القادر القدير المقتدر جل جلاله
مدة
قراءة المادة :
26 دقائق
.
القادر القدير المقتدر جل جلاله قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65].
عن جابر بن عبدالله قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك))، فلما نزلت: ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65]، قال: ((هاتان أهون، أو هاتان أيسر)) [1].
وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾ [المرسلات: 20 - 23]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44]، وقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الملك: 1]، وقال تعالى: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55].
معنى الاسم في حق الله:
القادر جل جلاله: هو صاحب القدرة التامة الكاملة الذي لا يُعجزه معها شيء في الأرض ولا في السماء، فقدرتُه تعالى مطلقة لا يحدُّها شيء، ولا تحتاج إلى مقدمات ولا إلى أسباب، يدبر شؤون هذا الكون بقدره وقدرته وحكمته؛ ﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾ [المرسلات: 23]، فسبحانه إذا قدَّر شيئًا قدَر على تنفيذه!
القادر جل جلاله: بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبَّرها، وبقدرته سوَّاها وأحكمها، وبقدرته يُحيي ويُميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
القادر جل جلاله: الذي أمرُه وقضاؤه وقدرُه بين الكاف والنون، إذا أراد شيئًا أن يقول له كن، فيكون.
القادر جل جلاله: هو الذي يهَب القدرة، ويهب أسبابها لكل صاحب قدرة من الخلق، وهو القادر على سببها أنَّى شاء!
و(القدير): صيغة مبالغة للقدرة.
و(المقتدر): أبلغ.
من مظاهر قدرة الله:
1- خلقُ الخلق، ثم إماتتهم، ثم إعادتهم: ولا يقدر على ذلك غيره سبحانه، قال وهو أصدق القائلين: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾ [الحج: 66].
﴿ لَكَفُورٌ ﴾: نسِي أن الله تعالى خلقه ولم يكُ شيئًا، ونسي أن الله سيُميته بَغتةً، ونسي أن الله سيُحييه مرة ثانية للسؤال والجزاء.
وقال تعالى: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [لقمان: 28]؛ أي: إلا كخلق نفسٍ وحدة، فسبحانه لا يشق عليه شيء، والقليل والكثير عنده سواء، وحين سئل عليٌّ رضي الله عنه: كيف يحاسب الله الناس جميعًا في وقت واحد؟! قال: كما يرزقهم جميعًا في وقت واحد [2].
وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27]، وكل شيء مهما عظُم فهو على الله تعالى هيِّن.
لما قال زكريا لربه: ﴿ الَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 8، 9].
ولما قالت مريم: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 20، 21].
قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ [الفرقان: 54].
2- اختلاف صور الخلق وعدم تشابههم:
قال ابن حزم: "من عجيب قدرة الله تعالى كثرة الخلق، ثم لا ترى أحدًا يشبه آخر شبهًا لا يكون بينهما فيه فرق"[3].
وتأمل هذا جيدًا لتتعرف على قدرة القدير، فمنذ آلاف السنين وعبر عشرات المليارات من البشر الذين خلقهم الله، والذين سوف يخلقهم، فإن من المحال أن نجد اثنين من الخلق متشابهين في الخلقة تمامًا، وهذا قمة الإعجاز الذي لا ينتبه له أكثر الناس [4].
بل انظر إلى هذه الأعداد الهائلة من بني آدم منذ بداية الخلق وإلى قيام الساعة، فلن تجد بينهما تشابهًا في بصمات الأصابع، فيا لها مِن قدرة عجيبة لا يُمكن لبشر استيعابها إلا أن يقول: سبحان الله؛ قال الله: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 3، 4].
3- إحياء الموتى:
وقد وقع ذلك في دنيا الناس مرارًا في صور باهرة تشفي القلوب الحائرة، ومن ذلك ما قصه الله تعالى علينا في كتابه في سورة البقرة، حين قال عز من قائل: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259].
وأوجه قدرة الله في هذه الآية متعددة، وكل منها أعظم من الآخر:
الوجه الأول: أن الله تعالى أمات عزيرًا مائة عام، ليتحلل جسده بالكلية، ثم بعثه بعد الموت في سابقة لا تحدث إلا يوم القيامة.
الوجه الثاني: سأله الله تعالى: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ ﴾ [البقرة: 259]؛ ليظهر له عجزه عن الإحاطة بأحواله وشؤونه، ويعرِّفه قصور علمه بنفسه فضلًا عن غيره، مع كمال إحاطة الله بكل شيء.
