أرشيف المقالات

تفسير سورة محمد كاملة

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
تفسير سورة محمد كاملة [1]

الآية 1، والآية 2: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي جَحَدوا أن الله هو الإله الحق ﴿ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي مَنَعوا الناس عن الدخول في دين الله تعالى، أولئك ﴿ أَضَلَّ ﴾ اللهُ ﴿ أَعْمَالَهُمْ ﴾ يعني أبطل أعمالهم الخيرية (كإطعام الطعام وصلة الأرحام)، فلم يجدوا ثوابها في الآخرة، بل ضَلَّت عنهم (لأنها لم تكن عن إيمان ولم تكن خالصةً لله تعالى)، ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ باللهِ ورُسُله ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ - بإخلاصٍ للهِ تعالى، وعلى النحو الذي شَرَعه - ﴿ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﴾ يعني آمَنوا بالقرآن ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ أولئك ﴿ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾: أي مَحا الله عنهم خطيئاتهم، فلم يعاقبهم عليها بسبب توبتهم ﴿ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾ أي أصلح شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة (واعلم أن البال يُطلَق أيضاً على القلب والعقل وعلى ما يَخطر للمرء من تفكير).

الآية 3: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ذلك الإضلال والهدى ﴿ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ﴾: أي بسبب أن الذين كفروا اتَّبَعوا الشيطان فأطاعوه فأضلهم الله، ﴿ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾: أي اتَّبَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاءَ به من الهدى، فزادهم الله هدىً، ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾يعني: وكما بيَّن الله حال الفريقين وما يَستحقانه، فكذلك يُبَيِّن الله للناس أمثالهم، بأنْ يُظهر لهم حال الناجينَ الفائزين من الناس، وحال الهالكينَ الخاسرين منهم ليعتبروا.

الآية 4، والآية 5، والآية 6: ﴿ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ - أيها المؤمنون - ﴿ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ﴾: يعني فأحكِموا قيد الأسرَى: ﴿ فَإِمَّا مَنًّا ﴾: يعني فإما أن تَمُنُّوا عليهم بفك أسْرهم "مجاناً"، وذلك ﴿ بَعْدُ ﴾ أي بعد انتهاء المعركة، ﴿ وَإِمَّا فِدَاءً ﴾ يعني: وإما أن يُفادوا أنفسهم بالمال، أو مُقابل إطلاق سَراح أسير مسلم عند المُشرِكين أو غير ذلك.

♦ واستمِرُّوا ﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾: أي حتى تضع الحرب أثقالها، وهي معداتها، (وهذه الجملة كناية عن انتهاء الحرب بنصر الإسلام والمسلمين)، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ابتلاء المؤمنين بقتال الكافرين ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ﴾ أي لاَنتصر من الكافرين بغير قتال (كأنْ يَخسف بهم الأرض أو يصيبهم بوَباءٍ قاتل أو غير ذلك) ﴿ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ يعني: ولكنه جعل عقوبتهم على أيديكم، فشَرَعَ الجهاد؛ ليختبر صِدْق المؤمنين بالقتال، وليَنصر بكم دينه، ويُوصلكم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، ﴿ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ من المؤمنين المخلصين - الذين يُقبِلونَ على عدوهم غير هاربين - ﴿ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ يعني لن يُبْطِل الله ثواب أعمالهم، ﴿ سَيَهْدِيهِمْ ﴾ إلى إجابة سؤال المَلَكَين في القبر، وسيَهديهم إلى سلوك طريق الجنة بعد موتهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾، وقال عن الضالين يوم القيامة: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾، ﴿ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ يعني: وسيُصلِح أمورهم التي تركوها في الدنيا بعد موتهم، وسيُصلِح بالهم في الجنة، فلا تصيبهم الهموم والأحزان،﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ﴾﴿ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ أي عَرَّفهم بها وَوَصَفها لهم، ثم عرَّفهم بمنازلهم فيها إذا دخلوها.

الآية 7: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ ﴾ يعني إن تنصروا دينَ الله تعالى (بالجهاد في سبيله والحُكم بكتابه، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه): ﴿ يَنْصُرْكُمْ ﴾ على أعدائكم، ﴿ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ عند القتال.

الآية 8، والآية 9: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ ﴾ أي هلاكًا لهم وشقاءً ﴿ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ يعني: وأذهب الله ثواب أعمالهم الحسنة (كصلة الرحم وإكرام الضيف وفك الأسرى)، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي شقاؤهم وإبطال أعمالهم ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ (وهو القرآن المشتمل على أنواع الهدايات و الإصلاحات) ﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾: يعني فلذلك أبطل الله أعمالهم.

