المقصود في بيان ما حسدتنا عليه اليهود
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
المقصود في بيان ما حسدتنا عليه اليهودالحمد لله مُظهر الحق ومعليه، وقاطع الباطل وذويه، القائل سبحانه في كتابه: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18]، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد:
فإن اليهود كما وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي: (قوم حسد)؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد (٢/ ٢٣٣-٢٣٤): "وكثيرًا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة، ولهذا اليهود أسحرُ الناس وأحسدهم؛ فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا، فقال: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ﴾ [البقرة: 102]، إلى أن قال رحمه الله: "وأما وصفهم بالحسد فكثير في القرآن".
ولَمَّا كان ذلك وكان الحسد داءً خطيرًا، حذَّرنا منه الشرع الحكيم؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء..))؛ أخرجه الترمذي وأحمد وغيرهما، وحسَّنه غير واحد من أهل العلم رحمهم الله.
أحببتُ أن أجمع في هذه المقالة جملة من الأمور التي وقفت عليها مما حسدتنا عليه يهود، وأسميتها: المقصود في بيان ما حسدتنا عليه اليهود.
وقديمًا قيل: إن كل أحد تقدر أن ترضيه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها، نسأل الله عز وجل السلامة والعافية، ونعوذ به من الحسد وأهله.
الإيمان:
قال الله: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [البقرة: 109].
بيَّن الله عز وجل في هذه الآية أن من أسباب البغي والظلم: الحسد، وهو الذي يجعل الحاسد يرفض الحق وهو يعرفه، ويجادل عن الباطل كما أخبر عز وجل عن حبِّهم لزوال نعمة الإيمان حسدًا؛ قال العلامة ابن كثير رحمه الله في تفسيره (١/ ٢٦٤-العلمية): "يُحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلِّمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيِّهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح".
فهذا كما ترى تحذير من المولى جل وعلا للمسلمين من أن يطيعوا أهل الكتاب الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله ومنَّ به عليهم، وفضَّلهم به ومنحهم إياه، ألا وهو الإيمان، وكذا بيان للحامل لهم عليه وهو الحسد، فالحسد "حملهم على الجحود، فعيَّرهم ووبَّخهم ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين، ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم، وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم"؛ كما في تفسير ابن كثير (١/ ٢٦٥) رحمه الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (١٠/ ١٢٠) في بيانها أيضًا: "يودون؛ أي: يتمنون ارتدادكم حسدًا، فجعل الحسد هو الموجب لذلك الود، من بعد ما تبيَّن لهم الحق؛ لأنهم لما رأوا أنكم قد حصَل لكم من النعمة ما حصل، بل ما لم يحصل لهم مثله حسدوكم."
السلام والتأمين:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل يهودي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: السام عليك يا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وعليك، فقالت عائشة: فهممتُ أن أتكلم، فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، فسكت، ثم دخل آخر، فقال: السام عليك، فقال: عليك، فهممت أن أتكلم، فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، ثم دخل الثالث، فقال: السام عليك، فلم أصبر حتى قلت: وعليك السام وغضبُ الله ولعنتُه إخوانَ القردة والخنازير، أتُحيون رسول الله بما لم يُحيه الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالوا قولًا فرددنا عليهم، إن اليهود قوم حسد، وإنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدونا على السلام، وعلى آمين))؛ أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وهو في السلسلة الصحيحة رقم: (٦٩١).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن اليهود ليحسدونكم على السلام والتأمين))؛ أخرجه الضياء وغيره، وهو في السلسلة الصحيحة رقم: (٦٩٢).
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (١/ ١٣١): "قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما حسدنا أهل الكتاب؛ لأن أولها حمد لله وثناء عليه، ثم خضوع له واستكانة، ثم دعاء لنا بالهداية إلى الصراط المستقيم، ثم الدعاء عليهم مع قولنا: آمين".
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (١١/ ٤): "وهو يدل على أنه شرع لهذه الأمة دونهم".
الجمعة والقبلة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ استأذن رجل من اليهود، فأذن له، فقال: السام عليك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وعليك، قالت: فهممت أن أتكلم، قالت: ثم دخل الثانية، فقال مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وعليك، قالت: ثم دخل الثالثة، فقال: السام عليك، قالت: فقلت: بل السام عليكم وغضب الله إخوان القردة والخنازير، أتحيون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يحيه به الله؟! قالت: فنظر إليَّ، فقال: مَه، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالوا قولًا، فرددناه عليهم، فلم يضرنا شيء، ولزمهم إلى يوم القيامة، إنهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين))؛ أخرجه أحمد (٦/ ١٣٥)، وصحَّحه المحقق، والألباني.
إقامة الصفوف:
عن عيسى بن يزيد أن طاوسًا أبا عبدالرحمن حدثه أن منبهًا أبا وهب حدثه يرده إلى معاذ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس في بيت من بيوت أزواجه، وعنده عائشة رضي الله عنها، فدخل عليه نفر من اليهود، وفيه: ((إن اليهود قوم سئموا دينهم، وهم قوم حسد، ولم يحسدوا المسلمين على أفضل من ثلاث: على رد السلام، وإقامة الصفوف، وقولهم خلف إمامهم في المكتوبة: آمين))؛ أخرجه الطبراني في الأوسط، قال المنذري وتبعه الهيثمي (٢/ ١١٣): "وإسناده حسن"، وهو في السلسلة الضعيفة رقم: (٥٠٤٨)، ولألفاظه شواهد.
وفي الختام هذا آخر ما وقفت عليه مما حسدتنا عليه اليهود، ونحمد الله عز وجل على ما منَّ به علينا.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.