الوجه الثالث: أن الله لم يشعره بطول الزمان، فمرَّت عليه مائة العام كأنها يوم أو بعض يوم، وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى بيده أن يغيِّر نواميس الكون، ويقلب هذه الحياة رأسًا على عقب، ويُغير لونها ونظامها وأهلها.
الوجه الرابع: من بدائع قدرة الله حفظه للطعام أعوامًا طويلة دون تغير.
الوجه الخامس: أن بدنه صار ترابًا وكذلك حماره، فتأثير الزمان على الأبدان اختلف عن تأثيره على الطعام، فقد أذِن الله للزمان أن يُحدث أثره المتعارف عليه بين الناس في تحلُّل الجسد، فمن غير القدير أذن للزمن أن يحدث أثره على الأبدان، ومنع تأثيره على الطعام؟!
الوجه السادس: أحيا الله حماره أمام عينيه، فراح يقول معترفًا: ﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]"[5].
4- تقليب القلوب:
فمهما بلغت قدرة المخلوق وسطوته وقهره، فلا يقوى بشر على تغيير ما في قلب البشر، فلو امتلأ قلبك بمحبة أحد، فلا يستطيع كائن أن يقلب محبتك كرهًا إلا أن يشاء الله، ولو كرهت أحدًا فلن تستطيع قوى الأرض مجتمعة أن تسيطر على قلبك، وتُرغمه على محبته، ولا تتحول هذه الكراهية إلى محبة بضغطة ذر، ولكن الله يفعل [6].
انظر إلى فضالة بن عمير الذي كان مشركًا عازمًا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن امتلأ قلبه حقدًا وبغضًا للإسلام ورسوله، دخل يومًا يطوف بالبيت مخططًا لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فدنا منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((أفضالة؟))، قال: نعم، فضالة يا رسول الله، قال: ((ماذا كنت تُحدث به نفسك؟))، قال: لا شيء، كنت أذكر الله يا رسول الله، فضحك رسول الله وقال: ((استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه))، فكان فضالة يقول: "والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه" [7].
من الذي حوَّل قلب فضالة بهذه الصورة الكلية الضخمة، وفي هذه اللحظة القليلة العابرة؟
إنه الله القادر القدير المقتدر.
وانظر إلى ثمامة بن أثال حين نطق بالتوحيد ماذا قال؟ يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ" [8].
ما ذاك؟ إنه الله القادر على قلب القلوب وتحويل الأمور وتغيير الأحوال سبحانه.
كيف لا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف ويقول: ((لا ومقلِّب القلوب"؟! [9].
كيف لا ومُقلب القلوب جل جلاله يحول بين المرء وقلبه؛ كما قال عز من قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24].
قال ابن القيم: "القدير الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا، والبرَّ برًّا والفاجر فاجرًا، وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومه أئمة يدعون إلى النار" [10].
5- قدرته تعالى على إهلاك المجرمين والانتقام من الظالمين:
ولا يَظنَّنَّ مجرم أو ظالم أن الله تعالى أهمله، إنما أمهله ليأخذه أخذ عزيز مقتدر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102])) [11].
وإهلاك الله المجرمين وانتقامه من الظالمين، أكثر من أن يُحصى، وحسبك قول الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44].
وكما أن الله تعالى قادر قدير مقتدر على إهلاك المجرمين الظالمين، فهو قادر مقتدر على نصر أوليائه وعباده الصالحين مهما كانوا قليلي العدد أو العدة أو مستضعفين؛ قال رب العالمين: ﴿ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 249]، وقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 20، 21].
6- إظهار قدرته في الآخرة:
وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم طرفًا من ذلك حين قال: ((يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرَضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)) [12].
فهذه السماوات وهذه الأرضون على سَعتها وقوتها وعظمتها، وعجيب خلقها - يطويها القادر المقتدر بقدرته، يطويها بيده!
بل اعجَبْ حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يُحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف؛ صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم))، فقال رجل: يا رسول الله، كيف يمشون على وجوههم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الذي أمشاهم على أرجلهم في الدنيا، قادر على أن يُمشيهم على وجوههم يوم القيامة)) [13].
عجز الإنسان وضعفه:
مع ثبوت قدرة القادر المقتدر جل جلاله، يثبت عجز الإنسان وضَعفه، فقدرة الإنسان عطاءٌ من الله سبحانه قادرٌ أن يسلبه منه متى شاء، وقدرة الإنسان محدودة تتناول بعض الجوانب دون بعض، وتكون في بعض الأوقات دون بعض، وقدرة الإنسان مصيرها إلى انهيار، وذلك بالحوادث والأمراض، وإلا فبالهرم وسوء الكِبر، وقدرة الإنسان لا تتم ولا تقوم إلا إذا استعان بمن حوله من أسباب وأعوان وخبراء، فمثلًا: يُكمل الإنسان ضعف بصره بالميكرسكوب، ويُكمل قِصَر بصره بالتليسكوب، ويكمل بُطء سيره بالمركبة أو القطار أو الطائرة، ويكمل ضعف يده (بالمِفك والبنسة)، لكنَّ قدرة الله تعالى تامة وافية كاملة، لا يحدها حد، ولا تحتاج إلى مقدمات أو أسباب أو أعوان أو خبراء؛ سبحانه القائل: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].
حق القادر جل جلاله:
1- صدق التوكل عليه ودوام الالتجاء إليه:
من عرف القادر المقتدر جل جلاله، لا يتوكل إلا عليه ولا يعتصم بأحد سواه، ولا يمتنع إلا به، ولا يُفوِّض أموره إلا إليه؛ لأن مقاليد الأمور كلها بيده، فلا يعجزه شيء ولا يستعصي عليه شيء، ويلفت القرآن الكريم أنظارنا في أثناء قصة موسى عليه السلام مع فرعون - عليه اللعنة - أن مَن ركن إلى القادر المقتدر وتعلَّق به، فكل الخلائق أضعف وأقل من أن يُحدثوا به أذًى أو مكروهًا، فأمام إصرار فرعون وتبجُّحه وسخريته من موسى ودعوته وقوله: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26] - كيف تصرَّف موسى في هذه اللحظة؟ ماذا قال؟ تعلق بالقادر المقتدر وركن إلى القوي المتين: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 27].
وقد فصَّل لنا ربنا في كتابه القول ليعرِّفنا بقدرته؛ حتى يستقر هذا في قلوبنا، فتخضع له سبحانه القلوب وتتوجه إليه الوجوه، انظر إلى الحشد الهائل الذي ساقه الله تعالى في كتابه مدللًا به على قدرته واقتداره ووحدانيته: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ** وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ** وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ﴾ [النجم: 42 - 55].
وقال الله تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 24 - 32].
وتلك هي العقيدة الصحيحة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على غرسها في نفوس الصغار قبل الكبار.
عن ابن عباس قال: "كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال لي: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف)) [14].
2- أن يظل العبد على حذر من قدرة الله عز وجل:
فلا يسترسل في المعاصي ولا ينقاد لشهوته؛ لأن عين القادر المقتدر لا تنام، وأعمال العبد تُحصى عليه، ثم يحاسب عليها في الدنيا والآخرة، فمن عرف أن مولاه قادر ومقتدر، خشي عقوبته وحَذَرَ بطشه، وابتعد عن ارتكاب مخالفته، ومن تجرأ على حدود الله، فلا يلومنَّ إلا نفسه.
3- الابتعاد عن الظلم بشتى صوره:
وخاصة ظلم العباد في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؛ لأن الإيمان بقدرة الله تعالى وانتقامه للمظلومين من الظالمين، يجعل العبد يرتدع عن الظلم والعدوان [15].
أحيانًا ترى الإنسان يتطاول ويطغى ويتعدى، وكأن الله غير موجود، مع أن الله جل جلاله يقول: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج: 12].
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي، فسمعت من خلفي صوتًا: ((اعلم أبا مسعود، للهُ أقدرُ عليك منك عليه))، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أما لو لم تفعل للفحتْك النارُ)) [16].
كتب عمر بن عبدالعزيز إلى بعض عماله:
"إذا هممت بظلم أحد، فاذكر قدرة الله عليك، واعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئًا إلا كان زائلًا عنهم باقيًا عليك، واعلم أن الله عز جل آخذٌ للمظلومين من الظالمين والسلام" [17].
ومن أحسن ما اشتَهر على الألسنة من الكلمات الآمنة:
"إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس، فتذكر قدرة الله عليك".
