تعقيبات
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
للأستاذ أنور المعداوي
كاتب لا يعرف قدر نفسه:
سلامة موسى هو الكاتب الذي أعنيه. ولو كان يعرف قدر نفسه لما تهجم على أستاذين يعرف قدرهما المثقفون لا أنصاف المثقفين من قرائه والمعجبين به!. لقد كتب حضرته كلمة في العدد (188) من مجلة المسامرات عن الشاعر الألماني جيته تحت عنوان (مثلي الأعلى).
ومن حسن حظ الشاعر الخالد أنه ودع الحياة قبل أن يعلم أنه مثل أعلى لسلامة موسى، وقبل أن يقرأ كلمة يستطيع أن يكتبها عنه بعض النابغين من طلبة المدارس الثانوية!. لا يهمني أن أنقل للقراء ما كتب هذا الرجل في مجال الحديث عن جيته، لأن صفحات (الرسالة) تضيق بهذا الطراز من المعلومات التي يعرفها صغار الطلاب.
ولكن يهمني أن أنقل إليهم هذه الفقرات التي تكشف عن مركب النقص في الشخصية الأدبية: (وقد ترجم من كتب جيته إلى العربية كتابان الأول آلام فرتر الذي ترجمه و (ألفه) الأستاذ أحمد حسن الزيات، والثاني فاوست الذي ترجمه الدكتور محمد عوض محمد.
وكلتا الترجمتين لا تحتفظ بالروح الأصلي لقصتي الشاعر الألماني، وعلى من يريد الوصول إليه أن يرجع إليهما في الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية)!. هذه كلمات رجل يتقلب على جمرات محرقة من مركب النقص، ومركب النقص في حياة سلامة موسى أنه تناول قلمه ليكتب منذ ربع قرن، ومعذلك فهو ينظر فيجد نفسه في مؤخرة الصفوف.
من هنا ينبع حقده الدفين على هؤلاء الذين ارتقوا سلم المجد الأدبي في وثبات وخلفوه على الأرض!. ترجمة الزيات عن الأصل الفرنسي لا تعجب سلامة موسى، وترجمة عوض محمد عن النص الألماني لا ترضي سلامة موسى.
وعلى الذين يريدون الوصول إلى الروح الأصلي أن يرجعوا إلى سلامة موسى وقلمه، قلمه الذي يذكرني بأقلام المترجمين في روايات الجيب!. مركب النقص ولا شيء غير مركب النقص.
ولن يغير هذا المركب البغيض شيئاً من هذه الحقيقة المؤلمة التي يحس لذعها الرجل، وهي أنه يوم تؤرخ هذه الفترة من أدبنا العربي المعاصر فلن يذكر فيها أسمه إلا في مجال التسجيل الإحصائي!. إن الثقافة المهوشة والمعومات المبعثرة لا يمكن أن تحتل مكانها في تاريخ الأدب، إلا إذا قدر لتاريخ الأدب أن يكتبه المعجبون بقلم الأستاذ سلامة من قراء (النداء)!!. كرافتشنكو مرة أخرى: إنك تذكره بلا ريب.
.
هذا الموظف الروسي الكبير صاحب (آثرت الحرية).
ولقد حدثتك في عدد مضى من (الرسالة) عن الكتاب وصاحبه، وعن تلك الضجة التي أثارتها حوله مجلة (لي ليتر فرانسيز)، وهي الضجة التي شغلت الرأي العام الفرنسي قبل أن تأخذ طريقها إلى القضاء، وشغلت الرأي العام في العالم بعد أن دفع بها كرافتشنكو إلى أيدي العدالة مطالباً بمعاقبة خصومه طبقاً لنصوص القانون!. يقول خصوم المؤلف الروسي إنه كذاب يبرأ منه كتابه بكل ما حوى من تضليل وخداع.
ويقول كرافتشنكو إن لديه الدليل على صحة كل رأي سجله، وكل قصة أتى بها، وكل حادث أورده وأستند إليه.
والرأي العام بعد ذلك موزع الفكر بين مزاعم ومزاعم، وبينوثائق ووثائق، وبين شهود وشهود، يترقب اليوم الذي يقول فيه القضاء كلمته.
وإنها لكلمة تقرر مصير الكتاب ومستقبل صاحبه، وتحدد مكان الخصوم وسمعة الصحيفة الفرنسية. كرافتشنكو في رأي خصومهه سكير ومحتال وجاهل وكذاب وخائن.
ولكن تجريحهم لشخصيته يستند أول ما يستند إلى تلك الدعامة الكبرى من دعائم الاتهام وهي الكذب.
أنهم يسلكون شتى الطرق بغية الوصول إلى هذا الهدف الذي تتحطم على صخوره كل حقيقة من حقائق (آثرت الحرية)، وهو أن كرافتشنكو كذاب بالطبع والسليقة. في هذه الدائرة يحصر القائمون على أمر المجلة الفرنسية جهودهم ويستمدون أدلتهم من واقع الكتاب وواقع الحياة.
أما واقع الكتاب فقد قدمت إليك منه ثلاثة نماذج لثلاثة أسئلة وجهها الخصوم إلى صاحب (آثرت الحياة) عن بعض ما عرض له من وقائع هي في رأيهم أوهام وأباطيل.
وأما واقع الحياة فقد خطر لهم أن يواجهوا كرافتشنكو بزوجته السابقة لتدلي برأيها فيمن كان أقرب الناس إليها، تلك التي كانت في يوم من الأيام أقربهم إليه.
ومرة أخرى يقف كرافتشنكوا في مهب العاصفة! إن الزوجة السابقة تقف اليوم في ساحة القضاء لتنعت زوجها بالكذب وسوء الخلق وانحراف الطبع، وإنها لتنتزع الأدلة على صدق قولها من أعماق الذكريات، ومن واقع تلك الفترة التي جمعت بينهما تحت سقف واحد ثم دفعت بكل منهما إلى طريق.
ولقد كان زواجهما منه جحيماً لا يطاق، خرجت منه بطفل تدعو الله ألا يرث شيئاً من أخلاق أبيه! وهنا يقف كرافتشنكو ليزأر كحيوان جريح: أن هذا الذي تنطق به محض افتراء دنيء وادعاء باطل.
أليس عجيباً ألا أسمع إلا في هذه اللحظة بأنني أب لطفل لا أعلم شيئاً من أمره ولا متى ولد؟! أن الملقن الحقيقي لهذه الشهادة الملفقة هو الجستابو الروسي ولقد بعث بها من موسكو إلى هنا لتشهد ضدي.
هذه السيدة المحترمة التي لقي أبوها حتفه في مجاهل سيبيريا تحت وطأة التشريد والتعذيب! وتنهض الشاهدة مرة أخرى لتصرخ في وجهه: إنك أكبر كذاب يا كرافتشنكو.
.
لقد طلبت إليك يوماً أن تساعدني على تربية طفلك فضننت عليه بعطفك دون أبوتك، أما أبي فقد مات على فراشه في موسكو ولم يمت كما زعمت في مجاهل سيبيريا! وإنك بعد ذلك لفي الطليعة من صفوف الخونة.
.
لقد أنكرت بنوتك لوطنك بالأمس في (آثرت الحياة) وأنكرت أبوتك لولدك اليوم في ساحة القضاء! هذه هي المفاجأة الثانية من مفاجآت القضية المثيرة التي يترقب الناس نهايتها بشغف بالغ واهتمام كبير.
.
وفي انتظار كلمة القضاء نستطيع أن نؤكد حقيقة ليس إلى إنكارها من سبيل، وهي أنه لو قدر لكرافتشنكو أن ينتصر على خصومه لكان انتصاره لطمة قاسية للشيوعية الروسية والفرنسية! ترى من سيخرج من هذا النضال مرفوع الرأس! سؤال تجد الجواب عنه في الغد القريب. رسالة من أديب ثائر: سيدي الأستاذ أنور، هذه الرسالة لك وحدك لا للبريد الأدبي.
.
كيما أضمن الحرية لقلمي. بلى يا سيدي، هاأنذا وقد رجعت إلى عدد (الرسالة) الماضي كما أشرت أراني قد حرت وفي مخيلتي ما أعجز عن أن أصوره بيراعي.
ولقد نقلت لنا في تعقيبك على كلمة الأستاذ الصعيدي في مسرحية (الملك أوديب) بأنه إنما بني انتقاده للمسرحية على أنها من الأساطير، فهي من ألاعيب كهان جهلة - كما زعمت مما جعلك تسترسل في قذفك له بذلك التهكم اللاذع، حين رميته بسذاجة النظرة الخ.
.
ويا ليت الأمر قد وقف بك عند هذا الحد، ولكنك قد اجترحت ما لا تغفره لك لغة قومك ولغتك التي نسبت إليها النقص! وإني أحيلك يا من تعرف غير لغتك إلى البحث عن أصول فن المسرحية والمبتغى منه.
ثم لتراجع المسرحية مرة أخرى وترجع بعد ذلك إلى رأي الأستاذ الصعيدي مدققاً النظر: هل ما أراد هو ما أردت، أم أنه رأى فيما أورده (سوفوكليس) من حوادث مضطربة في مسرحيته بعداً عن الغرض الذي سيقت له؟ وهل بلغت أوج الكمال الغني أم أنها بحق ألاعيب كهان جهلة.
؟ وكأين من عجلة تجر صاحبها إلى حيث تتقطع راحتاه من الطرق على أبواب الندم. وإلى الأستاذ أطيب تحياتي. الثائر محمد الهادي عطية هل تستطيع أن تخرج بشيء من هذه الرسالة الرائعة؟ إنها امتحان عسير لمقدرتك على الفهم، وتجربة طريفة لاختبار مقاييس الذكاء.
