نظرات في التربية الحديثة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد إمام الموحدين وقائد الغر المحجلين.

وبعــد:

فنبرأ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من طولنا وقولنا إلى حوله وقوته، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

أما بعـد:

فموضوع التربية الحديثة موضوع مهم وضروري لنا في الحياة، ولكن الموضوع أكبر من أن تحيط به محاضرة أو كتاب، بل لو صنف فيه مجلدات لكان محتاجاً لذلك، ولكن لعلنا نتناول هذا الموضوع من زاوية مهمة -هي أهم زاوية من زواياه- وهي: زاوية التوحيد.

فللتربية علاقة كبيرة بالتوحيد، إذ أن النظريات التربوية والإنسانية بعامة لا نستطيع أن نفصلها عن التوحيد، لأن التوحيد هو الدين، والدين يشمل كل نواحي الحياة كما قرر ذلك الله تعالى لما بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره قائلاً: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] فالتوحيد ليس ما يقوله علماء الكلام الذين جردوه عن حقيقته، فجعلوه مجرد اعتقاد الوحدة -أي أن الله ليس اثنين ولا ثلاثة- نعم. إنه تعالى ليس اثنين ولا ثلاثة، بل هو إله واحد.

ولكن حقيقة التوحيد هي: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، فلا بد أن يوحد الإنسان عبادته لله، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي ليوحدون، ونحن في كل ركعة من ركعات صلاتنا نقرأ سورة التوحيد -الفاتحة- ونقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فديننا هو دين التوحيد، ولا يصح أن ننظر إلى أية قضية من قضايانا إلا من خلال التوحيد، ولا سيما إذا كانت القضية تتعلق بأعمالنا وسلوكنا وتصرفاتنا، وهذا هو مضمون التربية.

والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم والبيهقي وغيرهم يقول: (إني لخاتم النبيين وآدم منجدل في طينته، وأول ذلك دعوة أبي إبراهيم- عليه السلام - وبشرى عيسى بن مريم ورؤيا رأتها أمي) فدعوة إبراهيم هي الدعوة التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت، إذ قال الله حاكياً قولهما: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].

فلاحظ أن الدعوة تبتدئ بقوله: يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ) وهذا لا شك فيه، فقد جاءنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذكر الحكيم.

ثم ثنَّى بقوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ثم قال: وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم فلما استجاب الله تبارك وتعالى لدعوة إبراهيم عليه السلام قدم التزكية على التعليم كما بين ذلك في سورة البقرة فقال: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151] وفي سورة آل عمران: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].

وفي آية الجمعة قال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] فقدمت التزكية على التعليم، لأن المهمة الأساس في دعوة الرسل وكل داعية هي التزكية قبل التعليم، والتزكية هي التربية -كما نسميها نحن- لكن لفظة (التزكية) أدل وأدق على المعنى من التربية.

معنى التزكية وحقيقتها

التزكية كلمة أبلغ من أن تشرح أو تفصل بكلمة أخرى، فهي تعني: التطهير من الأدناس، والأرجاس في القلب، والجوارح، والمشاعر، والفكر، والعقل، وفي كل شيء.

فالله -تبارك وتعالى- بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مزكياً لهذه القلوب من خلال التوحيد، فالتزكية بالتوحيد تعني: التخلص من الشرك، والذنوب، والمعاصي، والشهوات، والشبهات، وكل أدران النفس الإنسانية في اعتقادها، وسلوكها، وأعمالها، وتصوراتها، وقيمها، فحينما نشهد أن لا إله إلا الله، ونعبد الله، ونفرده بالعبادة، ونزن كل أعمالنا وأمورنا بمقياسٍ ومنهج ومعيارٍ واحد، وبقيمٍ واحدة، هي ما جاء بها محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وهكذا كان الجيل الأول: السلف الصالح ومن اتبعهم، كل أمرٍ في حياتهم كانوا ينظرون إليه من زاوية ما قاله الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من زاوية العقيدة، ومن باب الإيمان بالله تعالى، ومن باب هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