لا تَظلمنَّ إذا ما كنتَ مقتدرًا
فالظلمُ تَرجع عُقباه إلى الندم ِ
تنامُ عيناك والمظلومُ مُنتبهٌ
يدعو عليك وعينُ الله لم تَنمِ
4- ألا يقول العبد: مستحيل:
من عرَف الله القادر القدير لم ينظر إلى شيءٍ على أنه مستحيل، ولهذا كان من آثار الإيمان باسم الله القادر أن تتقوى عزيمة العبد وإرادته في الحرص على الخير وطلبه، والابتعاد عن الشر والهرب منه، وهو ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((احرص على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تَعجِز...)) [18].
استعن بالله القادر أن تتحلى بالخصال الحميدة مهما رأيتها صعبة أو بعيدة.
استعن بالله القادر أن تقلع عن عاداتك السيئة مهما كنت مدمنًا.
استعن بالله القادر أن تكون مبدعًا.
استعن بالله القادر أن تكون منتجًا.
استعن بالله القادر أن تكون لك يَدٌ عليا في الخير.
استعن بالله القادر أن تكون أنت إضافة طيبة في هذه الحياة.
5- ألا يغتر العبد بقدرته أيًّا كان نوعها:
فبين عشيةٍ وضحاها أو غمضة عينٍ وانتباهتها، يحوِّل القادر القدير المقتدر الغِنى إلى فقر، والعزة إلى ذلة، والصحة إلى مرض، والحياة إلى موت.
بل على العبد أن يتبرأ دائمًا من حوله وقوته؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولهذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستخير الله تعالى في أمورنا كلها؛ لأننا أضعف من أن نستقل بأخذ قرار، أو أن نُقدم على شيء لا نعلم مآله أو مصيره.
علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب....)) [19].
6- الدعاء واللجأ إلى رب الأرض والسماء:
اطلب ما تريد من الخير وتضرَّع إلى الله تعالى، وهو قادر سبحانه أن يعطيك سؤلك ويجيب دعاءك، ولا يَعجِز سبحانه عن إعطاء من شاء في أي وقت شاء؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آخر من يدخل الجنة رجل ٌ يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين، فتُرفع له شجرة فيقول الله: يا بن آدم، لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يا رب، ويعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيُدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم تُرفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من هذه الشجرة؛ لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها، فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم تُرفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأُولَيين، فيقول: يا رب أدنني من هذه؛ لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب لا أسألك غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليها، فيدنيه منها فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: يا رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يَصْرِيني منك - ما يقطع مسألتك - أيُرضيك أن أُعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين، فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني ممَّ أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ممَّ تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قدير)) [20].
فمهما دعوت الله تعالى وتضرعت إليه، فهو سبحانه قادر أن يعطيك سؤلك ويجيب دعاءك؛ عن مطرِّف بن عبدالله بن الشخير، قال: تذكرت جماع الخير، فإذا الخير كثير: الصوم والصلاة، وإذا هو في يد الله، وإذا أنت لم تقدر على ما في يد الله عز وجل إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماع الخير الدعاء" [21].
وحبذا لو دعوته سبحانه وتعالى باسمه القدير؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق - أحْيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا علمت الوفاة خيرًا لي)) [22].
7- وأخيرًا:
مَن عرَف أن مولاه قادر قدير مقتدر، حاد عن الانتقام ثقةً منه بأن صنع الله تعالى وانتقامه له أتم من انتقامه لنفسه.
[1] رواه الترمذي، وصحَّحه الألبانيُّ.
[2] تفسير ابن جزي، والعقائد الإسلامية، سيد سابق.
[3] مداواة النفوس.
[4] هنيئًا لمن عرف ربه؛ خالد أبو شادي.
[5] هنيئًا لمن عرف ربه؛ بتصرف.
[6] هنيئًا لمن عرف ربه.
[7] سيرة ابن كثير، والسيرة النبوية لابن هشام.
[8] دلائل النبوة، البيهقي.
[9] رواه البخاري وغيره.
[10] طريق الهجرتين.
[11] متفق عليه.
[12] متفق عليه.
[13] رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
[14] رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
[15] ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها؛ عبدالعزيز ناصر الجليل.
[16] رواه مسلم.
[17] إحياء علوم الدين.
[18] رواه مسلم.
[19] البخاري.
[20] رواه مسلم.
[21] الزهد؛ أحمد بن حنبل.
[22] رواه النسائي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع.