تفسير سورة النور - الآية [2] الثالث


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

قال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

وقد تقدم معنا الكلام أن المخاطب في قوله تعالى: (فاجلدوا) هم ولاة الأمر، من بسط الله أيديهم، ومكنهم من إنفاذ هذه الأحكام، أو من يقوم مقامهم من القضاة ونحوهم، وقد أجمع أهل العلم على أنه ليس لآحاد الناس إقامة الحدود ولا ضرب الرقاب، ولا يستثنى من ذلك إلا إقامة السيد الحد على أمته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إذا زنت فليجلدها، ثم إذا زنت فليبعها ولو بظفير ).

وقول الله عز وجل: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، ذكرنا أن هذه الجملة جاءت لنفي الاحتمال الذي قد يتطرق للبعض بأن المائة الجلدة مناصفة بين الزاني والزانية، أو أن الحد قاصر على الزاني لكونه هو الفاعل، أما المزني بها فلا حد عليها، ربما يظن بعض الناس هذا الظن، لكن الله عز وجل نفى الاحتمال بقوله: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، ثم إن قوله تعالى: مِائَةَ جَلْدَةٍ ، يدل على أن العدد مقصود لذاته، فلا يجوز الزيادة عليه ولا النقص منه؛ لأنه تشريع من لدن حكيم خبير.

وذكرنا أن الآلة التي يجلد بها ينبغي أن تكون وسطاً، فليست بالآلة الشديدة التي يحصل بها إسالة للدم، أو بضع للحم، وليست بالآلة الخفيفة التي لا يتحقق بها المراد من الإيلام والإيجاع، وذكرنا أن الضرب ينبغي أن يكون ضرباً وسطاً، لا ضرب حانق، ولا ضرب موات، فلا يضرب بغيظ وحنق، ولا يضرب ضرباً خفيفاً ميتاً، وإنما يكون وسطاً بين هذا وذاك، وذكرنا أن الضرب يفرق على الظهر كله، من أسفل الرقبة إلى العجز، وقال بعض أهل العلم: بل يفرق على الظهر وما يليه، وتتقى المقاتل؛ فلا يجوز أن يضرب على رأسه، ولا أن يضرب على وجهه، ولا أن يضرب على مذاكيره. ‏

وذكرنا كذلك أن قول الله عز وجل: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] يتناول نوعاً واحداً من الزناة، وهو الزاني البكر الذي لم يسبق له الدخول في نكاح صحيح، وأما المحصن وهو من دخل في نكاح صحيح حال كونه مسلماً بالغاً عاقلاً فإن حده الرجم بالحجارة حتى الموت، ودليل ذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة ).

والتفريق في الشريعة بين المحصن وغير المحصن حكمته ظاهرة؛ فإن غير المحصن إذا غلبت عليه شهوته، ونفسه الأمارة بالسوء فقارف جريمة الزنا، فإن الشريعة خففت عقوبته فجعلتها مائة جلدة، وأما إنسان أكرمه الله بالحلال، وأغناه بالطيب، ثم بعد ذلك أبت نفسه إلا أن يبحث عن الخبائث والقبائح، فلا شك أن الشريعة تشدد في حكمه، ومعلوم بأن الزنا تترتب عليه مفاسد من اختلاط الأنساب، وشيوع الأمراض، وانتهاك الأعراض، وتفكك المجتمعات، وكثرة اللقطاء، وما إلى ذلك من المفاسد.

وبالإضافة إلى العقوبة القدرية التي رتبها الله على الزنا في قول رسوله صلى الله عليه وسلم: ( ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالأسقام والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم )، فإن الشريعة جعلت هذه العقوبة الشرعية رادعةً بالإضافة إلى العقوبة القدرية التي بينها نبينا صلى الله عليه وسلم.

تغريب الزاني غير المحصن

يقول الله عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].

بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم خاص بالبكر، ويضاف إليه عقوبة أخرى وهي تغريب عام، قال: ( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام )، وكلمة التغريب مشتقة من الغربة، وهي مفارقة الوطن، وهذا الأمر تكرر من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ففي الحديث الصحيح: ( أن رجلين أتياه، فقال أحدهما: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، فقال الآخر: بلى يا رسول الله! وكان أفقه منه، اقض بيننا بكتاب الله )، يعني: كلاهما يطلب الحكم الشرعي، ( فقال الثاني: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -أي: أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، ثم أخبرت أن على ابني جلد مائة، وأن على امرأة هذا الرجم )، يعني هذا الرجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ولدي كان أجيراً عند هذا الرجل، يعمل له في عمل ما، فحصل منه زنا، ومن أجل حل المشكلة أنا دفعت غرامة مائة شاة ووليدة، يعني ملك يمين صغيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، على ابنك جلد مائة وتغريب عام )، هذا هو حكم الله في ولدك؛ لأنه بكر، ( ثم قال لأحد الصحابة: واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم البكر وحكم المحصنة، أو الثيب، فجعل حد البكر جلد مائة وتغريب عام، وجعل حد الثيب الرجم بالحجارة حتى الموت.

والتغريب يكون من بلد إلى بلد أقله مسافة قصر، فلو أن إنساناً حصل منه زنا -عافانا الله وإياكم والمسلمين- في الخرطوم، فإنه مع الجلد يؤمر بأن يغادر هذه البلد إلى بلد أخرى، وأن يخرج إلى مكان آخر أقله مسافة قصر، يعني: خمسة وثمانين كيلو فزيادة، ويكون لمدة عام كامل.

الحكمة من تغريب الزاني غير المحصن

ويتحقق بالتغريب غايتان عظيمتان:

الغاية الأولى: أن يتهيأ لهذا المذنب استقبال حياة جديدة، وتوبة نصوح، وتعديل للسلوك، وتقويم للأخلاق؛ لأنه حين ينتقل من بيئة إلى بيئة، ومن حال إلى حال، يحصل له نوع من التغيير، وهذا المعنى أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً، حين قال له العالم: إذا أردت أن تتوب ( انطلق إلى أرض كذا، فإن بها قوماً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، وفارق أرض قومك؛ فإنها أرض سوء ). يعني: لا يمكن أن يتوب إنسان إلى الله من تناول التبغ، وهو يجالس جماعةً يدخنون، ولا يمكن لإنسان أن يتوب إلى الله عز وجل من الفاحشة وهو يخالط القوم الذين يمارسون ويحرضون؛ بل لا بد أن يغير البيئة إلى بيئة أفضل وأحسن.

والغاية الثانية: ألا تشيع الفاحشة في مجتمع المؤمنين، فحين يجلد الزاني ثم يصبح يمشي في الشوارع والطرقات سيتحدث الناس عنه ويقولون: هذا فلان الذي جلد بالأمس، أو جلد قبل يومين لأجل أنه زنى بفلانة، وتبدأ ألسنة الناس تلوك بالكلام في الأعراض؛ ولذلك قطعاً لدابر هذا الكلام الشريعة تقول: يغرب هذا الإنسان من أجل أن يستقبل حياةً جديدة، ومن أجل أن ينسى الناس أمره، وهذا معروف في حياة الناس، فالناس يشتغلون في القضية يومين أو ثلاثة، ثم يبحثون عن غيرها. ولذلك الشريعة تقول: البكر يجلد مائة ويغرب عاماً.

أقوال العلماء في تغريب الزاني غير المحصن

ومسألة الجلد والتغريب فيها أقوال ثلاثة:

القول الأول للإمام الشافعي و أحمد : أن البكر يجلد مائةً ويغرب عاماً، استدلالاً بالنصوص التي سبق ذكرها، كحديث عبادة بن الصامت ، وحديث المرأة التي زنى بها العسيف.

