خطب ومحاضرات
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الخامس من دروس السيرة النبوية: العهد المدني، فترة الفتح والتمكين.
في هذا الدرس نتحدث عن وضع المسلمين بعد صلح الحديبية.
على الرغم من القوة المتنامية للدولة الإسلامية والتي ظهرت بجلاء بعد غزوة الأحزاب، إلا أن الاستقرار الحقيقي للدولة الإسلامية لم يأت إلا بعد صلح الحديبية، وكما ذكرنا قبل ذلك: اعتراف قريش أكبر قبائل العرب وزعيمة الجزيرة سياسياً ودينياً واقتصادياً وتاريخياً بالمسلمين، كل هذا أعطى المسلمين شهادة ميلاد حقيقية، وأعلن للجميع سواء من العرب أو من العجم أن هناك دولة جديدة ولدت في المدينة المنورة، وهذه هي الدولة الإسلامية وزعيمها هو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
أول شيء فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما عاد إلى المدينة بعد صلح الحديبية هو إعلام العالم أجمع بهذا الدين الجديد الإسلام؛ ليثبت لنا وللجميع أن هذا الدين دين عالمي نزل لأهل الأرض كلهم، يقول الله سبحانه وتعالى في الكتاب: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي -وذكر منها-: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). ونحن لابد أن نفهم هذا الموضوع جيداً، ونفهم أن علينا دور توصيل الإسلام إلى كل بقعة في العالم، وليس هذا تفضلاً منا، بل واجباً علينا.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام من أول أيام الدعوة يدرك عالمية الدعوة، ويدرك أهمية وصول هذه الدعوة إلى كل بقاع الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم يبشر المسلمين في مكة قبل سنوات من الهجرة، يبشرهم أن لهم دوراً تجاه العالم، وكان يقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم).
كانت القضية في ذهنه واضحة جداً، لكنه لم يشرع فيها بخطة وبنظام إلا بعد صلح الحديبية، وقد يقول شخص: لماذا لم يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسائل إلى عموم ملوك وأمراء الأرض من أول أيام الدعوة في مكة، أو من أول أيام المدينة المنورة، وقد كانت هناك بعض التعاملات مع بعض الممالك والدول الأخرى، ومع ذلك في هذه التعاملات لم يخطط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دعوتهم في ذلك الوقت؟
تفسير ذلك في كلمة واحدة هي الواقعية، يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعية المنهج، فإرسال رسالة يدعو فيها الناس إلى تبديل دينهم والدخول في دين جديد لم يسمع به أحد ولو أن أحدهم سمع به، فماذا سيسمع؟ سيسمع عن التشريد والاضطهاد والتعذيب لأبناء هذا الدين الجديد، إرسال مثل هذه الرسالة قد لا يقدم ولا يؤخر كثيراً، فمن هذا الذي سيقدم على مثل هذه الخطوة الجبارة ويبدل عقيدة لأجل مجموعة من الضعفاء في قرية صغيرة من قرى العالم؟!
ولقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عندما هاجروا إلى الحبشة لم يكن من مهمتهم دعوة النجاشي رحمه الله للإسلام، بل إنهم لم يعرفوا النجاشي بدينهم، ولولا الموقف الذي قام به عمرو بن العاص ومحاولته إثارة النجاشي على المسلمين لما شرح جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي الإسلام، وحتى بعد هذا الشرح لم يدع جعفر بن أبي طالب النجاشي إلى الدخول في هذا الدين الجديد، مع أنه كان يشعر أن هناك ميلاً في كلام النجاشي للإسلام، ومع ذلك لم يدعه صراحة إلى الإسلام، لماذا؟
لنفس الكلمة التي قلناها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا واقعيين إلى أقصى حد، لا يصح ولا يجدي لقائد جماعة صغيرة ضعيفة أن تراسل كبار زعماء العالم لتدعوهم بتغيير معتقداتهم وتبديل أديانهم وإظهار التبعية لفكر جديد أو قانون جديد، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن هذه الدعوة المبكرة قد يكون لها من الآثار السلبية أكثر من الآثار الإيجابية، والدليل الشرعي على هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعله، ولو كان خيراً لفعله صلى الله عليه وسلم، وما كان يعجزه صلى الله عليه وسلم أن يرسل رسولاً إلى كل دولة من دول العالم من أول أيام الإسلام، لكن لم يفعل؛ لأنه لا فائدة من هذا الإرسال.
أما الدليل العقلي على ذلك فإنه قد يلفت الأنظار بدعوته هذه إلى جماعته الصغيرة الناشئة فتستأصل في مهدها.
أما افتراض أنه من الممكن أن الله سبحانه وتعالى يفتح قلوب الزعماء ويضحون بملكهم وسلطانهم من أجل هذا الرجل البسيط الذي ظهر في قرية صغيرة في صحراء الجزيرة، فهذا افتراض بعيد جداً لا يرقى أبداً إلى درجة الواقعية، كل هذا الكلام كان قبل صلح الحديبية، لكن بعد صلح الحديبية تغير الوضع جداً، كان جميع العالم يسمع عن قريش، فقريش القبيلة العربية الكبيرة العزيزة، وإن لم تكن بقوة فارس والروم، ولم تكن تحلم بهذا الشيء، لكنها كانت معروفة لكل الناس حتى خارج الجزيرة العربية، بل إنه كانت لها علاقات اقتصادية وسياسية مع معظم القوى الموجودة في العالم آنذاك، من أجل ذلك اعتراف قريش بدولة الإسلام كدولة لها سيادة يعتبر أهم نقطة لإعطاء شرعية لهذه الدولة الجديدة؛ الدولة الإسلامية.
