داود عليه السلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن أهل الجنة يتنعمون بصوت داود عليه السلام، ويستفرغون ما عندهم من النعيم، فيشغلون به عن كل نعيم سوى هذا النعيم الذي يسمعونه.

وقد كان داود عليه الصلاة والسلام عابداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نعم الصيام صيام داود ! كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ونعم الصلاة صلاة داود ! كان ينام من الليل نصفه، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان لا يفر إذا لاقى )، أي: إذا لاقى العدو لا يفر.

وهذا النبي الكريم، الأواب، البكاء، المسبح، كان عليه الصلاة والسلام مع ذلك قوياً ذا بأس شديد، قال الله عز وجل: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10]، قالوا: ما كان يحتاج إلى مطرقة ولا إلى نار، بل كان بيديه يطوع الحديد كما يريد!

يقول الله عز وجل له: أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ [سبأ:11]، أي: اصنع هذه الدروع التي تقي الإنسان المقاتل، كما قال ربنا: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]، أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ[سبأ:11]، أي: إذا دققت المسمار يكن دقك بحساب فلا تكسره، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ[سبأ:11]، وكان مع ذلك صلوات الله وسلامه عليه عبداً شكوراً، قال سبحانه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13].

وهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه أنطقه الله بالحكمة، كما قال سبحانه: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20]، آتاه الله الحكمة، أي: النبوة، وكان نبياً مكلماً، وآتاه الله فصل الخطاب، قيل فصل الخطاب: حسن القضاء والفهم له، وقيل فصل الخطاب: الاستعانة بالبينة واليمين، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر )، وقيل فصل الخطاب: قوله: أما بعد، وقيل فصل الخطاب: أنه كان يبين عن ما يريد ويضمر، أي: الشيء الذي في نفسه كان يستطيع أن يعبر عنه ويبينه بأسلوب واضح.

وقد روى الإمام ابن جرير و ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: قال: أول ما ظهر أمر داود في القضاء أنه قد ترافع إليه رجلان في بقر، يدعي أحدهما على الآخر أنه قد اغتصبها، فأمهلهما داود إلى الصبح، فأوحى الله إليه: يا داود ! إذا جاءك المدعي فاقتله، فلما جاء المدعي قال له داود: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك، وإني فاعل ذلك لا محالة، فاصدقني، فقال له المدعي: والله يا نبي الله، ما ظلمته حين ادعيت عليه في البقر التي اغتصبها، لكني كنت قد اغتلت أباه فيما مضى، فأمر به داود عليه السلام فقتل، وكان ذلك أول ظهوره في بني إسرائيل.

وداود عليه السلام قد أحاطت بسيرته شبهات روج لها اليهود، ففي قول ربنا جل جلاله: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:21-23]، زعموا بأن داود عليه السلام أعجبته امرأة، وعلم بأنها زوجة لأحد قادة الجيش، فقال: أكفلنيها، أي: تنازل لي عن هذه الزوجة.

وقال آخرون: بل كان هذا القائد قد خطبها، فطلب منه داود أن يتنازل عن خطبتها من أجل أن يخطبها هو.

وزعم فريق ثالث: بأن داود عليه السلام بعث بهذا الرجل قائداً لجيش، وأمر بأن يكون في حملة التابوت؛ من أجل أن يقتل، فلما لم يقتل بعث به ثانية وثالثة حتى قتل، فتزوج داود بامرأته وضمها إلى حريمه.

وبعضهم أراد أن يلطف الأمر، فقال: بل هوي داود تلك المرأة، فلما مات زوجها لم يحزن عليه كما حزن على القادة الآخرين.

وقال بعضهم: بل استعجل داود في الحكم، لما سمع مقولة هذا المدعي، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً[ص:23]، ولم ينتظر أن يسمع جواب المدعى عليه، واستعجل في الحكم، وهذا لا يليق بالقضاة.

وهذا كله مما لا يصح أن ينسب لنبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

فإنه كان مسدداً، كما قال ربنا عنه وعن سليمان : وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً[الأنبياء:79]، وقال الله عز وجل: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ[النمل:16]، أي: ورث علمه ونبوته صلوات الله وسلامه عليهما.