واليوم نرى بعض المتخصصين في مجالٍ ما لا يخضعون هذا العلم للعقيدة، ويقولون: لا وصاية لعلمٍ على علم، لا وصاية لأناس على أناس، ولا كهنوت في الإسلام، ولا رجال دين في الإسلام. نعم. لا كهنوت ولا رجال دين، بل حتى ولا وصاية، ولكن شهادة أن لا إله إلا الله التي بعث بها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أن يكون شعورنا وموازيننا، وقيمنا وعلومنا، وحركة فكرنا، ونشاطنا كله مأخوذٌ مما جاء به محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس أحد في هذا بأولى من أحد، ولهذا فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن التربية دون أن نتكلم عن علم الاجتماع، أو علم النفس، أو علم السياسة، أو علم القانون أو التشريع، أو الاقتصاد، لا يمكن ذلك حتى في الدراسات الجامعية، إذا درست التربية وأصولها تجدهم يبدءون من التربية عند القدماء -الرومان واليونان مثلاً- ثم التربية في العصور الوسطى، ثم التربية عند علماء المسلمين، ثم التربية الحديثة، ثم المعاصرة، فإن كان الطالب في الاقتصاد -أيضاً- فإنهم يبدءون بالسلسلة نفسها: الاقتصاد عند أرسطو -مثلاً- واليونانيين، ثم العصور الوسطى، ثم يتعرضون لنظريات هوبز، أو جان جاك روسو مثلاً، إلى آخره، وكذلك في علم الاجتماع يبدءون بنفس السلسلة، علم الاجتماع عند أرسطو، ثم أفلاطون، ثم هوبز، وروسو، وديكارت إلى آخره، الشيء نفسه في كل علم يبدءون بهذا.

شمولية التوحيد

ونستنتج من هذا أن طبيعة ديننا هو دين التوحيد، والنظرة فيه واحدة شاملة، وكذلك هذه العلوم إذا نظرنا فيها نجد أن الأصل والمنبع واحد،فأي نظرية أخلاقية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وأي نظرية اجتماعية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وأي نظرية اقتصادية يمكن أن تكون نظريةً تربوية، وأي نظرية سياسية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وبالتالي نستطيع أن نقول: إنه لا يمكن أبداً أن توجد وأن تنبثق نظرية تربوية إلا من عقيدة.

وبالمعنى الأعم نستطيع أن نقول: ما من حضارة إلا من واقع.

فالحضارة هي عبارة عن الواقع أو الجانب التطبيقي والواقعي للعقيدة التي تدين بها هذه الحضارة أو ذلك الشعب أو تلك الأمة التي صنعت الحضارة.

ظلمات النظريات القديمة والحديثة

وبين يدي الآن كتاب مهم جداً، هو كتاب: العلم في منظوره الجديد، حبذا لو تصفحناه قليلاً، فإنه يفند النظريات القديمة، النظريات التي تجزئ النظرة إلى الإنسان، وتفصل ما بين الإنسان والدين، ومؤلفاه كاتبان غربيان لا يؤمنان بالإسلام، ولكنهما أثبتا فشل وبطلان كل النظريات الحديثة والقديمة والمعاصرة، في نظرتها إلى الله وإلى الدين وإلى الأخلاق والقيم، وأثبتا أنه لا بد أن يكون التصور الكلي الموحد.

ونحن في غنى -والحمد لله- عن هذا، فنحن نعلم ذلك، لكن لكوننا نوجه الخطاب إلى إخوة لنا في الدين، خدعوا بتلك النظريات وغرتهم وأخذهم بهرجها، وربما كان للتخصص دوره المؤثر، فنخاطبهم بذلك لعلهم يضمون هذا إلى ما يستذكرونه من حقيقة عقيدتهم وإيمانهم -بإذن الله- فتنجلي الحقيقة.

يقول المؤلفان في أول الكتاب ص15: ''لكل حضارةٍ من الحضارات تصور كوني للعالم -أي: نظرة يفهم وفقاً لها الكون ويقيم عليها حياته، إذاً: لا بد من تصور أي نظرة كونية يفهم كل شيء ويقيم كل شيء من خلال هذه النظرة- والتصور السائد في حضارة ما، هو الذي يحدد معالمها ويشكل اللُحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها، وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة، والمقياس الذي تقاس به، وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث أنا لا ندرك أن لدينا تصوراً ما، إلا حين نواجه تصوراً بديلاً إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول، والحضارة الغربية ما برحت منذ عصر النهضة تخضع لسلطان العلم الجريبي، بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين''

