سورة المائدة - الآية [87]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء السابع والثلاثين في الآية السابعة والثمانين من سورة المائدة قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87].

سبب نزول الآية

وسبب نزول هذه الآية كما في الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها: ( أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، سألوا عن عبادته عليه الصلاة والسلام، وكأنهم وجدوها قليلة، حتى قال بعضهم لبعض: ومن منا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا أنام على الفراش. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، ولكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ).

أيها الفضلاء! تربية الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة الكرام أثمرت عندهم ورعاً وتقى، وزهداً ورغبة فيما عند الله عز وجل، وعزوفاً عن الدنيا وزخرفها، وهذه كله مسالك طيبة مباركة لا يقدر عليها إلا من نور الله قلبه، لكن بعضهم بالغ فنزلت هذه الآية من أجل أن تبين المشروع من الممنوع.

قال السدي رحمه الله: ( جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناس ثم قام، ولم يزدهم على التخويف، يعني: خوفهم بالقيامة والنار وعذاب الله عز وجل، فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب و عثمان بن مظعون : ما حقنا إن لم نحدث عملاً، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم، فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودك، وأن يأكل بالنهار، وحرم بعضهم النوم، وحرم بعضهم النساء، فكان عثمان بن مظعون فيمن حرم النساء، فكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه، فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها، وكان يقال لها: الحولاء -يعني: زوجة عثمان بن مظعون - فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالك يا حولاء ! متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين؟ فقالت: وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي، وما رفع عني ثوباً منذ كذا وكذا. فجعلن يضحكن من كلامها)، يعني: زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم جعلن يضحكن من كلام الحولاء زوجة عثمان بن مظعون ( فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن، فقال: ما يضحككن؟ قالت عائشة : يا رسول الله! إن الحولاء سألتها عن أمرها فقالت: ما رفع عني زوجي ثوباً منذ كذا. فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه، فقال: ما لك يا عثمان ؟ ) يعني: ما لك معرض عن النساء؟ فقال: ( إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة ) وقص عليه أمره، وكان رضي الله عنه قد أراد أن يجب نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك، فقال: يا رسول الله! إني صائم. فقال: أفطر. فأفطر عثمان وأتى أهله، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت، فضحكت عائشة وقالت: ما لك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس )، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما بال أقوام ).. الحديث الذي سبق ذكره، وأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87].

معاني مفردات الآية

قال: لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87]، (لا تحرموا) أي: لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو: لا تقولوا: حرمنا على أنفسنا كذا وكذا.

وقوله: لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87]، الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس.

وقوله: وَلا تَعْتَدُوا [المائدة:87]، أي: لا تتجاوزوا الحد، وتجاوز الحد يكون من طرفين: طرف الإفراط وطرف التفريط.

أما الإفراط: بأن يحرم العبد على نفسه ما أحل الله له.

أما التفريط: فبأن يتجاوز إلى الإسراف المضر بأن يأكل ما يزيد على الشبع، وأن يشرب ما يزيد على الري، أو أن يكون التمتع بلذة الدنيا أكبر الهم، وشاغلاً عن معالي الأمور من العلوم والأعمال النافعة لكم ولأمتكم.

وختم الله الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، أي: هذه الجملة تعليلية، فلا تعتدوا لأن الله لا يحب المعتدين.

تعامل النبي مع الدنيا وملذاتها

هذه الآية المباركة تخاطبنا معشر أهل الإيمان بأن نلتزم حدود الله عز وجل ولا نتجاوز في تحليل ولا تحريم، وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يأكل اللحم، ويحب الحلوى، ويعجبه من الشراب البارد الحلو، ويلبس الثياب الحسنة الجميلة، وفي الوقت نفسه صلوات ربي وسلامه عليه كان مالكاً لزمام نفسه، يصوم لله عز وجل الأيام الكثيرة حتى ربما يواصل أسبوعاً كاملاً لا يفطر عليه الصلاة والسلام، ولما أراد بعض الصحابة أن يحاكوه، قال :( إني لست كأحدكم؛ إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ).

والرسول عليه الصلاة والسلام كان يلبس الكتان، ويلبس الصوف، ويلبس القطن، ولبس الحلة اليمانية، وقباطي مصر، والإزار والرداء، والعمامة البيضاء والسوداء والخضراء، ولبس المغفر، ولبس القلنسوة من غير عمامة.. إلى غير ذلك.

وكان يعجبه من الشاة ذراعها. والفضل والبر والخير في هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا أيها الإخوة الكرام! المسالك التي ظهرت في بعض مراحل دعوة الإسلام كما هو الحال من هؤلاء الصحابة، أو جاء بعدهم قوم سلكوا طريقاً في الزهد غير مشروع، فحرموا على أنفسهم ما أحل الله لهم.

قال الإمام الطبري رحمه الله: فإن ظن ظان أن الخير في غير الذي قلناه، لما في لباس الخشن، وأكله من المشقة على النفس، وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأً؛ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة؛ لأنها مفسدة للعقل ومضعفة لأدوات الجسم التي جعلها الله سبباً إلى طاعته.

صور من تعامل بعض الصحابة مع ملذات الدنيا

أيها الفضلاء! هذه الآية فهمها الصحابة وطبقوها، ومن ذلك: ما رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي أبي عبد الله وأبي الدرداء عويمر بن عامر رضي الله عنه، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلة)، يعني: لابسة ثياب البذلة، أي: ثياباً رديئة، (فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا)، يعني: نهاره صائم وليلة قائم، (فجاء أبو الدرداء فقرب لـسلمان طعاماً وقال له: كل فإني صائم، قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل أبو الدرداء ، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فأمسك به سلمان قال له: نم، فنام. ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان : قم الآن. فصليا، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فذكر ذلك أبو الدرداء للرسول صلى الله عليه وسلم - يعني: جاء يشكو سلمان - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان ).

وجاء في الصحيحين أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإنه بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر كله ).

وانتبهوا هنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك -يعني: لضيفك- عليك حقاً )، فـعبد الله بن عمرو بن العاص و أبو الدرداء و عثمان بن مظعون وأمثالهم كانوا يضيعون حق الزوجات في صيام النهار وقيام الليل، لكن الآن بعض الرجال يضيعون حق الزوجات في السهر على الأمور الفارغات، يعني: بعض الزوجات تشكو أنه ما يأتي إلا في أنصاف الليالي، لأنه كان مع أصحابه يلعبون، أو يجلس على القنوات الفضائية.

فنقول: لا شك أن هؤلاء آثمون من جهتين:

من جهة: الإقامة على معصية الله، ومن جهة: تضييع حق الزوجات.

عدم تعلق الذم بالأكل من الطيبات

من اللطائف أن الحسن البصري رضي الله عنه دعي إلى طعام ومعه رجل يقال له: فرقد السبخي من الزهاد العباد، فقعدوا على المائدة وعليها ألوان من الدجاج المسمن والفالوذج، فاعتزل فرقد ناحية، أي: جلس في ناحية بعيدة عن الطعام، فقال الحسن : أصائم هو؟ قالوا: لا. ولكنه يكره هذه الألوان، يعني: ما يحب التنويع في الطعام، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد ! أترى لعاب النحل بلباب البر، بخالص السمن، هل يأبى هذا مسلم؟ يعني: هذا الطعام فيه عسل وسمن وقمح، يعني: فخمٌ جداً، هل يأبى هذا مسلم؟ فقال له: كل. قال: أخاف أن لا أودي شكره، يعني: قال له: أنا ممكن آكل، لكن خائف أني ما أشكر الله على الأكل هذا، قال له: أتشرب الماء البارد؟ قال: نعم. قال: أتعلم أن نعمة الله عليك في الماء البارد أكبر من نعمته في الفالوذج! قال تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ [التكاثر:8].

قال الله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7]، فما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوماً ذواها عنهم فعصوه، يعني: لو كان الإنسان يأكل الطعام الطيب، ويطيع الله، وآخر ما عنده شيء كل يوم يأكل فولاً وهو يعصي الله، فأيهما أقرب إلى الله؟ الفول طيب، ونعم الإدام الفول! لكن من باب المثال، يعني: قضية القرب من الله عز وجل ليست موقوفة على نوع الطعام الذي يتناول، فمن تناول طيباً وشكر الله عز وجل وأطاعه هو أحب إلى الله ممن لم يجد شيئاً وعصى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].

وسبب نزول هذه الآية كما في الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها: ( أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، سألوا عن عبادته عليه الصلاة والسلام، وكأنهم وجدوها قليلة، حتى قال بعضهم لبعض: ومن منا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا أنام على الفراش. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، ولكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ).

أيها الفضلاء! تربية الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة الكرام أثمرت عندهم ورعاً وتقى، وزهداً ورغبة فيما عند الله عز وجل، وعزوفاً عن الدنيا وزخرفها، وهذه كله مسالك طيبة مباركة لا يقدر عليها إلا من نور الله قلبه، لكن بعضهم بالغ فنزلت هذه الآية من أجل أن تبين المشروع من الممنوع.

قال السدي رحمه الله: ( جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناس ثم قام، ولم يزدهم على التخويف، يعني: خوفهم بالقيامة والنار وعذاب الله عز وجل، فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب و عثمان بن مظعون : ما حقنا إن لم نحدث عملاً، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم، فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودك، وأن يأكل بالنهار، وحرم بعضهم النوم، وحرم بعضهم النساء، فكان عثمان بن مظعون فيمن حرم النساء، فكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه، فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها، وكان يقال لها: الحولاء -يعني: زوجة عثمان بن مظعون - فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالك يا حولاء ! متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين؟ فقالت: وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي، وما رفع عني ثوباً منذ كذا وكذا. فجعلن يضحكن من كلامها)، يعني: زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم جعلن يضحكن من كلام الحولاء زوجة عثمان بن مظعون ( فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن، فقال: ما يضحككن؟ قالت عائشة : يا رسول الله! إن الحولاء سألتها عن أمرها فقالت: ما رفع عني زوجي ثوباً منذ كذا. فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه، فقال: ما لك يا عثمان ؟ ) يعني: ما لك معرض عن النساء؟ فقال: ( إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة ) وقص عليه أمره، وكان رضي الله عنه قد أراد أن يجب نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك، فقال: يا رسول الله! إني صائم. فقال: أفطر. فأفطر عثمان وأتى أهله، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت، فضحكت عائشة وقالت: ما لك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس )، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما بال أقوام ).. الحديث الذي سبق ذكره، وأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87].