الآية 10، والآية 11: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا ﴾ - أي هؤلاء المُكَذّبون - ألم يَمشوا ﴿ فِي الْأَرْضِ ﴾ متأملينَ مُعتبِرين، ﴿ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾: يعني كيف كانَ مصير المُكَذِّبين قبلهم (كعادٍ وثمود وقوم لوط)؟ وما نزل بهم من الهلاك؟، فقد ﴿ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ ديارهم، ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ يعني: وللكافرين أمثال تلك العقوبة التي نزلت بتلك الأمم، (وفي هذا تهديدٌ لكفار مكة)، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ذلك الذي فعلناه (مِن نجاة فريق الإيمان وإهلاك فريق الكفر) ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾: أي بسبب أن الله وليُّ المؤمنين ونصيرهم ﴿ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ يعني لا أحد يتولى أمورهم وينفعهم، ولا نصيرٌ لهم ينقذهم من عذاب ربهم.

الآية 12: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ ﴾ أي حدائق وبساتين عجيبة المَنظر تَسُرّ أنظارهم ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ أي تجري الأنهار من تحت أشجارها المُتدلّية، ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ ﴾ يعني: ومَثَلُ الذين كفروا في أكلهم وتمتعهم بالدنيا، كمثل البهائم التي لا هَمَّ لها إلا الأكل، ﴿ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ يعني: ونارُ جهنم هي مَسكن الكافرين ومأواهم يوم القيامة.

الآية 13: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ ﴾ يعني: وكثير مِن أهل القرى الذين كانوا أشد قوة من أهل قريتك أيها الرسول - وهي مكة - ﴿ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ﴾ أي التي أخرجك أهلها، (ولَعَلّ المقصود هنا أنهم كانوا سبب إخراجه - بإيذائهم له ولأصحابه ومحاربة دعوته - لأنه صلى الله عليه وسلم خرج باختياره ولم يُكرِهه المُشرِكون على الخروج، بل كانوا يحاولون مَنْعه من الخروج لكي يقتلوه، واللهُ أعلم)، ﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ أي دمَّرنا هذه القرى المُكَذّبة بأنواع العذاب ﴿ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾: يعني فلم يكن لهم نصيرٌ ينقذهم من عذاب ربهم، ولم تنفعهم قوتهم (وفي هذا تصبير للرسول صلى الله عليه وسلم بسبب خروجه من بلده التي يحبها، وفيه أيضاً تهديدٌ لمُشرِكي مكة أن يصيبهم ما أصاب المُكَذِّبين قبلهم إن لم يتوبوا، وقد تاب الكثير منهم والحمد لله).

الآية 14: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾: يعني أفمَن كان على حُجَّة واضحة من ربه (والمقصود بهذه الحُجَّة: القرآن الكريم، الذي أنزل اللهُ فيه البراهين، وتَحَدَّى به المُشرِكين)، فهل هذا الذي على بصيرةٍ مِن أمْر دينه ﴿ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ﴾: أي كمَن حسَّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم﴿ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ في فِعل المعاصي وعبادة غير الله تعالى، مِن غير حُجَّة ولا برهان إلا التقليد الأعمى؟! لا يستويان أبداً.

الآية 15: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ يعني: وَصْف الجنة - التي وَعَدَ اللهُ بها عباده المتقين - أنها ﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ ﴾ أي غير متغيِّر في ريحه أو طعمه بسبب طول مُكثه ﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ﴾ أي لم تُصِبه "حُموضة" أو غيرها كما يحدث في ألبان الدنيا ﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴾أي يَتلذذ بها الشاربون﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ (من الشمع والشوائب)، ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ أي من مختلف الفواكه وغيرها (مِمّا لم يذوقوا طعمه في الدنيا، ولم يتخيلوا لذَّته) ﴿ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ يعني: وأعظم من ذلك النعيم: (سِتر ربهم وتجاوزُه عن ذنوبهم)، فلذلك عاشوا في الجنة سعداء بمغفرة ربهم لهم ورضاه عنهم.

♦ فهل هذا المتقي - الخائف من عذاب ربه، الذي يفعل ما يُرضيه ويَجتنب ما يُغضبه - فلذلك نَعَّمه الله في هذه الجنة ﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ﴾ ﴿ وَسُقُوا ﴾ أي تَسقيهم ملائكة العذاب ﴿ مَاءً حَمِيمًا ﴾ أي شديد السخونة ﴿ فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾؟! لا يستويان أبداً.

