من سورتي العنكبوت - الروم


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

في الآية الحادية والأربعين من سورة العنكبوت يقول ربنا جل جلاله: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].

العنكبوت حشرة معروفة، وتجمع على عناكب، ولها أرجل ورأس، والله جل جلاله الذي أعجز الناس في خلقه الفيل هو الذي أعجز الناس في خلقه العنكبوت، ففي كليهما سر الحياة موجود، فهذا العنكبوت يعمد إلى بناء بيت هو عبارة عن خيوط يفرزها من لعابه، إما أن تكون بين فرعين في شجرة، وإما أن تكون بين جدارين، وإما أن تكون في سقف، ثم في جانب منها يغلظ تلك الخيوط بحيث يستطيع بها اصطياد الحشرات؛ لأنه أصلاً لا يتغذى إلا على الحشرات.

وهناك صنف من العنكبوت يقال له: ليث العناكب، وهو يفترس الذباب، وهذا العنكبوت يبني ما سماه الله بيتاً، لكن هذا البيت لا يصمد أمام العوامل كلها، فلو هبت نسمة هادئة لمزقته، ولو نزلت عليه قطرة ماء لأتلفته، ولو أن إنساناً لمسه بيده لأزاله، فالله جل جلاله يمثل اعتماد المشركين على آلهتهم كاعتماد العنكبوت على تلك الخيوط التي نسجها، يظن المشركون أن آلهتهم قادرة على أن تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً، وكذلك العنكبوت يظن أن هذه الخيوط التي نسجها ستبعد عنه تقلبات الدهر وعوادي الأيام، ولكن هيهات هيهات!

فالمشركون مغرورون كالعنكبوت، وآلهتهم تشبه بيت العنكبوت، قال الله عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ[العنكبوت:41] وهم المشركون، كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ[العنكبوت:41]، أي: وإن أضعف البيوت، لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، يقول المفسرون: جملة: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41] متعلقة بقوله: كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ[العنكبوت:41]، فيصبح المعنى: كمثل العنكبوت لو كانوا يعلمون، وليست متعلقة بقوله: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ[العنكبوت:41]؛ لأن وهن بيوت العنكبوت لا يكاد يخفى على أحد، فكل الناس يعلمون أن بيوت العنكبوت هي من الوهن بمكان بعيد.

والله عز وجل أتى بهذا المثل بعدما ذكر قصة نوح أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وقد كانوا يعبدون الأصنام وهم الذين قالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23].

ثم ذكر بعدها قصة إبراهيم عليه السلام حين قال لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[العنكبوت:25].

وبعدها ذكر ربنا جل جلاله قصة لوط مع قومه، ثم ختم بقوله: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [العنكبوت:36-37]، وهم الذين كانوا يعبدون الأيكة، أي الشجرة العظيمة الملتفة الأغصان، ضرب الله لهؤلاء جميعاً هذا المثل، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:41-43].

وفي الآية السادسة والعشرين من سورة الروم وما بعدها، يقول الله عز وجل: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم:26-28].

يخبر الله جل جلاله بأن من في السموات والأرض طائع لله، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم:26]، أي: مطيعون، الملائكة تطيع الله عز وجل، والجمادات والحيوانات والأشجار والشمس والقمر، كما قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ[الحج:18]، ثم قال: وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ[الحج:18]، وتمرد الإنسان؛ لأن الله أعطاه الاختيار.

أما تلك المخلوقات كلها فهي مسيرة بأمر الله.

فالله جل جلاله أعطى للإنسان الاختيار، إن شاء آمن وإن شاء كفر، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3]، ولو اختار الكفر فإن الله عز وجل يملي له ويمهله، بل ربما يزيده ضلالاً، نسأل الله العافية! كما قال: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15]، وكما قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً [مريم:83]، يكله الله عز وجل إلى نفسه، وسيلقى مصيره.

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ[الروم:27]، فالله سبحانه وتعالى يقول بأنه هو الذي بدأ الخلق، والذي بدأ الخلق قادر على أن يعيده مرة ثانية، ويقرب إلينا الشيء، بأن الإنسان إذا صنع الشيء في المرة الأولى فالمرة الثانية تكون أيسر وأسهل، ولا يقال في حق الله هذا هين وهذا أهون، بل كما قال علي رضي الله عنه: ما الجليل واللطيف والقوي والضعيف والثقيل والخفيف في ملك الله إلا سواء؛ ولذلك لما قال زكريا عليه السلام: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ[مريم:8-9].

ومريم لما قالت: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا [آل عمران:47] أيضاً هو هين على الله أن يخلق إنساناً من أم بلا أب.

وكذلك إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، كان الله جل جلاله قادراً على أن يجعل إبراهيم يفر من بين أيديهم، وكان قادراً على أن يعجز المشركين عن الإمساك به، لكنه جل جلاله مكنهم منه، حتى أوثقوه، وقيدوا يديه ورجليه، وأوقدوا تلك النار أياماً عديدة، حتى قالوا: بأن المرأة كانت إذا مرض ولدها نذرت إن شفي أن تحمل حطباً لنار إبراهيم، لقد بلغ بهم الضلال إلى هذا الحد، فأوقدوا تلك النيران وأججوها، ثم جاءوا بالمنجنيق وقذفوا إبراهيم عليه السلام في تلك النار، وهنا يأتي هوان الشيء على الله وهو أن الله جل جلاله سلب تلك النار خاصية الإحراق، فلم تستطع أن تحرق؛ يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]؛ وذلك كل شيء في ملك الله هو عليه هين، سبحانه وتعالى.

وانظر إلى الجمل، هذا المخلوق العظيم الكبير الضخم، جعل الله جل جلاله الغلام الصغير يسوقه وينيخه ويقيمه ويركب عليه ويتصرف فيه، وجعل الثعبان الصغير أو العقرب الصغير التافه يخوف أعتى الناس، ولو أن مصارعاً أو ملاكماً ممن يأكل في اليوم خمسة كيلو من اللحم رأى ثعباناً بحجم الأصبع فإنه يخاف منه ولا تغني مصارعته عنه شيئاً وهذا أيضاً من هوان الخلق على الله، فالله جل جلاله هو الذي ذلل الجمل لهذا الغلام، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:71-72].

والثعبان نخاف منه لأن الله لم يذَلّلْه لنا، بل جعله من ذوات الحمة والسم الفتاك القاتل، وربنا جل جلاله هنا يقول لنا: لا تنكروا البعث، فإن الذي أنشأكم أول مرة قادر على أن يعيدكم، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:27].

ثم يقول: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ[الروم:28]، وتأمل هنا! هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ[الروم:28].

يعني لو فرض بأن الواحد منا عنده من يخدمه، مولى أو عبد، أو مجموعة من العبيد يأتمرون بأمره، هل يرضى أن يكون هؤلاء العبيد المأمورون شركاء له فيما آتاه الله من مال؟ لا يرضى ذلك أحد، هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ[الروم:28]، أي: أنتم والعبيد سواء في هذا المال، تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ[الروم:28]، يعني: مثل ما يخاف الشريك من شريكه، فلو كان هناك شركة بين شخصين أو أكثر، فإن الشريك لا يستطيع أن يتصرف إلا بإذن الشريك الآخر.

فهؤلاء العبيد ممن هم مثلكم ناس خلقهم الله عز وجل، فإذا كنتم لا ترضون أن تجعلوهم شركاء لكم فيما رزقكم الله، فكيف تجعلون هذه الأصنام وهذه الآلهة المدعاة وهذه الأوثان التي تنحتونها، وليست إلا جماداً، والله عز وجل جعل الجماد في خدمة النبات وفي خدمة الحيوان، وجعل النبات والحيوان في خدمة الإنسان، فهؤلاء والعياذ بالله انحرفوا، فعبدوا الجمادات، قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا[فصلت:9-10] وهي الجبال، وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10]، فهؤلاء يعبدون الأصنام التي تنحت من الحجارة، ومن الجبال، والجبال سخرت للنبات والحيوان، والحيوان سخر للإنسان؛ ولذلك فإن الله عز وجل يضرب هذا المثل من أجل أن يتفكر هؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
من سورة النور [1] 2426 استماع
من سورة الرعد [2] 2192 استماع
تدبر القرآن 2098 استماع
من سورة النحل [1] 1874 استماع
من سورة البقرة [3] 1798 استماع
من سورة البقرة [2] 1543 استماع
من سورة الأعراف 1523 استماع
من سورة النور [2] 1432 استماع
من سورة آل عمران 1422 استماع
من سورة النحل [2] 1421 استماع