شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فلا زلنا عند حديث معاذ ، ووصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ، تلك عادة الحياة ... أن الضد يقضي على الضد، فالماء ضد النار، والماء أقوى من النار.

ومن عجب أن يأتي حديث: (أن الملائكة لما وجدت خلق الجبال عظيم، قالت: يا رب هل خلقت خلقاً أعظم وأقوى من الجبال؟ قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: الحديد، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الحديد؟! قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: النار -النار تذيب الحديد- ، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من النار؟ قال: بلى، الماء، وقالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الماء؟ قال: بلى، المؤمن يخفي صدقته فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، هذه قوة نفسية ومعنوية عجيبة.

فالضد يقضي على الضد، فالماء يطفئ النار، وهذا على سنن الحياة، ولكن قدرة المولى فوق هذا كله، فهو الذي أعطى النار خاصية الإحراق، ويقدر على أن يسلبها تلك الخاصية فتكون ناراً بلا إحراق.

وهذه نار النمرود، مكثوا سنين يوقدون النار ويجمعون لها، وبالمنجنيق ألقوا إبراهيم، فقال الله لها: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فسلبت خاصية الإحراق.

الماء سائل شفاف يضربه موسى بعصا صغيرة، قال الله: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي [طه:18]، هي عصا عادية، فيضرب بها البحر فينفلق: كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، فالذي سلب الماء سيولته هو الذي سلب النار إحراقها.

وكذلك الحال في ناقة صالح عندما خرجت من جبل أصم، وعصى موسى يلقيها في الأرض فتصير حية تسعى، ويمسكها فترجع إلى سيرتها الأولى.

فمظاهر القدرة الإلهية في هذا الكون تبين لنا أن الله فاعل مختار، يفعل ما يشاء سبحانه، وذلك حتى ينتزع من الإنسان الجحود العنيد، وليوجد عنده الإقرار بقدرة المولى سبحانه وتعالى التي لا يجحدها إلا معاند: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] .

فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بوقائع قانون الحياة: بأن الماء يطفئ النار، وهذا شيء مشاهد ملموس، وكما أشرنا سابقاً، فإن السنة والكتاب يصوران المعنويات في صورة محسوسة، فالصدقة هي شيء من الطعام أو من المال تخرجه، فيكون لهذه الصدقة تأثير على الخطيئة، وهذا الأثر أمر لا ندركه بالحس ولا بالعقل؛ لأنه ليس عندنا إمكانيات لنتصور هذا الأمر، فيحيلنا صلى الله عليه وسلم على محسوس ملموس ندركه.

لكن ما هي العلاقة بين الصدقة والخطيئة والماء والنار؟

الماء سائل شفاف بارد، والنار مادة ملتهبة محرقة ليس لها جرم.

فكذلك الخطيئة معصية، والصدقة طاعة، وكلاهما ضد الآخر، والخطيئة لها تأثير في النفس، والصدقة لها تأثير على النفس، هذه بالطمأنينة والارتياح، والخطيئة بالقلق والانزعاج، ولا تجد إنساناً يخطئ خطيئة ويطمئن أبداً.

والذي يهمنا: أن الصدقة في مقابل الخطيئة تلغيها، كما أن الماء في مقابل النار يطفئها، بأي كيفية؟ الله تعالى أعلم.

ويذكر بعض العلماء لهذا الحديث رواية عند أحمد : (الصدقة تطفئ غضب الرب)، وليس بينهما مناكرة، لأن حرارة الخطيئة من أثر غضب الرب، ولولا غضب الله سبحانه وتعالى على الخطيئة ما كان لها أثر يؤثر على الإنسان بالقلق والاضطراب، ولو كان المولى يرضاها ويحبها ما أثرت على الإنسان بشيء.

إذاً: لكونها داخلة تحت ما يغضب الله كان لها هذا التأثير، و(تطفئ غضب الرب)، أي: أثر الخطيئة التي أغضبت المولى سبحانه؛ إذاً لا منازعة ولا معارضة بين الروايتين.

وقد جاء في الترغيب في الصدقات: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، (كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس)، ومن السبعة الذين يظلهم الله: الرجل الذي تصدق وأخفى الصدقة.

ثم ذكر صلى الله عليه وسلم من أبواب الخير نافلة أخرى، فقال: (وصلاة الرجل في جوف الليل)، وسُئِل صلى الله عليه وسلم: (أي الليل خير؟ قال: جوفه)، وفي الرواية الأخرى: (ثلثه الأوسط)، فصلاة الرجل في جوف الليل أول ما يتبادر أنها قيام الليل.

والأحاديث الواردة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، ويهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث وأضاف إليه الآية القرآنية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يستدل بكتاب الله على سنة رسوله، والسنة والكتاب متلازمان، وعند الشافعي قاعدة عجيبة يقول: كل حديث لرسول الله عليه الصلاة والسلام له شاهد من كتاب الله، لكن لا يدرك ذلك كل إنسان، فهنا قرأ صلى الله عليه وسلم الآية مستدلاً بها على صلاة الرجل في جوف الليل.

وقد يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية في موقف لا يشابه ما نزلت بسببه، ويستدل بعموم اللفظ بصرف النظر عن خصوص السبب، ولذا قال الأصوليون: العبرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن ذلك حينما جاء صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة يوقظهما لصلاة الليل، فقال علي رضي الله تعالى عنه: (إنما أنفسنا بيد الله متى ما شاء أن يبعثها بعثها، فيخرج من عنده صلى الله عليه وسلم وهو ينفض ثوبه ويقول: وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54] )، وهي إنما نزلت في سبب آخر، لكن أخذها صلى الله عليه وسلم بعموم لفظها واستشهد بها على قضية علي، إذاً: الآية تشمل كل جدال وقع من إنسان في أي موقع.

أفضلية العبادة في الليل على النهار

قوله في الآية: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ [السجدة:16]، هي من صميم الموضوع الذي يتحدث عنه عليه الصلاة والسلام، فقول الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] إنما يكون ذلك في الليل.

إذاً: الموضوع متحد، واستدلاله صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع السنة تقوية للدليل.

ويتفق العلماء على أن أفضل وقت لأداء النوافل ما كان ليلاً، سواء كانت ذكراً عاماً أو خاصاً، أو صلاة أو تلاوة لكتاب الله، أو تفكراً في خلق السماوات والأرض امتثالاً لقوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، وتفكرهم في ملكوت الله جعلهم يذكرون البعث والجزاء، ويخافون من النار، ويطلبون الله أن يقيهم عذاب النار.. نسأل الله أن يقينا وإياكم والمسلمين النار.

قيام الليل عون للداعية على دعوته

ومعلوم أن قيام الليل كان فرضاً في حق النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، عسى: للترجي، وقوله: يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا مبني على التهجد من الليل.

وقد أرشد الله رسوله إلى الاستعانة بقيام الليل على أداء الرسالة التي كلف بها: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]، ولم يكلفه قيام الليل كله حتى لا يكون في ذلك مشقة عليه، ولذا قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل:2-4]، فالزيادة مردها إلى الطاقة والاستطاعة بدون تحديد، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، هنا يجمع المولى سبحانه في هذا التشريع بين قيام الليل بالصلاة وترتيل القرآن.

المفاضلة بين إطالة القيام والإكثار من الركعات

وهنا مسألة سئل عنها ابن عباس : إذا كان في رمضان فأيهما أفضل: تقليل الركعات وإطالة القراءة، أم العكس؟

كل واحدة فيها مزايا؛ فكثرة الركعات فيها تكبير وركوع وسجود، وكل ركعة لها أجر، وأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، وطول القراءة فيها إمعان وتدبر لكلام المولى سبحانه، وقد أجاب ابن عباس فقال: أنت مرتاد لنفسك، فاختر لنفسك.

والمرتاد: الراعي حينما يكون له غنم يرتاد لها مواطن الرعي، فحيثما يجد الخصب والمرعى الصالح يرتع، فكذلك المسلم هو يرعى ويسوم نفسه في مرعى وحدائق ورياض العبادة، فالعمل الذي يحبه ولا يراه شاقاً عليه فليفعله فأحياناً يرغب في القراءة، ويكون ذهنه حاضراً فيها، والله سبحانه وتعالى يشرح صدره، ولعله لو قرأ آية وأمعن فيها أن يفتح الله عليه بسببها ما لا يعلمه إلا الله، وأحياناً يكون ذهنه مشغولاً، أو فكره مشوشاً، وربما أن الحركة تكون أنسب له، في إذهاب ما يشغله، فأي الحالتين قدر عليها وسهلت عليه فهي الأولى بالفعل.

وهنا الله سبحانه وتعالى يجمع لرسوله قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:2-4]، يهمنا في قيام الليل ترتيل القرآن قليلاً كان أو كثيراً.

وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يقرأ القرآن في ليلة، وقد ذكرنا بعض حالات من السلف، كان الواحد يقرأ القرآن في ليلة، فبدأ يتأمل حتى آل أمره إلى أن يقوم الليل كله بسورة الفاتحة، يتدبرها ويتأملها ويراجعها.

وقال الله عن جوف الليل: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6]، ناشئة الليل المقصود بها، صلاة الليل، كما عليه الجمهور، ويكفي ما أشارت إليه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ولما سئل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً).

معنى قوله تعالى: (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)

وهنا في قوله سبحانه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [السجدة:16]، لعل تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عامة، ويَدْعُونَ رَبَّهُمْ أخص العبادات.. لأنه كما جاء في الحديث: (الدعاء هو العبادةوَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].

وهل الإشارة في قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يقصد منها الدعاء بذاته، أم الصلاة التي فيها الدعاء؟

ذكر ابن كثير عند هذه الآية الكريمة أن معاذاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت مع النبي في سفر فدنوت منه فسألته.. وذكر هذا الحديث، ثم روى ابن كثير حديث: (عجب ربنا لرجلين، رجل نهض من فراشه ومن تحت لحافه ومن بين أحبته وقام يصلي لربه) فالحديثان يدلان على أن القيام المقصود منه الصلاة، وهكذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق عبد الله بن عمر : (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)، فيقول سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: فما ترك قيام الليل بعدها. وبعض العلماء يفسح المجال مع الصلاة للذكر ومدارسة العلم.