الآية 16، والآية 17: ﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ يعني: ومِن المنافقين الكفار ﴿ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾ أي يستمع إلى حديثك - أيها النبي - ﴿ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ﴾ أي انصرفوا من مجلسك: ﴿ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾: أي قال هؤلاء المنافقون لمن حضروا مجلسك من أهل العلم بكتاب الله - على سبيل الاستهزاء -: ﴿ مَاذَا قَالَ آَنِفًا ﴾؟ يعني ماذا قال محمد قبل قليل؟ (يشيرون بذلك إلى أنهم لم يكونوا مهتمين بحديثه صلى الله عليه وسلم) ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ أي ختم على قلوبهم، فلا تفهم الحق ولا تهتدي إليه، ﴿ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ في الكفر والضلال،﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا ﴾ يعني: وأما الذين اتَّبَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من الحق، ولم يتَّبعوا أهوائهم: ﴿ زَادَهُمْ ﴾ الله ﴿ هُدًى ﴾ ليَثبتوا على الحق ﴿ وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾: أي وفقهم للتقوى، ويَسَّرها لهم، فحَبَّبَ إليهم الطاعات، وكَرَّهَ إليهم المعاصي.

الآية 18: ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ﴾ يعني فهل ينتظر هؤلاء المكذبون إلا القيامة التي وُعدوا بها ﴿ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ﴾ أي فجأةً﴿ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ أي حين تأتي شروط الساعة وعلاماتها الكبرى، وساعتها سيؤمنون؟!، (ولَعَلّ الله تعالى عَبَّرَ عن مَجيئ علامات الساعة الكُبرَى بصيغة الماضي - مع أنها لم تأتِ بعد - لتأكيد وقوعها في عِلمه سبحانه)، ﴿ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴾: يعني فمِن أين لهم التذكر - الذي ينفعهم - إذا جاءتهم الساعة؟! (إذ حِينها يُغلَق باب التوبة).

♦ وقد قال بعض المُفسِّرين بأن المقصود مِن قوله تعالى: ﴿ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ﴾أي جاء بعض شروط الساعة، وهي بعثة محمد عليه الصلاة والسلام وانشقاق القمر، واللهُ أعلم.

الآية 19: ﴿ فَاعْلَمْ ﴾ أيها النبي ﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ أي لا معبود بحق إلا الله، فاعبده وتوكل عليه ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ مِمّا عاتَبَكَ فيه ربك ﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ أي استغفر للمؤمنين والمؤمنات ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ﴾: أي يعلم تصرفكم في يقظتكم نهارًا ﴿ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ أي يعلم مستقركم في نومكم ليلاً، (فهو سبحانه يراكم ويعلم حالكم في كل ساعةٍ مِن ليلٍ أو نهار، ألاَ فاخشوه واحذروا أن يراكم على معصية، حتى تفوزوا برضاه في جنات النعيم)، (واعلم أن قوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ فيه دليل على وجوب العلم قبل القول والعمل)، واعلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:(مَن استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كَتَبَ الله له بكل مؤمن ومؤمنة حَسَنة) (انظر صحيح الجامع حديث: 6026)، فاللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.

الآية 20، والآية 21: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ - مُتَمَنّين الجهاد، شوقاً لِمَا أعَدّه الله للمجاهدين في الجنة -: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ﴾: يعني هَلاّ نُزِّلت سورة من الله تأمرنا بجهاد الكفار، ﴿ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ﴾ يعني لم يُنسَخ شيءٌ من أوامرها ونواهيها، بل جَعَلتْ الجهادَ فرضاً عليهم لا يتبدل ﴿ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ﴾ أي ذُكَرَ الله فيها الأمر بالجهاد والترغيب فيه: ﴿ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ أي الذين في قلوبهم شَكٌّ وضَعفٌ في الإيمان﴿ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ﴾ أيها النبي - وهم خائفون من القتال - ﴿ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ أي كنَظَر المحتضر الذي يصيبه الإغماء خوفاً من الموت، ﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ ﴾: يعني فالأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض أن يطيعوا أمْرَ الله تعالى، ﴿ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾: يعني وأن يقولوا قولاً حسناً، كأن يقولوا للرسول: (سمعنا وأطعنا)، ﴿ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ ﴾: يعني فإذا وَجَبَ أمْر الله بفرض القتال عليكم: كَرِهَوا القتال، ﴿ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ ﴾ يعني لو وَفّوا بما عاهدوا اللهَ عليه من أنهم سيقاتلون مع رسوله ﴿ لَكَانَ ﴾ الوفاءُ بالعهد ﴿ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ في الدنيا والآخرة.

الآية 22، والآية 23: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ بعمل المعاصي ونَشْر الشِرك والفساد ﴿ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ فلا تصلوا أقاربكم المؤمنينَ الصادقين، بل تُعلِنوا الحرب عليهم ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ﴾ أي أبعدهم الله من رحمته ﴿ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾: أي جعلهم لا يَسمعون ما ينَفعهم ولا يُبصرون حُجَج الله مع كثرتها.

♦ وقد قال صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: (لا يدخل الجنة قاطع) أي قاطع رحم، وقال أيضاً - كما في الصحيحين -: (مَن سَرّهُ أن يُبسَط له - (أي يُوَسَّع له) - في رزقه، ويُنسَأ له - (أي يُؤخَّر له) - في أجَله: فليَصِل رَحِمَه)، (وقد وَضَّحنا معنى تأخير الأجل عند تفسير الربع الأخير من سورة الرعد، فراجِعه إن شئت).

الآية 24: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ ﴾: يعني أفلا يتفكرون في أدلة القرآن ومواعظه، ليعرفوا الحق من الباطل، ويفعلوا ما يَنفعهم، ويَجتنبوا ما يَضُرّهم؟! ﴿ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ يعني بل قلوبهم مغلَقة لا يصل إليها شيء من هذا القرآن، فلا تتدبر مواعظ الله وحُجَجه (والله سبحانه هو الذي يفتح لهم تلك الأقفال، إذا طلبوا منه الهداية بصدق، وتخلّوا عن أهوائهم وشهواتهم).

الآية 25، والآية 26: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ ﴾ أي ارتدُّوا عن الهدى والإيمان ورجعوا على أعقابهم كفارًا ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ﴾ واتضح لهم الحق: ﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ﴾ أي حَسَّنَ لهم نفاقهم ﴿ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ أي مَدَّ لهم في الأمل - فوعدهم بطول العمر - ليُجَرئهم على الكفر والمعاصي، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ذلك الإضلال ﴿ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ ﴾: أي بسبب أنهم قالوا لليهود والمُشرِكون الذين كرهوا القرآن: ﴿ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ﴾ (بأنْ نتعاون معكم على عداوة الرسول وترغيب المؤمنين في التخلف عن الجهاد)، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾أي يعلم ما يتحدثون به سراً مع اليهود والمُشرِكين، ويعلم ما يخفونه في نفوسهم، فأظهرَ الله ذلك لرسوله.

الآية 27، والآية 28: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ يكون حالهم ﴿ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ أي قبضتْ أرواحهم، وهم ﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ أي يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد؟،﴿ ذَلِكَ ﴾ العذاب الذي أصابهم ﴿ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ﴾ أي بسبب أنهم فعلوا ما أغضب الله عليهم من الشِرك والمعاصي، ﴿ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ ﴾ يعني: وبسبب أنهم كرهوا أن يفعلوا ما يُرضِي اللهَ عنهم من العمل الصالح (ومِن ذلك: كُرههم لقتال الكفار بعدما فرضه الله عليهم) ﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾:يعني فأبطل الله ثواب أعمالهم الحسنة (كصِلة الرَحِم وإطعام الطعام وغير ذلك).

الآية 29، والآية 30: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ يعني أم ظن هؤلاء المنافقون ﴿ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴾يعني هل ظنوا أن الله لن يُخْرِج ما في قلوبهم من الحسد والحقد للإسلام وأهله؟! بلى، سيُظهره سبحانه للناس، لأنه يُميّز الصادق من الكاذب، ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ ﴾ يعني: ولو نشاء لأريناك أيها النبي أشخاص هؤلاء المنافقين ﴿ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ﴾ أي فحينئذٍ ستعرفهم بعلاماتٍ ظاهرة فيهم، ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾: أي سوف تعرفهم فيما يَظهر من كلامهم الدالّ على نواياهم السيئة وعداوتهم للمسلمين والذم فيهم (ولحن القول: هو ما يُفهَم من الكلام بالتعريض والتلميح والإشارة، ويُطلَق أيضاً على الخطأ أثناء الكلام) ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ - أيها الناس - فلا تَخفَى عليه طاعة مَن أطاعه، ولا معصية مَن عصاه، وسيَجزي كُلاً بما يَستحق.

الآية 31: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾: أي سوف نختبركم أيها المؤمنون بالشدائد والقتال ﴿ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ ﴾ أي حتى يَظهر للناس ما عَلِمناه في قديم الأزل؛ لنميز أهل الجهاد منكم ﴿ وَالصَّابِرِينَ ﴾ على قتال أعداء الله، ﴿ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ يعني: ونُظهِر أخباركم للناس (أي نختبر صحة ما تخبرون به عن أنفسكم من الإيمان والطاعة).

♦ وقد كان أحد الصالحين يقولُ - مناجياً ربه -: (اللهم لا تَبتَلِنا، فإنك إذا بَلَوتنا: فضحتَنا وهتكتَ أستارنا).

الآية 32: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بوحدانية اللهِ تعالى ونُبُوَّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي منعوا الناسَ عن الدخول في سبيل الله (وهو الإسلام) ﴿ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ﴾: أي خالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فحاربوه ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ﴾ أي من بعد ما جاءتهم الحُجَج والآيات أنه نبي من عند الله، فهؤلاء ﴿ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ﴾ بأفعالهم،بل إنّ ضَرَرها سيَعودُ عليهم ﴿ وَسَيُحْبِطُ ﴾ الله ﴿ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي سيُبْطِل ثواب أعمالهم التي عملوها في الدنيا، لأنها لم تكن عن إيمان، ولأنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى.

الآية 33: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ﴾ باتّباع كِتابه ﴿ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ باتّباع سُنته ﴿ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾: أي لا تبطلوا ثواب أعمالكم بالرياء والشِرك والمعاصي، وبأداء الأعمال على غير النحو الذي شَرَعه الله لكم.

الآية 34: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي صَدُّوا الناسَ عن الإسلام (بالتعذيب والتخويف ونشر الأكاذيب الباطلة)﴿ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ ﴿ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾(وسيُعَذّبهم على كُفرهم).

الآية 35: ﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ﴾ يعني: ولا تبدأوا بدعوتهم إلى الصُلح والمُسالَمة على سبيل الخوف منهم وإظهار العجز أمامهم ﴿ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ﴾ أي طالما أنكم الغالبونَ لهم، بل هم الذين يطلبونَ منكم الصُلح ﴿ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ﴾ بنصره وتأييده ﴿ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾: يعني لن يُنْقصكم ثواب أعمالكم.

الآية 36، والآية 37: ﴿ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ أي تلهو بها القلوب وتلعب بها الأبدان (لِما فيها من الزينة والشهوات)، ثم تزول سريعًا، ﴿ وَإِنْ تُؤْمِنُوا ﴾ بالله ورسوله، ﴿ وَتَتَّقُوا ﴾ عذابَ ربكم (بأداء فرائضه واجتناب معاصيه): ﴿ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ﴾ أي يُعطكم ثواب أعمالكم كاملاً، بل ويَزيدكم من فضله ﴿ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴾: أي لا يسألْكم سبحانه إخراج جميع أموالكم، بل يأمركم بالإنفاق في سبيله بقدر طاقتكم، فإنه ﴿ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا ﴾ يعني إن يسألكم إخراج جميع أموالكم ﴿ فَيُحْفِكُمْ ﴾ أي يُلِحَّ عليكم في إخراجها، فحينئذٍ ﴿ تَبْخَلُوا ﴾ بها، فلا تخرجونها ﴿ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ﴾ يعني: ويُظهِر سبحانه ما في قلوبكم من الكراهية لهذا التكليف الذي يأمركم بإخراج جميع أموالكم (بسبب حُبُّكم الشديد للمال)، ولكنه سبحانه رَحِمَكم فلم يأمركم بذلك.

الآية 38: ﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ ﴾ أيها المؤمنون ﴿ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: أي يدعوكم الرسول إلى النفقة لجهاد أعداء الله ونُصرة دينه، ﴿ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ﴾ بالنفقة في سبيل الله، ﴿ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ لأنه يَحرمها ثواباً عظيماً، ﴿ وَاللَّهُ ﴾ هو ﴿ الْغَنِيُّ ﴾ عنكم وعن مالكم ﴿ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ﴾ المحتاجونَ إليه في كل أموركم، ولا تستغنون عنه طرفة عين، ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا ﴾: يعني إن تعرضوا عن امتثال أمْره: ﴿ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾: أي يُهلككم، ويأت بقوم آخرين ﴿ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ أي لا يكونوا مِثلكم في الإعراض عن أمْره، بل يطيعونه ويطيعون رسوله، ويجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم.
 



[1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن