مفهوم التغيير في القرآن الكريم
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
لا غرْو أنَّ الوحْي نسق من المفاهيم، ولا سبيلَ إلى فقه هذا النسق أو المفاهيم المكوِّنة له بغير دراسة ألفاظ ومصطلحات القرآن الكريم .فالدراسة المصطلحيَّة لألفاظ القُرآن الكريم هي مفتاح الوصول إلى ما نزَل على الرسول صلَّى الله عليْه وسلَّم.
وتُطْلَق الدراسة المصطلحيَّة ويراد بها: ذاك البحث في المصطلح القُرآني؛ لمعرفة واقعِه الدلالي، من حيث مفهومُه وخصائصه المكوِّنة له، وفروعه -أي: اشتقاقاته- المتولِّدة عنْه ضمن مجاله العلمي المدروس به[1].
وبصورةٍ أكثر توْضيحًا: هي استِخراج اصطِلاحات نصٍّ من نصوص علمٍ ما، وتحليل استِعْمالاتها ثمَّ تعليل معانيها، وتصنيفها بحسب شواهد النَّصِّ نفسه؛ من أجل تعريف المفاهيم التي تدلُّ عليها تلك المصطلحات[2].
وجامع التَّعريفَين: أنَّ الدِّراسة المصطلحيَّة لألفاظ القرآن الكريم هي: إحصاء المصطلح شكلاً وحجْمًا واشتِقاقًا، وجرْد التَّراكيب الَّتي ورد ضمْنها هذا المصطلح، مع تعداد القضايا المندرِجة تحت مفهومه.
ومن المصطلحات التي تعدَّد ذكرُها في القرآن الكريم: مصطلح التغْيير:
فهذا المصطلح اختلف مفهومُه وتبايَن معناه بتباين مظانه في النَّصِّ القرآني؛ إذ نجِده تارة يُفيد معنى باشتِقاقٍ معيَّن، ونألفُه تارةً أُخرى يستدلُّ به على مدلول آخَر باشتِقاق مختلف عن الأوَّل.
ويَحسن بنا قبل معرفة دلالة التَّغْيير في القرآن الكريم أن نعرف مدارَ مادة (غَيَّرَ) ومعناها في اللغة.
الدلالة المعجميَّة اللغوية للفظ التغيير:
تدور مادَّة (غَيَّرَ) في اللُّغة على أصليْن، هما:
•إحْداث شيء لم يكن قبلَه.
•انتِقال الشيء من حالةٍ إلى حالة أخرى[3].
فمن الأصل الأول: (غَيَّرَه): جَعَلَه غَيْرَ ما كَانَ، و(غَيَّرَه): حَوَّلَهُ وبَدَّلَهُ.
ومن الأصل الثاني: (الغِيَر)؛ أَي: تَغَيُّر الحال وانتقالها من الصلاح إِلى الفساد[4].
وجاء في "النهاية" في حديث الاستِسْقاء: «مَن يَكْفُرِ اللَّهَ يَلْقَ الغِيَر»، والغِيَر: الاسْم من قولك: غَيَّرت الشيء فَتَغيَّر[5].
وفي حديث جرير بن عبدالله: أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِن قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقْدرون أن يغيِّروا فلا يغيرون، إلاَّ أصابَهم الله بعقاب»؛ سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنَّهي.
قال الزجَّاج: معنى "يغيِّرون"؛ أي: يدفعون ذلك المنكر بغيره من الحقِّ[6].
موارد لفظ التغيير في القرآن الكريم:
وقد ورد مفهوم (التغْيير) في القرآن الكريم في أربعة مواضع، موزَّعة على أربع سور مدنيَّة النزول، بالاشتقاقات التالية:
• (يُغَيِّرُنَّ) في سورة النساء الآية 119.
• (يُغَيِّرُ) في سورة الرعد الآية 11.
• (يُغَيِّرُوا) تكرَّرت في سورتَين: الأولى في الأنفال الآية 53، والثَّانية في الرَّعد الآية 11.
• (يَتَغَيَّرْ) في سورة محمَّد الآية 15.
ويقود التدبُّر العميق لكلِّ موارد لفْظ التَّغْيير في القُرآن الكريم، إلى مجموعة من المعاني يُمكن ترْصيفُها في الوحدات الدلاليَّة التَّالية:
1- تغْيير خلْق الله:
قال تعالى: {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119].
فهذه الآية جاءت في معرض حديثه -تعالى- عن غَواية إبليس - لعنه الله - لعباد الله ودعائِه إيَّاهم إلى طاعته، وتزْيينه لهم الضلالَ والكفرَ حتَّى يزيلهم عن منهج الطَّريق، ومن معاريضِه - لعنه الله - أمْره للعباد بتغيير خلق الله.
