سلسلة السيرة النبوية فتح مكة


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد.

فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

مع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.

في الدرس السابق تحدثنا عن خيانة ونقض بني بكر وقريش للعهد الذي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل عدد من رجال خزاعة المحالفة للدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ومن ثم أخذ صلى الله عليه وسلم القرار بفتح مكة، وتجهيز أكبر عملية عسكرية في تاريخ المسلمين حتى تلك اللحظة.

والواقع أن قريشاً بعد أن قامت بهذه الجريمة وساعدت بني بكر على قتل الرجال من خزاعة في داخل الحرم جلست قريش مع نفسها تتشاور في هذه القضية، فهي قضية خطيرة جداً: قضية نقض الصلح مع المسلمين، فزعماء قريش عقدوا مجلساً استشارياً كبيراً واجتمع في هذا المجلس أبو سفيان مع قادة مكة، اجتمع مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو .. وغيرهم من رجال مكة وزعمائها، وبدءوا يفكرون فيما سيفعلونه نتيجة هذا الأمر الذي حدث وهو نقض المعاهدة، وقد كان هناك تصور عند قريش وخاصة عند أبي سفيان عن المسلمين وصل في تلك اللحظة إلى درجة الانبهار، فصلح الحديبية نفسه كانت الغلبة فيه للمسلمين، والقوة والبأس في صالح المسلمين، والتفريط والتنازل في صف قريش، وتحدثنا عن ذلك بالتفصيل، وقريش ما كانت لتسلّم بذلك الأمر لولا أنها رأت قوة المسلمين، وكان هذا منذ سنتين عندما كان عدد المسلمين (1400) فقط في بيعة الرضوان أو في صلح الحديبية، ثم سافر أبو سفيان بعد الصلح إلى غزة للتجارة، وهناك التقى مع هرقل في اللقاء الذي تحدثنا عنه قبل ذلك ودارت بينهما المحاورة العجيبة، وخرج أبو سفيان من هذه المحاورة بتصور هائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ضرب يداً بيد وقال: (لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليخافه ملك بني الأصفر -يعني: هرقل - فما زلت موقناً أنه سيظهر) الشاهد أن أبا سفيان كان يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر في يوم من الأيام، ثم إن أبا سفيان ومن معه من أهل قريش شاهدوا الانتصارات الإسلامية المتتالية هنا وهناك، وبالذات في خيبر ثم في مؤتة، وكانت هذه الانتصارات كبيرة جداً وضخمة جداً، ثم أسلمت الدول والقبائل المحيطة بمكة المكرمة، أسلمت اليمن، وأسلمت البحرين، وأسلمت عمان .. وغير ذلك من القبائل، وكل هذا ترك تصوراً بالرهبة والهلع عند قريش من مواجهة المسلمين، أضف إلى ذلك أن قريشاً بدأت تبحث في الفوائد المتحققة من مساعدتها لبني بكر في الخيانة التي تمت بقتل مجموعة من رجال خزاعة، فلم تجد أي نوع من الفائدة تحققت؛ لأن هذه معركة داخلية بين بني بكر وبين خزاعة، فإعانة قريش لبني بكر على حرب خزاعة يعتبر تهوراً ملحوظاً، بالإضافة إلى هذه الأمور خلفية عمرة القضاء، فقبل أقل من سنة واحدة رضي أهل مكة بمنتهى الضعف أن يدخل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وهو الذي طردوه وعذّبوه وأساءوا إلى سمعته، وحاربوه بكل طاقتهم، وافقوا أن يدخل إلى مكة ومعه ( 2000) من أتباعه لأداء العمرة، وأخلوا مكة له، وهذا لا شك ترك انطباعاً وتصوراً نفسياً قاسياً عند أهل قريش، ولا ننسى مظاهر القوة التي حرص صلى الله عليه وسلم أن يظهرها في هذه العمرة، ولا ننسى انبهار قريش بقوة المسلمين وتعليقات قريش عندما رأوا جيش المسلمين وقوة المسلمين، وعمرة القضاء كانت تمهيداً نفسياً إيجابياً للمسلمين، وكانت تمهيداً نفسياً سلبياً للمشركين، وهذا كله من تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى.

إذاً: قريش في اجتماعهم أدركوا أن احتمال الحرب وارد، واحتمال غزو مكة مع صعوبة تصور هذا الأمر على الذهن أمر محتمل، وبناء على هذا الاجتماع أخذت قريش قراراً صعباً، بل من أصعب القرارات في تاريخ قريش، وهو الذهاب إلى المدينة المنورة لاستسماح الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتغاضى عن هذا الخطأ، وأن يطيل الهدنة، وهذاً تنازل كبير جداً، وطعن كبير جداً في كرامة قريش، وخاصة أن الذي اختاروه للذهاب هو أبو سفيان شخصياً، أي: زعيم مكة وسيد مكة، ليس مجرد سفير ترسله مكة ولكن زعيم مكة بكاملها وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل مع المسلمين، وله حروب متتالية مع المسلمين، وهاهو أبو سفيان يتنازل عن كبريائه وعن كرامته ويذهب إلى المدينة المنورة؛ ليطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطيل الهدنة، وهذا شيء كبير جداً، ولعل هذه هي ولعله المرة الأولى في تاريخ قريش التي تقدم فيها تنازلاً بهذه الصورة.

ذهب أبو سفيان إلى المدينة المنورة يحاول قدر المستطاع أن يمنع الرسول عليه الصلاة والسلام من الانتقام لخزاعة والثأر لكرامته وكرامة الأمة الإسلامية، وأن يطيل المدة بأي ثمن.

ومن هذا الحدث سنأخذ قاعدة مهمة جداً، وهذا القاعدة ليست فقط في أيام الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنها ستظل معنا إلى يوم القيامة وهي: إذا كان عدوك حريصاً على السلام وحريصاً على تجنب الصدام بكل ما أوتي من قوة ويدفعك إليه دفعاً فاعلم أنه ضعيف، أو على الأقل يخشى قوتك فلا تضعف ولا تجبن.

فأتى أبو سفيان كي يحاول قدر المستطاع أن يتجنب الصدام، وسنجد الوقفة الإسلامية أمام أبي سفيان ، في بداية دخوله إلى المدينة المنورة ذهب إلى ابنته، وبنت أبي سفيان كانت زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام وهي أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها أم المؤمنين، والتقى أبو سفيان مع أم حبيبة رضي الله عنها، وكان هذا اللقاء بعد غياب (16) سنة متصلة، فقد كانت أم حبيبة رضي الله عنها هاجرت إلى الحبشة، وبقيت في الحبشة فترة طويلة من الزمان، ثم تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام وأتت إلى المدينة المنورة، ولم تمر بمكة منذ (16) سنة متصلة، فالعلاقة بينها وبينه منقطعة فترة طويلة، فكان أبو سفيان يظن أن أم حبيبة ستستقبله استقبالاً حافلاً فهو أبوها، ومنذ فترة طويلة من الزمن لم ير أحدهما الآخر، لكن عندما أراد التحدث معها وأراد الجلوس على الفراش، فإذا بها تطوي الفراش وتمنعه من الجلوس، فاستغرب أبو سفيان فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ فقالت السيدة أم حبيبة في صلابة وفي قوة: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه، فقال أبو سفيان : يا بنية والله لقد أصابك بعدي شر، ثم خرج.

لنا وقفة مع موقف السيدة أم حبيبة ، فقد يقول المحلل لهذا الموقف، إن هذا الموقف فيه نوع من الغلظة غير المقبولة من السيدة أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان ، والواقع أن في مثل هذه الظروف تكون الغلظة؛ فـأبو سفيان ليس إنساناً عادياً، بل زعيم مكة، والجميع في المدينة المنورة يعلم أن هناك نقضاً للمعاهدة التي تمت بين المسلمين وبين قريش، وأنه قد جاء إلى المدينة المنورة لكي يطيل المدة، والرسول عليه الصلاة والسلام قد أنبأهم بذلك قبل أن يأتي أبو سفيان في معجزة نبوية ظاهرة، قال صلى الله عليه وسلم: (كأنكم بـأبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة)، فعرف المسلمون أنه أتى لهذا الغرض، لذلك أرادت أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها أن تقف هذه الوقفة الصلبة الجريئة القوية مع أبيها؛ ليعلم أبو سفيان أن المسلمين جميعاً صف واحد، وأنهم جميعاً على قلب رجل واحد، حتى إن ابنته أم حبيبة رضي الله عنها وقفت مع الرسول عليه الصلاة والسلام ضد أبيها أبي سفيان ، فهذا ترك انطباعاً وتصوراً سلبياً كبيراً جداً عند أبي سفيان ، فقد عرف أنه يقف أمام أناس من الصعب أن يحاربهم، وليس هذا السلوك الإسلامي العام مع الرحم المشرك أو الرحم غير المسلم؛ لأن الله عز وجل أمر بمصاحبة الآباء والأمهات المشركين بالمعروف، قال سبحانه وتعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، والذي يؤكد على هذا المعنى ما جاء في البخاري عن السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: (قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: أنها جاءت في نفس فترة صلح الحديبية، فالسيدة أسماء سألت الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: (يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صليها)، وهذا هو الأصل في المعاملة، لكن موقف أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان موقف مختلف، كان موقفاً صحيحاً بدليل سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التصرف من السيدة أم حبيبة رضي الله عنها.

ثم خرج أبو سفيان من عند السيدة أم حبيبة بهذه الصدمة الكبيرة، واتجه مباشرة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليحاول أن يطيل المدة كما ذكرنا، فتحدث أبو سفيان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر له رغبته، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض أن يرد عليه، حتى مجرد الرد لم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس هو التصرف المعتاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسن استقبال الضيوف ويُكرم الضيوف، وخاصة أن هذا زعيم من زعماء قريش، وكان يستمع منهم الرسول عليه الصلاة والسلام ويقبل منهم ويتحاور معهم، لكن في هذا الموقف لم يحدث؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يفتح مكة، فهو يريد أن يستغل هذه الفرصة السانحة، ولا يريد لكلمات أبي سفيان أن تؤثر عليه بصورة من الصور، ومع ذلك لم يقل عليه الصلاة والسلام: أنتم فعلتم كذا وكذا، ولم يهدد، ولم يذكر كلاماً شديداً مع أبي سفيان ؛ كل ذلك لكي لا يلفت نظر أبي سفيان إلى أن احتمال فتح مكة والهجوم عليها أصبح أمراً وارداً، فآثر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسكت وأن يصمت ولا يرد على أبي سفيان بأي كلمة، فـأبو سفيان لما لم يتفاوض معه الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقبل أن يرد عليه أصلاً، خرج بهذه الأزمة النفسية الكبيرة إلى أبي بكر الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن كنا نتوقع من أبي سفيان أن يعود أدراجه إلى مكة المكرمة وقد غضب غضباً شديداً وثار ثورة كبيرة، وينقلب بجيشه على المدينة المنورة ثأراً لكرامته، لكن كل هذا لم يحدث؛ لأنه ضعيف جداً، ويعلم أنه ضعيف أمام هذه الصلابة الإسلامية الواضحة، فذهب أبو سفيان إلى أبي بكر وطلب منه نفس الكلام، لكن الصديق رضي الله عنه قال له في صرامة واضحة: ما أنا بفاعل.

يعني: لن أتوسط بينك وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج أبو سفيان من عند أبي بكر بالصدمة الثالثة.

أول صدمة كانت لـأبي سفيان مع أم حبيبة رضي الله عنها، والثانية مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والثالثة مع أبي بكر ، ومع ذلك لم ييئس أبو سفيان واتجه إلى الوزير الثاني في الدولة الإسلامية وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليته ما فعل، فأول ما ذهب وطلب منه نفس الطلب أن يطيل المدة بينه وبين المسلمين، قال عمر بن الخطاب بمنتهى القوة: أنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به.

انظروا إلى قوة وصلابة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهذه هي الصدمة الرابعة التي أخذها أبو سفيان في المدينة المنورة، وأيضاً لم ييئس بل خرج من عند عمر بن الخطاب واتجه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسيدنا علي متزوج من السيدة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل عندهما، وكان عندهما الحسن رضي الله عنه يلعب بينهما، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحماً، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً.

انظروا إلى هذا الذل من أبي سفيان ، ثم يقول: فاشفع لي عند محمد، فقال علي بن أبي طالب : ويحك أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام عندما سمع بخيانة بني بكر وقريش وقتلهم لرجال من خزاعة وصل إلى درجة من الغضب ما نستطيع أن نكلمه، ولا نعلم ماذا سيفعل صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الصدمة الخامسة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة رضي الله عنها وقال لها: يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ أي: أن الطفل الصغير الحسن بن علي رضي الله عنهما يخرج ليجير أبا سفيان وأهله وقومه وقريشاً، فقالت السيدة فاطمة : والله ما بلغ ابني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذه هي الصدمة السادسة، فقال أبو سفيان ليأخذ الصدمة السابعة والأخيرة وهو يخاطب علي بن أبي طالب قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ فانصحني، قال: والله ما أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، فقال: أوترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال علي بن أبي طالب في منتهى الوضوح: لا والله، ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك، ومع هذا الإحباط الذي أصاب أبا سفيان إلا أنه قام فعلاً في المسجد وقال: يا أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، فلم يقم أحد من المسلمين.

هذه سبع صدمات وضربات متتالية لـأبي سفيان زعيم قريش، ولم يجد أي أمل، فكّر في الرجوع إلى مكة المكرمة، وبالفعل صعد على بعيره، وفي طريقه إلى مكة مر على سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم وأرضاهم، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. كان هذا الكلام من هؤلاء الثلاثة: سلمان وصهيب وبلال ، وهؤلاء كانوا من الذين يُباعون ويُشترون، فمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهم وهم يقولون ذلك، فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ أي: أن أبا بكر تأثر لـأبي سفيان ، وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: إن سلمان وصهيباً وبلالاً قالوا كذلك وكذا لـأبي سفيان .

فماذا كان رد الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم)، لم يقف صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق في رأفته ورحمته لـأبي سفيان ، إنما وقف مع سلمان وصهيب وبلال يقدّر موقفهم، وفي نفس الوقت يؤثر نفسياً على أبي سفيان قال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؛ لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر وقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي) .

فالشاهد من القصة أن الموقف ليس موقف دعوة الآن، ولكنه موقف تجهيز لحرب، فالأموال والديار والحقوق المسلوبة آن لها أن ترجع، وإن كنا قد قبلنا في الحديبية أن نقر الهدنة دون عودة كامل الحقوق، فإن ذلك كان لظروف المرحلة السابقة، وتقديرنا لقوتنا وقوة عدونا في ذلك الوقت، أما الآن فالظروف قد تغيرت ولن نقبل بما قبلنا به قبل ذلك أيام الحديبية، ولهذا كان هذا رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم.