وكل دول العالم لن تتعامل مع هذا الكيان الجديد -الدولة الإسلامية- إلا بعد اعتراف قريش به، أما قبل ذلك فالمسلمون في نظر العالم عبارة عن جماعة غير شرعية خرجت عن منهج الدولة الأم قريش، وبالتالي لا يمكن التعاون معها إلا من قبل المعادين لقريش، ولم يكن أحد يعادي قريشاً لا في الجزيرة ولا في العالم في ذلك الوقت، من أجل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في بداية الأمر شغل نفسه بدعوة من حوله من العرب في الجزيرة في فترات الدعوة الأولى؛ لأنه يعلم عدم جدوى مراسلة الآخرين قبل اعتراف قريش.
أما الآن وبعد اعتراف قريش بالدولة الإسلامية فزعماء العالم سيتقبلون فكرة المراسلة بينهم وبين زعيم الدولة الجديدة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيسقط حاجز الشكليات والرسميات والبرتوكولات لتبقى مناقشة مضمون الرسالة: هل هذا الدين الجديد دين يستحق الاتباع، أم أن صاحبه يكذب علينا؟
فيناقشون الموضوع بموضوعية إلى حد ما، وستكون مناقشة هذه الرسالة أفضل لا شك إذا كان المرسل قوياً ممكناً؛ لأن الله عز وجل يزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن، وكل هذا تحقق إلى حد كبير بعد صلح الحديبية.
من أجل ذلك ما إن وجد الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة سانحة أرسل الرسائل مباشرة إلى كل زعماء العالم آنذاك، فهو لم يضيع الوقت، بل أرسل الرسائل مباشرة، والرسائل كانت في منتهى الوضوح، حيث دعاهم إلى الدخول في الإسلام، وحملهم مسئوليتهم ومسئولية شعوبهم أيضاً، وبدأت هذه الرسائل تخرج من المدينة المنورة.
وقد خرجت أولى هذه الرسائل في نفس الشهر الذي رجع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية شهر ذي الحجة سنة (6) هـ، والبعض أخرها إلى غرة محرم سنة (7) هـ، يعني: بعد صلح الحديبية بأيام، انظر إلى مدى استعجال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر؛ لأنه أحس أن فترة طويلة جداً مرت به، وهو يريد أن يوصل الإسلام إلى كل مكان، لكن الظروف لم تسمح، عندما سمحت الظروف مباشرة أرسل الرسل، خرجت هذه الرسائل في معظمها في وقت متزامن لا يفصل بينها إلا أيام، ولم تتأخر إلا بعض الرسائل، وإن شاء الله سنتعرض لها في الدروس القادمة.
والرسائل التي أرسلت في شهر ذي الحجة سنة (6) هـ وأوائل محرم سنة (7) هـ كانت سبع رسائل كالآتي:
رسالة إلى النجاشي أصحمة رحمه الله ملك الحبشة، وحملها عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه.
ورسالة إلى المقوقس زعيم مصر، وحملها حاطب بن أبي بلتعة اللخمي رضي الله عنه.
ورسالة إلى كسرى ملك فارس، وحملها عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه.
ورسالة إلى قيصر ملك الروم، وحملها دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه.
ورسالة إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وحملها العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.
ورسالة إلى هوذة بن علي ملك اليمامة، وحملها سليط بن عمرو العامري رضي الله عنه.
ورسالة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك دمشق، وحملها شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه.
إن في قصة إرسال الرسائل والحوار الذي دار بين السفراء وبين ملوك العالم دروساً لا تحصى، لكن لضيق الوقت لا نستطيع أن نحلل كل هذه السفارات، لكن إن شاء الله سنحلل هذه الرسائل إجمالاً، ونأخذ مثالاً أو مثالين على هذه الرسائل إن شاء الله، وبتحليل هذه الرسائل نجد أن مضمون الخطاب في كل المراسلات واحد تقريباً؛ لأن الرسائل ليست دعوة إلى إقامة علاقات دبلوماسية أو إلى تبادل السفراء أو إلى مجرد التعارف، ولا إلى طلب استمداد شرعية ما باعتراف الدول الأخرى به، إنما الهدف واضح تمام الوضوح، الهدف الدعوة الصريحة للإسلام، الدعوة إلى ترك أي دين كان، والدخول في الدين الجديد الإسلام.
وهذا يعني اتباع الدين الجديد، وهو يقضي الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الكلام ليس سهلاً؛ لأن الملك سيتحول من ملك مطاع لا ترد له كلمة إلى تابع مطيع يرد الأمر كله لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن هناك من سيقبل هذه الدعوة ويكون مؤمناً، ولا شك أن هناك من يرفض هذه الدعوة ومن قد يغضب ويثور ويعترض وقد يرسل الجيوش ويهدد بالقتل كل هذا متوقع، وكل هذا مع أنه صعب إلا أنه لا يمنع من تبليغ دعوة رب العالمين إلى العالمين.
وهذه الخطابات والرسائل تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائداً قوياً، وكان مجاهداً عزيزاً لا يخشى في الله لومة لائم، وكان متجرداً تماماً لله عز وجل طائعاً لكل أوامره؛ لأن أي واحد من ملوك الدنيا لو كان في وضعه، فإنه لن يفكر أبداً في مراسلات من هذا النوع؛ حتى لا تنقلب عليه الأوضاع ويثور عليه أهل الدنيا، ولكن لكونه رسولاً صلى الله عليه وسلم فهو يعلم أن مهمته تقتضي البلاغ للعالمين مهما كان الثمن، وبعد ذلك هو رأى بعينه ورأى المسلمون معه أن الله عز وجل ينصر الدين حتماً، ويخرج المسلمين من الأزمات مهما اشتدت هذه الأزمات، وقد أخرجهم سبحانه قبل ذلك من أزمات في مكة وبدر وأحد والأحزاب وبني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وغير هذا كثير.
لم يكن هذا التاريخ من الانتصارات لضعف أعداء الأمة أبداً، كل أعداء الأمة كانوا أقوياء جداً، لكن هذا الانتصار كان بقوة الله عز وجل وإرادة رب العالمين سبحانه وتعالى ونصره للذين آمنوا به.
إذاً: هذه المعاني كانت واضحة جداً في ذهن النبي عليه الصلاة والسلام، من أجل ذلك جاءت رسائله في منتهى الوضوح لا تميع فيها ولا مداهنة، وبغير هذه النظرة التي ذكرناها لا يمكن أبداً أن تفهم رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العالم.
وتعالوا نأخذ رسالة كمثال من أجل أن نرى هذا الوضوح، ولكي نفهم ماذا تعني رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك أو زعيم من زعماء العالم.؟
لندرس رسالة هرقل قيصر الروم، والرسالة جاءت في البخاري ، وذكرت رواية البخاري لها؛ حتى لا يستغرب السامع مضمون هذه الرسالة، واعلم أن هذه الرسالة رسالة من رئيس دولة صغيرة جديدة هي دولة المدينة المنورة، وجيشها على أكبر تقدير (3000) جندي، وعمرها لا يتجاوز (6) سنوات، وأسلحتها بسيطة، وعلاقاتها في العالم محدودة جداً، ومع ذلك كله أعلم أن هذه الرسالة ترسل إلى هرقل قيصر الروم، الزعيم الأعظم للدولة الأولى في العالم الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الرومانية تسيطر تقريباً على نصف أوروبا الشرقية، غير تركيا والشام بكامله، وغير مصر وليبيا، وجيوشها تقدر بالملايين بلا أي مبالغة، وأسلحتهم متطورة جداً، وتاريخها في الأرض له أكثر من (1000) سنة، ضع كل هذه الأمور في ذهنك وأنت تقرأ أو تسمع كتاب وخطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قيصر الروم.
يقول صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى
رسالة فيها الوضوح والقوة والعزة والحكمة في كل كلمة من كلمات الخطاب، وهذا الخطاب يحتاج إلى محاضرات لكي نحلله وندرسه ونستخرج منه الدروس التي في باطنه، لكن نحن هنا سنشير إلى بعض الدروس الهامة إشارة سريعة.
من هذه الدروس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على ظهور عزته وعزة الدولة الإسلامية في كل كلمة من كلمات الخطاب.
فهو أولاً: بدأ باسمه قبل اسم هرقل ، وهذا الكلام خطير جداً في زمانهم، قال: (من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
وأيضاً من الدروس: أنه مع إظهار هذه العزة والقوة إلا أنه لم يقلل من قيمة الطرف الآخر، بل بالعكس رفع قدر الطرف الآخر وحفظ له المكانة، حيث قال: (إلى هرقل عظيم الروم).
وأيضاً من الدروس: أنه جمع في مهارة عجيبة بين الترغيب والترهيب، بقوله له: (أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) يعني: فيها نوع من الترغيب، ثم يقول له وهو يهدد بوضوح: (فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين) والكلام كله عبارة عن عدة أسطر قليلة جداً.
وأيضاً من الدروس: حسن اختيار الآية المناسبة من القرآن الكريم، أتى بآية تقرب كل أهل الكتاب، وتوضح أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا وبينهم، من أجل ذلك يمكن أن يفتح عقله للتفكير، ويرفع حواجز كثيرة جداً بين الطائفتين المسلمة والنصرانية.
هكذا كان الخطاب لـهرقل عظيم الروم، وهكذا كان الخطاب لكل زعماء العالم، فالخطابات تقريباً مشابهة لهذا مع اختلافات قليلة جداً في الألفاظ حسب البلد المرسل إليها والدين الذي يدينون به، ومع وحدة الخطاب تقريباً لكل مكان من السبعة الأماكن التي تكلمنا عليها إلا أن ردود الأفعال كانت متباينة جداً، فقد بلغ بعضها القمة في الأدب وحسن الرد، بينما بلغت بعضها أدنى مستوى لسوء الأدب والمعاداة، وبين هذا وذاك كانت هناك ردود أفعال أخرى كثيرة.
لقد جاءت أفضل الردود من النجاشي ملك الحبشة، ومن المنذر بن ساوى ملك البحرين، وهؤلاء الاثنان أسلما دون تردد.
واحد أسلم وأخفى إسلامه وهو النجاشي ملك الحبشة؛ لأن وضع الدولة النصراني كان صعباً جداً، فهو لا يستطيع أن يعلن إسلامه، ولأنه لو أسلم فإن الشعب سيقتلعه اقتلاعًا من كرسيه، وقد حصل قبل ذلك عندما ساند المسلمين أن الشعب أقام عليه ثورة وكاد أن يقتلع النجاشي من كرسيه، من أجل ذلك أخفى إسلامه، وآثر أن يساعد الدولة الإسلامية الناشئة الجديدة هناك في المدينة المنورة، وهو يعلن النصرانية في الظاهر ويبطن الإسلام.
أما المنذر بن ساوى رحمه الله فقد أعلن إسلامه وأسلم شعبه، وكانوا يدينون بعبادة الأصنام، لكن يبدو أن المنذر بن ساوى رحمه الله كان قوياً ممكناً في قبيلته ومحبوباً بين شعبه، وكان الناس تبعاً لقائدهم كعادة العرب في ذلك الوقت، فزعيم القبيلة أخذ قرار الإسلام فأسلمت قبيلته وأسلم شعبه.
وهذا الوضع غير الوضع في بلاد الحبشة حيث كان بلدًا نظامياً كبيراً له تاريخ طويل، ومن الصعب على النجاشي أن يغير أفكار الناس كلها في لحظة واحدة.
إذاً: هذا هو الوضع بالنسبة لملك الحبشة وبالنسبة لملك البحرين وهذه أفضل ردود.
