الذي كان فيها، حين قال صلى الله عليه وسلم: (فإن عليك إثم الأريسيين) أي: الأتباع من الفلاحين، فلا يستبعد أبداً أن يسعى الدين الجديد لاكتساب الأتباع الرومانيين المقهورين على طاعة واتباع هرقل وحاشية هرقل .

الأمر السابع: أن من طبيعة أهل الأديان الأخرى: أنهم لا يرضون عن دين الإسلام أبداً، كما قال رب العالمين سبحانه وتعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، يعني: بعد أن تبين لهم الحق الذي في الإسلام فهم بين أمرين: إما أن يكيدوا للإسلام، وإما أن يدخلوا فيه.

فالدولة الرومانية بدون أي مصالح ولا أسباب لن ترضى عن الدولة الإسلامية إلا في حالة واحدة، وذلك عندما تترك الدولة الإسلامية دينها، وتتحول إلى نصرانية، وإذا لم يحدث ذلك فالقتال سيظل وشيكاً، والنزال لن يتوقف أبداً، قال الله عز وجل في كتابه: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، حتى في غياب المصالح، فإن القضية تبقى قضية عقائدية: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا .

الأمر الثامن: غرور القوة، فإن القوي المتكبر لا يقبل بوجود قوي آخر إلى جواره، وعند ذلك تنشأ سنة التدافع والتنافر بين القوى المتشابهة.

فـهرقل لم يكن ليرضى بوجود عظيم إلى جواره، وكما كان يقاتل قبل ذلك عظيم الفرس كسرى، فلا شك أنه سيقاتل الآن عظيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهذه الأسباب مجتمعة -وقد يكون لغيرها- تجمع الرومان ومن شايعهم من قبائل العرب النصرانية أمثال لخم وجذام وعاملة وغسان التي كان بينها وبين الدولة الإسلامية مشاكل كثيرة، وبسبب خيانة قبيلة غسان كانت غزوة مؤتة.

تجمعت هذه الجيوش في منطقة البلقاء -وهي الأردن الآن- يريدون دولة الإسلام.

كل السيناريو الذي نتكلم عليه الآن، وكل التفكير الذي كان في ذهن الرومانيين وغيرهم كان يتوقعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يخبر به أصحابه رضوان الله عليهم، وكان يعد العدة لذلك، ودليل ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما آلى من نسائه جاء أحد الصحابة وطرق الباب بشدة على عمر بن الخطاب فخرج وهو مفزوع، قال: أجاءت غسان؟! فكان عمر بن الخطاب يتوقع قدوم غسان لغزو المدينة المنورة، وهذا أمر ممكن وقريب الحدوث، ولا شك أن الرسول عليه والسلام كان يجهز الناس لهذا الاحتمال، من أجل ذلك كان أصحاب المدينة المنورة يتوقعون حرباً قوية مع الدولة الرومانية في الفترة القادمة.

ومن أجل ذلك أيضاً كانت العيون الإسلامية تراقب بدقة منطقة شمال الجزيرة العربية، ومنطقة الأردن والشام، وبمجرد أن حدث هذا التجمع على بعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة عرفه صلى الله عليه وسلم، وبدأ يأخذ القرار في ضوء هذه المعرفة المبكرة.

كان عنده اختيار من اثنين: إما أنه ينتظر الرومان في المدينة المنورة، وإما أن يذهب إليهم في شمال الجزيرة العربية، وانتظار الرومان في المدينة المنورة كان أسهل على المسلمين؛ لأنهم لو انتظروهم ما كانوا ليقطعوا تلك المسافة الضخمة في الصحراء، مع ما تتطلبه من تجهيز المؤن والزاد الذي يكفي مسافة مئات الكيلو مترات، ومن المحتمل أن يهلك الجيش الروماني في الصحراء؛ لأنه غير معتاد على قتال الصحراء؛ فهو يعيش طوال عمره في أماكن خضراء في أوروبا والشام، وفي غيرها من المناطق الباردة، ولم يعايش من قبل أي نوع من التجارب في داخل الصحراء، ومع ذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج بجيشه من المدينة المنورة إلى الشام لأمور:

أولاً: ليأخذ عنصر المبادأة، فيختار بنفسه مكان وزمان الحرب، بدل أن تفرض عليه.

ثانياً: حتى يكون عنده خط دفاع بعد ذلك، فلو أنه غزي في المدنية المنورة فإلى أين يذهب؟ فعقر دار المسلمين المدينة المنورة، ولو سقطت المدينة المنورة سقط الإسلام في الجزيرة العربية، وكلنا يعلم أن معظم العرب لم يدخلوا الإسلام إلا منذ قليل.

ثالثاً: ليظهر عزة الإسلام وقوته، وعدم جبنه أو رهبته من القتال، وهذا الثبات والإقدام له أثر ضخم كبير على نفوس الأعداء، سواء كانوا من الرومان أو الفرس أو غيرهم، عندما يجدون الجيوش الإسلامية لا تهاب الموت، وتأتي إلى بلادهم لتحاربهم في ظروف صعبة؛ فإن هذا -ولاشك- يلقي الرهبة في قلوبهم من المسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام نصر بالرعب مسيرة شهر صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له شعب في شمال الجزيرة العربية، والرسول عليه الصلاة والسلام كزعيم مسئول لا يترك شعبه هكذا دون حماية، ومعلوم أن شمال الجزيرة العربية بعد غزوة مؤتة كان قد دخله الإسلام، وجاءت القبائل تبايع على الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يترك الشعب هكذا بدون حماية، لا يفعل مثلما يفعل كثير من الزعماء بتأمين حدود العاصمة فقط، وترك الشعب بعد ذلك يعاني ويلات العدو، ثم الفرار بعد ذلك من العاصمة إذا ما حوصرت، بل خرج صلى الله عليه وسلم بنفسه على رأس أعظم جيوشه فيه أقرب خاصته ليلقى أعتى قوة في العالم في ذلك الوقت؛ ليحفظ دماء شعبه صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا فقراء بسطاء يعيشون في أطراف الصحراء.