ثم عاد أبو سفيان إلى مكة وفشلت مهمته فشلاً ذريعاً وخسر أكثر مما كسب، وعندما عاد إلى مكة المكرمة ودار بينه وبين زعماء قريش الحوار قالوا له: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلّمته فوالله ما رد عليّ شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيراً، ثم جئت عمر فوجدته أعدى عدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم وقد أشار عليّ بأمر صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا، قالوا: فبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: هل أجاز ذلك محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قالوا: ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، فقال أبو سفيان : لا والله ما وجدت غير ذلك. أي: أنه لم يكن هناك أي حل إلا أن يعمل هذا، مع أنه لن يجد فائدة، هكذا وضعت قريش في مأزق خطير، وعلمت قريش أن هناك احتمالاً كبيراً جداً لغزو مكة المكرمة، وبدأت قريش تترقب قدوم المسلمين، وهي لا تستطيع أن تعمل شيئاً، فلم يعد من أعوانها إلا بنو بكر، ولم يعد أمامها إلا الانتظار، هذا هو الموقف في مكة.

وهنا ننظر ما الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد عودة أبي سفيان إلى مكة المكرمة؟

أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم استنفاراً عاماً على كل المستويات لكل أهل المدينة المنورة، وإرسال استدعاءات للمسلمين في القبائل المختلفة، وممن أرسل إليهم غطفان، وأرسل إلى بني سليم، وإلى فزارة، وهؤلاء هم الأحزاب الذين حاصروا المدينة منذ ثلاث سنوات، والرسول صلى الله عليه وسلم اتفق مع هذه القبائل على التلاقي عند مر الظهران، ومر الظهران على بعد حوالي (22) كيلو من مكة المكرمة، أي: أن هذه القبائل ستأتي من طرق مختلفة؛ لكي لا تستطيع عيون قريش تقدير عدد الجيش المسلم، وفي نفس الوقت أخرج الرسول عليه الصلاة والسلام سرية على رأسها أبو قتادة رضي الله عنه للتمويه، أرسل هذه السرية إلى اتجاه بعيد عن اتجاه مكة المكرمة؛ ليلفت أنظار القرشيين إلى أنه لا يريد مكة المكرمة، وأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً بالسرية التامة، وبعدم إخبار أي إنسان خارج المدينة المنورة بأمر هذا الغزو لمكة المكرمة، ثم رفع يده إلى السماء ودعا وقال: (اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فجأة) وبدأ الإعداد الضخم للخروج من المدينة المنورة.

في ذلك الوقت حدثت قصة لا أريد أن أقف عندها كثيراً؛ لأني سأحيلها إن شاء الله إلى مجموعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين، لكن نمر سريعاً على هذا الحدث، فالحقيقة أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه أخطأ خطأ كبيراً بإرادته بكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش، فهو أرسل إليهم رسالة يخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إليهم، ولماذا فعل هذا؟ لأن له عائلة بمكة المكرمة وخشي عليها من بطش قريش، وليست له قبيلة كبيرة بمكة تدافع عن أسرته، فهو رجل حليف ليس من أهل مكة الأصليين، وهذا الأمر لا يبرر أبداً له هذا الخطأ الكبير، لكن هذا هو الذي حصل، ونزل الوحي يكشف للرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، واستطاع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل من يأتي بالرسالة التي أرسلها، وأحبطت هذه المحاولة، وهذا الصحابي الجليل لم يرتكب هذا الخطأ لأنه من المنافقين، بل هي لحظة ضعف خاف فيها على أسرته، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عفا عنه وتجاوز عن هذا الخطأ؛ لسابق تاريخه رضي الله عنه في الإسلام، وكما هو معروف أن حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام منع عمر من إيذائه وقال له: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطّلع على قلوب من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، هذا الحدث يحتاج إلى تفصيل، ولكن كما قلنا سنتحدث عنه بالتفصيل في مجموعة أخطاء المؤمنين.

خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة المنورة وكان هذا الخروج في (10) رمضان سنة (8هـ)، واتجه مباشرة إلى مكة المكرمة، وفي الطريق بدأت البشريات تتوافد على المسلمين أولاً في طريقه وبمجرد أن خرج من المدينة المنورة لقي العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الناس إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، فقد كان تأخر إسلام العباس رضي الله عنه وأرضاه علامة استفهام كبيرة جداً، حتى إن هناك من قال: إنه قد أسلم أيام بدر، ولم يفسّر تفسيراً واضحاً بقاءه في مكة المكرمة دون هجرة كل هذه السنوات، وهناك من قال: إنه بقي في مكة لنقل الأخبار للرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يقم أحد الأدلة على ذلك، لكن الحمد لله أنه هاجر قبل أن يصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة، وذلك أسعد الرسول عليه الصلاة والسلام جداً، وسر سروراً عظيماً برؤية العباس رضي الله عنه وأرضاه، وانضم العباس إلى قوة المسلمين، وسيكون له دور إيجابي كما سنرى ذلك في فتح مكة المكرمة.

ثم أكمل الرسول عليه الصلاة والسلام الطريق وقد زادت قوة المسلمين بـالعباس رضي الله عنه، فوجد رجلين آخرين: أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية ، أحدهما ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، والآخر ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذان الرجلان كانا من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءا من مكة المكرمة إلى المدينة ليعلنا إسلامهما بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وتخيل من شدة إيذائهما للرسول عليه الصلاة والسلام رفض عليه الصلاة والسلام أن يقابلهما، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يفرح كثيراً بمن أتى إليه مسلماً، إلا أنه رفض في البداية مقابلتهما من شدة إيذائهما له في فترة الفترة المكية، لولا أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها وكانت مصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتح فتوسطت لهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقابلهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل منهما الإسلام بعد أن أعلنا التوبة الكاملة بين يديه صلى الله عليه وسلم.

فهذه كانت بشريات، وبدأت بشائر مكة تظهر، ومن الواضح أن أثر الخيانة التي حدثت في مكة واضطراب الوضع فيها والهزيمة النفسية عند أهلها أثرت كثيراً على معنوياتهم، فبدءوا بالتفكير بجد في قضية الإسلام.

أكمل الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق، وكما ذكرنا أن هذا الخروج كان في رمضان سنة (8 هـ)، وصام الجيش معظم الطريق حتى وصلوا إلى كراع الغميم، وكراع الغميم تقريباً على بعد (60) كيلو أو أكثر من مكة المكرمة، وفي كراع الغميم جاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه أن الناس قد شق عليهم الصيام، وكان هذا بعد صلاة العصر، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ دعا صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء ورفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب صلى الله عليه وسلم، وهذا في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

نجد في هذا الموقف أن الرسول عليه الصلاة والسلام عقد مقارنة سريعة هامة بين الصوم وبين الجهاد في سبيل الله، فالصوم عبادة عظيمة جداً، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، كذلك الجهاد عبادة عظيمة جداً، وهو ذروة سنام الإسلام، وصرّح الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا يعدله شيء أيضاً كما في البخاري عن أبي هريرة ، فهو في هذا الموقف يقارن بين عبادتين عظيمتين، وهذا الموقف كان محيّراً للبعض إلا أن الرؤية كانت واضحة جداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك دعا بقدح فيه ماء فشرب وهو صائم، مع أن الموقف كان بعد صلاة العصر، ولم يبق إلا قليل ويدخل وقت المغرب، لكن فعل ذلك عليه الصلاة والسلام ليزرع أكثر من معنى في نفوس المسلمين:

أولاً: هناك ما يسمى بواجب الوقت، بمعنى أن هناك أشياء لا بد أن تتم الآن، وأشياء أخرى من الممكن أن تؤخر إلى وقت لاحق، فتأخير الصيام لا يضر، لأننا من الممكن أن نقضيه بعد انتهاء فتح مكة، لكن الجهاد الآن لا يؤخر، وخاصة أن الجيش على بعد (60) كيلو من مكة المكرمة.

