سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

هذا هو الدرس الرابع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.

في الدروس السابقة تحدثنا عن الظروف التي بدأ فيها صلى الله عليه وسلم إنشاء دولته، وتحدثنا عن علاقته مع الطوائف المختلفة التي عاصرت هذا القيام، سواء كانوا مسلمين من أوس وخزرج ومهاجرين .. وغيرهم، أو كانوا مشركين.

وفي الدرس السابق تحدثنا عن مشركي قريش كفار مكة، وكيف كادوا لأمة الإسلام، وكيف خرج صلى الله عليه وسلم من الأزمة بنجاح، وبتدبير متقن معروف وبخطوات ثابتة، وترك لنا تشريعاً يستطيع المسلمون أن يخرجوا به من كل أزمة مشابهة.

اليوم حديثنا مع أمر في غاية الأهمية والخطورة، وهو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود الذين كانوا في داخل المدينة، تعلمون أنه في داخل المدينة تعيش ثلاث قبائل كبرى لليهود: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وفي شمال المدينة المنورة ووادي القرى تعيش مجموعة ضخمة أخرى من اليهود متجمعة أساساً في منطقة خيبر، كيف تعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه الطوائف والقبائل المختلفة من اليهود؟

طبيعة اليهود وكيفية تعاملهم مع المسلمين

حتى نعرف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لابد أن نأخذ خلفية عن طبيعة اليهود، وخلفية عن إستراتيجية اليهود في التعامل مع المسلمين، ملخص تعامل اليهود مع المسلمين مذكور في قول الله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، رأينا في الدرس الماضي المكائد والمؤامرات من قريش الكافرة في حربها ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حرب اليهود أشد، وعداوة اليهود أشد، ومكر اليهود أشد؛ ولذلك بدأ بهم رب العالمين سبحانه وتعالى في قوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ [المائدة:82].

لنر طريقة تعامل المنهج الإسلامي مع اليهود، وطريقة تناول التشريع الإسلامي لقضية اليهود.

قبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان هناك إعداد نفسي ومعنوي للصحابة؛ من أجل أن يعرفوا إلى أين سيذهبون بعد ذلك، مع أنه مدة فترة مكة لم يعلم المسلمون أنهم سيرحلون ويهاجرون إلى المدينة المنورة، حيث تجمعات اليهود الكبيرة، لكن هذا إعجاز ظاهر في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، فكثير من الآيات القرآنية ذكرت اليهود في فترة مكة، والآيات المكية التي تحدثت عن اليهود وعن بني إسرائيل أكثر من أن تحصى، إن هذا المنهج جميل نريد أن نقف عنده وقفة، فنقول: إن ربنا سبحانه وتعالى كان يوسع الأفق عند المسلمين، فقبل أن تعرف أنك ستلتقي مع اليهود، وقبل أن تعرف أنه سيكون لك دولة في مكان ما، فإن الله سبحانه وتعالى يوسع لك الأفق، ويعرفك بما هو موجود في الأرض الآن، تجد آيات يستغربها المحلل لها، إلا أن يفقه المنهج الإسلامي الرفيع الذي أوحى به رب العالمين سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

