من سورة البقرة [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

في الآية الخامسة والستين بعد المائتين من سورة البقرة، يقول ربنا جل جلاله: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265].

في المثال الذي مضى بين ربنا جل جلاله أن المنفق ماله رئاء الناس، والحال أنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر مثله كمثل حجر أملس قد علاه التراب فأصابه مطر شديد، فما زاد على أن أزال هذا التراب، لكنه لم ينبت زرعاً ولم يغير حالاً.

وعلى النقيض من ذلك، فمثل الذي ينفق ماله طيبة بذلك نفسه، يبتغي رضوان الله عز وجل وجنته، ويبتغي تثبيت إيمانه وتقوية يقينه، مثل الجنة التي هي بربوة، والربوة: التل المرتفع الذي يصيبه النسيم والهواء العليل، والمطر الغزير فينبت زرعاً يانعاً مخضراً، كَمَثَلِ جَنَّةٍ، والجنة هي: الحديقة الغناء، وسميت جنة: لأن الشجر الذي حولها يجن ما وراءها، أي يستره.

كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ، أي: بتل مرتفع.

أَصَابَهَا وَابِلٌ، أي مطر كثير غزير.

فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ[البقرة:265]، يعني: إنتاجها صار مضاعفاً.

فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ، والطل: هو المطر الخفيف، يقال: أطلت السماء إذا نزل منها مطر خفيف، فإذا لم يصب تلك الجنة مطر غزير أصابها مطر خفيف، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ[البقرة:265].

ثم ختمت الآية بقول الله عز وجل: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، أي هو سبحانه مطلع على نياتكم، عالم بطوياتكم، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وهذان المثلان المتقابلان نستبين منهما أن النفقة المتقبلة عند الله عز وجل هي التي يراد بها وجه الله ولا يخالطها رياء ولا سمعة، ولا يتبعها من ولا أذى.

في الآية السادسة والستين بعد المائتين يقول الله عز وجل: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:266].

معنى (أيود) أي: أيحب أحدكم.

(أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) أي: أن يكون عنده بستان شاسع، وحديقة غناء فيها ثلاثة أشياء: فيها النخيل وهو شجر التمر، وفيها الأعناب وهو ثمر الكرم، وفيها شيء ثالث حسن وهو أنه تجري من تحتها الأنهار.

لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، أي: له من أنواع الفواكه الناضرة والثمار البهيجة والمناظر الغناء الشيء الكثير.

وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، والإعصار هو الريح الشديدة التي تستدير ثم ترتفع على هيئة عمود في السماء، وليست ريحاً فحسب بل فيها نار، وهذه النار إما من مرورها على الحرائق أو بغير ذلك من الأسباب.

فَاحْتَرَقَتْ، أي: تلك الجنة.

والمراد بهذا المثل: أن الله عز وجل ضربه لإنسان يعمل أعمالاً صالحة، ثم يفسدها بالرياء والمن والأذى.. فيمثل الله عز وجل حال هذا الإنسان الذي ينفق النفقات الكثيرة ويقدم الصدقات ذات اليمين وذات الشمال، ثم بعد ذلك يتبعها بالمن والأذى وقد خالطها الرياء بإنسان قد تقدم به العمر، ورق منه العظم، وانحنى منه الظهر، وضعفت منه القوة، وهذا الإنسان له أولاد صغار لا يقدرون على العمل، لكونهم لم يبلغوا مرحلة التكسب والقوة والاعتماد على النفس.

وكان هذا الإنسان يرجو من هذه الجنة أن يعيش على ثمارها حين الكبر، بأن يبيع من غلتها، ثم ينفق على نفسه وعلى هذه الذرية الضعفاء.

فبينما هو يعيش في تلك الأحلام الوردية، وتلك العوالم، إذا بهذه الجنة قد أصابها إعصار، وهي الريح العاتية التي تحمل ناراً، فاحترقت، ولم يبق منها شيء.

وكذلك الإنسان الذي ينفق النفقات الكثيرة ويقدم الصدقات المتنوعة، ثم بعد ذلك يتبعها بالمن والأذى، مثله كمثل ذلك الرجل الذي احترقت جنته وذهبت.

المثال الثالث وهو الأخير في هذه السورة المباركة:

يقول الله عز وجل: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].

المواضع التي ذكر فيها الربا في القرآن

الله جل جلاله ذكر الربا في القرآن الكريم في أربعة مواضع:

في سورة مكية وهي سورة الروم: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39].

ثم في ثلاث سور مدنية، ففي سورة النساء بين الله سبحانه أن الربا كان محرماً على اليهود فأكلوه: فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:160-161].

وفي سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً[آل عمران:130].

ثم وردت الآيات الجازمة بالتحريم وهي هذه الآيات من سورة البقرة إلى قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ[البقرة:281].

