أرشيف المقالات

دور الإعلام في تشكيل الرأي العام

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
لقد أدى الإعلام منذ فجر انطلاقته الأولى دوراً مهماً في تحرير الإنسان، وهو ما لاحظه الكاتب البريطاني " ويلز " في تاريخه " معالم تاريخ الإنسانية " حين قال:" إن الورق حرر عقل الإنسان ".

و لعل ما يميّز الخلائق عن البهائم هو الاتصال، فالإنسان كان دائماً بحاجة إلى وسيلة يراقب فيها الظروف من حوله ليتأقلم مع هذه البيئات، فنحن لا نستطيع أن نكتفي بالحياة مجرد الحياة، ولا نستطيع أن نواصل وجودنا كبشر دون روح المعاشرة الاجتماعية، وفي هذا يقول " موريس جولديير ": " إن البشر على نقيض الحيوانات الاجتماعية الأخرى، حياتهم ليست مجرد حياة في مجتمع، وإنما هم ينتجون المجتمع ليعيشوا فيه، لهذا فإن أي مبحث ينظر إلى البشر باعتبارهم مجرد أفراد لا يعتبر من منظور عالم الأنثروبيولوجيا مبحثاً كاملاً، ونحن لا نستطيع أن نعرف أنفسنا إلا إذا عرفنا أنفسنا في علاقات الآخرين." [1]

وبكل تأكيد فإن من أهم وسائل التعرف على الآخرين الإعلام الذي ينقلنا إلى هناك وحيث نريد لنتعرف على تجارب وحضارات ومدن وتواريخ ما كان لنا أن نحصل عليها دون تلك الوسيلة.

ولقد أطلق الكثيرون على الإعلام السلطة الرابعة، ويفسر ذلك المفكر الإسلامي الجزائري " مالك بن نبي " بقوله:
" إنها فعلاً سلطة، ذلك أن الصحيفة تحوّل الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك، وتصبح أداة سلطة ذات أهمية كبرى، في عالم القرن العشرين ، يسير كل ما فيه على مبدأ القوة والسيطرة " [2].

" وينتقل إلى إبراز أهمية المادة الإعلامية التي يراها بأنها لن تقل بدورها عن مادة السلاح التي تعتبر الحصن المنيع لسيادات الدول، فيقول ":

لقد غدت صناعة الإعلام لا تقل أهمية عن صناعة السلاح التي تتصدر الصادرات الأولى في عالم الصناعة والموارد، فقد بلغ حجم التوظيف المالي في هذا القطاع للإعلام والاتصال عام 1990 حوالي 75 مليار دولار أمريكي، كما تبلغ حجم الصادرات للولايات المتحدة الأميركية في قطاع الإعلام ومعالجة المعرفة ما يناهز الـ: 50 % من الحجم السنوي لمجمل صادراتها، و البالغة: 384 مليارا دولار، وفي عام 1992 بلغ مجموع المبالغ المتداولة في سوق الصناعات السمعية والبصرية حوالي: 289,2 مليار دولار، و بذلك احتلت المرتبة التالية بعد الطيران والصناعات الكيماوية " [3].

ولعل الكثيرين يوافقوننا الرأي بأن الإعلام الآن - مع ظهور الفضائيات - قد كسر حالة الرتابة والسطحية والتجهيل التي مورست بحق الرأي العام العربي تحديداً أيام حرب الساعات الستة " وليس الأيام الستة في حزيران " من العام 1967، 
لكن السؤال الذي ينبغي أن يوجه للجميع سيما المسؤولين منهم هو:
هل بدأ الجميع يدركون سلاح الإعلام والحاجة إليه في ضرورات التغيير والتعبئة والتوعي ة والإدراك ؟

فجهاز التلفاز بات عنصراً وأداة مهمة في عملية التغيير الاجتماعي ، لكن مع هذا فمن الظلم ومن غير الواقعي أيضاً أن نقرر بأن الفضائيات وحتى الإعلام لوحده هو الوسيلة
والأداة الوحيدة لتشكيل رأي و وعي عام، فلا بد من أخذ السياقات الاجتماعية والاقتصادية للإنسان بعين الاعتبار
و إن كان من الحق أن نؤكد بأن الإعلام بشكل عام وخاصة الفضائيات هي التي تقولب اهتمامات ومشاغل المشاهدين هذه الأيام.

