سورة المائدة - الآية [51]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الرابع والثلاثين في الآية الحادية والخمسين من سورة المائدة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].

سبب نزول الآية

هذه الآية ذكر المفسرون رحمهم الله في سبب نزولها أقوالاً ثلاثة:

القول الأول: بأن الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، وذلك حين حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني قينقاع بعدما ظهر غدرهم وشرهم وفسادهم وكشفوا عورة امرأة مسلمة، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتلهم، فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول وتعلق بجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأ يقول: يا رسول الله! أحسن إلي في موالي من يهود كانوا يمنعونني من الأحمر والأسود.

وبالمقابل كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه محالفاً لليهود قبل الإسلام، فلما ظهر غدرهم قال: بل أتولى الله ورسوله والذين آمنوا، وأبرأ إلى الله من حلف يهود، فنزلت هذه الآية.

القول الثاني: بأن هذه الآية نزلت في شأن أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني قريظة من أجل أن يفاوضهم، فقالوا له: يا أبا لبابة ! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ فأشار إلى حلقه، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سيذبحكم لو نزلتم على حكمه.

القول الثالث: بأن الآية نزلت بعد وقعة أحد، لما قتل من المسلمين سبعون رجلاً، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرت رباعيته، وجحشت ركبتاه، وشج رأسه صلوات ربي وسلامه عليه، وبعض الناس فر كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، فبعض المنافقين تخوف أن تكون الدولة للكفار، أي: أن الكفار هم الذين سيسيطرون على الأمور، فقال لصاحبه: أما أنا فألحق بذلك اليهودي فآخذ منه أماناً وأتهود معه، فإني أخاف أن تدال علينا اليهود، وقال صاحبه المنافق الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أماناً وأتنصر معه، وهذه هي طريقة المنافقين، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141].

يقول الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله: وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت و عبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في شأن أبي لبابة بن عبد المنذر ، ويجوز أن تكون في شأن الرجلين اللذين ذكر السدي أن أحدهما هم باللحاق بذاك اليهودي والآخر بنصراني بالشام، قال: ولم يصح خبر في واحد من هذه الأقوال الثلاثة تثبت بمثله حجة، فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل.

فإذا كان الكلام كما قال الطبري رحمه الله فالصواب: أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عم، يعني: تبقى الآية على عمومها، ولا نتقيد بالسبب الذي نزلت فيه.

معاني مفردات الآية

يخاطبنا الله عز وجل بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى [المائدة:51]، (اليهود) جمع يهودي نسبة إلى يهود من أسباط يعقوب، أو نسبة لقولهم: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، (والنصارى) جمع نصراني، نسبة إلى الناصرة قرية بفلسطين، ويقال بأن المسيح عليه السلام قد ولد بها، أو نسبة لقولهم: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52].

هاتان الكلمتان: (اليهود والنصارى) لم تذكر في القرآن ممدوحة قط، لم تذكر إلا في موضع الذم، ولا يشتبهن عليكم قول الله عز وجل: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]، فهذه الآية في نصارى أسلموا بدليل قول ربنا بعدها: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83].

وقول الله عز وجل: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51]، الولاية أو الولاية هنا هي: ولاية التحالف والتناصر، يعني: لا يجوز لكم يا مسلمون أن توالوا اليهود أو النصارى على المسلمين، ولا يجوز أن توالوا اليهود أو النصارى على كفار إلا إذا ظهرت في ذلك للإسلام مصلحة راجحة.

والعلة هي قول الله عز وجل: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، والتاريخ يصدق هذه الآية بأن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض لكنها ولاية زائفة بدليل أن الله عز وجل حكى أن بين القوم أحقاداً وأضغاناً، قال تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، وكذلك قال الله عز وجل عن اليهود: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]، وقال عنهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وقال في الآية الأخرى: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة:64]، وقال عن النصارى: وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14]، فالعداوة بين الطوائف النصرانية كالكاثوليك والبروتستانت إلى يومنا هذا في إيرلندا الشمالية وغيرها، والحروب الطويلة التي وقعت بين الكاثوليك وبين الأرثوذكس وقعت فيها أحداث طويلة على امتداد التاريخ، فهذه الولاية التي بينهم إنما هي ضد الإسلام، لكن فيما بينهم بعضهم يبغض بعضاً وبعضهم يلعن بعضاً.

صور موالاة الكفار

قال الله عز وجل: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، أي: من يقع في ولاية هؤلاء اليهود أو النصارى فالله عز وجل قال: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، إما أن يكون مراداً بالآية التشبيه البليغ، أي: فإنه كواحد منهم، وإما أن يكون مراداً بالآية: التولي الكامل، إذا حصل تول كامل موجب للانسلاخ من الدين فالآية على ظاهرها: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].

وقبل أن نتجاوز هذه الآية وهي: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] نقول: إذا كان التولي بالقلب بمعنى الرضا بدينهم والرغبة فيه فالآية على ظاهرها قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].

وهناك درجة دونها: وهي الاستنصار بهم على المسلمين، تستنصر باليهود أو تستنصر بالنصارى على المسلمين، فهذه درجة من درجات التولي.

ثم هناك درجة لا تعد من التولي وهو: مخالطتهم في التجارة بيعاً وشراءً، ومخالطتهم في أن يسكنوا معهم في مدنهم وقراهم هذا ليس موالاة أصلاً؛ بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم: ( عامل يهود خيبر على الشطر مما يخرج من الزرع ).

وعلى كل حال فهذه الآية المباركة أفادت حكماً وهو:

حرمة موالاة اليهود والنصارى، وهذا الحكم قد تكرر في القرآن مراراً كقول الله عز وجل: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، وكقول الله عز وجل: لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً [النساء:144]، وقول الله عز وجل: لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28].

وبين ربنا جل جلاله أن من صفات المؤمنين الكمل أنهم: لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.

هذه الآية ذكر المفسرون رحمهم الله في سبب نزولها أقوالاً ثلاثة:

القول الأول: بأن الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، وذلك حين حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني قينقاع بعدما ظهر غدرهم وشرهم وفسادهم وكشفوا عورة امرأة مسلمة، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتلهم، فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول وتعلق بجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأ يقول: يا رسول الله! أحسن إلي في موالي من يهود كانوا يمنعونني من الأحمر والأسود.

وبالمقابل كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه محالفاً لليهود قبل الإسلام، فلما ظهر غدرهم قال: بل أتولى الله ورسوله والذين آمنوا، وأبرأ إلى الله من حلف يهود، فنزلت هذه الآية.

القول الثاني: بأن هذه الآية نزلت في شأن أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني قريظة من أجل أن يفاوضهم، فقالوا له: يا أبا لبابة ! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ فأشار إلى حلقه، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سيذبحكم لو نزلتم على حكمه.

القول الثالث: بأن الآية نزلت بعد وقعة أحد، لما قتل من المسلمين سبعون رجلاً، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرت رباعيته، وجحشت ركبتاه، وشج رأسه صلوات ربي وسلامه عليه، وبعض الناس فر كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، فبعض المنافقين تخوف أن تكون الدولة للكفار، أي: أن الكفار هم الذين سيسيطرون على الأمور، فقال لصاحبه: أما أنا فألحق بذلك اليهودي فآخذ منه أماناً وأتهود معه، فإني أخاف أن تدال علينا اليهود، وقال صاحبه المنافق الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أماناً وأتنصر معه، وهذه هي طريقة المنافقين، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141].

يقول الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله: وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت و عبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في شأن أبي لبابة بن عبد المنذر ، ويجوز أن تكون في شأن الرجلين اللذين ذكر السدي أن أحدهما هم باللحاق بذاك اليهودي والآخر بنصراني بالشام، قال: ولم يصح خبر في واحد من هذه الأقوال الثلاثة تثبت بمثله حجة، فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل.

فإذا كان الكلام كما قال الطبري رحمه الله فالصواب: أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عم، يعني: تبقى الآية على عمومها، ولا نتقيد بالسبب الذي نزلت فيه.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2636 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2574 استماع
سورة آل عمران - الآية [102] 2535 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2522 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2343 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2309 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2303 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2293 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2228 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2186 استماع