إن قرار الخروج إلى تبوك لم يكن سهلاً، بل كان عسيراً بمعنى الكلمة، ولم نأت بهذا اللفظ من عند أنفسنا، بل هذا كلام رب العالمين سبحانه وتعالى لما قال: فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117]، يصف هذه الموقعة بأنها العسرة، لماذا؟ لأكثر من أمر:

أولاً: أن المدينة المنورة في ذلك الوقت كانت تعيش ضائقة اقتصادية، ولم تجن الثمار منذ فترة، وهذا الوقت الذي سيخرج فيه الجيش يعتبر موسم جني الثمار، ولو انتظر الجيش قليلاً لأمكن أن يكون هناك فرصة لإصلاح الأزمة الاقتصادية، ومع ذلك لو انتظرنا فمن المحتمل أن تهجم جيوش الرومان على الدولة الإسلامية، فلا ينبغي الانتظار.

إذاً: عندي مشاكل اقتصادية، ولا أستطيع الانتظار لإصلاح هذه المشاكل الاقتصادية مع احتمال الإصلاح إن انتظرنا، ولكن المشاكل ستكون أكبر مع الدولة الرومانية.

ثانياً: الحر الشديد. فهذه الغزوة تمت في آخر شهور الصيف، وتخيلوا وضع جيش يخترق الصحراء القاحلة في هذا الجو الشديد الحرارة في الجزيرة العربية، إن الواحد منا يذهب إلى العمرة أو الحج في داخل المدينة، وتكون أموره ميسرة إلى حد كبير، ومع ذلك فإن الحر لا يُحتمل، فما بالك باختراق الصحراء على الجمال أو سيراً على الأقدام؟!

كانت المسافة من المدينة المنورة إلى تبوك (700) كيلو متر، هذا بالقياسات الحديثة في الطرق المستقيمة، أما طرق الصحراء فمن المؤكد أنها كانت أطول من ذلك، طرق ملتفة وملتوية وصعبة.

ثالثاً: بعد هذه المسافة الطويلة أنا لن أقابل قبيلة من القبائل، أو فرقة من فرق جيش ضعيف، لا، بل كان الخروج لمحاربة جيش أكبر دولة في العالم في ذلك الوقت، جيش الدولة الرومانية العظمى، وهذا العدو ما كان العرب يتخيلون حتى لقاءه، فهي دولة ضخمة، ولها تاريخ طويل في الحروب.

في هذا الجو الصعب، وفي هذه الظروف الاقتصادية، مع وجود العدو القوي، في كل هذه الظروف يطلب من المسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله، كان فعلاً امتحاناً عسيراً، ولماذا يعسر الله عز وجل الامتحان على المسلمين إلى هذه الدرجة؟ لسبب هام جداً، وهو تمييز المؤمن من المنافق.

والدعوة الإسلامية في ذلك الوقت وصلت من القوة إلى درجة لم يتخيلها أحد قبل ذلك، فقد كثر أتباعها، واتسعت مساحة الرقعة التي تحكمها، وكثرت الأموال، وأصبحت دولة ذات هيبة وسيادة وتمكين في الجزيرة العربية، كل ذلك جعل الكثير من العرب يسارعون إلى الدخول في الدولة الإسلامية وليسوا منها، يعني: يبطنون الكفر، أو الكراهية للدولة الإسلامية، ولكن يظهرون الإسلام، وهذا ما نسميه: بالنفاق، وكلما زاد تمكين الدولة صعب الله عز وجل الامتحان على المسلمين لإظهار المنافقين، أما الدولة الضعيفة فلا ينافق فيها إلا القليل، لكن الدولة الإسلامية الآن وصلت إلى قمة المجد -حتى هذه اللحظة- في السيرة النبوية، وعدد المسلمين سيصل إلى ثلاثين ألفاً أو أكثر في داخل المدينة المنورة، وهذا عدد هائل بالنسبة للعرب، من أجل ذلك اختلط الحابل بالنابل، واختلط الصادق بالكاذب، والمؤمن بالمنافق، فكان لابد من تمييز، فليكن الامتحان في قوة صعوبته؛ لكيلا ينجح فيه إلا الصادق حقيقة.

كيف كانت الدعوة إلى مثل هذا الامتحان الصعب من الخروج إلى القتال في سبيل الله في تبوك في هذه الظروف الصعبة؟

كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد تحقيق هدفين رئيسين من هذا الامتحان:

الهدف الأول: أن المؤمنين الصادقين ينجحون في الامتحان، فهو لا يريد لهم الفشل في هذا الامتحان الصعب، نعم هو امتحان صعب، لكن في نفس الوقت كان عنده أمل كبير أن ينجح أكبر عدد من المؤمنين.

الهدف الثاني: أن يكشف أوراق المنافقين في داخل المدينة ويعرفهم جميعاً.

