تفسير سورة الواقعة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصبحه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فقد سبق معنا الكلام في أن مقصود هذه السورة الأعظم هو: ذكر القيامة، وبيان الأدلة على أنها واقعة، وأنها حق لا ريب فيه؛ ولذلك يفتتح ربنا جل جلاله الكلام في هذه السورة المباركة بقوله: إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]، إذا: أداة شرط غير عاملة.

وهذه السورة إحدى سبع سور في القرآن بدأت بالشرط: إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]، إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ[المنافقون:1]، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]، إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1]، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، فهذه سبع سور في القرآن قد افتتحت بالشرط.

قال سبحانه: إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]، والواقعة هي: القيامة، ويدل على ذلك قول ربنا جل جلاله: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الحاقة:13-15].

والقيامة لها في القرآن الكريم نحواً من خمسين اسماً، والله عز وجل سماها: الواقعة، والحاقة، والصاخة، والطامة، وسماها كذلك بالقيامة، وسماها: بيوم الخلود، ويوم الخروج، ويوم الحسرة، وسماها كذلك: بيوم البعث، ويوم النشور، ويوم التناد، ويوم التلاق.. إلى غير ذلك من الأسماء.

والشيء كلما عظم شأنه كلما كثرت أسماؤه. وربنا جل جلاله أسماؤه كثيرة بعضها نعلمه وبعضها لا نعلمه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة )، وفي الدعاء أنه صلوات ربي وسلامه عليه كان يقول: ( أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك )، فعلم أن لله عز وجل أسماء قد استأثر نفسه جل جلاله بعلمها، لم يطلع عليها أحداً.

وكذلك لما كانت الجنة هي أعظم الدور، وأفضلها وأطيبها وأبركها كثرت أسماؤها، فتسمى: الجنة، وتسمى: عدناً، وتسمى: مقام الأبد، وغير ذلك من الأسماء.

ولما كانت النار هي أسوأ الدور وأقبحها وأشنعها كثرت أسماؤها، فسماها الله عز وجل في القرآن: جهنم، وسماها: سقر، وسماها: السعير، وسماها: الحطمة، إلى غير ذلك من الأسماء.

وكذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان أعظم الناس شأناً وأجلهم عند الله مقاماً كثرت أسماؤه، فقال عن نفسه: ( أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي: الذي محا الله بي الكفر، وأنا الحاشر: الذي يحشر الناس على إثري، وأنا العاقب فلا نبي بعدي ) عليه الصلاة والسلام.

يقول الله عز وجل: إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]، والإخبار هاهنا بالماضي، يخبر ربنا جل جلاله عن القيامة بالفعل الماضي، إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]؛ لأنها حق لا ريب فيه، مثل ما قال سبحانه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ[النحل:1]، ومثل ما قال سبحانه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ[يس:51]، فهذا كله تعبير بالماضي كناية عن التحقق وأنها آتية لا ريب فيها.

والقرآن الكريم أبدأ وأعاد في الحديث عن يوم القيامة، ولا يكون العبد مؤمناً إلا إذا صدق يقيناً أن بعد الموت بعثاً، وأن الله عز وجل يبعث من في القبور، ولا يكون مؤمناً إلا إذا صدق يقيناً بأن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين، ولا يكون مؤمناً إلا إذا صدق يقيناً بأن الله عز وجل يحاسب الناس على ما قدموا من خير أو شر.

ذكر الله عز وجل في القرآن على مسألة البعث أدلة كثيرة سمعية وعقلية، من ذلك: الأدلة الثلاثة التي جمعت في موضع واحد في سورة البقرة في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ[البقرة:21-22]، فهذا الموضع من القرآن في هاتين الآيتين قد تضمن ثلاثة أدلة على أن القيامة حق:

الاستدلال بالنشأة الأولى

الدليل الأول: قول ربنا جل جلاله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ[البقرة:21]، دائماً في القرآن يستدل الله عز وجل بالنشأة الأولى على النشأة الثانية، وهنا في هذه السورة سيأتي قول ربنا: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة:62]، وفي القرآن: قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ[يونس:34]، وفي القرآن: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ[الروم:27]، وفي القرآن: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً [مريم:66-67]، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ[يس:78-79]، فكل من شك في البعث، أو وسوس له الشيطان فعليه أن يتذكر بأن الله عز وجل خلقه بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، فالله عز وجل خلقه وسواه ونفخ فيه من روحه، وشق له سمعه وبصره، وأخرجه إنساناً سوياً، فكذلك هو سبحانه وتعالى قادر على أن يعيده مرة أخرى، فهذا هو الدليل الأول.

الاستدلال بخلق السموات والأرض

الدليل الثاني: قول الله عز وجل: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً[البقرة:22]، فالله جل جلاله يستدل بخلق السموات العظيمات الفسيحات، وبهذه الأرض المبسوطة المفروشة الممهدة على أنه قادر أن يعيد هذا الإنسان، كما قال سبحانه: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، فالذي خلق هذه السموات السبع العظام، وبهذه الخلقة المتينة المحكمة، التي لا ترى فيها فطوراً ولا تشققاً ولا اعوجاجاً، وخلق هذه الأرض المتماسكة الثابتة التي نمشي عليها ونتنقل ونحن مطمئنون، قادر على أن يخلق هذا الإنسان الضعيف المسكين.

الاستدلال بإنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها

الدليل الثالث: قال سبحانه: وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ[البقرة:22]، هذا البرهان يتكرر في القرآن كثيراً، كقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57]، فالذي أنزل من السماء ماء فأخرج هذه الثمرات، كذلك سيخرج الموتى، وسينزل من السماء ماء يتخلق منه الناس في قبورهم، مثلما تتخلق الشجرة من البذرة، كذلك سيتخلق الناس من عجب الذنب (العصعص)، من هذا العظم اليسير سيتخلق الناس يوم القيامة ويخرجون من قبورهم.

وهذه الأدلة الثلاثة علينا أن نفقهها وأن نعض عليها.

ذكر من أحياهم الله بعد موتهم

الدليل الرابع: أن الله عز وجل في القرآن حكى لنا أنه أحيا أناساً بعد ما أماتهم، ففي القرآن الكريم نقرأ قول ربنا جل جلاله: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا[البقرة:259]، قال أكثر المفسرين: هو العبد الصالح عزير عليه السلام، كان له ضيعة يذهب إليها في كل يوم فيصلح شأنها، ثم إذا اشتد الحر رجع إلى بيته، وفي يوم من الأيام اشتد عليه الحر فأوى إلى أرض خربة، وهو راكب حماراً، وكان معه شيء من عنب عصره ووضع فيه خبزاً يابساً حتى يلين، ثم اضطجع ونظر إلى هذا المكان الخرب، وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا[البقرة:259]، فقبض الله روحه في مكانه، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ[البقرة:259]، في ذلك المكان، ثُمَّ بَعَثَهُ[البقرة:259]، بعد مائة عام وبعثه في آخر النهار، ولما قبضه كان في أول النهار، قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ[البقرة:259]، (الخبز) وَشَرَابِكَ[البقرة:259] : (العنب)، لَمْ يَتَسَنَّهْ[البقرة:259] : (لم يتغير) وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ[البقرة:259]، أي: هذا الحمار الذي كنت تركبه، فنظر إليه فإذا هو عظام نخرة، (نخرة) أي: صارت منخورة قد أثرت فيها عوامل التعرية، وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا[البقرة:259]، أي: نركب بعضها على بعض، من النشوز وهو: الرفع، وفي قراءة أخرى: (كيف ننشرها)، أي: نحييها، وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً[البقرة:259]، فبدأت الملائكة -أمام عينيه- تركب عظام هذا الحمار، ثم كساه الله لحماً بقدرته، ونفخ فيه الروح، فإذا الحمار ينهق، فقال العبد الصالح: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].

وكذلك في القرآن الكريم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ[البقرة:243].

وفي القرآن الكريم لما قال بنو إسرائيل لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً[البقرة:55]، قال الله عز وجل: فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:55]، ثم قال بعدها: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56].

وكذلك إبراهيم عليه السلام لما قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260]، فأمره الله عز وجل بأن يأخذ طيوراً أربعة؛ فيذبحهن وينتف ريشهن، ويقطعهن ويكسر عظامهن، ثم يخلط بعضهن ببعض، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260].

الاستدلال بالنوم والاستيقاظ

وفي القرآن كذلك ذكر أصحاب الكهف الذين ضرب الله عليهم النوم ثلاثمائة من السنين الشمسية أو ثلاثمائة وتسعاً من السنين القمرية، قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ[الكهف:19]، ثم قال: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا[الكهف:21]، فالله عز وجل ذكر لنا هذه الأخبار كلها من أجل أن نعلم أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يعيدنا، فالذي أعاد شخصاً قادر على أن يعيد الجميع.

وأيضاً من الأدلة! ما أرانا الله في كل يوم وليلة: أننا نموت ثم نحيا، ننام ثم نقوم، كما قال سبحانه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا[الزمر:42]، أي: لم يتوفاها في منامها، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[الزمر:42]، بعض الناس وهو نائم يقبض الله عز وجل روحه، وبعض الناس ينام ثم يرسله الله عز وجل ويعيد إليه الروح؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: ( باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين )، وكان إذا قام من فراشه عليه الصلاة والسلام قال: ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا )، وكان إذا أوى إلى فراشه قال: ( باسمك اللهم أموت وأحيا )، أي: أنام وأقوم، ولما سئل: ( هل في الجنة نوم؟ قال: النوم أخو الموت ).

فهذه كلها أدلة ذكرت في القرآن والسنة على أن القيامة حق لا ريب فيه؛ ولذلك ربنا جل جلاله يعبر بالماضي: إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:1-2]، والقيامة إذا وقعت لا يملك أحد تكذيباً لها، تقول العرب: ليس لهذا الخبر كاذب، أي: لا يستطيع أحد أن يكذبه: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:2]، وهذا المعنى في قول ربنا جل جلاله: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ[آل عمران:9]، أي: شك فيه، ووالله ما نشك في أنه واقع، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً[الحج:5]، ونفس الأدلة التي ذكرت في سورة البقرة: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:5-7]؛ ولذلك يقول جل جلاله: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:2].

الدليل الأول: قول ربنا جل جلاله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ[البقرة:21]، دائماً في القرآن يستدل الله عز وجل بالنشأة الأولى على النشأة الثانية، وهنا في هذه السورة سيأتي قول ربنا: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة:62]، وفي القرآن: قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ[يونس:34]، وفي القرآن: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ[الروم:27]، وفي القرآن: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً [مريم:66-67]، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ[يس:78-79]، فكل من شك في البعث، أو وسوس له الشيطان فعليه أن يتذكر بأن الله عز وجل خلقه بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، فالله عز وجل خلقه وسواه ونفخ فيه من روحه، وشق له سمعه وبصره، وأخرجه إنساناً سوياً، فكذلك هو سبحانه وتعالى قادر على أن يعيده مرة أخرى، فهذا هو الدليل الأول.

الدليل الثاني: قول الله عز وجل: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً[البقرة:22]، فالله جل جلاله يستدل بخلق السموات العظيمات الفسيحات، وبهذه الأرض المبسوطة المفروشة الممهدة على أنه قادر أن يعيد هذا الإنسان، كما قال سبحانه: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، فالذي خلق هذه السموات السبع العظام، وبهذه الخلقة المتينة المحكمة، التي لا ترى فيها فطوراً ولا تشققاً ولا اعوجاجاً، وخلق هذه الأرض المتماسكة الثابتة التي نمشي عليها ونتنقل ونحن مطمئنون، قادر على أن يخلق هذا الإنسان الضعيف المسكين.

الدليل الثالث: قال سبحانه: وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ[البقرة:22]، هذا البرهان يتكرر في القرآن كثيراً، كقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57]، فالذي أنزل من السماء ماء فأخرج هذه الثمرات، كذلك سيخرج الموتى، وسينزل من السماء ماء يتخلق منه الناس في قبورهم، مثلما تتخلق الشجرة من البذرة، كذلك سيتخلق الناس من عجب الذنب (العصعص)، من هذا العظم اليسير سيتخلق الناس يوم القيامة ويخرجون من قبورهم.

وهذه الأدلة الثلاثة علينا أن نفقهها وأن نعض عليها.