أما أنا فقد رسبت في الامتحان وأعلن ذلك على رءوس الأشهاد! لماذا نشرتها إذن وقد بعث بها صاحبها إلي وحدي؟ لقد نشرتها لسبب واحد، هو أن أطمئن حضرة الثائر على أن أعصابي تحتمل في كل يوم كثيراً من اللغو الذي يضيع معه الوقت والفائدة، ولأطمئنه أيضاً على أني كما أبيح لقلمي أبيحها لأقلام الناس ولو بلغو من النبوغ هذه المرتبة العالية التي بلغها السيد عطية! لقد خشي الأديب الثائر - وأتوسل إليه أن يترفق بأعصابه حرصاً على صحته الغالية - خشي أن يبعث بكلمته إلى (الرسالة) فلا تحظى بعطف (البريد الأدبي)، ومن هنا بعث بها إلي كي يضمن الحرية لقلمه! ترى هل اطمأن على أن كلامه القيم قد اطلع عليه القراء؟ هذا هو الأمر الوحيد الذي تقطعت بسببه راحتاي من الطرق على أبواب الندم! من عجائب الترجمة في العصر الحديث: تسمع في العصر الحديث عن عجائب المخلوقات فهل سمعت عن عجائب الترجمة؟ هذا موضوع طريف أعددته للنشر والتعقيب، ولكن الأستاذ الجليل صاحب الرسالة قد سبقني إلى الإشارة إليه في ثنايا كلمته التي طالعها القراء في الأسبوع الماضي حيث قال: (يقع الحادث اليوم بمرأى من الناس ومسمع، فتحكيه الألسن وترويه الصحف، فلا تجد لسانا يوافق لسانا، ولا صحيفة تطابق صحيفة! وتقرأ صحف العاصمة في حادثة من حوادث المدن، أو واقعة من وقائع الأقاليم، أو أمر من أمور العالم، فتجد له في كل جريدة رواية تناقض كل رواية، وصيغة تعارض كل صيغة، حتى ليبلغ الخلاف بينها حد التغاير، فتراها مثلاً يوم الأحد الماضي تجمع على أن الشرطة اكتشفوا في شارع من شوارع القدس لغماً من البارود، ولكن (البلاغ) تنفرد بأن الذي كشفوه منجم من الرصاص!) هذه هي إشارة أستاذنا الزيات إلى إحدى عجائب الترجمة حيث انفردت بها جريدة البلاغ.
والخبر الذي أذاعته وكالة (اليونيتديرس) وترجمته الصحف المصرية ومنها (البلاغ) يتمثل في هذه الكلمات: (أكتشف مراقبو هيئة الأمم المتحدة لغما أرضيا في الطريق الموصل إلى بيت الحكومة في القدس، حيث يقيم أعضاء لجنة فلسطين التابعة للهيئة.
وقال المراقبون إنهم تتبعوا السلك المتصل باللغم إلى أن وصلوا إلى نقطة تابعة لإسرائيل المزعومة، وإن اللغم كان في المنطقة المحايدة التي تحيط ببيت الحكومة.
وأضاف المراقبون إلى ذلك أن تقريراً بهذا الحادث سيرفع إلى المستر تريجفي لي السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة.
الخ). لغم في كل الصحف ومنجم رصاص في (البلاغ).
.
والذنب في ذلك ذنب المترجم اللبق الذي رجع إلى القاموس فاكتفى بالمعنى الأول لكلمة ولم يكلف نفسه عناء الاطلاع على المعنى الثاني! ولو فرض أن المترجم (البلاغ) لا يعرف غير معنى واحد للكلمة فكيف غاب عن ذكائه أن الكشف عن منجم رصاص لا يستحق أن يرفع بشأنه تقرير إلى سكرتير هيئة الأمم المتحدة؟! كيف غاب عن ذكائه أن المعنى المقصود لا يستقيم مع (منجم الرصاص) فلابد للكلمة من ترجمة أخرى؟! (تشنيعة) على السير ريالزم: قلت وأنا في نعرض الحديث عن المذهب السريالي في العدد الماضي من (الرسالة) إن هذا المذهب الجديد لا يشق طريقه في فرنسا وهي موطنه الأول بسهولة ويسر، لأن خصومه الكثيرين يهاجمونه في عنف لا هوادة فيه، ويرمون أصحابه بالدجل والخروج على كل مألوف من أوضاع الفن!.
قلت هذا بالأمس، ويهمني اليوم أن أقدم للقراء هذه (التشنيعة) الطريفة التي يهديها خصوم المذهب السريالي إلى الرسام بيكاسو: أقام بيكاسو معرضاً لصوره في إحدى المدن الفرنسية، وفي يوم من الأيام الزاخرة بالزوار والمشاهدين، وقف أحد الفنانين يتأمل لوحة فريدة أشير إليها بهاتين الكلمتين: (هتك عرض)! وقف يتأملها ساعتين دون أن يخرج بشيء يوضح الصلة بين اللوحة ما جاء تحتها من كلمات يأباها الذوق والسمع.
وعند ما هم بمغادرة المكان شاكا في ذكائه سمع صوتاً ساخراً يقول له: - ثق يا صاحبي أن ذكائك بخير.
لقد وقفت أمام هذه اللوحة ساعتين دون أن تفهم شيئاً، فهل تعلم أنني أمامها أربع ساعات دون جدوى، أنا الذي قدمت إلى محكمة الجنايات ست مرات بتهمة هتك عرض؟! أنور المعداوي