رغم أن البعض ينتقده ويعتبره أداة تجهيل وتسطيح للذهن لكن يبقى الأمر مرهونا بالمادة المقدمة،
ويقول المفكر والمؤرخ الأمريكي البارز " غور فيدال " الذي يعتبر ضمير أمريكا الحي في هذا السياق: " إن أهم أهداف ماكينة الإعلام الأمريكية هي التجهيل والتعتيم وخلق أجيال من أشباه الأميين، نعم الأميين في بلاد العسل والحليب المزعومة ".

إن اكثر ما يأخذه فيدال على الأجهزة الإعلامية والتربوية في أمريكا أنها تهبط بالإنسان بدلاً من الارتقاء به.

" ويدلل الزميل زيدان على أن الحرب الحقيقية في حياة الأمم هي الحرب الإعلامية والتنافس المعلوماتي الذي غدا رأس مال الأمم المستقبلي، فيقول ":

إذن فالحرب الحقيقية التي تحياها الأمم في هذا العصر المعلوماتي إنما هي حرب إعلام وحرب معلومات، ومن يملك المعلومة يملك القرار الصائب والنظرة المستقبلية،
و سأركز في هذا الإيجاز على الفضائيات لما لها من أهمية قصوى ودور فعال في صوغ الرأي العام العربي،
فمصطلح الرأي العام لم يظهر إلا في العصر الحديث وبصفة خاصة منذ الثورة الفرنسية، وحسب تعريف العالم " فلويد أولبرت " فهو عبارة عن: " جمع من الأفراد يعبرون عن آرائهم في موقف معين، إما من تلقاء أنفسهم أو بناءً على دعوة موجهة إليهم تعبيراً مؤيداً أو معارضاً لمسألة معينة أو لشخص معين أو اقتراح ذي أهمية واسعة، بحيث تكون نسبة المؤيدين أو المعارضين " في العدد " ودرجة اقتناعهم
و ثباتهم واستمرارهم كافية لاحتمال ممارسة التأثير على اتخاذ إجراء معين بطريق مباشر أو غير مباشر تجاه الموضوع الذي هم بصدده " [4].

لكن ينبغي الإشارة إلى أنه حتى الآن لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً على الرأي العام، ولكن كما قال " أونكن " في نهاية القرن التاسع عشر بأنه رغم عدم وجود هذا التعريف لكن يمكن لكل إنسان أن يفهم المقصود به إذا سئل عنه، وكلمة الرأي العام في المعجم الوسيط تعني الاعتقاد والعقل والتدبر والنظر والتأمل، أما كلمة العام فتقال للعام من كل أمر، كما جاء به القاموس المحيط، اسم جمع للعامة، وهي خلاف الخاصة.

لكن بعد أن يستعرض الدكتور " محمد منير حجاب " عدة تعريفات للرأي العام يضع التعريف الآتي:
" هو رأي ذو تأثير معين، انتهت إليه أغلبية جماعة معينة في وقت محدد تجاه مسألة ما تتعلق باهتماماتها بعد مناقشة وحوار مستفيضين " [5] .

اعترف الفلاسفة منذ القديم ومنهم " أرسطو " بدور الرأي العام في تحطيم الحكومات، وشكلت كتابات كل من " أفلاطون وأرسطو " بداية متواضعة لدراسة ظاهرة الرأي العام، كون هذه الكتابات شددت على ضرورة قيام الدولة على مبدأ الديمقراطية، أي على مشاركة الجماهير بالسلطة.

و أدى مفكرون وخطباء مثل " شيشرون " وأخيه " كونتيوس " دوراً كبيراً في تكوين الرأي العام حيث كتب الأخير رسالة في الدياعية وفنونها.

بيد أن التسميات كانت تختلف، لكن المسمى واحد، فعند المسلمين كان يأخذ الرأي العام مصطلحاً أقرب إلى " السواد الأعظم " بينما دعاه " مونتسكيو " بـ: العقل العام، و يقابله عند " جان جاك روسو " بالإرادة العامة، ويعرف الآن في أدبيات السياسة العربية بـ: " الشارع العربي ".

و لعل الوسيلة الوحيدة لعكس ذلك مرآة الإعلام، التي تشتمل على المسرح والسينما والصحف ومجلات وإذاعة وتلفزيون
وغيرها، ولذا فقد لعبت السينما الأميركية دوراً مهماً، وحيوياً في تصوير وإبراز صورة الهنود الحمر على أنهم قطاع طرق ولصوص، الأمر الذي نفّر الأمريكيين وغيرهم منهم، وكذلك أبرز الإعلام الأميركي والغربي اليهود على أنهم نصيري سلام ومحبين له، و بالتأكيد فإن الوعي و الرأي العام لا يتكون بشكل لحظي وإنما بشكل تراكمي إلى أن يصل الشخص أو الفرد لاتخاذ قرار ويتفاعل مع الواقع.

و عن العلاقة شبه الجدلية بين الاتصال والرأي العام فالأخير إنما ينتج عن عملية الاتصال أو التفاعل بين هؤلاء الأفراد.

و مفهوم الرأي العام لاشك يتغير من دولة إلى أخرى، ومن مكان إلى مكان، فالرأي العام الغربي غير العربي،
و السوري غير المصري، ولكن بشكل عام كما عرّفه علماء وفلاسفة الغرب فإن الرأي العام هو: تعبير الأفراد عن آرائهم تجاه موقف معين إما من تلقاء أنفسهم أو بناء على دعوة موجهة إليهم مؤيداً أو معارضاً لمسألة أو شخص معين أو اقتراح ذي أهمية.

و لذا ولأهمية الرأي العام ودوره في صوغ العالم وسياساته فقد أطلق العديد من المفكرين والفلاسفة على القرن العشرين بـ " قرن الرأي العام ".

و هنا لا بد من التمييز بين دور الإعلام في الحكومات الديمقراطية الليبرالية التي تهتم برأي شعوبها، وبين دور الإعلام في الأنظمة الشمولية التوليتارية.

وتلعب الأخبار بشكل عام دوراً مهماً في حياة الشعوب، لما للدعاية والإشاعة، والتبشير والتنفير، وخلق الخلافات بين الدول من أهمية، ولا سبيل لنقل ذلك إلاّ من خلال وسائل الإعلام، فهي الوسيلة التي تنقل أخبار البورصات والاقتصاد و لذا بخبر واحد ممكن أن تودي باقتصاديات دول، والرأي العام مرتبط أصلاً بالعلانية، ويتصل كما هو معلوم بالنشر والإذاعة والإفشاء والطبع، و كما قيل:

جراحات السنان لهاالتئام   ***  ولا يلتام ما جرح اللسان
                                         
و على هذا فقد كانت الكلمة خطيرة في الإسلام، واعتبر البيان والإعلام، والتبشير بالإسلام من الجهاد وفي هذا يقول " ابن قيم الجوزية " رحمه الله:
"إن جهاد البيان أعظم أجراً وأكثر نفعاً من جهاد السيف والسنان، وهو جهاد الخاصة، وذلك بأنه جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مئونته وكثرة أعدائة" [6].

لقد وُصِف القرن العشرين بامتياز " قرن الرأي العام " حيث أنشأت معاهد خاصة لدراسة الرأي العام، فالوسيلة الإعلامية هي التي تلعب دوراً أساسياً في صوغ مواقف واتجاهات الشعوب و سيكون من الصعب على أكبر طاغية حتى ولو كان مستبداً أن يتجاهل اتجاهات شعبه، وإلاّ فسيلحق بمصير المستبدين من أسلافه، ولذا عادة ما نسمع أن حاكماً ما أبلغ قوى كبرى مؤثرة في سياسات بلاده بأنه لا يستطيع الموافقة على سياسة ما كون الشعب لن يقبل بها كتأكيد على أهمية الرأي العام حتى في الدول الاستبدادية.

" وبعد هذا الإسهاب في بيان الحرب الإعلامية التي تحياها الأمم يوضح تقسيمات الرأي العام ومدى نفوذه وتأثيره على الحكومات، فقال ":

و تنامى دور الرأي العام بعد تطور عملية الاتصال الجماهيري و ظهرت قوته في التأثير على الحكومات، سيما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.

ففي العام 1937 ظهرت أول مجلة فصلية في الرأي العام في الولايات المتحدة الأميركية، وأنشأ في العام نفسه عدة مراكز لقياس الرأي كان منها معهد " غالوب " المعروف.

و حين الحديث عن الرأي العام لا بد من تقسيمه إن كانت تقسيماته تتم بحسب الزمان أو المكان، ولكن حسبما يرى الدكتور " عاطف عدلي العبد " يقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:

1- الرأي العام القائد أو المسيطر 
و يتكون هذا النوع من الرأي العام من فئة من المثقفين
و المفكرين ومن صفوة الجامعيين والدكاترة و العلماء
والكتاب، ويأخذون دور القيادة والنصح والإرشاد،
و لا يتقبلون الأمور إلا بعد قوة اقتناع كبرى، وهذا ما يسمى بـ: " الرأي العام المستنير ".

2-   الرأي العام القارئ: ويطلق عليه أيضاً الرأي العام المثقف، وهي الفئة التي تقل عن فئة الرأي المستنير ويكون تأثيرها أقل عمقاً مما يتركه تأثير الفئة السابقة، وما يميز هذه النوعي ة أنها تفهم وتستوعب المعلومات وتجمع الأفكار والآراء والأخبار وتشكل رصيداً معرفياً وسياسياً هاماً.

3- الرأي العام المنقاد:
وهي فئة دون الفئتين السابقتين، وتمثل في مجمل الأمر نسبة معتبرة من المجتمع، كما أنها تضم الأميين الذين ينقادون سريعاً للفئتين السابقتين في الرأي العام " [7].

و نزولاً على أرض الواقع وكتطبيق عملي على مدى تأثير وسائل الإعلام على الجماهير أجرى معهد السياسة المناهضة للإرهاب في المركز المتعدد المجالات في " هرتزيليا " بالكيان الصهيوني وذلك عن مدى تأثير وسائل الإعلام في نقل عمليات الفلسطينيين وخاصة الهجمات بمدافع الهاون على المستعمرات اليهودية في نيسان / إبريل من العام 2001 أثناء الانتفاضة الثانية، فأجاب 27 % أن التقارير الإعلامية تُضاعف الإحساس بالخوف والعجز، بينما قال 34% في استطلاع عام 1999 أن تقارير وسائل الإعلام تعزز الرغبة من التوصل لحل الصراع بسبل سلمية وقال 15% فقط بذلك في آذار / مارس من العام 2001 م [8].

لكن لا بد من التسليم بأن الأجهزة الحاكمة في البلدان العربية ما تزال تصر على الاستئثار بتشكيل وتعبئة الرأي العام العربي، ويظهر ذلك من رغبتها في خروج مظاهرة أو وقف أخرى، رغم زحف وسائل الإعلام العربي وخاصة الفضائية منها على مناطق كانت وما تزال إلى حد ما من خصوصية السلطة السياسية في العالم العربي.

وقد طغى التلفاز على معظم وسائل الإعلام في هذا العصر، و بدأ يخاطب الجماهير من فوق رؤوس الحكومات، وغصباً عنها، الأمر الذي سبب أزمات بين دول ربما بدون رغبة الحكومات، فمن أهم وظائف الإعلام تشكيل الوعي و التنشئة الاجتماعية والتبليغ والاتصال الإنساني، وهي قضايا في غاية الأهمية من أجل تكوين الرأي العام بغض النظر عن التأثير الصدمي المعروف بتأثير الرصاصة أو التأثير التراكمي.

و نحن هنا لا نُغفل دور الجهات الأخرى مثل الأسرة والمدرسة والمسجد ونحو ذلك، ولكن لعل التلفاز يتبوأ الصدارة في عملية التأثير لأسباب منها:

ــ أن المشاهد الذي يجلس أمام التلفاز يكمن دوره في التلقي دون إبداء أي رأي، بعكس الجهات الأخرى، إضافة إلى أن الساعات التي يقضيها أمام التلفاز ربما أكثر من الساعات التي يقضيها مع الجهات الأخرى.

و لعل بعض الدول العربية وإدراكاً منها لأهمية الإعلام ودوره فقد خطت المغرب خطوة مهمة حين أمرت بتشكيل لجنة لمتابعة ما يدور في الصحافة والإعلام من أجل معالجة النواقص والقصور، وذلك بهدف تحسين الأداء الحكومي بحسب تصريحات لوزير الثقافة والإعلام المغربي [9].


فالمعروف أن الإعلام " صحافة ــ إذاعة ــ تلفاز " إنما هو انعكاس لما يعتمل في أحشاء المجتمعات، وبالتالي فإن الإعلام هو الذي يستجيب لمطالب المجتمع، لا أن يكون الإعلام في أيدي السلطات يروج لها وجهة نظرها بعيداً عن اهتمامات ومشاغل المواطنين.

والرأي العام هو الذي يفرض الخطوط الممنوعة والمسموحة للإعلام لا العكس، لكن وللأسف ففي المنطقة العربية يحدث العكس، ويشرح ذلك الكاتب الكويتي " عبد الله النفيسي " بالقول:"...
الأخطر من ذلك كله أن صاحب الرأي والفكر أصبح لا يمتلك وسيلة للتعبير عن رأيه لأن الإعلام عموماً أصبح بيد قلة في السوق، لذلك ليس بوسع النخبة إلاّ التسوّل على باب هذه الإمبراطوريات الإعلامية الضخمة هذه العلاقة الجدلية بين النخبة والإعلام في الخليج أيضاً بحاجة إلى دراسة
وتمحيص واستخلاص لما لها من أهمية قصوى في بناء مستقبل البناء السياسي مع المجتمع العربي " [10].

و بكل تأكيد فإنه لضمان تشكيل رأي عام حقيقي بعيداً عن الخوف والتملق و الكذب التي انطبعت به مجتمعاتنا حتى غدت أشبه ما تكون " بثقافة الكذب " لضمان ذلك كله لا بد من عملية متكاملة ديمقراطية من الحرية السياسية إلى الثقافية إلى التعليمية والاقتصادية، الأمر الذي يصوغ جواً من الحرية و الصدق والشفافية والمساواة، ولن يكون هناك حينها من يتخندق وراء مواد دستورية تحميه من الانتقاد والكشف عن سوءاته في الفساد والرشاوى ونحوها كما فعلت الفضيحة الهندية الأخيرة التي أرغمت عدداً من الوزراء وأعضاء الحزب الحاكم على الاستقالة بعد أن تورطوا في استلام رشاوى من صحافيين عمدوا إلى توريطهم في القضية، وبعد أن كشفوا صور تلقي المسئولين للرشاوى على الشاشة الصغيرة استقالوا جميعا.

ولكن لا بد من الاعتراف أن هذه الفضائيات غطت كل المساحة الموجودة للمشاهد في تكوين أي رأي، بحيث لم يعد للأب أو لغيره مجال لملء ذلك الفراغ، الأمر الذي جعلته يفكر بطريقة وأسلوب واحد، غير أنه أيضاً وجود قنوات فضائية عدة ومتنوعة أرغمها على طرح وجهات نظر عدة وبالتالي لم يعد المشاهد أسير فضائية واحدة وإلاّ فإن جهاز التحكم عن بعد " الريموت كونترول " موجود لتحويل القناة.

و إن كان الدين أحد المصادر الأساسية لتكوين الرأي العام فالوسيلة المهمة في نقل أحداثه ومعطياته إلى العامة هي الوسيلة الإعلامية، والفضائيات، ولعل نقل الفضائيات صورة الإرهابي الصهيوني " شارون " مع جنوده وهم يدنسون باحات المسجد الأقصى كانت شرارة انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية في العام 2000، والكل يعرف ما يحدثه نقل حادثة دينية أو قتل طائفي، أو تدنيس لشعيرة ما من أثر في الشعوب التي يعد الدين أحد مكوناتها الأساسية.

و لا بد من الالتفات إلى الترابط بين القول والفعل والإعلام وإلاّ فالصدود هو العنوان الرئيسي، والجواب الفاصل للدعاية الإعلامية.
" في عالم اليوم لا تنفصم الدعاية الإعلامية عن الرأي العام العالمي المؤثر مباشرة على سير العمل الدبلوماسي للحكومات وللمنظمات الدولية، والإعلام لم يعد أقوالاً وبيانات وادعاءات، وإنما هو بحاجة إلى تخطيط وتنسيق مع بقية الأفعال اليومية.
هكذا لا يمكن نجاح الإعلام إذا لم تكن القيادة والممارسات متجاوبة مع أهدافه.
الإعلام الفاشل هو الذي يُسخر جزافاً لخدمة قضية سياسية أو سياسة قائد وبدون التناسق بين القول والفعل...
ولهذا يمكن للحق أن يفشل وللظلم أن ينجح إعلامياً، فالمهم هو الأداء المتناغم بين الأقوال والأفعال، ومراعاة أحوال المستهدف إعلامياً " [11].

و يشمل التأثير الفضائي أنواعاً عدة هي:
التأثير الأول، وهو:
تأثير تغيير الموقف والاتجاه، وذلك عبر تغيير موقف المشاهد إزاء قضية ما.

و هناك التأثير الثاني وهو:
التأثير المعرفي، وهو أعقد من الأول على أساس يمس مرجعيات ونمطيات تفكير وتغيير قناعات مثل: النظرة الإسلامية إلى المرأة ، والنظرة العلمانية أو الغربية إليها، فبالتأكيد أن عملية التغيير التي طرأت على تفكير العديد من المجتمعات الإسلامية إلى المرأة لم تكن وليدة موقف، وإنما وليدة معلومات ومواقف وسلوكيات أدت إلى هذا الموقف.

و التأثير الثالث هو:
التنشئة الاجتماعية فبعد أن كانت الأسرة والمسجد والمدرسة تؤدي أدواراً متفاوتة في التأثير على الطفل جاء عصر الاتصال ليحول تلك الأدوات إلى مساهمين فرعيين ويذعن الجميع للمربي الكبير وهو الفضائية أو التلفاز.

و هناك التأثير الرابع وهو:
الإثارة الجماعية، والهدف منه الوصول إلى قطاع واسع من الجماهير، وعادة ما تسعى إلى تحريك الشعور الوطني مثلما حصل في انتفاضة فلسطين وحشد القنوات العربية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وخروج الشارع العربي كله ضد ما يتعرض إليه الفلسطينيون، ونفس الأمر يمكن أن يتم من خلال عملية الإثارة في الكوارث أو الأوبئة ونحوها.

أما التأثير الخامس المتمثل بـ:
الاستثارة العاطفية، فالمعروف أن للعواطف تأثيرا كبيرا على الإنسان، ولذا فصورة لمهاجر أفغاني يرثى لحاله يمكن أن تدفع محسنا أو متبرعا لمساعدته، و لعل هذا تجسده مشاهد الطفل " محمد الدرة " الذي جيش الشارع العربي ضد المحتل الفلسطيني.

ويعد التأثير السادس خطيراً والذي يدعى:
صياغة الواقع، إذ أن وسائل الإعلام ربما تصور واقعاً اقتصادياً أو عسكرياً أو سياسياً غير الواقع على الأرض، كما حصل في تصوير قوة العراق خلال حربه مع الحلفاء، وكذلك تصوير الجيوش العربية قبل هزيمة حرب 1967.

و لعل الأسوأ من ذلك كله التأثير السابع المتمثل بـ:
تكريس الواقع، وهو عادة ما تبرع فيه الفضائيات الحكومية بالقول ليس بالإمكان أبدع مما كان، وبذل الجهود المكثفة في إقناع المشاهد والمتلقي بالقبول بالواقع، وتسعى هذه الوسائل إلى تبريره وإيجاد المسوغات له، وذلك لخدمة نخب مسيطرة تخشى على مكتسباتها، ولعل هذا يظهر في التغطية الواسعة للفن والرياضة وأنشطة شخصيات مسؤولة

و رداً على هذه المخاوف التي تساور القيادة الأميركية بشأن تنامي موجة العداء العربي ضدها قررت إذاعة صوت أمريكا مد ساعات إرسالها إلى: 24 ساعة بدلا من 7 ساعات حالياً، واستخدام لهجات محلية، والتركيز على 5 مناطق، ويأتي ذلك في إطار خطة ستنفض فيها الإذاعة برامجها العربية بالكامل حتى تكون مقبولة من قبل مستمعيها من الشباب ، وذلك مع تنامي مشاعر العداء لأمريكا في العالم العربي.
وتريد المحطة جذب المستمعين دون الـ 30 عاماً بشكل خاص، وهم الفئة التي تلوم الولايات المتحدة على المشاكل المتصاعدة في المنطقة.

ويقول المسؤول عن البث إلى « الشرق الأوسط » " نورمان باتز " إن « ثمة حرباً إعلامية جارية في المنطقة...
ولا تتمتع وسائل البث الأمريكية بتأثير هناك »
.

و لمعاقبة الإعلاميين العرب الذين يؤيدون ويتعاطفون مع الانتفاضة ذكرت بعض وسائل الإعلام في حينها أن المنظمات الصهيونية تعد لحملة عالمية ضد الصحافة والصحافيين والكتاب والمفكرين المصريين بتهمة العداء للسامية، ومنعهم من السفر إلى البلاد الأوربية أو الاتصال بالعالم الخارجي وحضور المؤتمرات الدولية.

ووصل الأمر إلى أن ينشر المستوطنون قائمة بأسماء الصحفيين والمصورين الفلسطينيين الذين يطالبون بقتلهم لمسؤوليتهم في فضح الصهاينة عبر الإنترنت، ونشروا قائمة بأسماء المصورين الصحفيين " الخطرين " جداً ؛ لأن عدساتهم تنقل جرائمهم واعتداءات جيش الاحتلال.

لكن بالمقابل ينبغي الاعتراف بأن كثيراً من الفضائيات العربية يخجل أي إنسان أن يجلس أمامها مع بناته وأولاده وذلك للبرامج الخلاعية التي تصرف الأمة عن همومها   وتؤدي دوراً خطيراً في عملية مسخ الهوية التي يجرى لمسخها، وتخرج مجتمعا مشوها خاصة في ظل اعتمادهم على المرأة سلعة مروجة لبضائعهم الكاسدة، وكأن المرأة لم تخلق إلاّ لعرض مفاتنها وبيع جسدها أو عرضه مقابل التسويق لبضائع أميركية وصهيونية أفتى علماء الإسلام بالتوقف عن شرائها...
-------------------------

[1] - لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة ؟ الثقافات البشرية: نشأتها وتنوعها تأليف مايكل كاريذرس وترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة الصفحة 19 – 20، كانون الثاني / يناير من العام 1998.

[2]- من أجل التغيير، سلسلة مشكلات الحضارة، الصفحة 115 دار الفكر – سورية، 1995.

[3]- الإعلام العربي في عصر المعلومات، رؤية تحليلية الصفحة 62، إصدار مركز زايد للتنسيق والمتابعة في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2000.

[4] - الإعلام العربي في عصر المعلومات رؤية تحليلية، ص إصدار مركز زايد للتنسيق والمتابعة، في تشرين الثاني / نوفمبر، 2000.

[5] - دكتور محمد منير حجاب، أساسيات الرأي العام، ص 24، الطبعة الثانية 2000، دار الفجر للنشر والتوزيع – القاهرة.

[6] - مفتاح دار السعادة – نشر دار ابن عنان، تحقيق علي حسن الأثري بتصرف،انظر 1/ 171- 173.

[7] - الإعلام العربي في عصر المعلومات، ص 35 – 36، عن مركز زايد للتنسيق والمتابعة في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2000.

[8]- البيان الإماراتية الصادرة بتاريخ 20 – 4 – 2001.

[9]- القدس العربي الصادرة في لندن بتاريخ:21- 4 – 2001

[10]– الاتحاد الظبيانية بتاريخ: 24 – 2 – 2001.

[11]- عبد الجبار عدوان، الدبلوماسية بين العمل العسكري والإعلامي، الشرق الأوسط اللندنية الصادرة بتاريخ 18 – 5 – 2001.

____________________________________________________
اسم الكاتب: إسلام آباد ـ محمود عبد السلام

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١