وقد قيل لـسعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه: انظر إلى بني فلان، يذهبون في وقت القيلولة إلى المسجد يصلون الظهر ويحيونه إلى صلاة العصر، يذكرون الله، قال: يا ابن أخي ليست هذه بالعبادة، العبادة التأمل في كتاب الله والتدبر في معانيه واستنتاج المسائل والفقه إلى آخره، وأشرنا إلى الشافعي الذي كان يبيت ليله مستلقياً يتأمل في حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى الصبح بوضوء العشاء.

إذاً: يدعون ربهم هنا عامة، فقد يجلس إنسان يدعو ربه، أو يتأمل في ملكوت الله في سكون الليل وليس هناك ما يشوش عليه، فيستجمع حسه كله، ويوجه فكره كله إلى هذا العالم، وما يجري فيه، ويستدل بهذا المحسوس على ما غاب عنه.

أمّن يجيب المضطر إذا دعاه

يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الدعاء عند الاضطرار مستجاب، ولو كان الداعي كافراً، لأنه يتوجه إلى الله في تلك الحالة ويدعوه وحده، ففي تلك اللحظة يكون مؤمناً بقدرة من توجه إليه ودعاه، ويعلم بأنه قادر على إجابة مطلوبة، كما جاء في الحديث: (لأنصرن المظلوم ولو كان كافراً، علم أن له رباً فدعا)، أي: لجأ للدنيا كلها فما أنصفه أحد، فتوجه إلى الله، فهل يتركه الله؟ لا.

يقولون في بعض السير أن الله سبحانه عتب على موسى عليه السلام في حق قارون، فعندما أمر الله الأرض أن تأخذه، فكان يغوص فيها أمام مرأى ومسمع من موسى عليه السلام، وكان ينادي موسى عليه السلام، فلم يجبه، فقال الله لموسى: يا موسى يناديك قارون في حالة الشدة فلم تجبه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته.

سبحان الله، ماذا كان يريد المولى منه إلا أن يرجع إليه، هل المولى كان يريد من قارون أن يظل في طغيانه، أو يريده أن يرجع له ويتراجع طغيانه وكبره؟ كان يريده أن يرجع إلى العبودية، فلو آمن قارون بما جاء به موسى عليه السلام لقبله الله؟

فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، سبحان الله، موسى كليم الله يوحي إليه الله أن يذهب إلى فرعون الطاغية ليقول له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وليقول له: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19]، ما جاء له وقال له: يا كافر.. يا بعيد.. يا خسيس.. كما يفعل بعض الناس مع إنسان يقع في هفوة، فيقوم بالسب واللعن، لماذا يا أخي؟ ما الفرق بينك وبينه؟ الذي ابتلاه قادر على أن يتبليك أنت بأخس من هذا؟ فإذا رأيت أن الله هداك ووفقك وجنبك هذا الخطأ، ورأيت أخا لك في الله، زلت به قدمه وتورط في خطيئة، فلا تزده ورطة إلى ورطته، بل مد له يدك لتنقذه.

الرسول صلى الله عليه وسلم لما جيء برجل قد شرب الخمر جلده، فتكلم رجل عليه بكلمة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (لا تعن الشيطان على أخيك عليه) أي: أنك أنت إذا سببته فر منك، وإذا فر منك ذهب إلى الشيطان، كرد فعل عكسي!

قوله في الآية: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ [السجدة:16]، هي من صميم الموضوع الذي يتحدث عنه عليه الصلاة والسلام، فقول الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] إنما يكون ذلك في الليل.

إذاً: الموضوع متحد، واستدلاله صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع السنة تقوية للدليل.

ويتفق العلماء على أن أفضل وقت لأداء النوافل ما كان ليلاً، سواء كانت ذكراً عاماً أو خاصاً، أو صلاة أو تلاوة لكتاب الله، أو تفكراً في خلق السماوات والأرض امتثالاً لقوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، وتفكرهم في ملكوت الله جعلهم يذكرون البعث والجزاء، ويخافون من النار، ويطلبون الله أن يقيهم عذاب النار.. نسأل الله أن يقينا وإياكم والمسلمين النار.

ومعلوم أن قيام الليل كان فرضاً في حق النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، عسى: للترجي، وقوله: يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا مبني على التهجد من الليل.

وقد أرشد الله رسوله إلى الاستعانة بقيام الليل على أداء الرسالة التي كلف بها: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]، ولم يكلفه قيام الليل كله حتى لا يكون في ذلك مشقة عليه، ولذا قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل:2-4]، فالزيادة مردها إلى الطاقة والاستطاعة بدون تحديد، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، هنا يجمع المولى سبحانه في هذا التشريع بين قيام الليل بالصلاة وترتيل القرآن.