شرح العقيدة الطحاوية [83]


الحلقة مفرغة

المسلمون يترحمون على الصحابة ويترضون عنهم كما ترضى الله تعالى عنهم في قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة [الفتح:18]، وإذا رضي الله عنهم فقد علم أنهم أهل للرضا فلا يسخط عليهم، كما وعد أهل الجنة بذلك في قوله: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)، وكذلك يقول تعالى وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه [التوبة:100] أخبر بأنه رضي عنهم، وإذا رضي عنهم فلا يسخط عليهم، وهم أهل للرضا، وكذلك يقول تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117]، وإذا تاب الله عليهم -ومنهم نبيهم صلى الله عليه وسلم- ومدحهم بأنهم اتبعوه في ساعة العسرة؛ فإنه تعالى هو التواب الرحيم، ولا شك أنه قبل توبتهم بعد أن كانوا مشركين في الجاهلية فأسلموا وتابوا فقبل منهم وبقوا على هذا الإسلام، ولا يمكن أن يتوب الله عليهم ويخبر بأنهم أهل للرضوان وهو يعلم سبحانه أن فيهم من يرتد، وأن فيهم من يكفر، وأنهم ليسوا أهلاً لذلك على حد زعم أعدائهم.

هذا هو مقتضى علم الله تعالى، فالله سبحانه عليم بما كان، عليم بما يكون، علم أن هؤلاء الصحابة خيرة خلق الله من هذه الأمة، اصطفاهم صحباً لنبيه، وحملة لشريعته، وأهلاً لرضاه، وأهلاً لدينه، وأهلاً لتوبته، فهم أهل لذلك في وقت نزول القرآن وفيما بعده، وفي حياة نبيهم صلى الله عليه وسلم وبعد موته، لا يمكن أن يغيروا ولا أن يبدلوا، هذه سنة الله وهذا علم الله.

كذلك نترضى عنهم؛ لأنهم حملة شريعة الله التي وصلت إلينا، فهم الذين بلغوا أمر الله، وبلغوا أمر رسوله، بلغوا القرآن وبلغوا السنة، ونقلوها إلى من بعدهم كما هي عملاً بقول نبيهم صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) فمن حفظ منهم آية علمها وبلغها، ومن حفظ حديثاً أداه كما سمعه على ما قال نبيهم صلى الله عليه وسلم، حيث قال في حجة الوداع لما خطبهم: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت، فقال: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل بعض من يبلغه أوعى ممن سمعه) فأمر الشاهد الحاضر أن يبلغ الغائب، ولا شك أنهم امتثلوا هذا الأمر فبلغوا ما أمروا بأن يبلغوه وما تحملوه، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك بقوله: (رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فهذا البيان والبلاغ أول وأولى من قام به صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولما كانوا حملة هذا القرآن، وحملة هذه الشريعة، وحملة السنة النبوية، والذين أدوها إلى تلامذتهم، وأدوها إلى من بعدهم؛ اعتقد أهل السنة أنهم أوفياء، وأنهم بررة أتقياء، وأنهم كلهم عدول ليس فيهم من يتهم بكذب، وليس فيهم من يقول كذباً أو يختلق حديثاً لا أصل له، وإنما حدث الكذب فيمن بعدهم، فعرفنا بذلك عدالة هؤلاء الصحابة وثقتهم، وأنهم حملة الشريعة، ولو طعن فيهم لبطلت الشريعة، ولبطل الدين، ولبطلت ثقتنا بالقرآن، لكن ثقتنا بكتاب ربنا ثقة قوية، وكذلك ثقتنا بالأحاديث، وثقتنا بالأعمال التي نحن نعملها ثقة راسخة وعقيدة ثابتة لا يمكن أن ننساها، ولا يمكن أن نتركها، ولا يمكن أن يتصدى لها طاعن أو نقبل فيها قول قائل؛ لأننا ما وثقنا بها إلا لأنها بلاغ أولئك الأصحاب، فهي بلاغ وبيان منهم، وهم أهل الثقة وأهل العدالة وأهل التقوى.