عصر النهضة -الذي تحدثنا عنه- يمكن أن يكون القرن الثالث عشر، أو الرابع أو الخامس عشر، على تفاوت في التقدير والمقصود هو عصر الاحتكاك بالحضارة الإسلامية في الأندلس، وإيطاليا، وجنوب أوروبا عموماً، وبداية تسلم للقيادة العلمية، وبداية بواعث الانبعاث في الغرب إذاً: هم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يقولون: إنها تواجه تحدياً من العقيدة، أو من الإيمان الحق، لا، ولكن من علم القرن العشرين تبطل كل تلك النظريات، ويقول: ''الأمر الذي يفضي إلى وجود نظريتين علميتين متنافستين'' وعلى حد تعبير أحد مؤرخي الحضارات وهو تومس بري، يقول: ''القضية كلها قضية نظرة ونحن الآن بالذات نواجه مشكلة'' وهو يتكلم عن واقع الحضارة الغربية، ''لأنه ليس لدينا نظرة مقبولة، فلا النظرة القديمة تؤدي دورها على الوجه السليم، ولا نحن تعلمنا النظرة الجديدة'' سبحان الله! هذا ما يعترفان به! إذاً هم لا يزالون يعيشون في تخبط وفي ظلمات نتيجة هذا السيل المتدفق من النظريات الحديثة، أو نظريات عصر النهضة، كما تسمى.

أصل النظرية التربوية الغربية

لو استعرضنا التربية الحديثة من خلال النظريات الكونية والعلمية، لوجدنا أن أصل النظرة في العالم الغربي النصراني- قبل دخول الدين النصراني كانت نظرة وثنية- وهذه النظرة النصرانية التي فرضت على الناس، هي: اعتقاد أن رجال الدين، هم كلمة الله المقدسة التي لا يجوز لأحد أن يخالفها بأي حال من الأحوال.

والتربية الكنسية النصرانية كانت أول وأهم ما تفترضه أن تقتل في الإنسان مواهبه، ومشاعره، وتطلعاته إلى الأفضل في هذه الحياة الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27] ابتدعوا الرهبانية التي تقتل في الإنسان أي تطلع للعيش في هذه الحياة الدنيا كما أمر الله، وكما يريد الإنسان أن يعيش بحكم الفطرة التي فطره الله عليها.

التزكية كلمة أبلغ من أن تشرح أو تفصل بكلمة أخرى، فهي تعني: التطهير من الأدناس، والأرجاس في القلب، والجوارح، والمشاعر، والفكر، والعقل، وفي كل شيء.

فالله -تبارك وتعالى- بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مزكياً لهذه القلوب من خلال التوحيد، فالتزكية بالتوحيد تعني: التخلص من الشرك، والذنوب، والمعاصي، والشهوات، والشبهات، وكل أدران النفس الإنسانية في اعتقادها، وسلوكها، وأعمالها، وتصوراتها، وقيمها، فحينما نشهد أن لا إله إلا الله، ونعبد الله، ونفرده بالعبادة، ونزن كل أعمالنا وأمورنا بمقياسٍ ومنهج ومعيارٍ واحد، وبقيمٍ واحدة، هي ما جاء بها محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وهكذا كان الجيل الأول: السلف الصالح ومن اتبعهم، كل أمرٍ في حياتهم كانوا ينظرون إليه من زاوية ما قاله الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من زاوية العقيدة، ومن باب الإيمان بالله تعالى، ومن باب هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

واليوم نرى بعض المتخصصين في مجالٍ ما لا يخضعون هذا العلم للعقيدة، ويقولون: لا وصاية لعلمٍ على علم، لا وصاية لأناس على أناس، ولا كهنوت في الإسلام، ولا رجال دين في الإسلام. نعم. لا كهنوت ولا رجال دين، بل حتى ولا وصاية، ولكن شهادة أن لا إله إلا الله التي بعث بها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أن يكون شعورنا وموازيننا، وقيمنا وعلومنا، وحركة فكرنا، ونشاطنا كله مأخوذٌ مما جاء به محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس أحد في هذا بأولى من أحد، ولهذا فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن التربية دون أن نتكلم عن علم الاجتماع، أو علم النفس، أو علم السياسة، أو علم القانون أو التشريع، أو الاقتصاد، لا يمكن ذلك حتى في الدراسات الجامعية، إذا درست التربية وأصولها تجدهم يبدءون من التربية عند القدماء -الرومان واليونان مثلاً- ثم التربية في العصور الوسطى، ثم التربية عند علماء المسلمين، ثم التربية الحديثة، ثم المعاصرة، فإن كان الطالب في الاقتصاد -أيضاً- فإنهم يبدءون بالسلسلة نفسها: الاقتصاد عند أرسطو -مثلاً- واليونانيين، ثم العصور الوسطى، ثم يتعرضون لنظريات هوبز، أو جان جاك روسو مثلاً، إلى آخره، وكذلك في علم الاجتماع يبدءون بنفس السلسلة، علم الاجتماع عند أرسطو، ثم أفلاطون، ثم هوبز، وروسو، وديكارت إلى آخره، الشيء نفسه في كل علم يبدءون بهذا.