وإن كان الرسول عليه الصلاة والسلام يستطيع معرفة المنافقين عن طريق الوحي، لكن لابد أن يتعلم المسلمون الطريقة التي يستطيعون بها اكتشاف المنافقين في داخل الصف؛ لأنه بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لن يكون هناك وحي.

فماذا صنع النبي عليه الصلاة والسلام لتحقيق هاتين الغايتين؟

قرر صلى الله عليه وسلم القيام بعمل يحقق المصلحتين سوياً، وهو فتح باب الجهاد علنياً، ودعوة الجميع للجهاد في سبيل الله بالمال والنفس على العلن، فكانت دعوة عامة لكل من يستطيع أن يجاهد بماله لتجهيز الجيش الضخم الذي يخرج في تبوك، وهذا حدث غير متكرر في السيرة النبوية؛ لأن هذه الفترة تميزت بوجود عدد كبير من المنافقين في الدولة الإسلامية على خلاف الفترات السابقة.

وحدث ما توقعه صلى الله عليه وسلم وتمايز الصف تمايزاً واضحاً، وهذا ما يحدث دائماً عند الأزمات الخطيرة التي تمر بالأمة، فعندما يرى المؤمن إخوانه المؤمنين بدءوا بالدفاع سيدفع معهم، ومن ثم يحاول أنه ينجح في الامتحان، وربما يوفق وينجح إن شاء الله، والمنافق لا يستطيع المشاركة علناً مع الناس؛ لأنه منافق وضعيف وإيمانه مهزوز فيعلن صراحة أنه لا يستطيع أن يجاهد في الصف، وبذلك يتمايز الصف.

المسلمون عادة يتكون صفهم من خمس طبقات، هذه الطبقات الخمس تكون متداخلة في أيام الراحة والرخاء، أو في غياب الأزمات، ثم إذا ما حدثت أزمة كبيرة يتمايز الصف وتتميز بداخله الطبقات الخمس بوضوح، وهذا الأمر ليس خاصاً بتبوك، بل هو خاص بكل مراحل التاريخ الإسلامي، وخاص بواقعنا الذي نعيش فيه، وسيظل معنا إلى يوم القيامة، أي مجتمع مسلم في التاريخ كله، خاصة إذا كانت هناك دولة ممكنة فيها خمس طبقات، فما هي هذه الخمس الطبقات؟

الطبقة الأولى: طبقة عمالقة الإيمان، وهي طبقة في غاية الأهمية، الرجل منهم بألف أو يزيد، وعلى أكتاف هؤلاء تقام الأمم، هؤلاء هم الذين يحركون الخير في قلوب العوام، ويقودون حركات التغيير إلى الأصلح والأنفع، ويضحون بأموالهم وأوقاتهم وجهدهم -بل وبأرواحهم- لنفع الآخرين ولنفع الأمة الإسلامية؛ فقد خلصت نفوسهم من حظ نفوسهم فعاشوا لله عز وجل بكل ذرة في كيانهم، هؤلاء هم الصفوة الحقيقية في المجتمع، ليست الصفوة في أصحاب المال ولا السلطة ولا الجاه ولا الشهرة، الصفوة هم: دعاة الخير ومصلحوا الأمم.

كانت هذه الطبقة العظيمة -طبقة عمالقة الإيمان- في يوم تبوك، ووجد منهم عدد كبير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان على رأس هؤلاء في ذلك اليوم: عثمان بن عفان ، وأبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة، هؤلاء الذين حملوا على أكتافهم هموم الأمة بكاملها، تعالوا لنرى ماذا فعل هؤلاء لكي ندخلهم في طائفة عمالقة الإيمان؟

عثمان بن عفان أنموذجاً

أما عثمان رضي الله عنه وأرضاه فكان هذا اليوم يومه؛ ما إن فتح الرسول عليه الصلاة والسلام باب الجهاد بالمال حتى كان أسرع وأسبق الناس إلى الدخول فيه رضي الله عنه، قام في تجرد واضح، وفي تضحية عميقة يقول: علي مائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها. يعني: بكامل عدتها.

وكنا قد ذكرنا في الدروس الماضية نماذج ممن كان يطلب مائة من الإبل ليثبت على الإسلام، والآن نتكلم على شخص يدفع مائة من الإبل في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة، هذا هو مقياس الدنيا في عين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، في لحظة يدفع بمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.

فـعثمان ليس مكلفاً بدفع كل هذا في إعداد الجيش الإسلامي، لكنه يشعر أن القضية فعلاً قضيته، والهم همه، لا يضيره في ذلك أن قعد آخرون، المهم عنده أن يعمل لله عز وجل، لم ينتظر أن يسبقه أحد أو أن يشجعه أحد، ليست النائحة كالمستأجرة، فهو يعيش القضية، فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان يدفع مائة من الإبل سر سروراً عظيماً صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك على وجهه، وانبسطت أساريره صلى الله عليه وسلم، ثم فتح باب الجهاد من جديد.

فيقوم آخر ليبذل من ماله فيحدث العجب، لقد قام عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه مرة ثانية يزايد على نفسه هو، فقد دفع في الأولى، وكذلك يدفع في الثانية، لا ينتظر أحداً من المسلمين ليساعده في عملية الإنفاق على جيش العسرة رضي الله عنه وأرضاه، قام وقال: علي مائة أخرى من الإبل بأحلاسها وأقتابها!

تفشل كثير من الأمم في الخروج من أزماتها لافتقادها إلى رجل مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.

ويرقب الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك بسعادة لا تخفى على أحد، إلى الدرجة التي قال فيها كلمة عجيبة جداً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، أي: أن الحسنات التي حصلها عثمان رضي الله عنه وأرضاه في هذا اليوم لا تضر معها معصية أبداً، وهذا الكلام ليس استنتاجاً، بل هو نص كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ينجو الإنسان طيلة حياته بموقف واحد وقفه لله عز وجل.

(ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ليست هناك سيئة إن فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه أي سيئة بعد ذلك، لن يكون هناك تأثير على ميزانه يوم القيامة.

وليست هذه دعوة لفعل السيئات، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول الكلمة وهو يعرف في حق من يقولها، يقولها في حق عثمان بن عفان ذي النورين رضي الله عنه وأرضاه.

و عثمان بن عفان بعد أن سمع هذه الكلمة العجيبة التي علق بها صلى الله عليه وسلم على فعله العظيم لم يكتف بهذا العطاء، بل قام للمرة الثالثة في بساطة وهو يقول: علي مائة ثالثة من الإبل بأحلاسها وأقتابها، ماذا نرى؟! إنه إنفاق غير طبيعي، لا يرى للدنيا أي حجم في عينه رضي الله عنه وأرضاه.

والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع هذا الكلام ويقول: (اللهم اغفر لـعثمان ما أقبل وما أدبر، وما أخفى وما أعلن، وما أسر وما جهر)، بل إن البعض يصل بنفقة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في ذلك اليوم إلى تسعمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها! ولم يكن عطاؤه من الإبل فقط رضي الله عنه، بل عاد إلى بيته وأتى بألف من الدنانير نثرها في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رفع الرسول عليه الصلاة والسلام يده إلى السماء وقال: (اللهم ارض عن عثمان ؛ فإني عنه راض) . سبحان الله! ماذا يساوي هذا؟! إن مال الدنيا بأكمله لا يساوي هذا الدعاء العظيم من الحبيب صلى الله عليه وسلم.

لم تكن عظمة عثمان رضي الله عنه وأرضاه فقط في أنه أنفق أو أعطى، لكن العظمة الحقيقية في أنه سبق، لم ينتظر تشجيعاً من أحد، بل هو الذي شجع الآخرين، لم يقل: كل الناس لم يتحركوا، بل هو الذي تقدم وسبق؛ من أجل أن يقلده الناس بعد ذلك.

هذا بيت القصيد في بناء الأمم؛ أن يحمل أناس الهم على أكتافهم ويتحركوا به حتى وإن قعدت الأمة بأكملها، كل من أعطى بعد عثمان بن عفان رضي الله عنه تقليداً لفعله واتباعاً لهديه هو في ميزان حسنات عثمان بن عفان، وهذا أمر يعجز عن حسابه العقل.

روى مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء).

لماذا يعمل عثمان بن عفان هذا كله وينفق تسعمائة بعير، ويأتي بألف دينار، ويتحمل كل هذه المسئولية وحده رضي الله عنه وأرضاه؟ إن قلبه وعينيه على الجنة: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، يشتري الجنة فعلاً.

بل إن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال ذلك تصريحاً في حقه رضي الله عنه، قال: اشترى عثمان بن عفان الجنة مرتين: يوم بئر رومة، وهذا اليوم يوم تبوك وأكثر من ذلك، حيث وسع البيت الحرام في مكة، ووسع المسجد النبوي في المدينة المنورة، رجل يعيش فعلاً لأمته رضي الله عنه وأرضاه.

هذا هو عثمان بن عفان أحد عمالقة الإيمان.

أبو بكر أنموذجاً

كان من عمالقة الإيمان أيضاً في ذلك اليوم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من عمالقة الإيمان من أول يوم آمن فيه إلى آخر يوم في حياته رضي الله عنه وأرضاه؛ أتى بأربعة آلاف درهم، لكن قد يقول قائل: هذا المبلغ يعتبر بسيطاً بالنسبة لعدد الإبل التي قدمها عثمان بن عفان رضي الله عنه.

أقول: انتبه، فنحن نتكلم على أعظم شخصية في تاريخ الأرض بعد الأنبياء، هذه الأربعة آلاف هي كل ما يملك، فهل يستطيع أحد أن يعمل مثل هذا؟ هل يمكن أن تتخيل ذلك مع نفسك ولو مرة واحدة في حياتك؟ صعب جداً، ويكاد يكون مستحيلاً، مع مراعاة أن أبا بكر الصديق فعل ذلك أكثر من مرة في حياته؛ في بداية الدعوة، وفي وسط الدعوة، وفي الهجرة وفي تجهيز الجيوش بصفة مستمرة حتى وصل إلى هذا الأمر في تبوك، وكان خليفة للمسلمين بعد ذلك، ومات وليس في بيته دينار رضي الله عنه وأرضاه.

كل حياته إنفاق في سبيل الله، كل الذي عنده أتى به، أتى بكل ثروته لنصرة الإسلام والمسلمين، من أجل ذلك فـالصديق درجته مختلفة عن درجة بقية المسلمين، لا لشيء إلا ليقينه العميق فيما عند الله عز وجل، لا لمنصب ولا لعرق ولا لنسب؛ بل لدرجة الإيمان والصدق الذي في قلبه.

وقد سأله الرسول عليه الصلاة والسلام سؤالاً واضحاً فقال: (هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ فقال -في يقين عجيب-: أبقيت لهم الله ورسوله)، سبحان الله! هل يضيع الله عز وجل من استودعناه إياه؟ هل يترك ربنا سبحانه وتعالى من تركناه له؟ هذا مستحيل، وكلنا يؤمن بذلك، لكن إيمان بعضنا إيمان نظري، ليس له تطبيق في واقع حياتنا، أما أبو بكر فكل معنى آمن به كان له انعكاس مباشر على حياته، وعلى حياة المسلمين، وعلى واقعه وعلى واقع المسلمين.

هذا هو الفهم الذي تصلح به الأمم.

عمر بن الخطاب وابن عوف أنموذجاً

عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أيضاً من عمالقة الإيمان في ذلك اليوم، فقد أتى بنصف ماله رضي الله عنه، جاهد في سبيل الله بنصف ثروته.

وإياك أن تنتقصه بعد أن رأيت فعل أبي بكر رضي الله عنه، فإن عمر بن الخطاب أتى بما لا يستطيع عامة البشر أن يأتوا به، ولولا أنك تقارنه بـالصديق لما شعرت أبداً بقلة عطائه رضي الله عنه، وإلا فقارن عمر بن الخطاب بغيره من البشر، فمن يستطيع أن يتنازل في موقف واحد عن نصف ممتلكاته في سبيل الله؟! احسبها مع نفسك وكن صادقاً، قرار صعب، لو كان معك عشرة آلاف جنيه، أو مائة ألف جنيه أتستطيع قسمه نصفين: نصف تتبرع به للجيوش الإسلامية، ونصف تبقيه معك؟ هذا صعب، بل لعله مستحيل في حق الكثيرين من أبناء الأمة بدون هؤلاء العمالقة الذين يستطيعون أن يأخذوا مثل هذا القرار.

وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه فعل نفس الشيء الذي فعله عمر رضي الله عنه وأتى بنصف ماله، ونصف ماله كان مائتي أوقية من الفضة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال له آنذاك: (بارك الله لك فيما أنفقت وفيما أبقيت)، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد بارك الله عز وجل في مال عبد الرحمن بن عوف ، فما أفقرته الصدقة التي دفع، ما نقص ماله، ما ضاع أولاده، ما شردت نساؤه، بل قسمت ثروته الذهبية بالفئوس بعد موته، بورك في ماله حياً وميتاً، هذا وعد الله عز وجل، والله عز وجل لا يخلف الميعاد، وهذا الكلام ليس خاصاً بـعبد الرحمن بن عوف فقط، بل هو لأي إنسان ينفق في سبيل الله.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقسم في الحديث ويقول: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه. وذكر منها: ما نقص مال عبد من صدقة).

والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39]، هذا وعد الله عز وجل، والمسألة في النهاية مرجعها إلى اليقين.

من صفات طبقة عمالقة الإيمان

هكذا قام هؤلاء العمالقة وغيرهم بمعظم أمر الأمة، لم تكن عظمة هؤلاء -كما ذكرنا- فيما أنفقوه، ولكن كانت العظمة الحقيقية في بذلهم لكل ما في الوسع، كانت عظمتهم في قيامهم لا بدورهم فقط، ولكن بأدوار أولئك الذين لا يستطيعون، أو بأدوار أولئك الذين تخلفوا عن نصرة الدين مع قدرتهم على ذلك، لم يقترح هؤلاء أن تقسم الأعمال على أغنياء الأمة، بل شعروا أنهم معنيون تماماً بهذا الأمر، ولو تقاعس الجميع فليس هذا مبرراً لتقاعسهم، الجيش جيشهم، والنصر أملهم، وعزة الإسلام هدفهم، والله عز وجل غايتهم وهو مطلع عليهم ويرى أعمالهم، وهذا يكفيهم.

قد يقول قائل: ألا يصل إلى درجة عمالقة الإيمان إلا أغنياء الأمة فقط الذين يملكون المال الوفير فيقدرون على هذه العطايا السخية؟

والإجابة على العكس تماماً، فليس المهم هو كمية الإنفاق، لكن المهم هو استنفاذ الوسع، وبذل الطاقة، ورب درهم سبق ألف درهم، وقد ينفق منافق نفقة عظيمة مردودة عليه لفساد نيته، وقد ينفق فقير درهماً واحداً فيصل به إلى أجر الأغنياء الذين بذلوا الألوف؛ من أجل ذلك تسابق عمالقة الإيمان من الفقراء لبذل الوسع في يوم تبوك، والوسع قد يكون مكيالاً من التمر، قد يكون دريهمات معدودات، هو جزء قليل في عدة وعتاد جيش ضخم، لكن هذا ما يستطيعونه ويقدرون عليه، فبلغوا بهذا القدر اليسير منازل كبار المنفقين في سبيل الله.

كل واحد مهما كانت إمكانياته، ومهما كانت قدراته يستطيع أن يكون من هؤلاء العمالقة، ليس هذا فقط، بل إن المسلم قد لا يملك شيئاً أصلاً ويتمنى في داخله أن لو استطاع أن يشارك أو يساهم أو يجاهد فيعطى أجر الشهداء وأجر المجاهدين وأجر المنفقين في سبيل الله، يريد أن يجاهد بماله، ولكنه معدم لا يملك درهماً ولا ديناراً، يريد أن يجاهد بروحه، ولكنه معتل ومريض ولا يقوى على حمل السلاح، يريد أن يشارك بجسده ولكنه لا يملك راحلة تصل به إلى أرض الجهاد، هؤلاء المعذورون الصادقون في نيتهم لهم من الأجر مثل ما للقادرين المجاهدين بأموالهم وأرواحهم، هذا هو العدل الإلهي فعلاً، يعامل الناس على قدر الوسع، وليس على ما يمتلكون من أموال أعطاها لهم رب العالمين سبحانه وتعالى، أو حرمهم إياها، اسمع إلى هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله، وسنن ابن ماجه عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر)، ثم ذكر منهم صلى الله عليه وسلم: (رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه، وفي ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء)، يتمنى أن ينفق فيعطي أجر المنفقين في سبيل الله وليس معه شيء، أي رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى! هؤلاء قال الله عز وجل في حقهم: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:91].