تجد مثلاً آيات في القرآن المكي عن الروم، وآيات في القرآن المكي عن اليهود، تجد الرسول عليه الصلاة والسلام يخبر الصحابة عن ملوك العجم، يخبرهم عن قيصر وكسرى والمقوقس، يعرف زعماء العالم في زمانه، مع أن المسلمين في فترة مكة كانوا مضطهدين ومشردين وليست لهم دولة ولا شوكة، وكانوا مأمورين رضي الله عنهم أجمعين في فترة مكة المكرمة بالكف عن المشركين، يعني: احتمالية قيام دولة كانت بعيدةً جداً في الحسابات المادية، ومع ذلك فإن رب العالمين سبحانه وتعالى كان يعلمهم كيف يدور العالم حولهم، وهذا منهج حياة لابد أن نأخذ به، لا نقول: إننا دولة إسلامية بسيطة أو مجموعة من الملتزمين البسطاء القلة، لا داعي إلى معرفة أحوال العالم، وحقيقة أنك تحزن جداً عندما تجد شباباً كثيرين لا يعرفون عن أحوال الدنيا شيئاً، لا يعرفون ما الذي يحصل في فلسطين، وما الذي يحصل في الشيشان، وما الذي يحصل في كشمير، والعراق، والسودان، وما الذي يحصل بين الهند وباكستان، وما الذي يحصل بين أمريكا وروسيا، وما الذي يحصل بين أمريكا والصين، فالعلاقات الدولية الكثيرة المعقدة المتشابكة التي حول المسلمين لابد أن يفقهها المسلمون؛ لأنه سيأتي يوم من الأيام يستفيدون من هذه الأمور، فتظهر قوى وتندثر أخرى، وقد يؤثر ذلك سلباً أو إيجاباً على المسلمين.

تحدث القرآن المكي كثيراً عن بني إسرائيل، قبل أن يعرف المسلمون أنهم سيذهبون إلى المدينة المنورة، وقد ترك القرآن المكي انطباعات إيجابية كثيرة عن اليهود، وهذا الغرض معروف، وسنتكلم عنه بعد قليل.

كان يتحدث القرآن المكي عن بني إسرائيل دائماً بلفظ بني إسرائيل، لم يذكر كلمة اليهود أبداً؛ لأن كلمة اليهود استحدثت بعد ذلك في بني إسرائيل، جاءت هذه الكلمة بعد أن خالفوا كثيراً، لكن في الفترة التي كانت قبل المخالفة، وكانوا فيها أتباعاً لموسى عليه السلام ومن بعده من الأنبياء، كان يطلق عليهم في القرآن الكريم: بنو إسرائيل.

وإسرائيل هو نبي الله يعقوب عليه السلام، فنسبة هؤلاء إلى نبي تعطي لهم تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، فترفع قيمة بني إسرائيل في قلوب المسلمين.

أيضاً تكررت كلمة (أهل الكتاب) ثلاثين مرة في القرآن كاملاً، منها آية واحدة فقط في القرآن المكي، وجاءت في قوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، فلفظة: (أهل الكتاب) تضم اليهود والنصارى، وجاء فيها الأمر بالمخاطبة بالتي هي أحسن.

وتحدث رب العالمين سبحانه وتعالى في كثير من الآيات عن موسى عليه السلام، وتكرر ذكر موسى عليه السلام في القرآن (136) مرة، منها (122) مرة في القرآن المكي، تركيز وتكثيف كبير جداً على قصة موسى عليه السلام، ومعظم قصة موسى مع فرعون، وليس عن مخالفات بني إسرائيل الكثيرة، وإن كان هذا موجوداً.

إجمالاً: ذكر رب العالمين سبحانه وتعالى أنه أعطى بني إسرائيل كثيراً وكثيراً، حتى قال سبحانه وتعالى في القرآن المكي: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32]، وهناك آيات كثيرة تشبه هذا المعنى.

ووصف رب العالمين سبحانه وتعالى بني إسرائيل بأنهم صبروا، قال سبحانه وتعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].

إذاً: ذكر بني إسرائيل بهذا اللفظ فقط، والتركيز على قصة موسى مع فرعون، والتحدث عن صبر بني إسرائيل، وخطاب الأمر للمسلمين بالتعامل مع أهل الكتاب الذين منهم اليهود بالتي هي أحسن: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، كل هذا أدى إلى انطباع إيجابي للمسلمين عن اليهود، وفي الأخير فإن اليهود أهل كتاب، ويؤمنون بالإله الواحد، ويؤمنون بالرسل وبالكتب السماوية، ويتوقعون ظهور نبي.

من الطبيعي جداً في الحسابات المادية عند المسلمين أنه ما إن يسمع اليهود فكرة الرسالة والنبوة سيؤمنون بها؛ لأنهم يؤمنون بفكرة الرسول صلى الله عليه وسلم أساساً، فهذا كان شيئاً متوقعاً؛ من أجل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى ترك هذه الانطباعات الإيجابية للمسلمين؛ حتى يعطي الفرصة للمسلمين أن يتحاوروا ويتناقشوا ويتجادلوا بالتي هي أحسن مع اليهود؛ فيكسبوا قلوب اليهود إلى دولة الإسلام، ولا شك أن في هذا نصراً كبيراً للدعوة، واستنقاذاً لعدد ضخم من البشر من النار، كان هذا في أول الأمر.

لكن في نفس الوقت فإن الله سبحانه وتعالى في القرآن المكي ذكر بعض الأمور التي تركت انطباعاً سلبياً عند المسلمين عن اليهود، مثال ذلك: عندما يتحدث ربنا سبحانه وتعالى عن اتخاذ قوم موسى عليه الصلاة والسلام للعجل من دون الله عز وجل: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148] هذا في القرآن المكي.

فعرف الصحابة أن الذين عبدوا العجل هم أجداد هؤلاء الذين يعيشون في المدينة، قبلوا أن يسجدوا للعجل من دون الله لما تأخر عنهم موسى عليه السلام مدة أربعين يوماً، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم منذ ثلاث عشرة سنة في مكة لم يفكروا مطلقاً بأي صورة من الصور في أي عمل فيه شرك، فبمجرد ما إن فهموا حقيقة العبودية لله عز وجل أصبحت حياتهم كلها مستقيمة لله، فكان بالنسبة لهم تصور غريب جداً أن هناك أناساً يؤمنون برسول وإله، ويكون تعاملها مع قضية العبودية بهذه الصورة.

أيضاً رأينا في القرآن المكي قول الله عز وجل: قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [الأعراف:129] فكيف يكون سوء الأدب إلى هذه الدرجة مع موسى عليه السلام الذي يجله الصحابة وما رأوه؟! وغير هذا كثير جداً في الآيات الكريمة، وراجع القرآن المكي وانظر قصة بني إسرائيل، فإنك ستجد قصة القرية التي كانت حاضرة البحر، وكذلك ستجد قول الله عز وجل: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، وستجد: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4] فاليهود قوم يحدثون فساداً في الأرض، وقد قال رب العالمين: (مرتين) فربنا سبحانه وتعالى العليم بهم قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8].

يعني: قد يرجعون مرة أخرى، فهل سيعودون مرة أخرى للفساد في المدينة أو لا؟ القضية تحتاج إلى إجابة.

بهذه المشاعر دخل الصحابة الكرام ومعهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، واليهود أهل كتاب مثلنا، وأتباع نبي مثلنا، ويؤمنون بإله واحد مثلنا، ومع ذلك فهم على حذر؛ لأنهم قوم سيئو الأدب مع الأنبياء، متمردون على طاعة الله، متحايلون على الشرع، مختلفون بعد العلم، ناكرون للجميل، كافرون بالنعمة .. وهكذا.

إذاً: فهناك انطباعات إيجابية عند المسلمين، وفي نفس الوقت هناك انطباعات سلبية، هناك نظرة متوازنة، فعندهم أمل كبير في إسلام اليهود، لكن في نفس الوقت يعيشون على حذر تام من مكر اليهود.

ذكر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لتأليف قلوبهم

عندما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة حاول أن يرقق قلوب اليهود، وأراد إشعارهم بأنهم فريق واحد من المؤمنين، فعمل شيئين بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.

الأمر الأول: هو اتجاه القبلة ناحية بيت المقدس، ثبت في البخاري ومسلم أن الرسول عليه السلام توجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً من بداية دخوله المدينة حتى قبيل بدر بقليل كما سنرى إن شاء الله في الأحداث.

وهذه القبلة الواحدة تعطيهم انطباعاً واضحاً أنهم فريق واحد يتجهون إلى قبلة واحدة، فنحن وهم نعبد إلهاً واحداً، ونؤمن بالأنبياء السابقين جميعاً.

بقيت جزئية واحدة فقط، وهي أن اليهود يؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو مذكور عندهم في الكتب المقدسة لاسيما التوراة والإنجيل، وعندهم علامات وبشارات كثيرة تؤكد أنه هو النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: صيام يوم عاشوراً.

لما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بصيامه).

فالمسلمون واليهود يصومون يوماً واحداً في السنة، وهذا اليوم فيه تعظيم لموسى عليه السلام، بل وتقليد له، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم وأتباعه المؤمنون يقلدون موسى عليه السلام في صيامه لهذا اليوم الذي نجاه الله عز وجل فيه، فكل هذا تقريب للقلوب، ومحاولة لاكتساب قلوب اليهود، فنحن لسنا أعداء لليهود، فكلنا نعبد إلهاً واحداً.

قصة إسلام عبد الله بن سلام وموقف يهود بني قينقاع من إسلامه

بدأ صلى الله عليه وسلم في دعوته لليهود، وجمع اليهود مرة ومرتين وثلاثاً، كان يجمع القبائل بعضها مع بعض أحياناً، وأحياناً يخاطب الأفراد صلى الله عليه وسلم.

وجاء إليه أناس من بني قينقاع ومن بني النضير ومن بني قريظة، وأول من جاء إليه عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، كان اسمه الحصين بن سلام رضي الله عنه قبل أن يسلم، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو من بني قينقاع، لما سمع بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أراد أن يختبره ليعرف أهو الرسول المذكور في التوراة أو غيره؟ فذهب إليه وقال له: (إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها، قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك) يعني: يكذبونني، يقولون: أنت تقول كلاماً ليس موجوداً في التوراة، (فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت -يعني: اختبأ داخل البيت- فقال صلى الله عليه وسلم: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم ذلك مراراً، فقالوا مثل ذلك. قال: فخرج عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال اليهود: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه).

وفي رواية: (أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه قال لهم: يا معشر اليهود! اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله جاء بحق، قالوا: كذبت، فأخرجهم صلى الله عليه وسلم).

وهنا وضحت الرؤية تماماً أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فاليهود كلهم يعرفون تمام المعرفة أنه رسول، ومع ذلك ينكرون.

أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، وأسلم بعد ذلك مجموعة قليلة جداً من اليهود، أما عموم اليهود فقد ظلوا على كفرهم. هذا كان موقف بني قينقاع.

موقف بني النضير وبني قريظة من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

كان من بني النضير حيي بن أخطب وهو مشهور، وأخوه أبو ياسر بن أخطب ، وبنو النضير قبيلة قوية جداً، فيها الكثير من أشراف اليهود، منهم: سلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم ، وكعب بن الأشرف .

تحكي أم المؤمنين السيدة صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها وأرضاها قصة قدوم حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول: إن حيي بن أخطب وعمها أبا ياسر بن أخطب ذهبا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في الصباح. تقول: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين -كسلانين- يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب : أهو هو؟ أي: يا ترى أهو الرسول الذي جاء في التوراة؟ قال: نعم. والله هو، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه، قال: عداوته -والله- ما بقيت. سبحان الله! وفوق ذلك يحلف ويقول: عداوته -والله- ما بقيت.

بذلك وضح حيي بن أخطب منهج اليهود في التعامل مع الدين الإسلامي الجديد، وهو المنهج الذي ظل سارياً عند اليهود إلى يومنا هذا إلا من رحم الله تعالى.

وهكذا فإن بني النضير بكاملهم لم يسلم منهم واحد.

كذلك بنو قريظة لم يسلم منهم أحد، وهذا موقف عجيب جداً يحتاج إلى وقفة وتحليل ودراسة لطبيعة هؤلاء البشر الذين يتعاملون مع رسول يعلمون أنه رسول بهذه الصورة، لكنك عندما تراجع قصتهم مع سيدنا موسى عليه السلام، فإنك تستطيع أن تفهم لماذا عملوا هكذا مع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

حتى نعرف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لابد أن نأخذ خلفية عن طبيعة اليهود، وخلفية عن إستراتيجية اليهود في التعامل مع المسلمين، ملخص تعامل اليهود مع المسلمين مذكور في قول الله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، رأينا في الدرس الماضي المكائد والمؤامرات من قريش الكافرة في حربها ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حرب اليهود أشد، وعداوة اليهود أشد، ومكر اليهود أشد؛ ولذلك بدأ بهم رب العالمين سبحانه وتعالى في قوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ [المائدة:82].

لنر طريقة تعامل المنهج الإسلامي مع اليهود، وطريقة تناول التشريع الإسلامي لقضية اليهود.

قبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان هناك إعداد نفسي ومعنوي للصحابة؛ من أجل أن يعرفوا إلى أين سيذهبون بعد ذلك، مع أنه مدة فترة مكة لم يعلم المسلمون أنهم سيرحلون ويهاجرون إلى المدينة المنورة، حيث تجمعات اليهود الكبيرة، لكن هذا إعجاز ظاهر في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، فكثير من الآيات القرآنية ذكرت اليهود في فترة مكة، والآيات المكية التي تحدثت عن اليهود وعن بني إسرائيل أكثر من أن تحصى، إن هذا المنهج جميل نريد أن نقف عنده وقفة، فنقول: إن ربنا سبحانه وتعالى كان يوسع الأفق عند المسلمين، فقبل أن تعرف أنك ستلتقي مع اليهود، وقبل أن تعرف أنه سيكون لك دولة في مكان ما، فإن الله سبحانه وتعالى يوسع لك الأفق، ويعرفك بما هو موجود في الأرض الآن، تجد آيات يستغربها المحلل لها، إلا أن يفقه المنهج الإسلامي الرفيع الذي أوحى به رب العالمين سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

تجد مثلاً آيات في القرآن المكي عن الروم، وآيات في القرآن المكي عن اليهود، تجد الرسول عليه الصلاة والسلام يخبر الصحابة عن ملوك العجم، يخبرهم عن قيصر وكسرى والمقوقس، يعرف زعماء العالم في زمانه، مع أن المسلمين في فترة مكة كانوا مضطهدين ومشردين وليست لهم دولة ولا شوكة، وكانوا مأمورين رضي الله عنهم أجمعين في فترة مكة المكرمة بالكف عن المشركين، يعني: احتمالية قيام دولة كانت بعيدةً جداً في الحسابات المادية، ومع ذلك فإن رب العالمين سبحانه وتعالى كان يعلمهم كيف يدور العالم حولهم، وهذا منهج حياة لابد أن نأخذ به، لا نقول: إننا دولة إسلامية بسيطة أو مجموعة من الملتزمين البسطاء القلة، لا داعي إلى معرفة أحوال العالم، وحقيقة أنك تحزن جداً عندما تجد شباباً كثيرين لا يعرفون عن أحوال الدنيا شيئاً، لا يعرفون ما الذي يحصل في فلسطين، وما الذي يحصل في الشيشان، وما الذي يحصل في كشمير، والعراق، والسودان، وما الذي يحصل بين الهند وباكستان، وما الذي يحصل بين أمريكا وروسيا، وما الذي يحصل بين أمريكا والصين، فالعلاقات الدولية الكثيرة المعقدة المتشابكة التي حول المسلمين لابد أن يفقهها المسلمون؛ لأنه سيأتي يوم من الأيام يستفيدون من هذه الأمور، فتظهر قوى وتندثر أخرى، وقد يؤثر ذلك سلباً أو إيجاباً على المسلمين.

تحدث القرآن المكي كثيراً عن بني إسرائيل، قبل أن يعرف المسلمون أنهم سيذهبون إلى المدينة المنورة، وقد ترك القرآن المكي انطباعات إيجابية كثيرة عن اليهود، وهذا الغرض معروف، وسنتكلم عنه بعد قليل.

كان يتحدث القرآن المكي عن بني إسرائيل دائماً بلفظ بني إسرائيل، لم يذكر كلمة اليهود أبداً؛ لأن كلمة اليهود استحدثت بعد ذلك في بني إسرائيل، جاءت هذه الكلمة بعد أن خالفوا كثيراً، لكن في الفترة التي كانت قبل المخالفة، وكانوا فيها أتباعاً لموسى عليه السلام ومن بعده من الأنبياء، كان يطلق عليهم في القرآن الكريم: بنو إسرائيل.

وإسرائيل هو نبي الله يعقوب عليه السلام، فنسبة هؤلاء إلى نبي تعطي لهم تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، فترفع قيمة بني إسرائيل في قلوب المسلمين.

أيضاً تكررت كلمة (أهل الكتاب) ثلاثين مرة في القرآن كاملاً، منها آية واحدة فقط في القرآن المكي، وجاءت في قوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، فلفظة: (أهل الكتاب) تضم اليهود والنصارى، وجاء فيها الأمر بالمخاطبة بالتي هي أحسن.

وتحدث رب العالمين سبحانه وتعالى في كثير من الآيات عن موسى عليه السلام، وتكرر ذكر موسى عليه السلام في القرآن (136) مرة، منها (122) مرة في القرآن المكي، تركيز وتكثيف كبير جداً على قصة موسى عليه السلام، ومعظم قصة موسى مع فرعون، وليس عن مخالفات بني إسرائيل الكثيرة، وإن كان هذا موجوداً.

إجمالاً: ذكر رب العالمين سبحانه وتعالى أنه أعطى بني إسرائيل كثيراً وكثيراً، حتى قال سبحانه وتعالى في القرآن المكي: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32]، وهناك آيات كثيرة تشبه هذا المعنى.

ووصف رب العالمين سبحانه وتعالى بني إسرائيل بأنهم صبروا، قال سبحانه وتعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].

إذاً: ذكر بني إسرائيل بهذا اللفظ فقط، والتركيز على قصة موسى مع فرعون، والتحدث عن صبر بني إسرائيل، وخطاب الأمر للمسلمين بالتعامل مع أهل الكتاب الذين منهم اليهود بالتي هي أحسن: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، كل هذا أدى إلى انطباع إيجابي للمسلمين عن اليهود، وفي الأخير فإن اليهود أهل كتاب، ويؤمنون بالإله الواحد، ويؤمنون بالرسل وبالكتب السماوية، ويتوقعون ظهور نبي.

من الطبيعي جداً في الحسابات المادية عند المسلمين أنه ما إن يسمع اليهود فكرة الرسالة والنبوة سيؤمنون بها؛ لأنهم يؤمنون بفكرة الرسول صلى الله عليه وسلم أساساً، فهذا كان شيئاً متوقعاً؛ من أجل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى ترك هذه الانطباعات الإيجابية للمسلمين؛ حتى يعطي الفرصة للمسلمين أن يتحاوروا ويتناقشوا ويتجادلوا بالتي هي أحسن مع اليهود؛ فيكسبوا قلوب اليهود إلى دولة الإسلام، ولا شك أن في هذا نصراً كبيراً للدعوة، واستنقاذاً لعدد ضخم من البشر من النار، كان هذا في أول الأمر.

لكن في نفس الوقت فإن الله سبحانه وتعالى في القرآن المكي ذكر بعض الأمور التي تركت انطباعاً سلبياً عند المسلمين عن اليهود، مثال ذلك: عندما يتحدث ربنا سبحانه وتعالى عن اتخاذ قوم موسى عليه الصلاة والسلام للعجل من دون الله عز وجل: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148] هذا في القرآن المكي.

فعرف الصحابة أن الذين عبدوا العجل هم أجداد هؤلاء الذين يعيشون في المدينة، قبلوا أن يسجدوا للعجل من دون الله لما تأخر عنهم موسى عليه السلام مدة أربعين يوماً، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم منذ ثلاث عشرة سنة في مكة لم يفكروا مطلقاً بأي صورة من الصور في أي عمل فيه شرك، فبمجرد ما إن فهموا حقيقة العبودية لله عز وجل أصبحت حياتهم كلها مستقيمة لله، فكان بالنسبة لهم تصور غريب جداً أن هناك أناساً يؤمنون برسول وإله، ويكون تعاملها مع قضية العبودية بهذه الصورة.

أيضاً رأينا في القرآن المكي قول الله عز وجل: قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [الأعراف:129] فكيف يكون سوء الأدب إلى هذه الدرجة مع موسى عليه السلام الذي يجله الصحابة وما رأوه؟! وغير هذا كثير جداً في الآيات الكريمة، وراجع القرآن المكي وانظر قصة بني إسرائيل، فإنك ستجد قصة القرية التي كانت حاضرة البحر، وكذلك ستجد قول الله عز وجل: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، وستجد: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4] فاليهود قوم يحدثون فساداً في الأرض، وقد قال رب العالمين: (مرتين) فربنا سبحانه وتعالى العليم بهم قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8].

يعني: قد يرجعون مرة أخرى، فهل سيعودون مرة أخرى للفساد في المدينة أو لا؟ القضية تحتاج إلى إجابة.

بهذه المشاعر دخل الصحابة الكرام ومعهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، واليهود أهل كتاب مثلنا، وأتباع نبي مثلنا، ويؤمنون بإله واحد مثلنا، ومع ذلك فهم على حذر؛ لأنهم قوم سيئو الأدب مع الأنبياء، متمردون على طاعة الله، متحايلون على الشرع، مختلفون بعد العلم، ناكرون للجميل، كافرون بالنعمة .. وهكذا.

إذاً: فهناك انطباعات إيجابية عند المسلمين، وفي نفس الوقت هناك انطباعات سلبية، هناك نظرة متوازنة، فعندهم أمل كبير في إسلام اليهود، لكن في نفس الوقت يعيشون على حذر تام من مكر اليهود.

عندما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة حاول أن يرقق قلوب اليهود، وأراد إشعارهم بأنهم فريق واحد من المؤمنين، فعمل شيئين بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.

الأمر الأول: هو اتجاه القبلة ناحية بيت المقدس، ثبت في البخاري ومسلم أن الرسول عليه السلام توجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً من بداية دخوله المدينة حتى قبيل بدر بقليل كما سنرى إن شاء الله في الأحداث.

وهذه القبلة الواحدة تعطيهم انطباعاً واضحاً أنهم فريق واحد يتجهون إلى قبلة واحدة، فنحن وهم نعبد إلهاً واحداً، ونؤمن بالأنبياء السابقين جميعاً.

بقيت جزئية واحدة فقط، وهي أن اليهود يؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو مذكور عندهم في الكتب المقدسة لاسيما التوراة والإنجيل، وعندهم علامات وبشارات كثيرة تؤكد أنه هو النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: صيام يوم عاشوراً.

لما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بصيامه).

فالمسلمون واليهود يصومون يوماً واحداً في السنة، وهذا اليوم فيه تعظيم لموسى عليه السلام، بل وتقليد له، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم وأتباعه المؤمنون يقلدون موسى عليه السلام في صيامه لهذا اليوم الذي نجاه الله عز وجل فيه، فكل هذا تقريب للقلوب، ومحاولة لاكتساب قلوب اليهود، فنحن لسنا أعداء لليهود، فكلنا نعبد إلهاً واحداً.