المقصود بالربا

الربا: فضل مستحق لأحد المتعاقدين خال عما يقابله من العوض، إما أن يكون رباً في الديون أو رباً في البيوع على تفصيل معروف عند أهل العلم.

والله جل جلاله بين حال المتعدين لحدود الله الذين لا يبالون بما يأكلون، خاصة أكلة الربا فقال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ[البقرة:275].

أوجه تفسير قوله تعالى: (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس...)

ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً ثلاثة:

الوجه الأول: قالوا: المراد: أنهم يوم القيامة حين يخرج الناس من قبورهم سراعاً، كما قال الله عز وجل: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج:43].

المراد أن آكل الربا كلما نهض خر، ويؤيد هذا الحديث الثابت في الصحيح: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى فيما يرى النائم رجلاً يسبح في نهر من الدم، وعلى الشاطئ رجل قائم، كلما أراد أن يخرج ألقمه حجراً فعاد كما كان، فلما سأل جبريل ما هذا؟ قال: هؤلاء هم أكلة الربا ).

وكذلك ليلة المعراج، ( رأى النبي عليه الصلاة والسلام أناساً بطونهم كأمثال البيوت تسرح فيها الحيات، كلما نهض أحدهم خر، فسأل: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء هم أكلة الربا )، هذا وجه.

الوجه الثاني: أن فيها دلالة على أنه قد أصاب عقولهم ما يصيب أهل الجنون المطبق، بحيث أن المرابي لم يعد يفرق بين الخير والشر، ولا بين الحلال والحرام، ولا بين الطيب والخبيث، وإنما همه أن يجمع المال من أي سبيل كان، ولا يبالي.

الوجه الثالث: أن هذا هو حالهم في الدنيا، فتجد الواحد منهم دائماً شارداً حائراً، لا يجد لذة لمطعم ولا لمشرب والعياذ بالله.

وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا[البقرة:275] النزاع ليس في حكم البيع، فكل الناس المسلم والكافر يقولون: البيع حلال، وإنما النزاع في الربا، فالمشركون كانوا يقولون: الربا حلال، والنبي عليه الصلاة والسلام فيما أنزل الله عليه من الوحي يقول: الربا حرام.

وكان مقتضى الكلام أن يقال: ذلك بأنهم قالوا: إنما الربا مثل البيع؛ لأن البيع لا خلاف عليه، لكن الله عز وجل قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وكأنهم والعياذ بالله من الضلال صارت حلية الربا عندهم مما لا شك فيه، ولا نقاش حوله، فصار الربا هو الأصل المقيس عليه، وصار البيع هو الفرع الذي يقاس، فالربا هو الأصل عندهم والبيع هو الفرع.

قال تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].

بعض صور الربا

حياتنا المعاصرة اليوم فيها من صور الربا الشيء الكثير، فمن هذه الصور بيع الأوراق النقدية بأقل منها بما يسمى بالعملة الحديدية، وهو ما يفعله أصحاب المواصلات، وهذا رباً لا شك فيه.

ومن صور الربا: بيع الشيء بالشيء من جنسه متفاضلاً، كتمر بتمر أكثر أو أقل، أو ذهب بذهب أكثر أو أقل.

ومن صور الربا: ربا الديون، مثل: أن يقرض الإنسان إنساناً، أو أن البنك يقرض إنساناً ثم بعد ذلك يجدول عليه هذا المال بزيادة في مقابل التأخير، فهذا هو ربا النسيئة الذي هو حرام بإجماع المسلمين.

ومن صور الربا التي يتعامل بها الناس ولا يدرون أنها ربا: أن تذهب المرأة بذهبها إلى الصائغ، فيزن الذهب فإذا هو خمسون جراماً مثلاً، ثم يقول لها: هذا الذهب قديم وعمره كذا من السنين، وأنا سأعطيك ذهباً جديداً لكن سأعطيك بدلاً من الخمسين جراماً أربعين أو ثلاثين أو خمسة وأربعين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والملح بالملح، والشعير بالشعير رباً، إلا مثلاً بمثل، هاء هاء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء ).

فالذهب بالذهب رباً إلا مثلاً بمثل.

ومن صور الربا: بيع العملة بعملة أخرى من غير نوعها كالدولار بالجنيه، أو الريال بالجنيه وأحدهما نسيئة، يعني: يعطيك الدولارات ثم بعد ذلك تكتب شيكات بالآجل إلى بعد أسبوع أو شهر أو شهرين، فهذا من الربا المحرم في كتاب الله عز وجل وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبهذا المثل تكون سورة البقرة قد اشتملت على أحد عشر مثلاً:

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً[البقرة:17]، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ[البقرة:19]، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا[البقرة:26]، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً[البقرة:74]، وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً[البقرة:171] إلى آخر ما هنالك، ومن قرأ سورة البقرة متدبراً، تبين هذه الأمثال.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم بهدي كتابه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.