تفسير سورة النور - الآية [32] الثاني


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

يقول الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، هاهنا إشارة إلى تيسير الأسباب الموصلة إلى النكاح المباح، الذي تحصل به سكينة النفس، وطمأنينة القلب، والإعفاف عن الحرام، ويحصل به غض البصر، ويحصل به كذلك المودة والرحمة والتعارف بين المسلمين، فتجد إنساناً بالمشرق يتزوج واحدةً من المغرب، وتجد إنساناً من هنا يتزوج واحدةً من هناك، فيحصل التعارف كما قال ربنا: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، والنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن التقاعس فقال: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ).

وأمرنا عليه الصلاة والسلام بأن نلتمس ذات الدين، فقال عليه الصلاة والسلام: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )، وقد أخر عليه الصلاة والسلام الدين، فذكره رابعاً؛ لأن أكثر الناس لا يهتم بالدين، وإنما يهتم بالجمال، ويهتم بالمال، ويهتم بالحسب، وفي الحديث الآخر: ( لا تنكحوا النساء لحسنهن؛ فلعل حسنهن يرديهن، ولا تنكحوهن لمالهن؛ فلعل مالهن يطغيهن، وانكحوهن لدينهن؛ فلأمة سوداء -وفي بعض الروايات: خرماء- ذات دين أفضل ).

وبالمقابل أيضاً لا بد أن يزوج الإنسان بنته لصاحب الدين، فلا تزوج بنتك إلا لتقي، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها، فالله عز وجل قال: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، ومطلوب منا التيسير في الصداق، والتيسير في إجراءات النكاح وما إلى ذلك من أجل أن نشجع على صيانة المجتمع المسلم من كل أسباب الانحراف.

وقوله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، أي: من آنسنا منه الصلاح فإننا نسارع بإنكاحه وتزويجه، ثم وعدنا ربنا جل جلاله فقال: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، وقد ارتكز في الطباع بأن الزواج والعيال سبب لنقص المال، وأن كون الإنسان عزباً يحفظ ماله ولا يكلفه مئونة النفقة، لكن الله عز وجل غير هذا المفهوم الجاهلي بقوله: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، وأكد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه الإمام أحمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والمجاهد في سبيل الله )، والمكاتب سيأتي شرحه في قوله تعالى: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور:33].

تقرءون في القرآن أن العبد الصالح عرض ابنته على كليم الله موسى، قال له: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ [القصص:27]، أي: تعمل عندي أجيراً ثمان سنوات، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ [القصص:27].

وتجدون بأن الصحابة رضوان الله عليهم ما كان يستنكف أحدهم أن يعرض بنته على من يأنس فيه الصلاح، فهذا سيدنا عمر رضي الله عنه ( لما مات زوج ابنته حفصة رضي الله عنها فانقضت عدتها عرضها على عثمان ، وكان عثمان قد توفيت رقية زوجته قال له: إن شئت أنكحتك حفصة ، فقال له عثمان : لا حاجة لي فيها، يعني: اعتذر إليه، قال: فعرضتها على أبي بكر فلم يرد علي شيئاً )، يعني ما وافق ولا قال له: لا أريد، ( قال: فكنت في نفسي أوجد على أبي بكر مني على عثمان )، يعني: غضبت من أبي بكر أكثر من عثمان ، يقول: ( فجئت إلى المسجد مهموماً، فسألني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر، قلت: يا رسول الله إن ابنتي قد توفي زوجها، فعرضتها على عثمان فأبى، ثم عرضتها على أبي بكر فلم يرد علي شيئاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة ، ففهم عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يعني نفسه، فذهب فأتى بـحفصة وأسلمها إليه )؛ لأن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ( فاعتذر أبو بكر رضي الله عنه لـعمر وقال له: ما منعني أن أجيبك إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها، ولو تركها لنكحتها )، يعني: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه يريد حفصة ، ولم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان تركها كنت سأتزوجها.

فأقول: لا مانع بأن يعرض الإنسان ابنته أو أخته على الرجل الذي يأنس منه بأنه سيكرمها، ويصونها، ويعاشرها بالمعروف.

يقول الله عز وجل: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، وقد ذكرت لكم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما يتداوله الناس بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تزوجوا فقراء يغنكم الله ) قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: وهذا الحديث ما وجدته لا بسند قوي ولا ضعيف، فهو مما اشتهر على ألسنة الناس، وليس له أصل، وإنما الحديث الصحيح هو: ( ثلاثة حق على الله عونهم )، وكذلك قول عمر رضي الله عنه: عجبت لمن لا يلتمس الغنى في النكاح.

