إبراهيم عليه السلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

فالحديث في هذه الليلة عن شخصية تأخر الكلام عنها طويلاً، وهي شخصية نبي كريم وإمام كبير، قد تكرر ذكره في القرآن ثلاثاً وستين مرة، فذكره ربنا جل جلاله في سورة البقرة وآل عمران والنساء والأنعام والتوبة وهود ويوسف وفي سورة إبراهيم والنحل ومريم والأنبياء والحج، وذكره ربنا في الشعراء والعنكبوت والأحزاب والصافات وص، وذكره في الشورى والزخرف والذاريات والنجم والممتحنة، وفي سورة الأعلى، وكأن خبره يستغرق القرآن من أوله إلى آخره، ذلكم هو أبو الأنبياء وشيخهم إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

وهو عليه السلام أفضل خلق الله بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عدد الأنبياء كما أخبر عليه الصلاة والسلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، فيهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، جم غفير، وهؤلاء الثلاثمائة والثلاثة عشر أفضلهم الخمسة أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأفضل الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وأفضل الخليلين نبينا صلى الله عليه وسلم.

فهذا النبي المبارك الذي أبدأ القرآن وأعاد في تفصيل خبره، قد ورد ذكره في القرآن في كرمه وبسط وسعة إنائه، فلما جاءه أولئك الملائكة في صورة بشر -وقد ظنهم ضيفاناً- ذهب عليه الصلاة والسلام فجاء بعجل سمين، وفي موضع آخر في سورة هود ذكر الله أنه جاء بعجل حنيذ، أي: مشوي على الحجارة، وقرب إليهم هذا الطعام وآنسهم بالكلام بعدما رد عليهم السلام، قال تعالى: فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ[الصافات:91]، ثم أخبروه بحقيقة أمرهم، وأنهم ملائكة مبعوثون من الله عز وجل لإهلاك قوم مجرمين، ليرسلوا عليهم حجارة من طين مسومة، أي: معلمة، مكتوباً على كل حجر اسم صاحبه.

دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه إلى ترك عبادة الأصنام

ومن خلال استعراض هذه المواضع في القرآن الكريم، نستطيع أن نستفيد فوائد:

أولها: أن إبراهيم عليه السلام مثال للداعية المفطور، الذي وقف حياته على الدعوة إلى الله عز وجل، ما ترك سبيلاً يحق به الحق ويبطل الباطل إلا سلكه، ولا طريقاً يقنع بها قومه بأن يعبدوا الإله الواحد جل جلاله إلا سلكها؛ ولذلك يكلم أباه وقومه فيقول: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، فيكون الرد الأبله والجواب الأبكم: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:53]، يعني نحن مقلدون للآباء ليس إلا! فيبدأ يطرح عليهم أسئلة يوقظ عقولهم وينبه فطرهم: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:72-74].

ويبدأ صلوات ربي وسلامه عليه يسلك طريقاً آخر في الاستدلال بهذه الحوادث المتغيرة في الكون، يقول تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، أي: هذا الشيء الذي يغيب ويذهب لا أحبه، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:77-78]، هاهنا قال المفسرون: كان إبراهيم مناظراً لا ناظراً، أي: كان مناظراً يناظر قومه، ليس مستدلاً لنفسه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله نفى عنه الشرك، في قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، فإبراهيم ما أشرك بالله طرفة عين عليه الصلاة والسلام.

وبعض المفسرين قالوا: تقدير الكلام على حذف همزة الاستفهام، أي: أهذا ربي؟ يسألهم: أهذا الكوكب.. أهذا القمر يصلح أن يكون رباً معبوداً وهو يتعرض للحدوث والأفول، للظهور والذهاب؟!

بر إبراهيم عليه السلام بوالده وتلطفه في دعوته

ثم بعد ذلك أيضاً نجد بأن هذا النبي الكريم كان رقيق القلب، عطوفاً، باراً بوالده، عذب العبارة في مخاطبته، يتكلم معه بالكلام الهين، اللين، وأنه لا يريد له إلا الخير، فيقول: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42]، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً [مريم:44]، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً [مريم:43]، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [مريم:45]، وقد مضى معنا خبر ذلك الأب الكافر، الجاحد، الذي ما نفع معه الوعظ ولا التذكير ولا الترغيب، ولا نفع معه بر هذا الولد الصالح، الطيب، المبارك، فأصر على كفره حتى ورد موارد الهلاك والعياذ بالله، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].

تغيير إبراهيم عليه السلام المنكر بيده

فلما لم ينفع الترغيب، ولا الترهيب، ولا التبشير، ولا الإنذار، لجأ إبراهيم عليه السلام إلى تغيير المنكر بيده، فقال لقومه: وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ [الصافات:91]، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً [الأنبياء:58]، أي قطعاً صغيرة، كسر هذه الأصنام تكسيراً، وأتى عليها بفأسه، إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58]، فلما جاءوا وسألوا أيضاً السؤال الأبله: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، ثم أتوا به للاستجواب والاستنطاق فقالوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:62-63]، وأشار إلى الصنم الكبير، فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، أي: اسألوا صاحبكم هذا من أجل أن يبين لكم من الذي فعل تلك الفعلة، فرجعوا بجواب يدل على بلادة العقول وعطن الأذهان، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:65]، يعني: أنت تعرف أن هؤلاء لا يتكلمون، فقال لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:66-67]، عند ذلك لجأوا إلى الإرهاب واستعمال القوة والبطش، مثل ما فعل فرعون حين عجز قال لـموسى : لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29].

إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار

وهنا أيضاً هؤلاء أهل البلادة والغباء قالوا: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68]، فبدءوا يجمعون الحطب، قالوا: كان الرجل إذا مرض ينذر إن عوفي أن يحمل حطباً لنار إبراهيم، وكانت المرأة كذلك، كلهم في ضلال وخبال، فلما أججوا تلك النار العظيمة، جردوه من ثيابه، ثم قذفوه بالمنجنيق، فأمر الله عز وجل النار بأن لا تحرق من إبراهيم شيئاً، فما أحرقت إلا وثاقه، أي: الحبل الذي قيد به. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ما انتفع أهل الأرض بنار يومئذ؛ لأن الله قال: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً[الأنبياء:69]، فبقي إبراهيم عليه السلام في تلك النار ولم يتغير منه شيء.

خروج إبراهيم عليه السلام من النار وهجرته من العراق

فلما خرج من النار سالماً معافى، قال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم، ترك أرض الكنعانيين، أرض العراق، التي كان فيها أبوه وقومه، قال الله عز وجل: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:71]، قيل: هي فلسطين، وقيل: هي أرض حران، فلما ذهب إبراهيم عليه السلام إلى تلك الأرض، أبدله الله عز وجل بالأهل أهلاً، وعوضه الله ذرية صالحة على رأسها نبيان كريمان: إسحاق وإسماعيل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.

مناظرة إبراهيم عليه السلام للنمرود بن كنعان

أيضاً إبراهيم كان يعتمد أسلوب المناظرة في مواجهة الجبابرة والطواغيت، فلما ذهب إلى النمرود بن كنعان الذي كان يدعي الربوبية فيقول: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ[البقرة:258]، وكان هذا الرجل يوزع الطعام على الناس، يعني أنه يقبض الناس من بطونهم، كصنيع الطواغيت في كل زمان كان يوزع الطعام والناس يسجدون له ويركعون.

فجاء إبراهيم عليه السلام ليأخذ طعامه، فقال له: لا يصلح لك أن تأمر الناس بذلك، فالذي يستحق العبادة هو الله ربي الذي يحيي ويميت، فقال الخبيث: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ[البقرة:258]، فقال إبراهيم عليه السلام: وكيف ذاك؟ قال له: آتي برجلين قد حكم عليهما بالقتل فأقتل أحدهما وأستحيي الآخر، أي: أقتل واحداً وأعفو عن الآخر.

قال ابن كثير رحمه الله: وليس هذا بمنع ولا معارضة، وإنما هو مقام تشغيب، بل حقيقته انقطاع، فهذا الرجل مفلس ليس عنده حجة ويشغب بهذا الكلام، وكان يمكن لـإبراهيم عليه السلام أن يقول له: كلامك هذا لا يرتضيه عاقل، لكنه عليه السلام انتقل من دليل إلى دليل أقوى منه، فقال له: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ[البقرة:258]، فانقطع انقطاعاً تاماً.