قال الإمام تقي الدين السبكي رحمه الله: وقد ظهر لي وجه في الآية غير الذي ذكر، وذلك أن الله تعالى قال: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ[ص:25]، فدل على أن الذنب المغفور مذكور في الآية، وقد بدا لي أنه واحد من ثلاثة، إما اشتغاله بالعبادة عن الحكم، أو ظنه الذي وقع في غير موقعه، بمعنى: أن داود عليه السلام كان له يوم يتعبد الله فيه، لا يدخل عليه أحد، فلما جاء هؤلاء الخصوم ما استطاعوا الدخول عليه، فتسوروا. وإما أن داود عليه السلام قد اشتغل بالحكم عن العبادة، فاستغفر ربه من ذلك، وقد دلت الآية على أن هذا ضعيف؛ لأن الله تعالى قال له بعدها: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[ص:26]، فدل ذلك على أن داود ومن كان مثله من القضاة وغيرهم لا ينبغي لهم أن يتشاغلوا بنوافل العبادة عن الحكم بين الناس وقطع الخصومات بين المتشاجرين.

وإما أنه ظن أنما فتنه ربه، وكان ظنه في غير موقعه؛ بدليل قول الله عز وجل بعدها: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:25]، أي: أن الله عز وجل ما فتنه، بل قربه ورفعه درجات.

وداود عليه السلام أيها الإخوة الكرام! كان أبوه آدم يحبه حباً جماً، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد وغيره: ( بأن الله عز وجل لما خلق آدم مسح على ظهره وأخرج ذريته بين يديه كالذر -نثرهم كالذر- فنظر آدم عليه السلام إلى الأنبياء من ولده، فوجد فيهم رجلاً يزهر، بين عينه نور، فقال: يا رب! من هذا؟ قال: هذا ولدك داود، قال: يا رب! كم عمره؟ قال: ستون سنة، فقال: يا رب! كمل له مائة، قال: لا، إلا أن آخذ من عمرك فأزيده، فقال: رضيت يا رب، فكتب الله عز وجل كتاباً وأشهد عليه الملائكة بأن آدم عليه السلام تنازل عن أربعين سنة من عمره لداود، فلما جاء ملك الموت ليقبض روح آدم وقد أوحي إليه بأن عمره ألف سنة، يعني: قبل أن يتنازل لداود، فلما جاء ملك الموت قال له آدم: بقي من عمري أربعون، فقال له ملك الموت: أعطيتها لولدك داود ، قال: ما أعطيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته، فكمل الله لآدم ألفاً، وكمل لداود مائة )، فكان عمر داود مائة وكان عمر آدم عليه السلام ألفاً.

ونبي الله داود عليه السلام لما نزل به الموت كان خبره عجباً! وذلك أنه كان رجلاً شديد الغيرة، كما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا خرج أغلق على أزواجه الأبواب، فلما اطلعت إحدى الزوجات على الدار في ذات يوم، أي: على الفناء؛ وجدت رجلاً قائماً، فقالت: لنفتضحن اليوم بداود، فلما جاء عليه السلام وجد الرجل قائماً في صحن الدار، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا أمتنع من الحجاب, قال له: أنت ملك الموت إذاً؟ مرحباً بالموت، مرحباً بأمر الله! وكان عليه السلام على درج، فطلب من ملك الموت، فقال له: دعني أصعد أو أنزل، فقال له ملك الموت: يا نبي الله! قد فنيت الشهور والسنون والأرزاق، فخر داود ساجداً على إحدى درجات السلم.

يعني: أن داود عليه السلام لما طلب منه أن يدعه يصعد أو ينزل ليس من أجل دنيا؛ وإنما من أجل أن يتهيأ له أن يقبض وهو ساجد، فلما لم يحصل ذلك سجد على السلم.

واجتمع الناس لجنازته واشتد عليهم حر الشمس، فشكوا لولده سليمان عليه السلام فأمر الطير فظللت بأجنحتها من أجل أن تحجب عن الناس حر الشمس، فشكوا إليه أن الريح قد أمسكت عنهم، فأمر الطير أن تظلل ناحية الشمس وأن تزول عن ناحية الريح، وكان ذلك أول ظهور أمر نبي الله سليمان .

أسال الله عز وجل أن يرزقنا الاقتداء بهما.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.