وقد أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يخطب إحدى بنات الأنصار لـجليبيب ، وكان رجلاً من أصحابه فقيراً، لا يؤبه له، فالنبي صلى الله عليه وسلم كلم أباها، قال له: ( أرأيت ابنتك فلانة؟ قال: بلى، قال: إني أريدها )، النبي عليه الصلاة والسلام قال لوالدها: إني أريدها، ( قال: حباً وكرامة يا رسول الله! قال: لـجليبيب )، يعني: الرجل فهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يريدها لنفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لـجليبيب )، ( فقال: دعني أستأمر أمها )، طالما الحكاية فيها جليبيب دعني أشاور ( فذهب إلى أمها فقال لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم يريد ابنتك، فقالت: حباً وكرامة ونعم الزوج هو، قال: لا لنفسه بل لـجليبيب ، فالمرأة غضبت قالت: أجليبيب ابنه؟ ) جليبيب هذا ولده؟ ( أجليبيب ابنه؟ رددتها ثلاث مرات، والبنت الصالحة الطيبة تسمع هذا الكلام، قالت لأبيها وأمها: أتردون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنكحوني يعني: زوجوني، فزوجت هذه الفتاة من ذلك الفقير المسكين جليبيب ، دخل في غزوة من الغزوات، والنبي صلى الله عليه وسلم بعدما وضعت الحرب أوزارها بدأ يسأل: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: فلاناً، ثم سأل: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: فلاناً، وبدءوا يعدون، قال: لكنني أفقد جليبيباً، فقام يبحث عنه عليه الصلاة والسلام فوجده صريعاً بين ستة قد قتلهم، فقال عليه الصلاة والسلام: قتل ستةً ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، ثم حمله على ساعديه صلى الله عليه وسلم، فوضعه في لحده، يقول الصحابي: والله ما له سرير سوى ساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: ما رأيت امرأةً أنفق في الأنصار منها )، يعني: هذه التي تزوجها جليبيب كانت أغنى امرأة في الأنصار رضي الله عنها.

يقول الله عز وجل: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32].

قد يعترض بعض الناس فيقول: تزوجت فافتقرت، وبعض الناس يقول لك: والله كنت غنياً، فلما عرست افتقرت، وبعض الناس يقول: تزوجت فقيراً فازددت فقراً، أو ربما يطيل لسانه يقول لك: أصل المرأة هذه فقر، ونحن وعندنا يقين بأن الله لا يخلف الميعاد جل جلاله، وهو وعد فقال: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، ولذلك ذكر المفسرون في هذه الآية تأويلات:

قالوا: التأويل الأول: ليس المقصود دوام الغنى، وإنما قد يتحقق ولو لفترة محدودة، يعني الآن أما تلاحظون بأن الإنسان إذا تزوج تأتيه أشياء ما كانت على باله؟ هذا يأتيك بخروف، وهذا يأتيك بعشاء، وهذا يأتيك بسرير، وهذا يأتيك بكذا، وهذا يضع في جيبك شيئاً، وناس يأتونك بمظروف يقولون: هذا من إخوانك في الجامع، فهذا غنى.

ولو أنك ما تزوجت لم يكن أحد يعطيك شيئاً، لا خروف، ولا سرير، ولا صحن، ولا ملعقة، فالنكاح كان سبباً لغناك.

التأويل الثاني قيل: المراد بالغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس )، فالإنسان الذي يتزوج يغني الله عز وجل نفسه، يغنيه بالحلال الطيب عن الحرام.

التأويل الثالث: قالوا: هذا معلق بالمشيئة، مثلما قال الله عز وجل: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:82]، ومثلما قال: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، فهاهنا أيضاً قالوا: تأويل الآية: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) إن شاء.

ويمكن أيضاً أن يقال في الآية: بأن الإنسان إذا تزوج وهو يريد العفاف فهو في طاعة، والله عز وجل وعد المطيع بالرزق، فقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وقال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وغير ذلك من الآيات، فالإنسان الذي يعمل بطاعة الله يرزقه الله، يقول سبحانه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].

فالمقصود أن الإنسان الذي يتزوج ثم يفتقر أو يزداد فقراً إما لخلل في نيته، وإما لعوج في سلوكه، فأحدهم يتزوج ثم يبحث عن الحرام وتجدون بعض الناس عنده زوجة لكنه -والعياذ بالله- يتلصص، وربما يذهب إلى الزنا، والعياذ بالله، وربما ينظر إلى الغلمان والمردان، وربما يحاول أن يتوسل ويتوصل إلى الحرام، فمثل هذا ما اتقى الله، والإنسان الذي ما يتقي الله لا يجعل الله له من أمره يسراً، فنحن على يقين من هذه الآية، وقد جربت ووجد أثرها، فكثير من الناس تزوج فأغناه الله، ولذلك يا معشر الشباب! أقدموا ولا تحجموا.

قال الله عز وجل: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، أي: واسع بكل أنواع السعة، واسع في فضله، واسع في خيره، واسع في علمه، واسع في رحمته، عليم بكل معلوم.

وإذا وجد إنسان ما استطاع النكاح فقد قال الله عز وجل: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالث 2768 استماع
تفسير سورة نوح [3] 2766 استماع
تفسير سورة النور - الآية [31] الرابع 2665 استماع
تفسير سورة النور - الآية [3] الأول 2652 استماع
تفسير سورة النور - قصة الإفك [5] 2534 استماع
تفسير سورة يس [8] 2523 استماع
تفسير سورة يس [4] 2477 استماع
تفسير سورة يس [6] 2468 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [23-26] 2236 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الرابع 2224 استماع