أعداء الله وأعداء صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يتلقوا عقيدتهم عن موثوقين، وإنما تلقوها عن كذبة وعن فجرة وعن مولدين دخلوا في الإسلام نفاقاً كـابن سبأ الذي يقال له: ابن السوداء فإنه يهودي دخل في الإسلام نفاقاً، ولما دخل فيه أراد أن يفسد معتقد المسلمين، وأراد أن يفرق بينهم، فأدخل فيهم الكفر بخفية، وولد فيهم بغض الصحابة أو بعضهم والغلو في بعضهم إلى أن حصلت به فتنة عظيمة، فكذلك من تبعه.

ومن غلا في بعض الصحابة وتنقص بعضاً من أتباع هذا الرجل أو ممن هو على شاكلته، ما هو معتمده؟ أدلتهم ونصوصهم وبراهينهم جاءتهم من طريق أولئك الكذبة الكفرة الفجرة فلا يوثق بهم، فإذا عرفنا معتمد أهل السنة ومعتقدهم أنه عن طريق الصحابة الثقاة العدول، إيمانهم بالأحاديث، وإيمانهم بالآيات، وإيمانهم أيضاً بالأعمال التي تلقوها، وعرفنا معتقد الرافضة ومعتقد الباطنية والنصيرية والمكرمية كما يسمون، والنخاولة وما أشبههم؛ عرفنا معتقدهم، فما هو معتقدهم؟ وما هو معتمدهم؟ وما هو سندهم الذي اعتمدوه؟

لا نجد لهم سنداً صحيحاً، أسانيدهم ترجع إلى منافقين ويهود وكفرة دخلوا في الإسلام تستراً، وأرادوا بذلك إدخال الفساد على المسلمين، وقد تمكنوا من ذلك حيث انخدع بهم خلق كثير وللأسف، ولا يزال يدافع عن أولئك الكفرة ويسير على نهجهم الخلق الكثير والجمع الغفير، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ دينه كما ضمن ذلك بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فلا يضره كثرة من يطعن في هؤلاء الصحابة أو يطعن في هذه المعتقدات، ولا يضر المؤمنين طعن الطاعنين ما دامت أصولهم وأسسهم التي يعتمدونها موجودة، حيث عندهم كتاب الله الذين ضمن الله حفظه، فهو موجود محفوظ في المصاحف، ومحفوظ في الصدور، كذلك سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد تحرى العلماء لها وتثبتوا، ونقلوها بالأسانيد، واختاروا الرجال الأثبات، والعلماء العدول، واطرحوا الأحاديث التي في أسانيدها ضعفاء أو أهل كذب أو بدعة أو ما أشبه ذلك، واقتصروا على أحاديث الأئمة العدول الثقات الأثبات، وأثبتوها في الصحيحين وفي السنن وفي المسانيد، وبينوا أحوال رجالها، وتثبتوا منها، متى كان هذا التحري إلا عند أهل السنة؟! متى كان هذا التثبت إلا عند أهل السنة؟! إذا نظرنا في كتب الرافضة هل نجد فيها هذا التثبت؟

لا نجد فيها هذه الأسانيد القوية التي كان حملتها أعلاماً، وجبالاً في الحفظ، والعلم، وكانوا علماء ربانيين بررة حفاظاً يضرب بحفظهم المثل، حفظ الله تعالى بهم شريعته وتولى حفظ هذه الشريعة بواسطتهم، وذلك فضل الله ومنته على عباده، فعلى هذا فإن الطاعن في هؤلاء العلماء وهؤلاء الصحابة إنما هو في الحقيقة يطعن في الله، وفي شرع الله، وفي دين الله، وفي كتاب الله وسنة رسوله، فكأن هؤلاء الرافضة بطعنهم في الصحابة يطعنون في كتاب الله ويطعنون في سنة رسول الله، فلا يبقى للمسلمين شيء يتشبثون به ولا يعتمدون عليه. كتب الرافضة التي يعتمدون عليها ليس لها أسانيد صحيحة، ولا ما يعتمد عليها، فما لهم معتقد بخلاف أهل السنة.

وبذلك نعرف أدلة أهل السنة ومعتقدهم، وأدلة أعدائهم الرافضة ومعتقدهم، في الصحابة وفيمن بعد الصحابة من أهل السنة.

قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة).

اختلف أهل السنة في خلافة الصديق رضي الله عنه: هل كانت بالنص أو بالاختيار؟

فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث إلى أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة، ومنهم من قال: بالنص الجلي، وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنها ثبتت بالاختيار.

والدليل على إثباتها بالنص أخبار: من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: (أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت، قال: إن لم تجديني فاتئي أبا بكر)، وذكر له سياقاً آخر وأحاديث أخر، وذلك نص على إمامته.

وحديث حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) رواه أهل السنن.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه، فقال: ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لـأبي بكر كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، وفي رواية (ولا يطمع في هذا الأمر طامع)، وفي رواية قال: (ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لـأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه، ثم قال: معاذ الله أن يختلف المسلمون في أبي بكر) وأحاديث تقديمه في الصلاة مشهورة معروفة، وهو يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة فصلى بهم مدة مرض النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منه ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن).

وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم. قال على منبره: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر).

وفي سنن أبي داود وغيره من حديث الأشعث عن حسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر ، فرجحت أنت بـأبي بكر ، ثم وزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر ، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر ، ثم رفع فرأيت الكراهة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء).

فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة، ثم بعد ذلك ملك، وليس فيه ذكر علي رضي الله عنه؛ لأنه لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك، وروى أبو داود أيضاً عن جابر رضي الله عنه أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بـأبي بكر ، ونيط عثمان بـعمر ، قال جابر : فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه).

وروى أبو داود أيضاً عن سمرة بن جندب أن رجلاً قال: (يا رسول الله! رأيت كأن دلواً دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت منه، فانتضح عليه منها شيء).

وعن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي ملكه من يشاء -أو- الملك)].

الأدلة العقلية والنقلية على أحقية أبي بكر بالخلافة

تكلم العلماء على الخلفاء الراشدين وهم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وقالوا: هؤلاء هم الخلفاء الراشدون، وتسميتهم تسمية نبوية لحديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) فجعلهم خلفاء، والخليفة هو الذي يخلف غيره، وسماهم رأس الدين، والراشد هو: ضد الغاوي، أي أنهم على رشد، ووصفهم أنهم مهتدون غير ضالين، فهذه إشارة إلى خلافة هؤلاء الأربعة، وكذلك من سار على نهجهم أو اقتدى بهم كـعمر بن عبد العزيز ، فقد قيل: إنه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه أشبه سيرتهم، كذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخلافة ثم الملك بحديث سفينة الذي قال فيه: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وقد كان ذلك، فإن خلافة أبي بكر سنتان ونصفاً، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة، فهذه أربع وعشرون سنة ونصف سنة، وخلافة علي خمس سنين إلا بعض السنة، وتتمتها خلافة الحسن فأصبحت هذه ثلاثين سنة أو نحوها، وهذه هي الخلافة التي أخبر بأنها خلافة نبوة، ثم بعدها يكون ملكاً؛ وذلك لأن الملك لما انتقل إلى معاوية ثم إلى بني مروان أصبحوا كأنهم يعملون عمل الملوك، ولو كان فيهم شيء من السيرة الحسنة والجهاد، لكن عملهم ليس كعمل الخلفاء الراشدين، حيث إنهم جعلوها وراثة، وصاروا يعهدون بالخلافة إلى أبنائهم أو من يطلب منهم، فأصبحت الخلافة النبوية ثلاثين سنة ابتدأت بخلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد أجمع الصحابة على تقديمه وفيهم أهل البيت كـعلي والحسن والحسين والعباس وابن العباس ، وجميع الصحابة اتفقوا على خلافة أبي بكر ، والله تعالى لا يجمع الصحابة على ضلالة، فلا يجتمعون إلا على حق، وهذه حجة قوية في صحة خلافة أبي بكر ، فأين الرافضة من هذا الإجماع؟

الرافضة يقولون: إن أبا بكر مغتصب، وأنه تجرأ على شيء ليس له، وأن الصحابة خانوا هذه الأمانة التي هي عهد لـعلي بالخلافة، ولكن خانوا في ذلك وكتموا، وبايعوا أبا بكر خيانة وضلالاً، وظلموا حق علي ، هكذا يقولون!