البكاءون

إن بعض هؤلاء الفقراء المعدمين بلغوا من الصدق في النية والشوق إلى الجهاد بالنفس والمال أن بكوا تأثراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد راحلة يحملهم عليها إلى تبوك، تخيل شخصاً يحرم من الجهاد فيبكي؛ لأنه لا يستطيع أن يجاهد في سبيل الله لا بمال ولا بنفس، لم يقولوا: الحمد لله الذي عافنا من هذا المجهود، ولكن حزنوا حزناً شديداً وصل إلى حد البكاء لحرمانهم من الجهاد، هؤلاء عرفوا في السيرة بالبكائين، وكانوا سبعة، وفيهم نزل قول الله عز وجل: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [التوبة:92] انظر التصوير: وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92] حزن حقيقي صادق، تدبر بإمعان في مقدار الإخلاص والتجرد والتضحية التي كانت في قلوبهم إلى الدرجة التي تصل إلى تخليد ذكراهم في كتاب رب العالمين بقرآن يقرأ ويتعبد به إلى يوم القيامة.

كل هذا وهم من الفقراء الذين لا يملكون شيئاً مطلقاً، ولا حتى مكيال تمر، بل إن بعضهم بلغ به الشوق إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى خدمة الإسلام ونصرة الدين درجة لا نتصورها أصلاً.

هذا هو علبة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه أحد البكائين السبعة رضي الله عنهم وأرضاهم، عاد يوماً إلى بيته، وذلك بعدما رده صلى الله عليه وسلم، وصلى في هذه الليلة ما شاء الله له عز وجل أن يصلي، ثم بكى في آخر صلاته ودعائه، وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق -وانتبه فهذه أعجب صدقة في التاريخ- على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض.

هذا يريد أن ينفع الجيش المجاهد والأمة الإسلامية بأي شيء، لكن ليس معه أي شيء، ففكر في شيء عجيب يتصدق به ما تصدق به أحد قبله، وما أحسب أن أحداً فعل ذلك بعده، إنه يتصدق من حسناته، هذه المظالم التي ارتكبت في حقه يوماً من الأيام تتحول إلى حسنات في ميزانه يوم القيامة، وهو يريد مساعدة المسلمين بأي شيء، وليس معه، فليساعدهم بالعفو عن ظلمهم إياه ورد حسناتهم إليهم، وما أحسب أن أحداً في العالم بلغ هذه الدرجة من السمو في حب العمل لله، وحب الخدمة للناس والمجتمع والأمة.

يا ترى هل كان هناك مردود لأمنية علبة بن زيد رضي الله عنه؟ هذا الرجل ذهب إلى صلاة الصبح مع المسلمين، والتفت الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة إلى الناس وسأل: (أين المتصدق هذه الليلة؟ لم يقم أحد، فقال: أين المتصدق مرة ثانية فليقم، فقام إليه علبة وأسر إليه في أذنه وأخبره بما كان من ليلته بالأمس، فقال صلى الله عليه وسلم: أبشر؛ فوالذي نفسي بيده كتبت في الزكاة المتقبلة).

استحق علبة بن زيد رضي الله عنه برغم فقره الشديد أن يكون من كبار المتصدقين الذين تقبل الله عز وجل منهم صدقاتهم، وأصبح علبة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه من عمالقة الإيمان الذين يقودون الأمة إلى كل مجد وعز وشرف رضي الله عنه.

والرسول عليه الصلاة والسلام من شدة إعجابه بهذه الطائفة العملاقة من المؤمنين والتي لا تملك شيئاً في يدها، هذه الطائفة الباكية ظلت في فكره صلى الله عليه وسلم منذ ذهب إلى تبوك وحتى عاد إلى المدينة المنورة وقال لأصحابه عن أولئك الصادقين الذين ما استطاعوا أن يخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله وهم يتمنونه بصدق، قال: (إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر).

هذا الكلام يعطي إشراقة أمل لكل من حيل بينه وبين الجهاد في سبيل الله لأي سبب، لكن يتمنى بصدق، فيصل فعلاً إلى درجة المجاهدين في سبيل الله، ويصبح الجيش المجاهد كلما خطا خطوة في سبيل الله يكتب له الأجر وهو في مدينته مثلما يكون للجيش المجاهد في سبيل الله، بل قد يصل إلى درجة الشهداء في سبيل الله!

روى مسلم والنسائي وابن ماجه عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه).

هذا هو الإسلام، الإسلام ليس ديناً للأغنياء فقط، كل إنسان يمكن أن يساهم حتى المعدم الفقير الذي لا يجد شيئاً، ويصبح كأعظم الناس نفقة في سبيل الله إذا أخلص نيته لله عز وجل: أنه إن كان معه مال فسينفقه في سبيل الله، رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى.

ختاماً: طبقة عمالقة الإيمان هذه لم تكن من الرجال فقط، بل أتت بعض النساء من عمالقة الإيمان بحليهن وبكل ما يملكن لتجهيز الجيش المسلم مع أنهن لسن مكلفات بالجهاد في سبيل الله، ولكن لقوة إيمانهن فهن يعتبرن أنفسهن مسئولات عن قضايا الأمة، ولذلك كن فعلاً من عمالقة الإيمان.

هذه كانت الطبقة الأولى التي برزت بوضوح عند أزمة تبوك، طبقة عمالقة الإيمان، وهي أهم الطبقات في المجتمع المسلم.

أما عثمان رضي الله عنه وأرضاه فكان هذا اليوم يومه؛ ما إن فتح الرسول عليه الصلاة والسلام باب الجهاد بالمال حتى كان أسرع وأسبق الناس إلى الدخول فيه رضي الله عنه، قام في تجرد واضح، وفي تضحية عميقة يقول: علي مائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها. يعني: بكامل عدتها.

وكنا قد ذكرنا في الدروس الماضية نماذج ممن كان يطلب مائة من الإبل ليثبت على الإسلام، والآن نتكلم على شخص يدفع مائة من الإبل في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة، هذا هو مقياس الدنيا في عين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، في لحظة يدفع بمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.

فـعثمان ليس مكلفاً بدفع كل هذا في إعداد الجيش الإسلامي، لكنه يشعر أن القضية فعلاً قضيته، والهم همه، لا يضيره في ذلك أن قعد آخرون، المهم عنده أن يعمل لله عز وجل، لم ينتظر أن يسبقه أحد أو أن يشجعه أحد، ليست النائحة كالمستأجرة، فهو يعيش القضية، فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان يدفع مائة من الإبل سر سروراً عظيماً صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك على وجهه، وانبسطت أساريره صلى الله عليه وسلم، ثم فتح باب الجهاد من جديد.

فيقوم آخر ليبذل من ماله فيحدث العجب، لقد قام عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه مرة ثانية يزايد على نفسه هو، فقد دفع في الأولى، وكذلك يدفع في الثانية، لا ينتظر أحداً من المسلمين ليساعده في عملية الإنفاق على جيش العسرة رضي الله عنه وأرضاه، قام وقال: علي مائة أخرى من الإبل بأحلاسها وأقتابها!

تفشل كثير من الأمم في الخروج من أزماتها لافتقادها إلى رجل مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.

ويرقب الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك بسعادة لا تخفى على أحد، إلى الدرجة التي قال فيها كلمة عجيبة جداً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، أي: أن الحسنات التي حصلها عثمان رضي الله عنه وأرضاه في هذا اليوم لا تضر معها معصية أبداً، وهذا الكلام ليس استنتاجاً، بل هو نص كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ينجو الإنسان طيلة حياته بموقف واحد وقفه لله عز وجل.

(ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ليست هناك سيئة إن فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه أي سيئة بعد ذلك، لن يكون هناك تأثير على ميزانه يوم القيامة.

وليست هذه دعوة لفعل السيئات، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول الكلمة وهو يعرف في حق من يقولها، يقولها في حق عثمان بن عفان ذي النورين رضي الله عنه وأرضاه.

و عثمان بن عفان بعد أن سمع هذه الكلمة العجيبة التي علق بها صلى الله عليه وسلم على فعله العظيم لم يكتف بهذا العطاء، بل قام للمرة الثالثة في بساطة وهو يقول: علي مائة ثالثة من الإبل بأحلاسها وأقتابها، ماذا نرى؟! إنه إنفاق غير طبيعي، لا يرى للدنيا أي حجم في عينه رضي الله عنه وأرضاه.

والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع هذا الكلام ويقول: (اللهم اغفر لـعثمان ما أقبل وما أدبر، وما أخفى وما أعلن، وما أسر وما جهر)، بل إن البعض يصل بنفقة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في ذلك اليوم إلى تسعمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها! ولم يكن عطاؤه من الإبل فقط رضي الله عنه، بل عاد إلى بيته وأتى بألف من الدنانير نثرها في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رفع الرسول عليه الصلاة والسلام يده إلى السماء وقال: (اللهم ارض عن عثمان ؛ فإني عنه راض) . سبحان الله! ماذا يساوي هذا؟! إن مال الدنيا بأكمله لا يساوي هذا الدعاء العظيم من الحبيب صلى الله عليه وسلم.

لم تكن عظمة عثمان رضي الله عنه وأرضاه فقط في أنه أنفق أو أعطى، لكن العظمة الحقيقية في أنه سبق، لم ينتظر تشجيعاً من أحد، بل هو الذي شجع الآخرين، لم يقل: كل الناس لم يتحركوا، بل هو الذي تقدم وسبق؛ من أجل أن يقلده الناس بعد ذلك.

هذا بيت القصيد في بناء الأمم؛ أن يحمل أناس الهم على أكتافهم ويتحركوا به حتى وإن قعدت الأمة بأكملها، كل من أعطى بعد عثمان بن عفان رضي الله عنه تقليداً لفعله واتباعاً لهديه هو في ميزان حسنات عثمان بن عفان، وهذا أمر يعجز عن حسابه العقل.

روى مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء).

لماذا يعمل عثمان بن عفان هذا كله وينفق تسعمائة بعير، ويأتي بألف دينار، ويتحمل كل هذه المسئولية وحده رضي الله عنه وأرضاه؟ إن قلبه وعينيه على الجنة: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، يشتري الجنة فعلاً.

بل إن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال ذلك تصريحاً في حقه رضي الله عنه، قال: اشترى عثمان بن عفان الجنة مرتين: يوم بئر رومة، وهذا اليوم يوم تبوك وأكثر من ذلك، حيث وسع البيت الحرام في مكة، ووسع المسجد النبوي في المدينة المنورة، رجل يعيش فعلاً لأمته رضي الله عنه وأرضاه.

هذا هو عثمان بن عفان أحد عمالقة الإيمان.

كان من عمالقة الإيمان أيضاً في ذلك اليوم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من عمالقة الإيمان من أول يوم آمن فيه إلى آخر يوم في حياته رضي الله عنه وأرضاه؛ أتى بأربعة آلاف درهم، لكن قد يقول قائل: هذا المبلغ يعتبر بسيطاً بالنسبة لعدد الإبل التي قدمها عثمان بن عفان رضي الله عنه.

أقول: انتبه، فنحن نتكلم على أعظم شخصية في تاريخ الأرض بعد الأنبياء، هذه الأربعة آلاف هي كل ما يملك، فهل يستطيع أحد أن يعمل مثل هذا؟ هل يمكن أن تتخيل ذلك مع نفسك ولو مرة واحدة في حياتك؟ صعب جداً، ويكاد يكون مستحيلاً، مع مراعاة أن أبا بكر الصديق فعل ذلك أكثر من مرة في حياته؛ في بداية الدعوة، وفي وسط الدعوة، وفي الهجرة وفي تجهيز الجيوش بصفة مستمرة حتى وصل إلى هذا الأمر في تبوك، وكان خليفة للمسلمين بعد ذلك، ومات وليس في بيته دينار رضي الله عنه وأرضاه.

كل حياته إنفاق في سبيل الله، كل الذي عنده أتى به، أتى بكل ثروته لنصرة الإسلام والمسلمين، من أجل ذلك فـالصديق درجته مختلفة عن درجة بقية المسلمين، لا لشيء إلا ليقينه العميق فيما عند الله عز وجل، لا لمنصب ولا لعرق ولا لنسب؛ بل لدرجة الإيمان والصدق الذي في قلبه.

وقد سأله الرسول عليه الصلاة والسلام سؤالاً واضحاً فقال: (هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ فقال -في يقين عجيب-: أبقيت لهم الله ورسوله)، سبحان الله! هل يضيع الله عز وجل من استودعناه إياه؟ هل يترك ربنا سبحانه وتعالى من تركناه له؟ هذا مستحيل، وكلنا يؤمن بذلك، لكن إيمان بعضنا إيمان نظري، ليس له تطبيق في واقع حياتنا، أما أبو بكر فكل معنى آمن به كان له انعكاس مباشر على حياته، وعلى حياة المسلمين، وعلى واقعه وعلى واقع المسلمين.

هذا هو الفهم الذي تصلح به الأمم.

عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أيضاً من عمالقة الإيمان في ذلك اليوم، فقد أتى بنصف ماله رضي الله عنه، جاهد في سبيل الله بنصف ثروته.

وإياك أن تنتقصه بعد أن رأيت فعل أبي بكر رضي الله عنه، فإن عمر بن الخطاب أتى بما لا يستطيع عامة البشر أن يأتوا به، ولولا أنك تقارنه بـالصديق لما شعرت أبداً بقلة عطائه رضي الله عنه، وإلا فقارن عمر بن الخطاب بغيره من البشر، فمن يستطيع أن يتنازل في موقف واحد عن نصف ممتلكاته في سبيل الله؟! احسبها مع نفسك وكن صادقاً، قرار صعب، لو كان معك عشرة آلاف جنيه، أو مائة ألف جنيه أتستطيع قسمه نصفين: نصف تتبرع به للجيوش الإسلامية، ونصف تبقيه معك؟ هذا صعب، بل لعله مستحيل في حق الكثيرين من أبناء الأمة بدون هؤلاء العمالقة الذين يستطيعون أن يأخذوا مثل هذا القرار.

وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه فعل نفس الشيء الذي فعله عمر رضي الله عنه وأتى بنصف ماله، ونصف ماله كان مائتي أوقية من الفضة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال له آنذاك: (بارك الله لك فيما أنفقت وفيما أبقيت)، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد بارك الله عز وجل في مال عبد الرحمن بن عوف ، فما أفقرته الصدقة التي دفع، ما نقص ماله، ما ضاع أولاده، ما شردت نساؤه، بل قسمت ثروته الذهبية بالفئوس بعد موته، بورك في ماله حياً وميتاً، هذا وعد الله عز وجل، والله عز وجل لا يخلف الميعاد، وهذا الكلام ليس خاصاً بـعبد الرحمن بن عوف فقط، بل هو لأي إنسان ينفق في سبيل الله.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقسم في الحديث ويقول: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه. وذكر منها: ما نقص مال عبد من صدقة).

والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39]، هذا وعد الله عز وجل، والمسألة في النهاية مرجعها إلى اليقين.




استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور 4055 استماع
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً 3964 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى 3932 استماع
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة 3711 استماع
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية 3643 استماع
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن 3632 استماع
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة 3566 استماع
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام 3447 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية 3393 استماع
سلسلة السيرة النبوية نصر مؤتة 3316 استماع