الشوق إلى الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمد عباده الشاكرين الذاكرين، وأصلي وأسلم على من أرسله الله رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن المسافر يشعر بأمور أربعة:

الأمر الأول: الغربة.

الأمر الثاني: التعب.

الأمر الثالث: القلق.

الأمر الرابع: أنه يعيش على أمل العودة.

فأول صفة هي صفة الغربة، وهكذا نحن في الدنيا مسافرون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).

إذاً: فالغريب وعابر السبيل فيهما صفة السفر، وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الناس، فالإنسان داخل بلده لا تظهر أخلاقه على طبيعتها، ولذلك تجد الناس الذين يحجون رفقة ينقسمون إلى قسمين وثلاثة، فإما أن يرجعوا متحابين أكثر، وإما أن يصبحوا أعداء، لماذا؟ لأنه يقول لك: أنا لم أكن أظن أنه بخيل، ولم أكن أظن أنه عصبي.

ورحم الله إمامنا الشافعي الذي كان أستاذ علم الفراسة، فإذا كان للفراسة علم فهو أستاذها، كان ينظر إلى الشخص فيقول: هذا مؤمن، وهذا منافق، وهذا يظهر ما لا يبطن، وهذا مُراءٍ، لكن إذا قال فقد صدق.

قال مرة: ألجأتني رحلة العلم إلى خيمة بالليل، فسلمت فرد الرجل السلام، فقلت في نفسي بعلم الفراسة: هذا رجل بخيل، قال: فإذا بالرجل يكرمني ويحسن ضيافتي، ويعلف ناقتي، ويهيئ لي مضجعاً، وأتاني بطعام العشاء، وشراب من نوعين، وقمت لله أصلي، فجاءني بماء وضوء ساخن، وصلى معي الفجر، ثم أتاني بطعام الإفطار، قال: فقلت في نفسي: تعس علم الفراسة، إن الرجل يكرمني إلى هذه اللحظة، فلابد أن أستسمحه، فقلت: يا هذا! اسمي محمد بن إدريس الشافعي، وأقطن مكة في منطقة كذا، فعندما تأتي إلينا لحج أو لعمرة فمر علينا.

قال: وقبل أن أقول له: اعف عني وسامحني، قال: أعزمت على المسير؟ قلت: نعم، قال: اجلس، علفت دابتك بكذا، وقدمت لك طعام العشاء بكذا، وضيقت على نفسي في الليل ووسعت عليك بكذا، وأفطرتك بكذا، وقدمت لك ماءً ساخناً لتتوضأ بكذا، فقال الشافعي : فلم تخطئني الفراسة!

فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال، وأول صفة في السفر الغربة، ولذلك كلنا في الدنيا على سفر.

ويروى أن الحسن البصري رحمه الله رأى جمعاً من الناس فقال: ما لهؤلاء لماذا يبكون؟ قالوا: يا إمام! دفنوا ميتاً لهم، قال: عجباً! مسافرون يبكون مسافراً قد وصل قبلهم.

الشوق إلى الله عز وجل

أنت غريب في المجتمع، لكن غربتك هذه تدعوك إلى أن تشتاق للقاء الله عز وجل، أن يكون عندك شوق ومحبة، وعندك اندفاع روحاني قلبي إيماني للقاء رب العباد سبحانه.

ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: احرص على الموت توهب لك الحياة.

وقد حققنا لكم من قبل أن كل الشجعان من الصحابة رزقوا الشهادة في المعارك، ولكن الأشد شجاعة من القواد ما استشهدوا في المعارك، منهم خالد بن الوليد ، وسعد بن أبي وقاص ، فهؤلاء لم يقتلوا في المعارك، رغم أنهم كانوا في المقدمة، ولا توجد حرب إلا اشتركوا فيها.

إن سيدنا خالد بن الوليد لما احتضر قال: والله ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة رمح أو ضربة بسيف، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.

إذاً: هذا إنسان غربته جعلته يشتاق إلى ما عند الله سبحانه.

وسيدنا أنس بن النضر رضي الله عنه في غزوة أحد يقول: والله إني لأشم رائحة الجنة من خلف أحد.

وسئل الحسن البصري : ماذا تصنع مع الشيطان؟ قال: ومن الشيطان؟! أطاعوه فما نفعهم، وعصوه فما ضرهم.

فالذي يطيع الشيطان لا ينفعه، والذي يعصي الشيطان لا يضره، إذاً: كن مع الله.

التعب في السفر

الصفة الثالثة: التعب، فلا يوجد مسافر في راحة، فمهما كانت وسيلة السفر مريحة فلابد أن يكون متعباً، وهكذا فإنك في الدنيا متعب.

وقيل: لا راحة في الدنيا، ولا حيلة في الرزق، ولا شفاعة في الموت، ولا راد لقضاء الله، فلا راحة في الدنيا لا لمؤمن ولا لغير مؤمن، بل إن المؤمن يعيش في الدنيا مستعداً للقاء الله.

ولذلك فإن المؤمن تبدأ راحته عند الموت، والفاجر يبدأ تعبه عند الموت.

فالمؤمن عندما يموت يحمل صفحة الراحة، وأما الفاجر فقد كان يقول: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، فهو يظن أنه يعيش في الدنيا فقط، ويعمل فيها ما يشاء براحته، ولكنه حين يموت يبدأ تعبه، والمؤمن عند يموت تفتح له أبواب الرحمة.

وأطمئن كل الذين ابتلاهم رب العباد وأقول لهم: هنيئاً لكم ما عند الله عز وجل، ولا أخص بالذكر أناساً معينين، فكل شخص عنده بلوى بقدر حجمه، فهناك من عنده بلاء المرض، أو أنه فقير، أو أن هناك مشكلة لا يوجد لها حل، أو أن هناك قضية في محكمة، فكل هذه من الابتلاءات.

فهذا المبتلى لابد أن يثق في فضل الله ورحمته، فأنت لا ترى من الصورة إلا ظاهرها، ولكن باطن الصورة كله خير؛ لأن المبتلي رحمن رحيم، بل هو أرحم بك من أمك وأبيك.

إذاً: لابد أن يعود عليك الابتلاء بالخير كله، واحمد الله أنك من أهل الابتلاء، وإذا لم تكن من أهل الابتلاء فراجع حساباتك.

فقد ثبت في الحديث أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: (من أصيب بحمى؟ فقال أعرابي: وما الحمى يا رسول الله؟! قال: أما أصابتك أم ملدم؟ قال: وما أم ملدم؟ قال: حرارة في الجسد، قال: كلا، قال له: أما أصابك صداع؟ قال: وما الصداع يا رسول الله؟! قال: عرق ينبض عن الرأس. قال: كلا، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا).

فالله سبحانه إذا أحب عبداً ابتلاه.

فهؤلاء الناس الذين يجلسون على الكراسي لو أصيب واحد منهم بمغص فإنه لا يعرف ربه إلا عندما يوعك وهو على الكرسي.

نسأل الله سبحانه أن يرزقنا الصبر على البلوى.

وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.