ثم رجع إبراهيم عليه السلام بوعائيه، وأبى ذلك الطاغية أن يعطيه طعاماً.

روى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: فرجع إبراهيم بغرارتيه -أي وعائيه- ليس فيهما طعام، وكان يرتعب من سارة ، يعني كحالنا الآن، يخاف أنه يرجع للزوجة من غير طعام، فعمد عليه السلام إلى الوعاءين فملأهما تراباً، فدخل البيت وغرارتيه مملوءتان، فوضعهما ثم ذهب فنام، فلما استيقظ عليه الصلاة والسلام إذا الطعام مبسوط والمائدة ممدودة، فقال لها: من أين هذا الطعام؟ فقالت: مما جئت به، فعلم أنه رزق ساقه الله إليه، فالتراب الذي ملأه في تلك الغرارتين جعله الله عز وجل بقدرته قمحاً أو ذرة أو شعيراً.

دخول إبراهيم عليه السلام أرض مصر

بعد ذلك دخل إبراهيم عليه السلام أرض مصر، وكان في زمان العماليق، الذين يسميهم الرومان بالهكسوس، وكان يحكمهم ملك جبار ظالم، فرعون من الفراعنة، وكان رجلاً هتاكاً للأعراض، وقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الخبيث لما سمع بـسارة ، وكانت من أحسن خلق الله، امرأة حسنة، جميلة، فعمد إليها، يعني: أرسلوا إليها، فـإبراهيم عليه السلام قال لـسارة: (إنه ليس على الأرض مؤمن إلا أنا وأنت، وإن يعلم هذا الجبار بأنك زوجي يغلبني عليك، فقولي: إنك أختي، فلما أدخلوها عليه، مد يده إليها فقبض قبضاً شديداً، فقال: أطلقيني ولا أعود، فدعت الله عز وجل فأطلق يده، فعمد إليها ثانية فقبض، ثم ثالثة فقبض، فاستدعى الرجل الذي جاء بها وقال: أخرجوها فإنما أتيتموني بشيطانة، وأخدمها هاجر )، أي: أعطاها هاجر هدية، ( فـإبراهيم عليه السلام أول ما دخلت عليه سارة قال لها: مهيم؟ )، ما الخبر؟ ( قالت: كف الله يد الفاجر، وأخدمني هاجر)، يعني كف الله يده ورجعت بغنيمة والحمد لله رب العالمين.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات: قوله: إِنِّي سَقِيمٌ[الصافات:89]، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ[الأنبياء:63]، وقوله لــسارة: قولي: بأنك أختي )، وما كانت كذبات في واقع الأمر، وإنما هو من استخدام المعاريض.

ومن خلال استعراض هذه المواضع في القرآن الكريم، نستطيع أن نستفيد فوائد:

أولها: أن إبراهيم عليه السلام مثال للداعية المفطور، الذي وقف حياته على الدعوة إلى الله عز وجل، ما ترك سبيلاً يحق به الحق ويبطل الباطل إلا سلكه، ولا طريقاً يقنع بها قومه بأن يعبدوا الإله الواحد جل جلاله إلا سلكها؛ ولذلك يكلم أباه وقومه فيقول: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، فيكون الرد الأبله والجواب الأبكم: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:53]، يعني نحن مقلدون للآباء ليس إلا! فيبدأ يطرح عليهم أسئلة يوقظ عقولهم وينبه فطرهم: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:72-74].

ويبدأ صلوات ربي وسلامه عليه يسلك طريقاً آخر في الاستدلال بهذه الحوادث المتغيرة في الكون، يقول تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، أي: هذا الشيء الذي يغيب ويذهب لا أحبه، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:77-78]، هاهنا قال المفسرون: كان إبراهيم مناظراً لا ناظراً، أي: كان مناظراً يناظر قومه، ليس مستدلاً لنفسه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله نفى عنه الشرك، في قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، فإبراهيم ما أشرك بالله طرفة عين عليه الصلاة والسلام.

وبعض المفسرين قالوا: تقدير الكلام على حذف همزة الاستفهام، أي: أهذا ربي؟ يسألهم: أهذا الكوكب.. أهذا القمر يصلح أن يكون رباً معبوداً وهو يتعرض للحدوث والأفول، للظهور والذهاب؟!