ثانياً: ليس من الممكن أن تأتي بكل أنواع الخير، أو تتجنب كل أنواع الشر، هذه من المثاليات غير الممكنة في الدنيا، لكن المسلم الحكيم يوازن بين العمل الفاضل والعمل المفضول، فيقدم الفاضل ويؤخر المفضول، ولا يكون هذا إلا بترتيب جيد للأولويات، وواقعية في الفكر والأداء، وتوفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى.

ثالثاً: أن الإسلام ليس شعائر تعبدية فحسب، ومع ذلك ترى الكثير من المسلمين يقصر التزامه بالإسلام على الصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر.. ونحو ذلك من الشعائر، نقول: الإسلام دين جاء ليحكم كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس، ونحن رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يؤخر عبادة وشعيرة هامة جداً ليقوم بأمر آخر من الإسلام أيضاً في صالح الأمة ألا وهو الجهاد في سبيل الله، فالجهاد من الإسلام، والسياسة من الإسلام، والتجارة من الإسلام، والمعاملات من الإسلام.. وهكذا؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام أفطر وأمر الناس بالإفطار وهذا بعد وقت صلاة العصر، بل إن في صحيح مسلم : (أن بعض الصحابة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن بعض الصحابة لم يفطروا مع الناس)، ماذا علّق صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أولئك العصاة.. أولئك العصاة) مع أنهم لم يرتكبوا ذنباً، لكن هذه المخالفة في ذلك الوقت ستجعل قوتهم ضعيفة لا يستطيعون الجهاد مع المسلمين، فهنا خالفوا واجب الوقت، وخالفوا تقليد الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، فسمّاهم صلى الله عليه وسلم العصاة، مع أنهم يصومون رمضان في رمضان، وهذا يحتاج إلى تدبر عميق وفقه؛ لكي نستطيع فهم الأبعاد التربوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مر الظهران، ومر الظهران على بعد (22) كيلو من مكة المكرمة، وهناك التقت الجنود من القبائل المختلفة من قبائل فزارة ومن قبائل بني سليم ومن غطفان ومزينة وجهينة ومن المدينة المنورة.. من كل مكان، عشرة آلاف جندي، هذه هي الطاقة الإسلامية، وهذا الوضع كنفس الوضع الذي كان في غزوة الأحزاب ولكن بصورة عكسية، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] قبل الفتح بثلاث سنوات حوصرت المدينة بعشرة آلاف مشرك، والآن تحاصر مكة بعشرة آلاف مسلم، العدد هو العدد لكن شتان بين الفريقين.

أراد الرسول عليه الصلاة والسلام لقريش هزيمة نفسية؛ لكي يدخل مكة بأقل الخسائر الممكنة، فأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في فكرة نبوية عبقرية رائعة أن يشعلوا النيران جميعاً، أي كل فرد منهم يشعل شعلة ويرفعها بيده، فأصبحت عشرة آلاف شعلة من النيران، فالنيران بحد ذاتها مرعبة، فإذا رآها الناس شعروا بالرهبة، وهذه الفكرة كانت مثيرة ومرعبة لأهل قريش، وشاهدوها جميعاً؛ لأن المسافة (22) كيلو بين جيش المسلمين وبين مكة فهي مسافة قريبة يستطيع أهل قريش أن يروا فيه النيران، ومع هذا كان من قريش المراقبين والجواسيس على مقربة من مر الظهران، ورأوا هذه النيران عن قرب، ومن هؤلاء أبو سفيان شخصياً، وتصور مدى الهلع والرعب عند سيد قريش وعند زعيم مكة الذي يدفعه أن يخرج بنفسه ليراقب أحوال المسلمين، وكان معه بديل بن ورقاء الخزاعي ، وذكرنا قبل هذا أن بديل بن ورقاء كان صديقاً شخصياً لـأبي سفيان ومع أن بديلاً استغاث بالرسول عليه الصلاة والسلام إلا أنه لم يكن يتوقع أبداً أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام بجيش يفتح مكة المكرمة عقر دار قريش، كان كل أحلامه أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيطلب من قريش أن تدفع دية المقتولين من خزاعة، لكن الآن يشاهد جيشاً كبيراً أتى إلى مكة المكرمة.

وهنا يأتي كلام العباس رضي الله عنه وأرضاه عن هذا الموقف العجيب، وهذا في الطبراني بسند صحيح عن العباس رضي الله عنه، فـالعباس عندما رأى عشرة آلاف جندي على أبواب مكة المكرمة، ومع ذلك فـالعباس لا يزال حديث الهجرة، بل قد يكون حديث الإسلام، وقريش قبيلة قوية جداً، وإسلامها لا شك أنه أفضل من قتلها، ثم هم الرحم والأهل والعشيرة، فأول ما رأى هذا العدد يقترب من مكة المكرمة قال: وا صباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.

فبدأ يبحث عمن يخبر قريشاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد جاء ليخرجوا ليستأمنوه، فهو الآن لا يدل على أسرار الجيش؛ لأن الجيش قد كشف أمره، فقد أشعل عشرة آلاف شعلة حول مكة المكرمة، فليس هناك أي نوع من التخفي، فالآن هو يريد لقريش أن تستأمن لنفسها، فركب بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام وبدأ يبحث عن أي إنسان يصل بخبر إلى مكة المكرمة، فسمع همسات من رجلين يتحدثان فأحدهما كان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً ولا عسكراً، فرد عليه صوت آخر وقال: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب. أي: أن خزاعة جاءت لتنتقم لنفسها من قريش، فقال الأول: خزاعة! والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، فسمعهم العباس بن عبد المطلب فعرف الصوت فناداهما، فكان الصوت الأول أبا سفيان والصوت الثاني بديل بن ورقاء الخزاعي ، وكما ذكرنا أن بديل بن ورقاء يعيش في داخل مكة المكرمة؛ فهو لا يعرف أحوال خزاعة، وهل خزاعة جاءت بجيش أو غير خزاعة؟

المهم أن العباس رضي الله عنه لما ناداهما فعرف أبو سفيان صوته فقال: أبو الفضل ؟ -أي: العباس بن عبد المطلب - فقلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي، فقلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وا صباح قريش والله، قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمنه لك، فوافق أبو سفيان دون تردد؛ لأن موقفه صعب جداً فهو زعيم قريش.

فوافق دون تردد وانصاع لنصيحة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وركب خلفه على بغلة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وانطلق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع بديل بن ورقاء إلى مكة المكرمة، وفي ذهابهما إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كانا كلما مرا على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فيقولون: هذه بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا عم الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أن مرا على نار عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال: من هذا؟ وقام إليه فرأى العباس ووجد خلف العباس أبا سفيان ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منتهى القوة: أبي سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، فقرر عمر بن الخطاب قتل أبو سفيان ، فرأى العباس موقف عمر بن الخطاب فأسرع بـأبي سفيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأسرع عمر بن الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يصل قبل العباس ، لكن العباس دخل على الرسول عليه الصلاة والسلام قبل عمر بن الخطاب ، إلا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم قبل أن يتكلم العباس ، وقال: (يا رسول الله! هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه).

يعني: تاريخ طويل بين أبي سفيان وبين المسلمين، هناك حروب متتالية قادها أبو سفيان ضد المسلمين، وذكريات أليمة عند المسلمين من وراء أبي سفيان ، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الموقف أراد أن ينتصر لله عز وجل ويقتل أبا سفيان ، لكن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله إني أجرته، ثم جلست إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخذت برأسه فقلت: لا والله، لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر أما والله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك عرفت أنه رجل من رجال بني عبد مناف، قال عمر بن الخطاب : مهلاً يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم -الذي هو أبوه شخصياً- قال عمر : وما به إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب)، وهذا الكلام صدق من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهب به إلى رحلك يا عباس فإذا أصبح فائتني به) أي: أنه صرف أبا سفيان مع العباس بن عبد المطلب وعاد عمر بن الخطاب إلى رحله، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في القضية.

فنحن نعذر عمر في موقفه؛ لأن أبا سفيان كان قد قاد الحرب ضد المسلمين في السنوات الست الأخيرة، وارجعوا إلى الحوار الذي دار بين أبي سفيان وبين المسلمين بعد غزوة أحد، لتروا مدى الشماتة التي كانت عنده في المسلمين، ومدى رضاه بالمثلة التي حدثت للشهداء، وخاصة أن المثلة حدثت في أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حمزة بن عبد المطلب وحدثت في أصحابه الشهداء، وهم (70) شهيداً مثِّل بهم في غزوة أحد، وارجعوا أيضاً إلى غزوة الأحزاب ورغبة أبي سفيان الأكيدة في إهلاك جميع المسلمين، وكل هذا تاريخ طويل جداً لـأبي سفيان مع المسلمين.

وإن كنا نعذر عمر في هذا التصرف وهذا العرض الذي قدّمه لقتل أبي سفيان في ذلك الوقت الذي ليس له عقد ولا عهد، إلا أن موقف العباس كان أفضل في هذا المقام لأمور:

أولاً: قد يسلم أبو سفيان ويحسن إسلامه.

فكسب مسلم إلى الصف خير من قتل كافر، ونجاة إنسان من النار خير من سقوطه فيها، مهما كان هذا الإنسان.

ثانياً: أن هذا أصلح لقريش؛ لأن إسلام أبي سفيان قد يؤدي إلى إسلام قريش، فتنجو قريش بكاملها في الدنيا والآخرة، وتضاف قوة قريش إلى قوة المسلمين، وهذا نصر كبير.

ثالثاً: هذا أحفظ لدماء المسلمين؛ لأن أبا سفيان قد يمنع قريش من المقاومة، وبهذا يسهل عملية فتح مكة، أما قتل أبي سفيان فقد يثير قريشاً؛ لأنه زعيمهم، وقد يثير بني أمية، لأنه أيضاً من أكبر رءوس بني أمية، فقد تدور حرب الله عز وجل أعلم بعواقبها.

ومما يؤكد أن رأي العباس كان أفضل في هذه القضية أن الرسول عليه الصلاة والسلام مال إلى هذا الرأي، ولكنه تعامل صلى الله عليه وسلم مع القضية بتوازن رائع يجمع بين الترهيب والترغيب، ويجمع بين القوة والرحمة، ويجمع بين الذكاء السياسي والفقه الدعوي، فموقفه مع أبي سفيان في اليوم التالي والحوار الذي دار بينهم من أروع مواقف السيرة.

لقد عرض الرسول عليه الصلاة والسلام الإسلام على أبي سفيان بمنتهى القوة، فهو يعرض عليه الإسلام لنجاته وإلا فالأصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام في حل من دماء قريش؛ لأنهم خالفوا صلح الحديبية وقتلوا رجالاً من قبيلة خزاعة حليفة المسلمين، فعرض عليه الإسلام بصيغة فيها ترهيب واضح قال: (ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟) تهديد واضح، ذهب وقت الإقناع والمحاورة، والآن نحن على أبواب حرب، وأبو سفيان ليس بالرجل السهل فهو من دهاة العرب، واستطاع أن يقوّم الموقف بأسرع وقت وبصورة واقعية، ولذلك تلطّف في الحوار وأجاب بصورة تجمع بين الموافقة وعدم الاقتناع الكامل، فقال أبو سفيان : (بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً)، وبعد مدح الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجاوب إجابة مباشرة قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن قال: لو كان هناك آلهة أخرى كاللات أو هبل.. أو غيرهما لدافعت عنا، فانتقل معه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النقطة الأصعب: وهي الاعتراف بنبوة الرسول عليه الصلاة والسلام: لأن العرب ما كانوا ينكرون أن الله عز وجل هو الخالق، ولكنهم كانوا يشركون معه أصنامهم، أما قضية النبوة والرسالة فهذه كانت مرفوضة عندهم تماماً، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟) فـأبو سفيان حتى هذه اللحظة لم يقتنع بقضية الإيمان، وهو لا يريد في نفس الوقت أن يكذب وهو سيد قريش، وكان كما يقول عن نفسه: وكنت امرأ أتكرم على الكذب، وفي نفس الوقت لا يريد أن يأخذ موقفاً حاداً تكون فيه نهايته، وإنما قال أبو سفيان : (بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، هذه والله كان في نفسي منها شيء حتى الآن)، أي: أنه وإلى هذه اللحظة لم يكن مقتنعاً بنبوته صلى الله عليه وسلم، فهو متردد، لا يتصور أبو سفيان أن تنهار مقاومته كلها في لحظة، وهنا تدخل العباس رضي الله عنه ليدرك أبا سفيان فـالعباس مدرك صعوبة الموقف، واحتمال قتل أبي سفيان وغزو مكة وإهلاك قريش احتمال وارد جداً، وعمر بن الخطاب صرّح بذلك في اليوم الذي قبيل هذا اليوم، فقال العباس في منتهى القوة: (ويحك يا أبا سفيان أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك)، وهذا ليس إكراهاً في الدين، بل هو رحمة؛ لأن قتل أبي سفيان في هذا الموقف لا يستنكره أحد؛ فهو يسمى في أعراف الدول: بمجرم الحرب؛ لأنه دبر اغتيالاً جماعياً قبل ذلك لسكان المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، هذا غير فتنة الناس عن دينهم طول سنوات مكة والمدينة، غير نقضه العهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية، فقد أصبح حلال الدم، وهذا في عرف الجميع مقبول، وإسلامه يرفع عنه عقوبة مستحقة وله الخيار، فـأبو سفيان رجل واقعي فقد أدرك خطورة الموقف ولذلك نطق بالشهادتين مباشرة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأعلن إسلامه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، والعباس رضي الله عنه صديق قديم لـأبي سفيان ، ويرى الأزمة التي وضع فيها أبو سفيان ، ويرى الانهيار الذي تعرض له، ولهذا طلب العباس رضي الله عنه من الرسول عليه الصلاة والسلام طلباً ليخرج أبا سفيان من هذه الأزمة، فقال: (يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً)، هنا بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يفكر في الأمر، ومن الواضح أن إسلام أبي سفيان كان إسلام اضطرار، فهو لم يقتنع بعد بالنبوة، ولم يشعر بالانتماء الحقيقي للنظام الجديد، فقد ينتهز أي فرصة للانقلاب على المسلمين، وأبو سفيان عظيم مكة لعدة سنوات، فإن لم ينزله صلى الله عليه وسلم منزله فإن هذا سيؤثر سلباً لا شك على أبي سفيان وعلى أهل مكة جميعاً، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أعطى أبا سفيان شيئاً فهو سوف يستخدمه لصالح الإسلام، وسيكون أبو سفيان من رجاله وولاته بدلاً من أن يكون من أعدائه، وقد يرى ذلك بقية زعماء مكة فيطمعون في شيء من سلطان المسلمين كما أخذ أبو سفيان ؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يعطيه شيئاً، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لا يملك مالاً كثيراً يليق بزعيم مكة، ولا يستطيع أن يعده بإمارة؛ لأنه لم يستوثق بعد من صدق إيمانه؛ لأن الظاهر أنه أسلم مضطراً، وقد يؤذي المسلمين بإمارته سواء على مكة أو غيرها، ففكر الرسول صلى الله عليه وسلم في إعطائه شيئاً ينفع ولا يضر، قال صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن) فالرسول صلى الله عليه وسلم خصه بخصيصة تجعله مميزاً على أقرانه من أهل مكة، وهي أن داره أصبحت مأوى لأهل مكة وأماناً لهم، لكن المتدبر حقيقة في الأمر يجد أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه شيئاً بلا خسارة، هذا الشيء لا يقدم ولا يؤخر كثيراً عند المسلمين، بينما هو يكسب قلب أبي سفيان ؛ لأن أي إنسان يُغلق عليه بابه سيكون في نفس الأمن الذي في دار أبي سفيان ، أي: أنه ليس هناك مزية واضحة، لكن جعل له نوعاً من الفخر والشرف الذي ينفع ولا يضر، وهنا نجد التوازن الرائع، ونجد أيضاً أن أبا سفيان بهذه المنحة التي أعطاها له الرسول صلى الله عليه وسلم سيدخل إلى مكة دافعاً للناس أن يدخلوا بيوتهم، وألا يقاوموا، وفي هذا تسكين لثورة الغضب في داخل مكة المكرمة، وفي هذا تسهيل لفتح مكة المكرمة دون خسائر كبرى، إنها حكمة سياسية هائلة، وفقه دعوي على أعلى مستوى، لكن هنا ملمح مهم جداً نريد أن نقف عليه وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام، بهذا القرار، وهو قرار تأمين من دخل دار أبي سفيان أو المسجد أو من لزم بيته بهذا القرار يكون قد أصدر قرار حظر تجوّل مؤقت في مكة، ومنع الناس من السير في شوارع مكة؛ لأن هذا القرار سيقصر الأمان على من دخل بيته أو بيت أبي سفيان أو المسجد، أما من لم يدخل بيته وسار في الشارع بغض النظر عما يفعله في الشارع فهو غير آمن، هذا حظر تجوّل ليمنع الناس من أي فرصة للمقاومة، وفي نفس الوقت ليمنع القتل العشوائي في أهل مكة، فهذه عملية عسكرية خطيرة جداً، ونريدها أن تتم بأقل خسائر ممكنة من الطرفين.

وهذا الفعل وإن كان يتبدى فيه الحزم الواضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه يظهر الرحمة عنده صلى الله عليه وسلم، فهو لا يريد إراقة دماء أهل مكة، مع أن دماء المسلمين سالت غزيرة قبل ذلك.

إذاً: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قرار حظر التجوّل في مكة، وهذا يشبه في زماننا قرار الطوارئ، فأحياناً يتخذ هذا القانون في ظروف صعبة خاصة تمر بها البلد، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يطبّق هذا القانون الخاص الاستثنائي لمدة سنة أو سنتين أو عشرة أو عشرين أو خمسة وعشرين سنة، ولكن طبقه عدة ساعات فقط، وهذا دليل قوته صلى الله عليه وسلم، ودليل قوة حكومته ومدى تجانس هذه الحكومة مع الشعب الذي يُحكم، حتى وإن كان هذا الشعب هو شعب مكة الذي حارب الرسول صلى الله عليه وسلم سنين وسنين.

لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدرك أن طول مدة هذه الطوارئ ستترك انطباعاً سلبياً عند الشعب، يوحي بغياب الأمن والأمان في الدولة، ولهذا سارع بانتهائها.

إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام خاطب أبا سفيان في البداية بالقوة والحزم، ثم بعد إسلامه أعطاه شيئاً يفخر به، ويمتلك قلبه بهذا الفخر مع عدم فقد الدولة الإسلامية لأي شيء، بالعكس فقد استخدمه ليفتح الطريق لجيوش المسلمين لتدخل مكة بغير قتال، ومع كون المشهد في ظاهره قد انتهى إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد ألا يترك أي فرصة للشيطان مع أبي سفيان ، وقد يكون إسلام أبي سفيان هنا إسلاماً عارضاً جداً للخروج من المأزق فقط، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزلزل معنويات أبي سفيان حتى لا يبقى عنده أي أمل في المقاومة، فماذا فعل الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم؟ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب أن يقف بـأبي سفيان عند مكان ما يشاهد فيه الجيوش الإسلامية وأعدادها وعدتها وتنوع أفرادها، وتعدد قبائلها، لقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يريه الأحزاب المؤمنة، فشتان بين هذه الأحزاب وبين الأحزاب التي قادها أبو سفيان قبل ذلك؛ ليعلم أبو سفيان أنه لا طاقة له فعلاً بهؤلاء، قال الرسول عليه الصلاة والسلام للعباس : (يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها) فنفذ العباس الأمر النبوي وأخذ أبا سفيان وأوقفه عند المنطقة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، ووقف أبو سفيان يشاهد العرض العسكري الإسلامي المهيب، جنود الله كما سماها الرسول صلى الله عليه وسلم، وانبهر أبو سفيان فعلاً وفقد كل أمل في المقاومة، وانبهار أبي سفيان ليس لأنه أول مرة يشاهد فيها هذه الأعداد، لا، بل قد شاهد هذه الأعداد منذ ثلاث سنوات تقريباً في غزوة الأحزاب، رأى (10000) مقاتل، بل كان هو يرأسها جميعاً، وإنما انبهر لأمور:

أولاً: لأن الله عز وجل يلقي الجلال والرهبة والهيبة على جنوده سبحانه وتعالى، وفي ذات الوقت يلقي الرعب في قلوب أعداء الدين، فيرون أحد المسلمين عشرة، ويرون القوة اليسيرة من المسلمين قوة هائلة.. وهكذا.

ثانياً: أنه رأى في هذه الجيوش عدة قبائل كانت تربطه بهم علاقات قوية جداً، لم يكن بينه وبينها عداء يذكر، فإذا بهذه القبائل جميعاً تجتمع تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: وحدة الصف التي رآها أبو سفيان ، واجتماع الجميع على قلب رجل واحد، والألفة والمودة والصلابة في مشيتهم وفي تصميمهم، وهذا الكلام كله يزلزل أبا سفيان .. مشهد يدعو إلى انبهار أي مراقب.

لا شك أن انبهار أعداء الأمة بالصف المسلم المتحد أمر لا ينكر، فكم رأينا من قوى عالمية تخشى طائفة يسيرة من المسلمين لا لشيء ولكن لقوة إيمانهم ووحدة صفهم وحسن إعدادهم، والتاريخ يتكرر.

ننتقل إلى وصف العباس رضي الله عنه لحالة أبي سفيان عند رؤية الجيوش الإسلامية.

قال العباس : ومرت به القبائل على راياتها، فكلما مرت قبيلة قال أبو سفيان : من هؤلاء؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم تمر القبيلة الأخرى فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة؟..، وهكذا كلما مرت قبيلة سأل من هؤلاء؟ فيرد العباس بنو فلان.. وهكذا، فيقول: ما لي ولبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة الخضراء، وهذه الكتيبة فيها المهاجرون والأنصار كما يقول العباس بن عبد المطلب : لا يرى منهم إلا الحدق. أي: أن الكتيبة مغطاة بالدروع والسلاح لا ترى إلا أعينهم من خلال الدروع، قال أبو سفيان وهو في أشد حالات الانبهار: (من هؤلاء يا عباس ؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال أبو سفيان في منتهى اليأس: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة، فقال: فنعم إذاً، قلت: النجاء إلى قومك، قال: فخرج أبو سفيان حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به)، وهنا يحقق الغرض الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام من أجله أعطاه هذا الفخر، فهذا يمنع قريشاً من المقاومة، ويحقن دماء قريش ودماء المسلمين جميعاً، فقه سياسي عال جداً، قال: هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، ثم قال: فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ولم يقل: من دخل داره، ولكنه اكتفى بما هو له؛ ليظهر فخره: فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه امرأته وهي هند بنت عتبة وهي من أشد المقاومين للإسلام ومن أشد المحاربين له، فأخذت بشاربه وقالت للجميع: اقتلوا الدسم الأحمس -أي: السمين- فبئس من طليعة قوم، ثم قال: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاء ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فتجمع الناس عليه وقالوا له: ويلك وما تغني عنا دارك؟ فقال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس ودخلوا دورهم والمسجد.

لقد أصبح أبو سفيان في نهاية اليوم مدافعاً عن دخول الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة، فاتحاً الطريق له.

عند اقتراب الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بدأ يضع الخطة العسكرية لدخول مكة، فقسّم جيشه إلى أربعة فرق: فرقة على رأسها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهذه تدخل من جنوب مكة، وهي فرقة فرسان قوية جداً.

الفرقة الثانية: على رأسها الزبير بن العوام رضي الله عنه وتدخل من كداء شمال مكة المكرمة، وهي أيضاً فرقة فرسان.

وهاتان الفرقتان تحاصران مكة كأنها بين فكي كماشة.

الفرقة الثالثة: هي فرقة من الرجّالة المشاة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.

أما الفرقة الرابعة: فهي فرقة الأنصار رضي الله عنهم وعلى رأسها سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وفي هذه الفرقة كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام أمر الفرق الأربع بالالتقاء عند الصفا، كل فرقة تأتي من ناحية وتدخل مكة المكرمة ثم يلتقون جميعاً عند جبل الصفا بالقرب من البيت الحرام.

فمعظم الناس في مكة استمعوا لكلام أبي سفيان ودخلوا الأماكن الآمنة، إما أنهم دخلوا المسجد الحرام، أو دخلوا بيوتهم، أو دخلوا دار أبي سفيان ، لكن بعض زعماء قريش غير أبي سفيان قرروا القيام بمحاولة يائسة للمقاومة لعلها تنجح مع جمع أوباش قريش، يعني: العبيد والفقراء وعوام الناس، فهؤلاء الزعماء يدفعون بهؤلاء الأوباش إلى قتال الجيش الإسلامي، وكان يرأس هؤلاء عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وهما من أشهر فرسان قريش، وكانت النتيجة في حسابات زعماء قريش أحد أمرين: إما نصر، وسيكون هذا النصر للسادة، وإما هزيمة فعندها سيسلمون للرسول عليه الصلاة والسلام ما يريده، ولو كانت الهزيمة قاسية وفقد الجيش؛ لأن الجيش هم من الأوباش الذين لا قيمة لهم عندهم، وهكذا هي الجيوش العلمانية، النصر للسادة، والتضحية والبذل للعبيد، أقصى أحلام الجندي المنتصر في الجيوش العلمانية أن يعطى نيشاناً أو عدة عشرات أو مئات من الجنيهات، وعند الهزيمة يضحون بالآلاف والملايين، أما السادة في الجيوش العلمانية فيحتفلون بالنصر ولا يدفعون أثمان الهزائم، وهذا الكلام خلافاً للجيوش الإسلامية تماماً، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يقاتل مع جنوده كأحدهم تماماً، يعاني كما يعانون ويتعرض للخطر كما يتعرضون، والغنائم في حالة الفوز توزّع على جيش المنتصر، والهزيمة يشترك في دفع ثمنها الجميع.

وهذا الأمر يزرع الانتماء في قلوب الجميع بصورة تلقائية طبيعية، فهذا هو الوضع في الجيوش الإسلامية، لكن الوضع في مكة كان غير هذا، فقد كان الوضع في مكة عبارة عن قبول المعظم من الناس بدخول البيوت وتجنب القتال، إلا فرقة من العبيد والفقراء يقودهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ، وكانت متمركزة عند منطقة تسمى الخندمة في جنوب مكة، وهذه الأخبار تصل الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ثم أصدر الرسول عليه الصلاة والسلام عدة أوامر، أصدر ثلاثة أوامر رئيسية:

الأمر الأول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، فليس الغرض من الفتح هو الانتقام من أهل مكة، رغم كل التاريخ الأسود لكفارها، لكن الغرض هو حكم هذه البلدة الطيبة بالإسلام، وتعليم الناس دين رب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا حكم عام ينطبق على كل الحروب الإسلامية، ورأيناه في جميع الفتوحات الإسلامية.

الأمر الثاني: إذا لقيتم أوباش قريش الذين يقاتلون فاحصدوهم حصداً. في مقابل الرحمة في الأمر الأول هناك الحزم والقوة في الأمر الثاني، فلا بد أن يرى أهل الباطل قوة المسلمين وبأسهم، وعندها ستلين قناتهم، وسيسلس قيادهم، وهذا أحفظ لدمائهم ودماء المسلمين.

الأمر الثالث: إهدار دم مجموعة من كفار مكة، وهذه المجموعة ارتكبت جرائم شنيعة في حق الدولة الإسلامية، وهي جرائم لا تغتفر، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المشهور بالرحمة والمعروف بالرفق واللين يقول في حقهم: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة) وكانوا بضعة عشر رجلاً وامرأة، وكانت هذه دلالة واضحة جداً على جدية الدولة الإسلامية، وعدم قبول الدولة الإسلامية بأي حال من الأحوال أن يسخر أحد منها أو من رموزها، وخاصة أن معظم هؤلاء الذين أُهدر دمهم كانت جريمتهم هي سب الرسول صلى الله عليه وسلم والسخرية منه، والتعريض به والتهكم عليه، ولا يخفى على أحد أن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالطعن في أي قائد؛ لأنه ليس مجرد زعيم للدولة الإسلامية، بل هو ناقل عن رب العزة، ورسول من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالطعن فيه طعن في دين وشرع وقانون وكيان الدولة الإسلامية، وهو ما لا يجب أن ينسى بسهولة؛ ولهذا كان الأمر الصارم: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة)، وبعضهم قتل فعلاً وبعضهم تاب، وعاد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأعلن التوبة الصريحة بين يديه وقبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فقد كانت هذه هي أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام للجيش الإسلامي:

عدم قتال إلا من قاتل.

الشدة والقوة في حق من تصدى للمسلمين إهدار دم مجموعة من مجرمي الحرب المكيين.

دخلت الجيوش الإسلامية مكة كما خطط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكث معظم أهل مكة في بيوتهم وكانت شوارع مكة في الأغلب خالية من المارة، وكانت رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم الأكيدة ألا يحدث قتال، وخاصة في هذا البلد الحرام، فهي أحب البلاد إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، ومع وضوح هذه الرغبة في كلام وأفعال الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن بعض الصحابة كانت تراودهم أحلام الانتقام ممن أذاقوا المسلمين العذاب ألوانه، من ذلك أن سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الأنصار وقائد كتيبة الأنصار قال في حماسة عند دخوله مكة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، وهذه الكلمات تعبر عن رغبة في القتال، مع أن هذه الكلمات لها خلفية شرعية ولها منطق مقبول إلا أنها لم ترض الرسول صلى الله عليه وسلم، فالخلفية الشرعية أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن مكة قد أحلت له ساعة من نهار) يعني: القتال في ذلك الوقت قتال شرعي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريده فقط عند الاضطرار، وأن الأصل ألا نقاتل، ولكن منطق سعد بن عبادة هذا منطق مفهوم ومقبول، فالمنطق كان يؤيد هذا الأمر في رأي العموم من الناس؛ فمكة الآن محكومة بأهل الكفر وقتالهم واجب، فهؤلاء هم الذين عذّبوا المؤمنين، وهم الذين أخرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام آذوه وأصحابه قبل ذلك، بل إن سعد بن عبادة قد تعرض لأذى قريش بصورة مباشرة، وارجعوا إلى درس بيعة العقبة الثانية ففي آخر البيعة أمسك المشركون بـسعد بن عبادة وضربوه ضرباً مبرحاً مع كونه سيد الخزرج، ومن الشخصيات الهامة جداً في الجزيرة العربية، ولا شك أن هذه الحادثة تركت في نفسه أثراً وأراد أن يعاملهم بالمثل فقال مثل هذه الكلمات، ومع كل هذه المبررات إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يريد قتالاً فعلاً، ووصلت إليه كلمة سعد بن عبادة عن طريق أبي سفيان ، وأبو سفيان ارتعب عند سماع كلمة سعد بن عبادة هذه، وأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يستوثق من أمر الأمان لأهل مكة، فقال صلى الله عليه وسلم عندما سمع هذه الكلمات: (اليوم يوم المرحمة) يرد على كلمة سعد : اليوم يوم الملحمة، قال عليه الصلاة والسلام: (اليوم يوم المرحمة، هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة) فالرسول صلى الله عليه وسلم صحح المفاهيم ولم يكتف بذلك، لقد خشي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ سعد بن عبادة فرقته من الأنصار بهذه الروح القتالية فيتساهل في أمر القتال، لذلك نزع الراية منه وأعطاها لغيره، لكن بفقه دعوي رائع جداً أراد أن يطيب خاطر سعد بن عبادة ولا يؤثر على نفسيته وخاصة أنه زعيم الخزرج، فأعطى الراية لـقيس بن سعد بن عبادة ، فكان قراراً في منتهى الحكمة وأرضى به كل الأطراف، أرضى سعد بن عبادة وأرضى نفسه صلى الله عليه وسلم بتنفيذ القرار ألا يقاتل إلا من قاتل، وأرضى أبا سفيان الذي اشتكى إليه هذه الكلمة القاسية عليه، وخاصة أنه قد أعطى أماناً لأهل مكة.

دخلت الجيوش الإسلامية مكة من كل مكان، ولم تلق قتالاً يذكر إلا في جنوب شرق مكة كما ذكرنا عند منطقة اسمها الخندمة، حين تزعم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش وقاتلوا في هذه المنطقة، والذي دخل من الجنوب من المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه بفرقة قوية من الفرسان، ومع كون خالد رضي الله عنه صديقاً قديماً وحميماً لـعكرمة ولـصفوان إلا أنه كان متجرداً تمام التجرد، وقاتل قتالاً شديداً رائعاً تطاير من حوله المشركون، وما هي إلا لحظات حتى صارت الفرقة المشركة ما بين قتيل وأسير وفار، وهرب صفوان بن أمية وكذلك عكرمة بن أبي جهل هربا من مكة بكاملها، وخمدت المقاومة تماماً في مكة المكرمة، وفتحت مكة أبوابها لخير البشر صلى الله عليه وسلم ليدخلها آمناً مطمئناً عزيزاً.

لعل هذه هي أعظم لحظات السيرة النبوية فهي اللحظة التي مسحت آثار المعاناة والألم، واللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة، واللحظة التي سيحكم فيها حرم الله بشرع الله عز وجل، ثلاث عشرة سنة متصلة في مكة من الألم والتعذيب والاضطهاد، أين أولئك الساخرون من الإسلام؟ أين أولئك المتهكمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين الذين كانوا يقولون: شاعر، أو مجنون؟ أين الزعماء والأسياد والأشراف والقواد؟ أين الجبابرة والطواغيت؟ لا تسمع منهم اليوم إلا همساً.

لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام عند دخوله مكة كان يستعرض شريطاً كاملاً للذكريات، ومر على ذهنه صلى الله عليه وسلم وهو يدخل مكة بهذا الدخول العظيم الفاتح، تذكر هنا كانت الطفولة والشباب، وهنا نزل عليه جبريل عليه السلام للمرة الأولى، وهنا كانت خديجة رضي الله عنها، ذكريات (25) سنة كاملة، ذكريات الجهاد والصبر حتى الوفاة.

هنا مرت لحظات سعيدة جداً على المسلمين، لحظة يوم أسلم الصديق ويوم أسلم عمر ويوم أسلم عثمان وعلي وحمزة وأبو عبيدة وسعد .. ذكريات جميلة، هنا دار الأرقم بكل ذكرياته الجميلة أيضاً.

وهنا في نفس الوقت الصبر والكفاح والثبات، فمن هنا خرج المهاجرون إلى الحبشة، ومن هنا خرج المهاجرون أيضاً إلى المدينة المنورة، ومن هنا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق في هجرة صعبة في مطاردة شرسة، وزعماء الكفر جميعاً قد جندوا أنفسهم لحربه أو لقتله، يلتفت إلى مكة حال خروجه منها ويقول: (والله إنكِ لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت) وبعدها تمر الأيام وتمر السنين، أحداث ساخنة، ومواقف صعبة، جهاد ومشقة، وعناء وكفاح..، لكن ما غابت مكة عن الذهن لحظة واحدة، وهنا يتحقق حلم السنين، أصبح الأمل واقعاً، وصار الحلم حقيقة، وهناك أناس كثيرون يظنون أن هذا أمر مستحيل، لكن تبقى الحقيقة الواضحة: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44] إنه نصر الله وتدبير الله وتوفيق الله، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك ذلك تمام الإدراك؛ لذلك لم يدخل مكة دخول المنتصرين المتكبرين، رافعاً رأسه متعالياً على غيره، ناسباً النصر لنفسه، حاشا لله، ولكنه دخل مكة دخول المتواضعين لله عز وجل الخاشعين له، خفض رأسه صلى الله عليه وسلم في تواضع حتى كادت أن تمس ظهر دابته، دخل وهو يتلو سورة النصر، فيذكر نفسه ويذكر المؤمنين حوله ويذكر المؤمنين إلى يوم القيامة، بل ويعلم الناس جميعاً أن النصر من عند الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى إذا قضى شيئاً فلا راد لقضائه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3].

وصار الموكب المهيب الجليل حتى دخل صحن الكعبة، ليبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلامية الدولة وربانية التشريع، وليرسّخ القاعدة الأصيلة إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57].

ونسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرفع رايات الموحدين، وأن يرينا يوماً تفتح فيه بلاد الأرض بالإسلام ويظهر فيه الدين، ويعز الله عز وجل فيه المؤمنين، ويذل فيه المشركين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

كما نسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.

ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الخير دائماً.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور 4061 استماع
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً 3973 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى 3935 استماع
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك 3781 استماع
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة 3718 استماع
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية 3648 استماع
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن 3637 استماع
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام 3453 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية 3401 استماع
سلسلة السيرة النبوية نصر مؤتة 3320 استماع