ونستنتج من هذا أن طبيعة ديننا هو دين التوحيد، والنظرة فيه واحدة شاملة، وكذلك هذه العلوم إذا نظرنا فيها نجد أن الأصل والمنبع واحد،فأي نظرية أخلاقية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وأي نظرية اجتماعية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وأي نظرية اقتصادية يمكن أن تكون نظريةً تربوية، وأي نظرية سياسية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وبالتالي نستطيع أن نقول: إنه لا يمكن أبداً أن توجد وأن تنبثق نظرية تربوية إلا من عقيدة.

وبالمعنى الأعم نستطيع أن نقول: ما من حضارة إلا من واقع.

فالحضارة هي عبارة عن الواقع أو الجانب التطبيقي والواقعي للعقيدة التي تدين بها هذه الحضارة أو ذلك الشعب أو تلك الأمة التي صنعت الحضارة.

وبين يدي الآن كتاب مهم جداً، هو كتاب: العلم في منظوره الجديد، حبذا لو تصفحناه قليلاً، فإنه يفند النظريات القديمة، النظريات التي تجزئ النظرة إلى الإنسان، وتفصل ما بين الإنسان والدين، ومؤلفاه كاتبان غربيان لا يؤمنان بالإسلام، ولكنهما أثبتا فشل وبطلان كل النظريات الحديثة والقديمة والمعاصرة، في نظرتها إلى الله وإلى الدين وإلى الأخلاق والقيم، وأثبتا أنه لا بد أن يكون التصور الكلي الموحد.

ونحن في غنى -والحمد لله- عن هذا، فنحن نعلم ذلك، لكن لكوننا نوجه الخطاب إلى إخوة لنا في الدين، خدعوا بتلك النظريات وغرتهم وأخذهم بهرجها، وربما كان للتخصص دوره المؤثر، فنخاطبهم بذلك لعلهم يضمون هذا إلى ما يستذكرونه من حقيقة عقيدتهم وإيمانهم -بإذن الله- فتنجلي الحقيقة.

يقول المؤلفان في أول الكتاب ص15: ''لكل حضارةٍ من الحضارات تصور كوني للعالم -أي: نظرة يفهم وفقاً لها الكون ويقيم عليها حياته، إذاً: لا بد من تصور أي نظرة كونية يفهم كل شيء ويقيم كل شيء من خلال هذه النظرة- والتصور السائد في حضارة ما، هو الذي يحدد معالمها ويشكل اللُحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها، وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة، والمقياس الذي تقاس به، وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث أنا لا ندرك أن لدينا تصوراً ما، إلا حين نواجه تصوراً بديلاً إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول، والحضارة الغربية ما برحت منذ عصر النهضة تخضع لسلطان العلم الجريبي، بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين''

عصر النهضة -الذي تحدثنا عنه- يمكن أن يكون القرن الثالث عشر، أو الرابع أو الخامس عشر، على تفاوت في التقدير والمقصود هو عصر الاحتكاك بالحضارة الإسلامية في الأندلس، وإيطاليا، وجنوب أوروبا عموماً، وبداية تسلم للقيادة العلمية، وبداية بواعث الانبعاث في الغرب إذاً: هم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يقولون: إنها تواجه تحدياً من العقيدة، أو من الإيمان الحق، لا، ولكن من علم القرن العشرين تبطل كل تلك النظريات، ويقول: ''الأمر الذي يفضي إلى وجود نظريتين علميتين متنافستين'' وعلى حد تعبير أحد مؤرخي الحضارات وهو تومس بري، يقول: ''القضية كلها قضية نظرة ونحن الآن بالذات نواجه مشكلة'' وهو يتكلم عن واقع الحضارة الغربية، ''لأنه ليس لدينا نظرة مقبولة، فلا النظرة القديمة تؤدي دورها على الوجه السليم، ولا نحن تعلمنا النظرة الجديدة'' سبحان الله! هذا ما يعترفان به! إذاً هم لا يزالون يعيشون في تخبط وفي ظلمات نتيجة هذا السيل المتدفق من النظريات الحديثة، أو نظريات عصر النهضة، كما تسمى.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2599 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2575 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2509 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2462 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2349 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2265 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2261 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2251 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2198 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2167 استماع