سورة النساء - الآية [144]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

النداء السابع والعشرون من نداءات الرحمن لأهل الإيمان في الآية الرابعة والأربعين بعد المائة من سورة النساء: يقول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا[النساء:144].

هذه الآية ناطقة بما دلت عليه آيات أخرى من القرآن، كقول ربنا الرحمن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ[المائدة:51] وكقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ[الممتحنة:1]، وقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ[المائدة:57]، وقول الله عز وجل: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران:28].

إن الله عز وجل ينادي المؤمنين في هذه الآية بألا يتخذوا الكافرين أعواناً ونصراء من دون المؤمنين، سواء كان كفرهم كفر شرك، أو كفر عناد ومكابرة، أو كفر نفاق؛ لأن الكفر في النهاية ملة واحدة، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[الأنفال:73] ويمكن أن يراد بالكافرين في هذه الآية مشركو مكة، ويمكن أيضاً أن يراد بهم أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة من اليهود، ويمكن أيضاً أن يراد بهم المنافقون من أمثال عبد الله بن أبي ابن سلول وأقرانه.

يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ))، ثم يوجه ربنا جل جلاله سؤالاً: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا )) أي: أتريدون يا من تتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أن تجعلوا لله حجة بينة في إنزال عقوبته بكم وتمكينه بكم أو أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة في أن يسلط هؤلاء الكافرين عليكم بذنوبكم بعد ما اتخذتموهم أولياء؟!

من صور اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين

إن اتخاذ الكافرين أولياء قضية لها صور في واقعنا المعاصر من الذين ينتسبون إلى الإسلام في الجملة سواء كانوا من الحكام أو المحكومين، إن اتخاذ الكافرين أولياء لها صور وأشكال ينبغي لكل واحد منا أن يحتاط لئلا يقع فيها، فمن هذه الصور: الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة، فمن رضي بكفر الكافر، أو شك في كفره، أو صحح دينه ومذهبه فقد والاه من دون المؤمنين.

ونحن الآن نجد فئاماً من المسلمين لا يعتقدون كفر اليهود والنصارى، بل يعتقدون أنهم في جملة أهل الإيمان، وأن الواحد منهم يمكن أن يصل إلى الجنة، وأنهم في النهاية يعبدون الله، فإذا كان المسلم يعبد الله في المسجد فذاك يعبد الله في الكنيسة أو الكنيس، وإذا كان المسلم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فذاك يتبع عيسى أو موسى، هكذا يعتقد بعض الأغرار من المسلمين مثل هذه العقيدة الباطلة، وما علم هؤلاء أن هذا من نواقض الإيمان؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه لا يقبل إلا الإسلام قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل النار) فهذه القطعيات الواضحات صارت عند كثير من الناس مبهمات.

ومن صور الموالاة ومظاهرها: اتخاذ الكافرين أعواناً وأنصاراً وأولياء، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51]. قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله: صح أن قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51] إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين.

ومن صور المولاة: الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله، كما قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا[النساء:51].

ومما هم عليه من الكفر تلك المقولة التي شاعت عند الكفار: لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين، أو مقولة: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فإنك تجد بعض المسلمين يردد هذه المقولة، وقد ارتضاها واستبطنها واعتقد أن لله عز وجل المسجد، وشهر رمضان، وموسم الحج، أما بعد ذلك فحياتنا نسيرها كيفما نشاء وكيفما نريد، وهذا هو مبدأ فصل الدين عن الدولة، فكثير من الناس الآن ينادي بأن تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات دون النظر إلى الدين، بمعنى أننا لا ننظر هل هذا مسلم أو كافر ولا اعتبار لذلك، فإذا كان مواطناً فالمواطنة هي أساس الحقوق والواجبات، ويرددون هذا الكلام سراً وعلانية، بل صار ذلك عند كثير من الناس من الأمور المسلمة، وهذا مما يناقض قول الله عز وجل: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[القلم:35-36]، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ[السجدة:18]، فلو كان هناك مسلمان أحدهما بر والآخر فاجر فإنهما لا يستويان، ناهيك أن يكون أحدهما مؤمناً موحداً لله عز وجل، والآخر كافراً مشركاً بالله عز وجل.

ومن صور الموالاة: مودتهم ومحبتهم، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ ..[المجادلة:22]، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن الإيمان ينافي موادته كما ينافي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب، وأن قلبه خال من الإيمان.

وقال بعض العلماء المعاصرين: ومن مظاهر ذلك: أن الواحد منهم إذا لقي الكافر حياه، ووضع يده على صدره وقلبه، كأنه يقول له: مكانتك في القلب! أو وضع يده على رأسه كأنه يعني مكانتك فوق الرأس.

ومن مظاهر موالاة الكافرين: مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين، قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[القلم:9] وهذا كثير، فإنك تجد بعض الناس إذا جلس مع الكفار ينكر بعض مسلمات الدين أو يتنازل عنها، سواء كانت متعلقة بتشريع الجهاد، أو ببعض التشريعات من السياسة الشرعية كالجزية مثلاً، أو ببعض التشريعات المتعلقة بالمرأة، أو العلاقات الدولية كمعاملة الكفار، فتجده ينكر ذلك كله، حتى تكلم بعض الناس وكان وزيراً للتعليم في بعض البلاد لما بدأ الأمريكان يطالبون بتغيير المناهج لئلا تفرخ الإرهاب كما زعموا، قال هذا الوزير: أنا لما كنت وزيراً شكلت لجنة لحذف الآيات التي تحض على كراهية الآخر!

وذلك كقول الله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) ومثيلاتها، فلو حذفها من المنهج ماذا سيصنع بالمصاحف وهي باقية؟ ولو حذفها من المصاحف ماذا سيصنع بها وهي في صدور المسلمين يقرءونها بالليل والنهار؟ فتجد بعض الناس -والعياذ بالله- يتفوه بالكفر وهو لا يدري!

ومن مظاهر موالاتهم: طاعتهم فيما يأمرون به ويشيرون، وهذا الآن كثير، فإذا أمر أعداء الله عز وجل بأمر فإنك تجد كثيراً من المسلمين يتبارون ويتسابقون ويتنافسون في تنفيذ إشاراتهم، وجعل أوامرهم واقعاً، وقد قال الله عز وجل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف:28]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران:100]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149] هذا منطوق القرآن.

ومن مظاهر موالاتهم: مجالستهم والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله، يقول الله عز وجل: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)[النساء:140] أي: في الكفر، إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[النساء:140].

زار الرئيس الأمريكي السابق بعض البلاد قبل سنة أو أكثر، وتكلم بأن المسلمين يجب عليهم أن يسمحوا للنساء بقيادة السيارات، وأن أكثر العلماء لا يمنعون المرأة أن تقود السيارة، وهذا أهون من أن تركب مع السائق الأجنبي الذي ليس بزوج ولا محرم ثم إن هذا الإنسان قال: إن المرأة يجب أن يسمح لها، ولا يعترض على ذلك أحد من علماء الدين، ولو كان النبي محمداً موجوداً لسمح لزوجاته بقيادة السيارات، بل لفتح وكالة سيارات، قال هذا الكلام والجلوس أكثرهم مسلمون يضحكون ويصفقون والعياذ بالله، وقد رد عليه بعض العلماء وسخروا منه وقالوا: هذا المسكين يتصور القضية على غير وجهها، ولو كان كلام كلنتون صحيح -وهو شيطان وليس بشيخ- لقال العلماء المعارضون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من قيادة السيارات وهم لم يقولوا ذلك أبداً، وإنما يستدلون بأمور معينة درءاً للفتنة وسداً للذريعة، وغير ذلك من المسوغات التي يذكرونها.

ومن مظاهر موالاتهم أيضاً: الرضا بأعمالهم والتشبه بهم، ومثال ذلك: الأعياد التي ستأتي بعد شهر والتي تسمى أعياد الكرسمس أو أعياد الميلاد، وبعدها أعياد رأس السنة، وتجد كثيراً من المسلمين ينتظرونها ويسأل بعضهم بعضاً: أين ستقضي فترة العيد؟ وبعضهم يهنئ بعضاً بقوله: كل سنة وأنت طيب، بل أحياناً يأتي أحدهم في صلاة الصبح ويقول للآخر: الصبح كل سنة وأنت طيب! في يوم الكرسمس أو في يوم شم النسيم، أو شم الفسيخ كما يسمونه. يهنئ بعضهم بعضاً بعيد من أعياد الكفار، وفي هذا دلالة على تمييع الشخصية، وعدم وضوح الوجهة.

ومن مظاهر موالاتهم: البشاشة معهم والطلاقة، وانشراح الصدر لهم وإكرامهم وتقريبهم، وكون الإنسان يبش لهم وينشرح صدره لهم، وينطلق معهم ويكرمهم ويقربهم، هذا كله من مظاهر الموالاة.

ومن مظاهر الموالاة: معاونتهم ونصرتهم على ظلمهم، وهذه القضية يشغبون بها كثيراً في العراق؛ لأن أحد المسلمين قُتل لأنه متعاون مع الصليبيين الكفار، ولا فرق بين من يتعاون مع الأمريكان في العراق، ومن يتعاون مع اليهود في فلسطين؛ لأن يهود فلسطين والأمريكان كفار، والكفر ملة واحدة، فهؤلاء معتدون وهؤلاء معتدون، وهؤلاء ظلمة محتلون وهؤلاء ظلمة محتلون، لا فرق بينهم، فالمسلم الذي يتعاون معهم، ويدلهم على عورات المسلمين، ويتجسس عليهم لمصلحة هؤلاء الكفار الغاصبين، لاشك أن حكمه حكمهم: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51].

أيضاً من مظاهر الموالاة التي ينبغي أن ننتبه لها وننقلها لمن وراءنا: السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم، وقد روى أبو داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله) وروى الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط البخاري ، ووافقه الذهبي : (لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن جامعهم أو ساكنهم فليس منا)، فلو أن السفارة الأمريكية أعلنت الآن عن فتح باب الهجرة تجد الطوابير الطويلة تقف، وكل منهم يحرص على أن ينال الأوراق، بل بعضهم يأتي ويبشر الآخر بأنه والحمد لله قد حصل على ذلك!

بل تجد أيضاً التآمر معهم وتنفيذ مخططاتهم، وليس ذلك في الأمور العسكرية فقط، بل في الأمور التعليمية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو غير ذلك من نواحي الحياة التي يدار بها الشأن العام لأمة الإسلام، فكثير من الناس لا يبالي بأن يكون أداة في يدي هؤلاء الكفار.

ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك: الانخراط في الأحزاب التي تدعو إلى مبادئ كفرية كالشيوعية والعلمانية والقومية وما إلى ذلك من مبادئ تصادم القرآن والسنة وتصادم أصول الدين.

ما يستفاد من الآية

من فوائد هذه الآية: تمام عدل الله، وأنه سبحانه لا يعذب أحداً قبل قيام الحجة عليه.

ومن فوائدها: التحذير من المعاصي، فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطاناً مبيناً.

ومن فوائدها: تحريم موالاة الكافرين.

قال ابن كثير رحمه الله: موالاتهم مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة لهم.

ومن فوائد الآية: أن موالاة الكافرين دليل ظاهر وحجة بينة على النفاق.

إن اتخاذ الكافرين أولياء قضية لها صور في واقعنا المعاصر من الذين ينتسبون إلى الإسلام في الجملة سواء كانوا من الحكام أو المحكومين، إن اتخاذ الكافرين أولياء لها صور وأشكال ينبغي لكل واحد منا أن يحتاط لئلا يقع فيها، فمن هذه الصور: الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة، فمن رضي بكفر الكافر، أو شك في كفره، أو صحح دينه ومذهبه فقد والاه من دون المؤمنين.

ونحن الآن نجد فئاماً من المسلمين لا يعتقدون كفر اليهود والنصارى، بل يعتقدون أنهم في جملة أهل الإيمان، وأن الواحد منهم يمكن أن يصل إلى الجنة، وأنهم في النهاية يعبدون الله، فإذا كان المسلم يعبد الله في المسجد فذاك يعبد الله في الكنيسة أو الكنيس، وإذا كان المسلم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فذاك يتبع عيسى أو موسى، هكذا يعتقد بعض الأغرار من المسلمين مثل هذه العقيدة الباطلة، وما علم هؤلاء أن هذا من نواقض الإيمان؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه لا يقبل إلا الإسلام قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل النار) فهذه القطعيات الواضحات صارت عند كثير من الناس مبهمات.

ومن صور الموالاة ومظاهرها: اتخاذ الكافرين أعواناً وأنصاراً وأولياء، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51]. قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله: صح أن قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51] إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين.

ومن صور المولاة: الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله، كما قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا[النساء:51].

ومما هم عليه من الكفر تلك المقولة التي شاعت عند الكفار: لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين، أو مقولة: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فإنك تجد بعض المسلمين يردد هذه المقولة، وقد ارتضاها واستبطنها واعتقد أن لله عز وجل المسجد، وشهر رمضان، وموسم الحج، أما بعد ذلك فحياتنا نسيرها كيفما نشاء وكيفما نريد، وهذا هو مبدأ فصل الدين عن الدولة، فكثير من الناس الآن ينادي بأن تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات دون النظر إلى الدين، بمعنى أننا لا ننظر هل هذا مسلم أو كافر ولا اعتبار لذلك، فإذا كان مواطناً فالمواطنة هي أساس الحقوق والواجبات، ويرددون هذا الكلام سراً وعلانية، بل صار ذلك عند كثير من الناس من الأمور المسلمة، وهذا مما يناقض قول الله عز وجل: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[القلم:35-36]، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ[السجدة:18]، فلو كان هناك مسلمان أحدهما بر والآخر فاجر فإنهما لا يستويان، ناهيك أن يكون أحدهما مؤمناً موحداً لله عز وجل، والآخر كافراً مشركاً بالله عز وجل.

ومن صور الموالاة: مودتهم ومحبتهم، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ ..[المجادلة:22]، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن الإيمان ينافي موادته كما ينافي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب، وأن قلبه خال من الإيمان.

وقال بعض العلماء المعاصرين: ومن مظاهر ذلك: أن الواحد منهم إذا لقي الكافر حياه، ووضع يده على صدره وقلبه، كأنه يقول له: مكانتك في القلب! أو وضع يده على رأسه كأنه يعني مكانتك فوق الرأس.

ومن مظاهر موالاة الكافرين: مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين، قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[القلم:9] وهذا كثير، فإنك تجد بعض الناس إذا جلس مع الكفار ينكر بعض مسلمات الدين أو يتنازل عنها، سواء كانت متعلقة بتشريع الجهاد، أو ببعض التشريعات من السياسة الشرعية كالجزية مثلاً، أو ببعض التشريعات المتعلقة بالمرأة، أو العلاقات الدولية كمعاملة الكفار، فتجده ينكر ذلك كله، حتى تكلم بعض الناس وكان وزيراً للتعليم في بعض البلاد لما بدأ الأمريكان يطالبون بتغيير المناهج لئلا تفرخ الإرهاب كما زعموا، قال هذا الوزير: أنا لما كنت وزيراً شكلت لجنة لحذف الآيات التي تحض على كراهية الآخر!

وذلك كقول الله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) ومثيلاتها، فلو حذفها من المنهج ماذا سيصنع بالمصاحف وهي باقية؟ ولو حذفها من المصاحف ماذا سيصنع بها وهي في صدور المسلمين يقرءونها بالليل والنهار؟ فتجد بعض الناس -والعياذ بالله- يتفوه بالكفر وهو لا يدري!

ومن مظاهر موالاتهم: طاعتهم فيما يأمرون به ويشيرون، وهذا الآن كثير، فإذا أمر أعداء الله عز وجل بأمر فإنك تجد كثيراً من المسلمين يتبارون ويتسابقون ويتنافسون في تنفيذ إشاراتهم، وجعل أوامرهم واقعاً، وقد قال الله عز وجل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف:28]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران:100]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149] هذا منطوق القرآن.

ومن مظاهر موالاتهم: مجالستهم والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله، يقول الله عز وجل: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)[النساء:140] أي: في الكفر، إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[النساء:140].

زار الرئيس الأمريكي السابق بعض البلاد قبل سنة أو أكثر، وتكلم بأن المسلمين يجب عليهم أن يسمحوا للنساء بقيادة السيارات، وأن أكثر العلماء لا يمنعون المرأة أن تقود السيارة، وهذا أهون من أن تركب مع السائق الأجنبي الذي ليس بزوج ولا محرم ثم إن هذا الإنسان قال: إن المرأة يجب أن يسمح لها، ولا يعترض على ذلك أحد من علماء الدين، ولو كان النبي محمداً موجوداً لسمح لزوجاته بقيادة السيارات، بل لفتح وكالة سيارات، قال هذا الكلام والجلوس أكثرهم مسلمون يضحكون ويصفقون والعياذ بالله، وقد رد عليه بعض العلماء وسخروا منه وقالوا: هذا المسكين يتصور القضية على غير وجهها، ولو كان كلام كلنتون صحيح -وهو شيطان وليس بشيخ- لقال العلماء المعارضون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من قيادة السيارات وهم لم يقولوا ذلك أبداً، وإنما يستدلون بأمور معينة درءاً للفتنة وسداً للذريعة، وغير ذلك من المسوغات التي يذكرونها.

ومن مظاهر موالاتهم أيضاً: الرضا بأعمالهم والتشبه بهم، ومثال ذلك: الأعياد التي ستأتي بعد شهر والتي تسمى أعياد الكرسمس أو أعياد الميلاد، وبعدها أعياد رأس السنة، وتجد كثيراً من المسلمين ينتظرونها ويسأل بعضهم بعضاً: أين ستقضي فترة العيد؟ وبعضهم يهنئ بعضاً بقوله: كل سنة وأنت طيب، بل أحياناً يأتي أحدهم في صلاة الصبح ويقول للآخر: الصبح كل سنة وأنت طيب! في يوم الكرسمس أو في يوم شم النسيم، أو شم الفسيخ كما يسمونه. يهنئ بعضهم بعضاً بعيد من أعياد الكفار، وفي هذا دلالة على تمييع الشخصية، وعدم وضوح الوجهة.

ومن مظاهر موالاتهم: البشاشة معهم والطلاقة، وانشراح الصدر لهم وإكرامهم وتقريبهم، وكون الإنسان يبش لهم وينشرح صدره لهم، وينطلق معهم ويكرمهم ويقربهم، هذا كله من مظاهر الموالاة.

ومن مظاهر الموالاة: معاونتهم ونصرتهم على ظلمهم، وهذه القضية يشغبون بها كثيراً في العراق؛ لأن أحد المسلمين قُتل لأنه متعاون مع الصليبيين الكفار، ولا فرق بين من يتعاون مع الأمريكان في العراق، ومن يتعاون مع اليهود في فلسطين؛ لأن يهود فلسطين والأمريكان كفار، والكفر ملة واحدة، فهؤلاء معتدون وهؤلاء معتدون، وهؤلاء ظلمة محتلون وهؤلاء ظلمة محتلون، لا فرق بينهم، فالمسلم الذي يتعاون معهم، ويدلهم على عورات المسلمين، ويتجسس عليهم لمصلحة هؤلاء الكفار الغاصبين، لاشك أن حكمه حكمهم: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51].

أيضاً من مظاهر الموالاة التي ينبغي أن ننتبه لها وننقلها لمن وراءنا: السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم، وقد روى أبو داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله) وروى الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط البخاري ، ووافقه الذهبي : (لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن جامعهم أو ساكنهم فليس منا)، فلو أن السفارة الأمريكية أعلنت الآن عن فتح باب الهجرة تجد الطوابير الطويلة تقف، وكل منهم يحرص على أن ينال الأوراق، بل بعضهم يأتي ويبشر الآخر بأنه والحمد لله قد حصل على ذلك!

بل تجد أيضاً التآمر معهم وتنفيذ مخططاتهم، وليس ذلك في الأمور العسكرية فقط، بل في الأمور التعليمية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو غير ذلك من نواحي الحياة التي يدار بها الشأن العام لأمة الإسلام، فكثير من الناس لا يبالي بأن يكون أداة في يدي هؤلاء الكفار.

ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك: الانخراط في الأحزاب التي تدعو إلى مبادئ كفرية كالشيوعية والعلمانية والقومية وما إلى ذلك من مبادئ تصادم القرآن والسنة وتصادم أصول الدين.

من فوائد هذه الآية: تمام عدل الله، وأنه سبحانه لا يعذب أحداً قبل قيام الحجة عليه.

ومن فوائدها: التحذير من المعاصي، فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطاناً مبيناً.

ومن فوائدها: تحريم موالاة الكافرين.

قال ابن كثير رحمه الله: موالاتهم مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة لهم.

ومن فوائد الآية: أن موالاة الكافرين دليل ظاهر وحجة بينة على النفاق.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2636 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2573 استماع
سورة آل عمران - الآية [102] 2534 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2521 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2343 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2309 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2303 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2292 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2228 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2186 استماع