وقد اختلف العلماء في هذا التَّغْيير إلى أقوال، أبرزها:
أ- تغْيير دين الله:
وذلك أنَّ آية النِّساء تتناصُّ مع قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].
وتغْيير دين الله له وجهان:
•الوجه الأوَّل: أنَّ الله -تعالى- فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجَهم من ظهر آدم كالذَّرّ، وأشهدَهم على أنفسهم أنَّه ربُّهم وآمنوا به، فمَن كفر فقد غيَّر فطرة الله التي فطر النَّاس عليْها، وهذا معنى قولِه -صلى الله عليه وسلم-: ((ما مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ يُولَدُ على الفِطْرةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِه ويُنَصِّرَانِه ويُمَجِّسَانِه))[7].
•الوجه الثاني: أنَّ المراد من تغْيير دين الله هو تبْديل الحلال حرامًا والحرام حلالاً[8].
ب- تغْيير الصفات الحسِّيَّة للخلق:
فقوله تعالى: { وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}: هو التَّغيير المتعلِّق بالظَّواهر الحسِّيَّة للخلْق، وذكر العلماء من ذلك:
•التخنُّث والترجُّل، فقال ابن زيد: التغيُّر التخنث، وقال الفخر: يَجب إدْخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول؛ لأنَّ التخنُّث عبارة عن ذكَر يشبه الأنثى، والسحق عبارةٌ عن أُنثى تشبه الذَّكر.
•الإخْصاء وبتْر العيون وشقّ الآذان؛ فقد رُوِي عن أنسٍ وشهْر بن حوشب وعكْرمة وأبي صالح: أنَّ معنى تغْيير خلق الله هاهنا هو: الإخْصاء، وقطْع الآذان وفقْء العيون؛ ولهذا كان أنسٌ يكْره إخصاء الغنم، وكانت العرب إذا بلغتْ إبِل أحدِهم ألفًا عوَّروا عين فحلِها.
•الوصْل والنمص والوشم، قال الحسن: المراد ما رَوى عبدالله بن مسعود عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصِلات والواشِمات»، قال: وذلك لأنَّ المرأة تتوصَّل بهذه الأفعال إلى الزنا [9].
2- تغْيير نعمة الله:
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
وظاهر النِّعمة: أنَّه يرادُ بها ما يكون فيه العِباد من سَعة الحال والرَّفاهية والعزَّة والتَّمكين والخصب.
فتتغيَّر هذه الأحوال بإزالة الذَّات، وقد يكون بإزالة الصفات، فقد تكون النعمة أذهبتْ رأسًا وقد تكون قلِّلت وأضْعِفت.
وسبب ذهاب هذه النعم وتغيُّرها راجع إلى:
• "إنَّهم قابلوا النِّعم بالكفر والفسوق والعصيان، فلا جرَم استحقُّوا تبْديل النعم بالنِّقَم، والمِنَح بالمِحَن"[10].
•وزاد ابن عطية (ت542) -كعادتِه- الآية توضيحًا، فقال: "تغيير ما أُمِروا به من طاعة الله، تغْيير إمَّا منهم وإمَّا من النَّاظر لهم، أو ممَّن هو منهم بسبب، كما عبَّر -تعالى- بالمنهزِمين يوم أحُد بسبب تغْيير الرُّماة ما بأنفسهم"[11].
•وذهب الفخر الرازي (ت606) إلى أنَّه -تعالى- أنعم عليْهم بالعقل والقدرة، وإزالة الموانع وتسهيل السبل، فإذا صرفوا هذه الأحْوال إلى الفسق والكفْر، فقد غيَّروا نعمة الله تعالى على أنفُسِهم[12].
•وذهب الطاهر بن عاشور (ت1393) إلى مثله فقال: "فتغْيير النعمة إبدالُها بضدِّها وهو النقمة وسوء الحال؛ أي: تبديل حالة حسنة بحالة سيئة...
والمراد بهذا التَّغْيير: تغيير سببه، وهو الشُّكْر بأن يبدلوه بالكفْران"[13].
ويشهد لما قيل ما أخرجه ابن أبي شيْبة، من طريق وهب بن منبه قال: أوحى الله إلى بعض أولِيائه: "إنِّي لم أحلَّ رضواني لأهل بيتٍ قطُّ، ولا لأهل دارٍ قطُّ، ولا لأهل قريةٍ قطُّ، فأحول عنهم رضواني حتَّى يتحوَّلوا من رضواني إلى سخطي، وإني لم أحلَّ سخطي لأهل بيتٍ قطُّ، ولا لأهل دارٍ قطُّ، ولا لأهل قريةٍ قطُّ، فأحول عنهم سخطي حتَّى يتحوَّلوا من سخطي إلى رضواني"[14].
3- تغيير ما بأنفس القوم:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وهذه الآية جاءت بعد أن ذَكَر -سبحانه- إحاطة علْمِه بالعباد وأنَّ لهم معقِّبات -ملائِكة- يحفظونهم؛ فقال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
فكلام جَميع المفسِّرين يدلُّ أنَّ المراد: لا يغيِّر ما هم فيه من النِّعم بإنزال الانتقام.
فتغْيِير ما بالأنفُس -القوم- يراد به تغْيير ما بها من الأعمال والأحْوال والأخلاق، التي كان عليْها العباد وقت ملابستِهم بالنعمة، واتَّصفوا بعد ذلك بما ينافيها بكفْران نعم الله -تعالى- وغمط إحسانِه وإهمال أوامره ونواهيه.
قال الإمام ابن تيمية (ت 728): "هذا التَّغيير نوعان:
أحدهما: أن يُبْدوا ذلك فيبقى قولاً وعملاً يترتَّب عليه الذَّمُّ والعقاب.
والثَّاني: أن يغيِّروا الإيمان الذي في قلوبهم بضدِّه من الرَّيب والشَّكّ والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر الله به ورسوله، فيستحقُّون العذاب هنا على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور، وكذلك ما في النفس ممَّا يناقض محبَّة الله، والتوكُّل عليه، والإخلاص له، والشُّكر له، يعاقب عليه؛ لأنَّ هذه الأمور كلها واجبة، فإذا خلا القلب عنها، واتَّصف بأضدادها، استحقَّ العذاب على ترك هذه الواجبات، وبهذا التَّفصيل تزول شُبَه كثيرة، ويحصل الجمع بين النصوص، فإنَّها كلَّها متَّفقة على ذلك"[15].
وقال صاحب الظلال (ت 1387): "لا يغير نعمةً أو بؤسًا، ولا يغيِّر عزًّا أو ذلَّة، ولا يغير مكانةً أو مهانة...
إلاَّ أن يغيِّر الناس...
وبعْد تقرير المبدأ يبرز السِّياق حالة تغْيير الله ما بقومٍ إلى السوء...
لأنه في معرض الذين يستعْجِلون بالسيِّئة قبل الحسنة"[16].
الكاتب: د.
عبد الحكيم درقاوي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المصطلح الأصولي عند الشاطبي، فريد الأنصاري (1 /51)، أطروحة مرقونة.
[2] ورقة عمل الأستاذ إدريس الفاسي الفهري، ضمن دورة: نحو منهجيَّة للتعامل مع التراث الإسلامي، الَّتي نظمها معهد الدراسات المصطلحيَّة والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 235، مطبعة النَّجاح الجديدة، البيضاء، المغرب.
ط1، 2000.
[3] التعريفات، الجرجاني، باب التاء، مادة (التغيير - التغير).
[4] لسان العرب، ابن منظور، حرف الراء مادَّة (غير).
•تاج العروس من جواهر القاموس، مرتضى الزبيدي، باب الرَّاء، مادة (غير).
[5] النهاية في غريب الحديث والأثر، أبو السعادات الجزري، حرف العين المعجمة، (باب الغين مع الراء).
[6] للتوسع أكثر انظر: تهذيب اللغة للأزهري، مادة (غير) ج 3 /98.
[7] متفق عليه، واللفظ لمسلم.
[8] جامع البيان في تأويل القرآن، للإمام الطبري (5 /183)، دار المعرفة بيروت، ط 3، 1398هـ / 1978 م.
• تفسير الفخر الرَّازي المشتهر بـ " التفسير الكبير ومفاتيح الغيب"، للإمام محمد الرَّازي فخر الدين (11 /49 - 50)، دار الفكر بيروت، 1404هـ / 1994 م.
•تفسير البحر المحيط، لأبي حيَّان محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي (3 /354)، دار الكتاب الإسلامي القاهرة، ط 1، 1413هـ / 1992 م.
•معالم التنزيل، لأبي محمد الحسين بن مسعود الفرَّاء البغوي (1 /482)، تحقيق خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة، بيروت ط 2 1407هـ / 1987م.
[9] مفاتيح الغيب، (11 /49 - 50).
[10] غرائب القرآن ورغائب القرآن، بهامش "جامع البيان" للطبري أعلاه، لنظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمِّي النيسابوري (ت 406) (10 /14).
[11] التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور (10 /45)، الدار التونسية للنشر 1984.
[12] مفاتيح الغيب، (13 /187).
[13] التحرير والتنوير (10 /45).
[14] مصنف بن أبي شيبة، رقم الحديث 47 ج 8 /303.
[15] مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (14 /109)، جمع وترتيب عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، مجلدات التفسير، طبعه خادم الحرمَين الشريفين بإشراف المكتب العلمي السعودي بالمغرب.
[16] في ظلال القرآن، لسيد قطب (5 /78)، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط 7، 1391هـ / 1971م.