ومعناه: أنهم كلهم أجمعوا على هذا الظلم وحاشاهم من ذلك، ولا شك أنهم عندما بايعوا أبا بكر عملوا بهذه الإشارات التي سمعنا من الأحاديث الدالة عليها، فإن قوله صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة لما قالت: (أرأيت إن لم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر) كأنها أشارت إلى أنه قد يأتيك الموت أو نحوه فمن يكون بعدك؟ ومن آتيه بعدك لقضاء حاجتي؟ فقال: (ائتي أبا بكر) فدلت هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الذي يقوم بالخلافة بعده كما هو الواقع.

كذلك هذا الحديث الذي روته عائشة وهي من أمهات المؤمنين، ولا يمكن أن تكذب في حق أهلها، ولا في حق غيرهم، تذكر أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتاباً بالولاية لـأبي بكر : (ائتوني بكتاب أكتب فيه عهداً لـأبي بكر) ولكن علم بأن الله تعالى يجمع الصحابة على استخلافه وتوليته، فترك الكتابة ثقة بما كانوا عليه من معرفة حقه، وقال: (يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر) يعني: أنهم يعرفون أحقيته وأقدميته، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قدمه في الصلاة لما مرض وثقل وصعب عليه أن يتولى الصلاة بهم، وبقي أياماً -قيل: خمسة أيام، وقيل: سبعة، وقيل: أكثر أو أقل- وفي تلك الأيام كان الذي يصلي بالمسلمين هو أبو بكر ، وذلك بأمر النبي لما قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة : إن أبا بكر رجل رقيق لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر ، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت له مثل ذلك، فكرر ذلك ثم قال: إنكن صواحب يوسف) فأكد أن أبا بكر هو الذي يصلح أن يكون إماماً، وقد تولى هذه الإمامة التي هي الصلاة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أن توفي صلى الله عليه وسلم نظر الصحابة في أمر خلافته فقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه نبينا لديننا. بمعنى أن: نبينا صلى الله عليه وسلم رضيه إماماً لنا في ديننا، حيث كان يصلي بنا، فذلك دليل على أفضليته؛ لأجل ذلك نرضاه أن يكون إماماً لنا عاماً في هذه الولاية التي فيها إصلاح دنيانا وضبط أحوالنا، وهكذا اتفقوا على توليته الخلافة.

ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خطب في آخر حياته قبل مرضه بزمن قليل فقال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: نفديك بأنفسنا وأهلنا، فعجب الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن هذا العبد الذي خيره الله وأن أبا بكر يبكي ويقول هذه المقالة، فلما قال ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من أمن الناس علي في نفسه وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ثم قال: (لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر) وهنا دليل على أنه مقدم في هذا الأمر، فالخلة هي: المحبة، فيقول: إنه أحق الناس في أن يكون لي خليلاً، وأن تكون له الخلة، فلو كنت متخذاً خليلاً لكان هو أحق بأن أتخذه، ثم أمر أن تسد النوافذ التي تطل على المسجد إلا نافذة أبي بكر ، لأن الصحابة كانوا قد بنوا بيوتهم إلى جانب المسجد، وفتحوا عليه أبواباً، فهذا الباب يدخل منه فلان من بيته إلى المسجد، وذلك الباب لفلان، فأمر بأن تسد تلك الأبواب التي تسمى خوخات، وتبقى خوخة أبي بكر، لماذا؟ إشارة إلى أنه سيتولى الخلافة، وسيحتاج إلى أن يدخل المسجد ويخرج ويتكرر دخوله، وذلك دليل على أنه سيتولى، والنبي عليه الصلاة والسلام علم بأنه سيكون والي المسلمين بعده، فأمر بإبقاء خوخته حتى لا تتغير.

هذه الأدلة فيها إشارات، ولكن مجموعها يكون صريحاً، أما الإشارة الأولى فهي قصة القليب، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (رأيتني على قليب -القليب هو: البئر التي فيها ماء- أنزع منها -يعني: أجتذب الماء بدلوي- فنزعت منها ما شاء الله أن أنزع، ثم أخذها أبو بكر -جعل أبا بكر هو الذي أخذها بعده- فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له -أي: وذلك لقصر مدته- ثم أخذها ابن الخطاب -يعني: عمر-فاستحالت غرباً -والغرب هو: الدلو الكبير الذي يستقى به من الآبار، والذي تجتذبه السواني أو النواضح قديماً- فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن) وذلك لأن مدته طالت حتى بلغت عشر سنين، وفي مدته اتسعت رقعة الإسلام، وفتحت الأموال على بيت المال، وكثرت جبايتها، أوليس في هذا إشارة إلى أن الذي يأخذ الخلافة بعد النبي أبو بكر ، ثم لا تطول مدته، ويأخذها بعده عمر فتطول مدته؟

الإشارة الثانية: قصة ذلك الدلو الذي تدلى من السماء في رؤيا الرجل، حيث يقول: رأيت أن دلواً تدلى من السماء فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخذه أبو بكر فشرب منه، ثم أخذه عمر فشرب منه حتى تضلع، ثم عثمان ، ثم علي، إلا أنه انتزع منه فأصابه منه نضح، أليس في هذا دليل على ترتيبهم في هذه الخلافة، وأن الذي شرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم يكون خليفة بعده، وهو أبو بكر ، ثم بعد أبي بكر عمر ، ثم عثمان ثم علي؟ فهذه إشارة إلى خلافتهم.

كذلك أيضاً: بعض الإشارات التي تكون إما في صورة رؤيا أو قصص واقعية لا شك أن فيها إشارة واضحة إلى أن هؤلاء يكونون خلفاء بعده صلى الله عليه وسلم.

وبكل حال نقول: إن هذه الإشارات من مجموعها يجزم بأنها نص صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر وجعله خليفة بعده، وسيأتي ذكر قصة بيعته وكيف اجتمع الصحابة على بيعته وفضلوه، ومعروف أنهم لم يختاروه إلا لميزة تميز بها.

إسلام أبي بكر ومرافقته للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة

أبو بكر الصديق هو أول من أسلم من الرجال؟ كما يقول الكلوذاني في عقيدته:

قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد

حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد يا له من مسعد

فالجمهور على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، إذ كان رجلاً عاقلاً عارفاً موثوقاً، كامل العقل، ولما عرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام لم يتوقف ولم يتردد، بل بادر وقبل الدعوة ودخل في الإسلام، ولما دخل في الإسلام صار أيضاً داعية لأكثر الصحابة الذين أسلموا بمكة، فبإسلامه أسلم عثمان ، وأسلم طلحة وأسلم الزبير وأسلم عبد الرحمن بن عوف وأسلم سعد بن أبي وقاص، فكلهم أسلموا بدعوة أبي بكر.

إذاً: فهو الذي دعا إلى الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أليس من فضائله أنه رفيق النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الهجرة؟

هاجر معه من مكة إلى المدينة، واختار النبي صلى الله عليه وسلم صحبته، وقد كان أبو بكر قد عزم على أن يهاجر وحده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انتظر لعل الله يأذن لي) فلما أذن له قال: (إن الله أذن لي في الهجرة، فقال: الصحبة يا رسول الله؟! قال: الصحبة) أي: سوف تصحبني.

ومعروف أيضاً أنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الغار الذي قال الله فيه: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَن [التوبة:40] ولا شك أن هذه الصحبة لم ينلها غيره، فهو رضي الله عنه جمع نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض نفسه للقتل، أما المهاجرون غيره فقد هاجروا خفية أو بعلن ولم يتعرض لهم المشركون، أما أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم فإن المشركين قد عزموا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان الله ليسلطهم عليه، فلما اجتمع معه أبو بكر عزموا على أن يقتلوا أبا بكر معه، وجعلوا لمن أتاهم بكل منهما مائة من الإبل، فعند ذلك أمرهما الله بأن يخرجا بخفية، فخرجا ليلاً ودخلا في ذلك الغار المعروف بغار ثور، واختفيا فيه ثلاثة أيام، يأتيهما عامر بن فهيرة بغنم لـأبي بكر فيحلب لهما منها ويسقيهما، وكذلك يأتيهما عبد الرحمن بن أبي بكر بالأخبار في الليل ثم يرجع، أوليس مبيت أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم من التعرض للأذى؟ أليس ذلك من فدائه بنفسه؟

لا شك أن هذه ميزة لا يلحقه فيها غيره، كذلك أيضاً صحبته له من مكة إلى المدينة وليس معهما إلا رجل مشرك يدلهما على الطريق، كذلك أيضاً خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، ولما كان في الليلة التي وقعت الوقعة في صبيحتها بات النبي صلى الله عليه وسلم طوال الليل يصلي ويتهجد، وبات أبو بكر معه يحميه ويحفظه، وكلما سقط رداؤه عنه رده عليه أبو بكر ، وكان مما قال له: (كفاك مناشدتك لربك، سوف يوفي لك ربك ما وعدك)، ولا شك أن هذه ميزة ميزه الله تعالى بها، فكان بذلك أهلاً أن يقلد هذه الخلافة التي هي الولاية.

قوة أبي بكر وحزمه في تعامله مع المرتدين

الصحابة الذين بايعوا أبا بكر واجتمعوا على بيعته علموا أهليته وكفاءته، ومن نظر في سيرته رضي الله عنه ويرى كيف ضبط الأمور، وكيف أنفذ الجيوش، وكيف أرسل الرسل للدعوة، وكذلك ما وقع في السنة الأولى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من ارتداد العرب عن الإسلام، حتى لم يبق على الإسلام إلا أهل مكة وأهل المدينة وأهل الطائف، أما الأعراب حولهم فكلهم قد ارتدوا إلا من شاء الله، وكيف قوي أبو بكر على ضبط الناس كلهم، وقد رموا الإسلام عن قوس العداوة، ولكن حزمه رضي الله عنه وفطنته وسياسته وسيرته، وهذا يدل على أنه ذكي عارف، فصل في الأمور، وتعامل مع الأمر بحزم إلى أن رجع الناس في أقل من نصف سنة، واجتمع العرب كلهم على الرجوع إلى الإسلام، ودانوا بالإسلام بعدما كانوا تركوه، ولا شك أن في هذا فراسة قوية تدل على خبرته وحنكته وأهليته، وأن الله تعالى ما اختاره في هذه الحالة الحرجة إلا لأهليته، ولأجل ذلك يقول بعض العلماء: إن الله تعالى حفظ الإسلام برجلين: أبي بكر يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، ولأجل ذلك سمي بـالصديق ، أخذاً من قول الله تعالى في سورة الزمر: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هو أبو بكر ، فهذه بلا شك أنها تدل على أهليته، وقد أجمع الصحابة على تسميته بالصديق مبالغة في الصدق، ولا شك أن الصديقية هي أعظم المراتب بعد النبوة، قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] فبدأ بالصديقين بعد النبيين، والصديقون هم: المبالغون في التصديق، وأبو بكر رضي الله عنه على رأسهم.

فهذه الفضائل والميزات هي التي صار بها أهلاً أن يتولى أمر المسلمين، ولكن طمس الله على قلوب الرافضة وأعمى بصائرهم وحال بينهم وبين مائدة الحق، فولدوا أكاذيب بأنه مغتصب، وأن الصحابة كلهم خونة، وأن علياً مظلوم، حتى جعلوا علياً أيضاً من الظالمين؛ لأنه أقر بخلافة أبي بكر وبايعه وصبر على بيعته في زمانه، ولم يطالب بشيء من الخلافة، بل علي رضي الله عنه كان يصلي خلف أبي بكر مدة خلافته، إذلم يقل أحد من أهل السنة إن علياً كان يصلي وحده، أو كان له محراب يصلي فيه وحده، ولا قال أحد: إنه ترك الصلاة مع الجماعة وحاشاه.

إذاً: فقد كان يصلي خلف أبي بكر ، أوليس ذلك دليل على أنه أقر بخلافته، وأنه رضي به والياً كما رضي به بقية المسلمين؟


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2714 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2630 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2590 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2564 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2472 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2408 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2386 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2373 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2336 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2300 استماع