سورة المائدة - الآية [95]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الأربعين في الآية الخامسة والتسعين من سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95].

الصيد في مكة

مكة بلد الله الحرام، وقد قضى سبحانه شرعاً بأن يأمن كل من دخل الحرم كما قال سبحانه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97]، فالصيد في مكة لا ينفر، وكذلك من أحرم بنسك لا ينبغي أن يعتدي على شيء من صيد البر سواء كان في الحرم أو في خارج الحرم، وسواء كان الصيد صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً، فهنا النهي ظاهر.

النهي عن قتل الصيد للمحرم

يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ [المائدة:95]، المراد به صيد البر وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، أي: محرمون بحج أو عمرة. يقال: رجل حرام ورجال حرم، والأنثى كذلك يقال: امرأة حرام ونساء حرم.

جزاء من قتل الصيد حال الإحرام

قال الله عز وجل: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً [المائدة:95]، (من) شرطية، وفعل الشرط: (قتله)، (ومتعمداً) منصوبة على الحالية كما قال جمهور المفسرين: هو أن يتعمد القتل ناسياً لكونه محرماً. يعني: فعل القتل وهو متعمد له لكنه ناس لإحرامه، أما من تعمد القتل وهو ذاكر لإحرامه فذنبه أعظم من أن يكفر، وأمره إلى الله، وقد قال بذلك عبد الله بن عباس و الحسن البصري و مجاهد بن جبر و عبد الملك بن جريج و إبراهيم النخعي و عبد الرحمن بن زيد .

قال الله عز وجل: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95]، أي: من وقع في قتل صيد البر متعمداً لقتله ليس مخطئاً فعليه جزاء؛ وهذا الجزاء مثل ما قتل من النعم، قال أهل العلم: ينظر إلى أشبه الأشياء به من النعم فيهديه إلى الكعبة؛ فإن قتل نعامة أو حماراً وحشياً فعليه بدنة، وإن قتل بقرة فعليه بقرة، وإن قتل غزالاً أو أرنباً فعليه شاة، وإن قتل ضباً أو يربوعاً فعليه سخلة قد أكلت العشب وشربت اللبن.

وإذا كان هذا الصيد المقتول ليس هناك ما يماثله من بهيمة الأنعام لا إبل ولا بقر ولا غنم، فقد قال أهل العلم: يقوّم هذا المقتول ويتصدق بثمنه.

ثم قال الله عز وجل: يَحْكُمُ بِهِ [المائدة:95] أي: يحكم بذلك الجزاء، ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95]، أي: فقيهان عالمان عدلان، ولا يستبد بالحكم رجل واحد؛ بل لا بد من أن يكونا اثنين، وقد وقع في ذلك قصة لطيفة رواها ابن جرير رحمه الله بسنده عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة بن جابر قال: (خرجنا حجاجاً؛ فكان إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث) يعني: من عادة الناس بالليل أن ينزلوا ويرتاحوا، فإذا صلوا الصبح فإنهم يبدءون في المسير (قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي) وقد كان العرب مولعين بالصيد، (فرماه رجل منا فما أخطأ أحشاءه، قال: فعظمنا عليه ذلك)، يعني: هؤلاء الحجاج لاموه وعنفوه وعظموا فعله، وأنه قد أتى مصيبة من المصائب. (فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر أمير المؤمنين، فقص عليه القصة وإلى جنب عمر رجل كأن وجهه قلب فضة) يعني: وجه منير، (فالتفت إليه عمر فكلمه) يعني: كأنه تداول معه في الأمر (ثم أقبل على الرجل فقال: أعمداً قتلته أم خطأً؟ فقال الرجل: لقد تعمدت رميه وما أردت قتله، فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها).

فالرجل قتل ظبياً، و عمر رضي الله عنه حكم عليه بشاة، (قال: فقمنا من عند عمر فقلت للرجل، أي: قبيصة بن جابر قال للرجل القاتل: يا هذا! عظم شعائر الله، ما درى أمير المؤمنين ما يفتيك به حتى سأل صاحبه) يعني: هذه الفتوى لا تثق بها؛ لأن عمر ما أفتاك مباشرة، وإنما استشار الذي بجانبه وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فخذ بالأحوط، بدلاً من أن تذبح شاة اعمد إلى ناقتك التي تركبها فانحرها وتصدق بلحمها؛ (فسمع عمر رضي الله عنه مقولة الرجل فلم يفجأنا إلا ومعه الدرة -جاء إليهم ومعه الدرة- فبدأ بالرجل القاتل أولاً علاه بالدرة، قال له: قتلت في الحرم، وانتهكت محارم الله، ثم تسفه الحكم) أي: قد ارتكبت شيئاً عظيماً ولم تعجبك الفتوى ولا المفتي (قال: ثم أقبل علي) أقبل على قبيصة بن جابر (فقلت له: يا أمير المؤمنين! لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني) يعني: الضرب هذا حرام وأنت محرم، (فقال: يا قبيصة ! إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ فيفسد الخلق السيء الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب، أتقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم. قال: أما تذكر قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95]؟ أتعرف من الرجل؟ قلت: لا. قال: إنه عبد الرحمن بن عوف) يعني: قال له: أنت لا تعرف السورة، ولا تعرف المفتي الذي أنا استشرته ثم تعترض، والله عز وجل قال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، أي: هدياً يذبحه هناك في حرم الله.

ثم قال تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً [المائدة:95]، يعني: لو أن إنساناً قتل ظبياً فهو مخير بين أن يذبح شاة أو أن يقوم ثمن هذه الشاة فيتصدق بها طعاماً على الفقراء والمساكين، أو يصوم بدل الطعام عن كل نصف صاع يوماً.

الحكمة من فرض العقوبة على قتل الصيد للمحرم والوعيد الشديد في ذلك

قال الله عز وجل: لِيَذُوقَ [المائدة:95]، حقيقة الذوق للشيء المحسوس، لكنه هنا مستعار للجزاء المعنوي كما في قول الله عز وجل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، وكما في قوله تعالى: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].

وقوله: وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95] أي: ثقل ذنبه وعاقبة جرمه.

قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [المائدة:95]، أي: الله عز وجل لا يؤاخذكم على ما مضى من تفريطكم، ومن عاد إلى صيد البر حال كونه محرماً فينتقم الله منه، ويعاقبه على معصيته.

وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95]، يا أيها الصياد! إن اغتررت بقوتك وقدرتك على إصابة ذلك الصيد فاعلم أن الله عز وجل أقدر عليك منك عليه، وأنه قد أراد شرعاً الأمان للصيد في حرمه فلا تعارض حكم الله عز وجل بفعلك.

والمعنى الإجمالي ظاهر فيها، وإجماله في قول ربنا جل جلاله في الآية التي بعدها: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96].

مكة بلد الله الحرام، وقد قضى سبحانه شرعاً بأن يأمن كل من دخل الحرم كما قال سبحانه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97]، فالصيد في مكة لا ينفر، وكذلك من أحرم بنسك لا ينبغي أن يعتدي على شيء من صيد البر سواء كان في الحرم أو في خارج الحرم، وسواء كان الصيد صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً، فهنا النهي ظاهر.