أما المقوقس فقد أحسن استقبال الوفد الإسلامي وأكرمه بالهدايا، إلا أنه لم يسلم، وإني لأتعجب جداً من عدم إسلامه؛ لأن المقوقس ذكر في رده لـحاطب بن أبي بلتعة الذي كان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر في رده له أنه كان يعلم أن نبياً سيظهر في هذا الزمان، ولكنه كان يحسب أن هذا النبي سيظهر في الشام، فهو كانت عنده تهيئة نفسية لظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يسلم، بل إنه لم يفكر أصلاً في التأكد من كونه نبياً أم لا، مع أنه كان يعرف أنه نبي فعلاً، وإلا لما أكرم سفارته وحملها بالهدايا كما نعلم جميعاً؛ لأنه ليس من الممكن أن يفعل هذا الأمر مع كذاب يدعي النبوة، وخاصة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت لم تكن له قوة كبيرة أو بأس، ولم يكن يحكم دولة ضخمة يخشاها المقوقس فيحتاج إلى مهادنته، بالعكس فإن قوة مصر المادية كانت أضعاف أضعاف قوة المدينة المنورة في ذلك الوقت، لكن على كل حال إكرام المقوقس لوفد رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أثراً إيجابياً للدولة الإسلامية في كل مكان، أكد على شرعيتها في النظام الدولي الجديد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
إذاً: هذا كان رد المقوقس رد بأدب وحمل الهدايا لكن لم يسلم.
أما هرقل زعيم الدولة الرومانية التي كانت تسيطر تقريباً على نصف مساحة العالم في ذلك الوقت، فإن موقفه من الرسالة يحتاج إلى وقفة ويحتاج إلى تحليل، فهو يفسر لنا الكثير من أحداث التاريخ، سواء في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أو في الأيام التي تلت الرسول عليه الصلاة والسلام، وحتى إنها تفسر لنا أحداثاً كثيرة جداً من الواقع الذي نعيشه؛ لأنكم تعرفون أن التاريخ يتكرر.
فعندما استلم هرقل رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، مع أنه زعيم أكبر دولة في العالم، ويستلم رسالة من زعيم دولة لم يسمع بها أحد إلى الآن، وهذه الدولة الجديدة خرجت في بلاد العرب، والرومان بصفة عامة كانوا ينظرون إلى بلاد العرب نظرة دونية، يرونهم دائماً أقل من أن يهتموا بشأنهم، لم يدرسوا أحوالهم أو عاشوا ظروفهم؛ لأن هؤلاء العرب قوم يعيشون حياة البداوة في أعماق الصحراء، بعيدون كل البعد عن كل مظاهر الحضارة والمدنية، متفرقون مشتتون متنازعون، أحلامهم بسيطة جداً، طموحاتهم قليلة جداً، عددهم محدود، أسلحتهم بدائية، والفارق بينهم وبين إمبراطورية الرومان الهائلة كالفارق بين السماء والأرض.
وكلنا نعرف كيف كان الصراع يدور بين دولة فارس والروم وكل ما عمله العرب هو الاكتفاء فقط بمراقبة الأحداث، وأنهم يتراهنون من الذي سيكسب من الدولتين العظيمتين فارس والروم، ولم يكن أحد فيهم عنده طموح في مشاركة القوى العالمية لا من قريب ولا من بعيد في الأحداث الجارية في العالم، ومع كل هذا فـهرقل زعيم الروم عندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إليه رسالة أخذ الأمر بمنتهى الجدية، ولم ينكر أن يكون ذلك الرجل نبياً حقاً، ولم يكن ينقصه إلا التأكد فقط، ويريد دليلاً، ونحن عندما نسمع عن هرقل أو نقرأ عنه نشعر أنه كان زعيماً نصرانياً متديناً ملتزماً إلى حد كبير بتعاليم دينه، وكان يقدر كثيراً أن الله عز وجل يساعده في معاركه، وكلنا نعرف أنه نذر أن يحج إلى بيت المقدس ماشياً على قدميه من حمص إلى القدس شكراً لله على نصره للرومان على الفرس، فمثله يتأكد أنه قرأ في التوراة والإنجيل أن هناك رسولاً سيأتي، وأن هذا الرسول بشر به موسى وعيسى عليهما السلام، وكان ينتظر هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا الرجل الذي أرسل له رسالة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر له في هذه الرسالة أنه نبي آخر الزمان، وقبل هرقل الفكرة، بل لعله مشتاق إلى رؤية ذلك النبي، وقبل هذا هرقل كان قد سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن الله عز وجل يسر له لقاء غريباً عجيباً؛ فقبل استلام الرسالة هيئ هرقل نفسياً تماماً لاستلام مثل هذه الرسالة العجيبة، وذلك أنه سمع أن نبياً ظهر في بلاد العرب، فقال لجنوده: ائتوني ببعض العرب أسألهم عن هذا النبي الذي ظهر في بلادهم، فأتى الجنود ببعض التجار الذين كانوا يتاجرون في غزة في فلسطين، وكان هرقل في بيت المقدس في ذلك الوقت، وذهبوا بهم إلى هرقل من أجل أن يتأكد من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من بين هؤلاء التجار أبو سفيان بن حرب زعيم قريش، وحصلت هذه القصة بعد صلح الحديبية مباشرة، يعني: بعدما تم صلح الحديبية سافر أبو سفيان إلى غزة وأخذه الجنود إلى هرقل في بيت المقدس، وكان التوقيت توقيتاً عجيباً جداً من كل النواحي، وكأن الله سبحانه وتعالى بعث أبا سفيان الكافر في ذلك الوقت ليقيم الحجة على هرقل ، وهذا اللقاء ورد في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعه من أبي سفيان رضي الله عنه بعد إسلامه.
فلما مثل التجار عند هرقل سألهم: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان : فقلت: أنا أقربهم نسباً إليه، فقال هرقل : أدنوه مني وقربوه وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا - يعني: أبا سفيان - عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. يعني: يريد هرقل أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، فهو سيسأل أقرب الناس إليه نسباً؛ لكونه أعرف الناس به، وفي نفس الوقت سيجعل وراء أبي سفيان التجار الآخرين كحكام على صدقه.
فالتجار تحت تأثير إرهاب هرقل وبطشه كل واحد منهم يخاف أن يكذب، وكذلك أبو سفيان يخاف أن يكذب.
لكن العرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب، وتعتبرها نوعاً من الضعف غير المقبول، من أجل ذلك كان أبو سفيان يقول تعليقاً على كلمة هرقل هذه: فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا علي كذباً لكذبت عليه. فهو في تلك اللحظة مع أنه يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة، فإنه كان بعد صلح الحديبية وقبل إسلامه، إلا أنه لا يستطيع أن يكذب على محمد صلى الله عليه وسلم، لا يستطيع تشويه صورته عن طريق الكذب، فهو يستحي من الكذب إلى درجة أنه كان يقول: ولكني كنت امرأً أتكرم على الكذب. يعني: لا أستطيع أن أكذب.
وبدأ استجواب هرقل لـأبي سفيان أمام الجميع، أمام العرب والرومان، وفي حضور علية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء الرومان.
وفي هذا الاستجواب سنرى أن هرقل سيسأل أسئلة يحاول بها أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب: أهي نبوة حقيقية أم يدعيها أحد الكذابين؟ وستكون الأسئلة عبارة عن استنباطات عقلية، أو أسئلة بناء على معلومات عن الأنبياء بصفة عامة، أو عن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، كما جاءت في التوراة والإنجيل.
وهذا الحوار الذي دار بين هرقل زعيم أكبر دولة في العالم في دلك الوقت وبين أبي سفيان زعيم قريش أنا أحسبه من أعجب الحوارات في التاريخ، وهو عجيب من أكثر من وجه، ومن العجيب فيه اهتمام زعيم أكبر دولة في العالم بأمر رجل يظهر في صحراء العرب، وكذلك من حيث دقة الأسئلة، أو من حيث ردود أبي سفيان المشرك آنذاك والذي كان يكره سيدنا محمداً كراهية كبيرة جداً، أو من حيث تعليق هرقل على كلام أبي سفيان في آخر كلامه، أو من حيث رد فعل هرقل بعدما سمع كلمات أبي سفيان ، فهو حوار عجيب بكل المقاييس.
بدأ الحوار بسؤال: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان : هو فينا ذو نسب.
قال هرقل : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قال أبو سفيان : لا.
فقال هرقل : فهل كان من آبائه من ملك؟
قال أبو سفيان : لا.
قال هرقل : فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟
قال أبو سفيان : بل ضعفاؤهم.
قال هرقل : أيزيدون أم ينقصون؟
قال أبو سفيان : بل يزيدون.
قال هرقل : فهل يرتد أحداً منهم سخطة لدينه بعدما يدخل فيه؟
قال أبو سفيان : لا، لا يرتد منهم أحد.
قال هرقل : فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قال أبو سفيان : لا.
قال هرقل : فهل يغدر؟
قال أبو سفيان : لا، ثم قال: ونحن معه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. يعني: هل سيغدر أم لا في صلح الحديبية؟ وأبو سفيان أراد أن يقول أي شيء سلبي عن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن كل الإجابات ترفع من قدر رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول أبو سفيان تعليقاً على هذه الكلمة: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة. يعني: حاولت على قدر ما أستطيع أن أطعن في رسول الله عليه الصلاة والسلام بأي شيء فلم أستطع إلا هذه الكلمة، وهرقل لم يعبأ بها، وكأنه لم يسمعها.
قال هرقل : فهل قاتلتموه؟
قال أبو سفيان : نعم.
قال هرقل : فكيف كان قتالكم إياه؟
قال أبو سفيان : الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. هو يقصد بدراً ثم أحداً.
قال هرقل : ماذا يأمركم؟
قال أبو سفيان : يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
انتهى الاستجواب الطويل من هرقل ، وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها، وكل معلومة حصل عليها.
قال هرقل : سألتك: عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها.
وسيبدأ هرقل يأخذ كل كلمة وكل نقطة يثبت بها لـأبي سفيان وللجميع ولنفسه قبلهم أن هذا رسول من عند الله.
ثم قال: وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: فلو كان من آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا؛ فقلت: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
هذه هي تحليلات هرقل ، فما هي النتيجة لهذا التحليل؟ لقد كانت النتيجة خطرة فعلاً، يقول بمنتهى الصراحة: فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم. مستبعد أن يكون من العرب، ثم قال: فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
هذه كلمات خطيرة وعجيبة جداً من زعيم الإمبراطورية الرومانية، أيقن هرقل من أول وهلة أن هذا الرجل رسول حقاً، وأن ملكه سيتسع حتى يأخذ بلاد الشام، وأنه وجب الاتباع له والانصياع الكامل لأمره، بل والرضوخ لقوله تماماً، والتواضع الشديد إلى درجة أن هرقل يتمنى أن لو غسل قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا المجلس عندما انتهى هذا الحوار دعا هرقل بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة التي جاءت مع دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه، وقرأ هذا الكتاب في وجود أبي سفيان ومن معه، ونحن لا نعرف هل هذه أول مرة يقرأ هرقل فيها الكتاب، أو كان قد قرأه قبل ذلك وأعاد القراءة مرة أخرى؟
المهم أنه قرأ كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام أمام أبي سفيان ومن معه من العرب، وأمام الرومان الموجودين، وبدأ يقرأ الكلمات العجيبة التي ذكرناها قبل ذلك من الرسول عليه السلام إليهم، وفيها دعوة صريحة إلى دخول الإسلام.
فما أن انتهى من القراءة حتى سمع أصواتاً عالية جداً وكثر اللغط وارتفعت الأصوات في كل مكان، وضجت القاعة بالاعتراض على كل كلمة من كلمات هذا الكتاب النبوي، فزعماء النصارى وأمراء الجيوش وعلماء الدين كل هؤلاء رفضوا تماماً هذه الدعوة الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما حصل هذا الكلام أمر هرقل بـأبي سفيان ومن معه من التجار أن يخرجوا من القاعة.
وتصور معي موقف أبي سفيان وهو يرى رهبة هرقل عندما سمع قصة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وموقفه عندما رأى قناعة هرقل الذي سمع عن الرسول عليه الصلاة والسلام مرة واحدة، وأبو سفيان له سنين وسنين مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يؤمن برسالته بعد، وتصور موقفه وهو يسمع رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم القوية التي وجهت إلى زعماء الدول العالمية الكبرى في ذلك الوقت، فهذا الكلام ترك أثراً نفسياً هائلاً عند أبي سفيان حتى إنه ضرب يداً بالأخرى متعجباً وقال: لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة. يعني: عظم أمر ابن أبي كبشة، يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: إنه ليخافه ملك بني الأصفر. يعني: هذا هرقل زعيم الرومان يخشى الرسول عليه الصلاة والسلام.
لا شك أن هذا الحدث سيحفر تماماً في ذهن أبي سفيان ، سيكون له بعد ذلك أبلغ الأثر في قرارات أبي سفيان ، وسنرى مواقف عجيبة جداً من أبي سفيان إلى أن يسلم بعد ذلك في فتح مكة.
لقد كان هرقل على استعداد لاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في المقابل كانت هناك ثورة كبيرة جداً في داخل البلاط الملكي ترفض تماماً فكرة الإسلام، وأدرك هرقل أنه إذا أعلن رغبته في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن عليه أن يغامر بملكه، وعليه أن يخاطر بسيادته على شعبه، وقد ينزعه الأمراء نزعاً من رئاسة البلد، حتى إنه في رواية قال لـدحية بن خليفة الكلبي الذي هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظر، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته.
وفي رواية أخرى ذكرها ابن كثير رحمه الله: أن هرقل اتبع الأسقف الأكبر للرومان فدخل عليه، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقف الكتاب، قال: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى، الذي كنا ننتظره.
قال هرقل : فما تأمرني؟
قال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه. الأسقف الأكبر آمن.
فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل. يعني: أنا أعرف أنه نبي، لكن لا أستطيع أن أتبعه، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.
وفي رواية أخرى: أن هذا الأسقف كان اسمه صغاطر وأنه خرج إلى الرومان، ودعا جميع الرومان إلى الإيمان بالله تعالى، وإلى الإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعلن الشهادة أمام الجميع: أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فماذا عمل الناس؟ قام الناس كلهم إليه فضربوه حتى قتلوه.
وهذا الأسقف كان أعظم شخصية في الدولة الرومانية، وهو أعلم من هرقل عند الناس، وعلم هرقل بقتل هذا الرجل الأسقف الكبير فلم يستطع أن يفعل أي شيء مع من قتله، وهذا دلالة على ضعفه الشديد أمام الكرسي الذي يجلس عليه.
إذاً: هرقل عقد مقارنة سريعة جداً بين الملك والإيمان، وبين الحياة ممكناً وبين الموت شهيداً، فأخذ القرار بمنتهى السهولة، واختار الملك والحياة، ورفض الإيمان والشهادة، لم يكن ذلك لعدم تيقنه من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه ضن بملكه وضحى بالإيمان.
فأمر الإيمان واضح جداً، وإعجاز القرآن ظاهر، وطريق الإسلام مستقيم، والدلائل على صدق هذا الدين بينة وقاهرة وظاهرة للجميع، والإنسان هو الذي يختار، وعلى قدر قيمة الشيء في نفس الإنسان يضحي، والناس كلها تضحي، ولا أحد يستطيع أن يجمع كل شيء، والواحد قد يضحي بالإيمان من أجل أن يأخذ الملك، وآخر قد يضحي بالملك من أجل أن يأخذ الإيمان، فـهرقل وأمثاله ينطبق عليه قول الله عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].
ويقول الله عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس:108].
و هرقل لا يمكن أن يعذر في عدم إسلامه مهما كانت فتنته، ومهما كان راغباً في الملك راهباً من الموت؛ لأن الإيمان لا يوزن إلى جواره شيء.
ويعلق الإمام النووي رحمه الله على موقف هرقل فيقول: ولا عذر له في هذا؛ لا عذر له في ترك الإيمان مهما كان سيضيع منه أو سيقتل، لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شح بالملك وطلب الرئاسة.
ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله أيضاً تعليقاً على هذا الحديث: ولو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب: (أسلم تسلم)، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة وأسلم، لسلم له كل الدنيا وكل الآخرة، لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله عز وجل.
و هرقل بعد كل هذا اليقين اكتفى بأنه يُحمِّل دحية الكلبي بعض الهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفكر في قضية الإيمان، مع أنه كان يعلم أنه في يوم من الأيام سيئول كل ملكه الذي يحكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوقن بذلك؛ لأن ذلك موجود في التوراة والإنجيل، وقد قال قبل ذلك بوضوح في حواره مع أبي سفيان : (إنه سيملك موضع قدمي هاتين) وعندما غادر بيت المقدس إلى القسطنطينية، قال وقد أشرف على الشام حين طلع فوق ربوة عالية وأطل على الشام بكاملها، ثم قال: السلام عليك يا أرض سوريا. يسلم عليها تسليم الوداع، وأنه لن يرجع إليها مرة أخرى.
أدرك أن هذه البلاد لن تبقى بعد هذا الظهور لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تحت سيطرته، وبعد كل هذه القناعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذا اليقين بنبوته لم يقف هرقل عند حد عدم الإيمان، ولم يقبل بالحياد، ولكن سير الجيوش تلو الجيوش لحرب المسلمين، مع إحساسه الداخلي أنه سيهزم، وأنه ليس من الممكن أبداً أن ينتصر على نبي ولا على أتباع نبي، لكن هذا لإحساس لم يمنعه من اتباع الشياطين، ومحاولة مقاومة هذا الدين الجديد: دين الإسلام، بداية من مؤتة ومروراً بتبوك، وبعد ذلك معارك متتالية كثيرة في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وتركيا.. وغيرها، ومع فشله في كل هذه المعارك، ومع تناقص الأرض من حوله، ومع ظهور صدق الرسول عليه الصلاة والسلام يوماً بعد يوم إلا أن هرقل لم يؤمن، ويبدو أن فتنة الكرسي لا تعدلها فتنة.
هذا هو موقف الدولة الرومانية، اعتذار مهذب، ثم بعد ذلك حرب ضروس، وهذا الموقف نراه كثيراً جداً في التاريخ والواقع، نراه كثيراً من زعماء وأمراء وعلماء ورجال دين العالم، يعرفون صدق الإسلام، ويعرفون نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنهم يرفضون هذه النبوة حفاظاً على كراسيهم، وشحاً بملكهم، هم قد يحاولون في بعض الأحايين إقامة العلاقات الدبلوماسية اللطيفة، من تبادل الهدايا مع المسلمين، مثل ما عمل هرقل ، لكن حتماً سيأتي يوم تقف فيه الهدايا ويبدأ فيه الصراع، وبدلاً من كلمات التحية سيكون التهديد والإنذار، وبدلاً من الرسائل والسفراء ستكون القذائف والجيوش.
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
إذاً: إذا كنا وقفنا هذه الوقفة مع رد فعل هرقل والإمبراطورية الرومانية من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نقف وقفة مماثلة مع رد فعل كسرى فارس والإمبراطورية الفارسية، وهي الدولة الثانية التي تقتسم العالم مع الدولة الرومانية.
لقد رأينا من هرقل ميلاً في البداية إلى الإسلام، ثم حرباً ومقاومة.
أما كسرى فارس وكان اسمه إبرويز بن هرمز ، وقد ظهر عداؤه للإسلام من أول لحظة قرأ فيها الخطاب، وكان ينوي تدمير هذا الدين الجديد وحرب هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لكسرى هو نفس خطاب هرقل إلى حد كبير، بدأ فيه بالبسملة، ثم بعد ذلك قال: (من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس)، ثم بعد ذلك دعا صلى الله عليه وسلم كسرى إلى الدخول في الإسلام، لكن مع تغيير يسير في بعض الألفاظ لتناسب كسرى فارس والديانة التي هم عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، واشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]، فأسلم تسلم، فإن أبيت، فإن إثم المجوس عليك) خطاب في منتهى القوة.
فغضب كسرى غضباً شديداً عندما سمع هذا الخطاب، وتعامل معه بسطحية بالغة، لم يلتفت إلى المعاني التي فيه، ولا إلى الرسالة التي يشير إليها الخطاب، لكن كل الذي نظر إليه الشكليات التي في الخطاب، فأمسك الخطاب ومزقه، وقال في غطرسة: عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي، وسب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما وصلت هذه الكلمات إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه)؛ لأنه مزق الكتاب.
وبالفعل ففي غضون سنوات قليلة جداً من هذه الأحداث مزق الله عز وجل ملك كسرى تماماً، وامتلك المسلمون كل الأراضي الفارسية، وسقطت الإمبراطورية الفارسية تماماً، وكانت تسيطر على مساحات هائلة من الأرض.
هذه هي النبوة في مواجهة الغطرسة المجوسية الكافرة، لكن كسرى فارس إبرويز لم يكتف بهذه الكلمات وبتقطيع الخطاب، لا، بل إنه حاول أن يعتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يعاقبه بنفسه، فأرسل رسالة إلى عامله الفارسي على بلاد اليمن، وكانت اليمن مستعمرة فارسية، وهي قريبة من المدينة المنورة، فأرسل رسالة إلى عامل اليمن واسمه باذان وكان فارسياً، وطلب منه أن يبعث رجلين من رجاله ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة فارس.
انظروا يبعث اثنين فقط من الرجال ليأتيا بزعيم المدينة المنورة، وانظروا كيف كانت نظرة كسرى فارس للعرب، بعث اثنين من الرجال ولم يبعث جيشاً ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة الدولة الفارسية، وقال لهما: أخبراه إن هو رفض فسيقتل، وسيهلك كسرى قومه ويخرب بلاده، فذهب الرسولان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالا له هذا الكلام، فطلب الرسول عليه الصلاة والسلام طلب منهما في أدب جم أن ينتظرا إلى اليوم التالي وسيرد عليهما، وجلسا في المدينة تلك الليلة، وفي هذه الليلة التي جاء فيها رسولا كسرى أتى الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بنبأ عجيب، أخبره أن هذا الزعيم الفارسي المتغطرس إبرويز قتل في نفس الليلة، ومن الذي قتله؟ قتله ابنه شيرويه بن إبرويز ، وكانت هذه الوقعة في ليلة الثلاثاء (10) جمادى الآخرة سنة (7) هـ، وفي اليوم التالي أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرسولين وجلس معهما وقال لهما: (إن ربي سبحانه وتعالى قتل ربكما الليلة، ففزع الرسولان وقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من ذلك، أنكتب عنك بهذا ونخبر الملك
وذهبت الأيام وجاء خطاب من الزعيم الجديد في بلاد فارس شيرويه بن إبرويز جاء خطاب إلى باذان عامل اليمن يقول له فيه: إنه قد قتل أباه إبرويز ؛ بسبب أنه قتل الكثير من أشراف فارس، وكاد أن يودي بفارس إلى الهلاك.
سوعندما وصل هذا الخطاب إلى باذان ، حدد باذان الليلة التي قتل فيها إبرويز ، فوجد أنها نفس الليلة التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم، فأيقن أن هذا رسول من عند الله عز وجل، وأن الذي أخبره بذلك وحي من عند الله عز وجل؛ لأن المسافات بين المدينة والمدائن هائلة، ومستحيل على أهل ذلك الزمن بأي صورة من الصور أن يعلموا الأحداث التي تحدث في كل بلد، وأنه لا يتم هذا إلا بمعجزة خارقة، فعند ذلك علم باذان أن هذا رسول، وأخذ القرار الذي لم يستطع آلاف وآلاف غيره أخذه، أخذ قرار الإسلام، وسبحان الله الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فأسلم باذان وحسن إسلامه وأسلم أبناؤه، وأسلم كل الفرس تقريباً في اليمن، وأسلم الرسولان اللذان بعثهما باذان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم بعد ذلك كثير من أهل اليمن.
فهذه الأحداث تفسر لنا قول الله عز وجل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما أرسل رسالة إلى كسرى فارس يريد إسلام شعب فارس الذي هو في الشمال الشرقي من المدينة المنورة، ويريد الله عز وجل أن يسلم بهذه الرسالة شعب اليمن الذي هو في الجنوب، وهو بعيد جداً عن منطقة فارس، وهذا يلفت نظرنا لشيء مهم جداً ألا وهو أن جهد الداعية لا يضيع، بل يبقى جهد الداعية وينتشر، ولكن ليس بالضرورة أن ينتشر في الاتجاه الذي يريده الداعية، فالله عز وجل يسير الكون بنظام بديع، وتنسيق محكم، وحكمة بالغة، والقلوب بين أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء، فأنت أيها الداعية عليك الدعوة، والله سبحانه وتعالى يفتح القلوب.
وبالفعل كان الرسول صلى الله عليه وسلم عند وعده، فقد أعطى ولاية اليمن لـباذان رضي الله عنه، وكان إسلام اليمن إضافة كبيرة جداً لقوة المسلمين.
أما كسرى فارس الجديد شيرويه بن إبرويز مع أنه توقف عن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوقف عن التفكير في عقاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يريد أبوه، إلا أنه لم يفكر في الإسلام أصلاً، وبذلك تجمدت تقريباً العلاقات بين الدولة الإسلامية والدولة الفارسية، التي تحركت بعد ذلك بسنوات في عهد الصديق رضي الله عنه، عندما بدأت الفتوحات الإسلامية.
إذاً: هذا كان موقف الدولة الفارسية من خطاب ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما هوذة بن علي صاحب اليمامة، فإنه عندما وصلت إليه الرسالة لم يفكر في الإسلام؛ لأنه أعجب بالإسلام، لكنه فكر فيه لأنه شعر بقوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنبأ لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم بمستقبل كبير، من أجل ذلك قرر أنه يفاوض الرسول عليه الصلاة والسلام وأرسل له رسالة، قال فيها: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك)، هذه مساومة.
والرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هوذة بن علي وعده أن يعطيه ما تحت يديه من اليمامة إن أسلم، لكن هوذة بن علي رغب في مساومة الرسول عليه والصلاة والسلام حتى يأخذ ملكاً أكبر، وعلق إسلامه على هذا الشرط، والرسول صلى الله عليه وسلم يرفض أن يطلب أحد الإمارة، ويرفض أن يعطي الإمارة لمن يطلبها، كما جاء في البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه)، لماذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع الإمارة لمن يطلبها؟ لأنه يعلم أن من سيتولى الإمارة وهو حريص عليها فلن يعود ضرره عليه فقط، ولكن سيعود الضرر على كل من يقود؛ لأنه مفتون بالإمارة، وسيضحي من أجلها لا من أجل الإسلام، ولأنه لو تعارض الإسلام مع استمراره في الإمارة سيترك الإسلام ويتمسك بالإمارة، وهنا قد يتبعه قومه، وستكون كارثة ومشكلة كبيرة؛ من أجل ذلك لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الإمارة لأحد طلبها، ومن أجل ذلك علق الرسول عليه الصلاة والسلام على موقف هوذة بن علي وقال: (لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت)، ثم تنبأ له بالهلكة، قال: (باد وباد ما في يديه)، وتحقق تنبؤ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أقل من سنتين، حيث مات هوذة بن علي وفقد ملكه ولم يسلم.
من الزعماء الذين أرسل إليهم الرسول عليه الصلاة والسلام الرسائل الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق، وكان هذا الرجل نصرانياً تابعاً لـهرقل قيصر الروم، وكان رده تقريباً نفس رد كسرى زعيم فارس، ألقى الخطاب وقال: من ينزع ملكي مني؟ وأنا سائر إليه، وبدأ في تجهيز الجيوش من أجل أن يغزو المدينة المنورة، لكن قبل أن يفعل هذا أحب أن يستأذن هرقل وبعث له برسالة، فتزامن وصول رسالة الحارث مع وصول رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ، فـهرقل قال له: لا، انتظر، لا ندري ماذا سيحدث بعد ذلك من الأحداث؟ فأمره ألا يرسل الجيوش، فانصاع الحارث إلى كلام هرقل ولم يرسل الجيوش، وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم رد فعل الحارث قال: (باد ملكه)، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ما لبث أن مات وباد ملكه تماماً، بل دخل ملكه بعد ذلك في ملك المسلمين.
إذاً: هذه كانت ردود الأفعال المختلفة لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام للعالمين، وكما رأينا اختلف رد الفعل من إيمان سريع، إلى تفكير ثم إسلام، إلى حياد مؤدب، إلى رفض للإسلام، إلى حرب الإسلام، ردود مختلفة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ونخلص من كل هذه الرسائل إلى أنه ليس من واجب الداعية أن يفتح قلوب الناس إلى الإسلام أبداً، لكن من واجب الداعية أن يصل إليهم بدعوته بيضاء نقية، ثم بعد ذلك فإن الله سبحانه وتعالى سيفتح قلوب من يشاء إلى الهدى والإيمان، قال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99] والرسول عليه الصلاة والسلام عمل هذا البلاغ على أتم ما يكون.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور | 4061 استماع |
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً | 3973 استماع |
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى | 3936 استماع |
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك | 3782 استماع |
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة | 3719 استماع |
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية | 3649 استماع |
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن | 3637 استماع |
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة | 3571 استماع |
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية | 3401 استماع |
سلسلة السيرة النبوية نصر مؤتة | 3320 استماع |