والقول الثاني للإمام أبي حنيفة النعمان : أن البكر يجلد مائةً فقط، يعني: يقتصر على ما ورد في الآية، قال: لأن الوارد في الحديث زيادة على الآية، والزيادة على النص نسخ، ولا بد أن يكون الناسخ في قوة المنسوخ، يعني: أبو حنيفة يقول: الآية متواترة، وهذه الأحاديث أخبار آحاد، ولا ينسخ المتواتر بالآحاد.

القول الثالث للإمام مالك رحمه الله: أن يغرب الذكر دون الأنثى؛ لأن الأنثى إما أن تغرب وحدها، وإما أن يغرب معها محرمها؛ لأننا قلنا التغريب أقله مسافة قصر، فلو أن امرأة زنت في الخرطوم فأخرجناها إلى بور سودان مثلاً أو غيرها من البلدان، فلو غربناها وحدها نكون قد خالفنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع محرم )، ولو ألزمنا أباها أو أخاها أو عمها أو واحداً من محارمها بأن يخرج معها نكون قد عاقبنا من لا ذنب له؛ ولذلك الإمام مالك يقول: التغريب يكون على الزاني وليس على الزانية.

ولا يخفى عليكم بأن النص يؤيد المذهب الأول بأن الزاني ذكراً كان أو أنثى إذا كان بكراً فحكمه أن يجلد مائةً ويغرب عاماً، أما كلام الإمام مالك رحمه الله فيمكن الاحتراز منه، وخاصةً في زماننا هذا بأن يكون هناك دوراً للرعاية، ووسائل للرقابة، بحيث أن هذه التي قارفت الجريمة يسافر معها محرمها، فيوصلها إلى ذلك المكان حيث الرعاية والرقابة، ثم يرجع، وخاصةً مع تيسر وسائل السفر، فلا يستغرق ذلك إلا وقتاً محدوداً، إذ يمكن أن يذهب ويرجع في اليوم نفسه، ولا يكون هناك عقوبة قد لزمته، وإنما هو نوع من التعاون على البر والتقوى، وإعانة لهذه المرأة على أن تستقبل عهداً جديداً.

وفي إقامة هذا الحد -أعني الجلد- لا يلزم أن تخلع ثيابه؛ بل يجلد وعليه ثيابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بأن تخلع ثيابه، لكن لا يترك عليه من الثياب ما كان غليظاً بحيث يمنع وصول أثر الضرب إليه، وكما قالوا: الرجل يجلد قائماً، والمرأة تجلد جالسةً؛ لأن الستر في حقها ألزم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى في حال رجمها بأن تشد عليها ثيابها.

الأحوال التي لا يقام فيها الحد

ومن المسائل قالوا: لا ينبغي أن يكون إقامة الحد في برد شديد، ولا في حر شديد، ولا في مرض مقعد، يعني: الإنسان لو زنى ينبغي أن نرعى له كرامته وحقه؛ ولذلك ما يقام الحد في برد شديد، ولا يقام الحد في حر شديد، ولا يقام الحد وهو مريض.

وكذلك إذا كان المرأة حاملة، وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يقام عليها الحد حتى تضع حملها؛ ولذلك ( لما جاءت الغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إني حبلى من الزنا، قال: اذهبي به حتى تضعيه؛ فلما جاءت به ملفوفاً في خرقة، قال: اذهبي به حتى تفطميه، فلما جاءت به وفي يده كسرة خبز أمر النبي صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها، ثم رجمت ).

يقول الله عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].

بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم خاص بالبكر، ويضاف إليه عقوبة أخرى وهي تغريب عام، قال: ( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام )، وكلمة التغريب مشتقة من الغربة، وهي مفارقة الوطن، وهذا الأمر تكرر من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ففي الحديث الصحيح: ( أن رجلين أتياه، فقال أحدهما: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، فقال الآخر: بلى يا رسول الله! وكان أفقه منه، اقض بيننا بكتاب الله )، يعني: كلاهما يطلب الحكم الشرعي، ( فقال الثاني: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -أي: أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، ثم أخبرت أن على ابني جلد مائة، وأن على امرأة هذا الرجم )، يعني هذا الرجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ولدي كان أجيراً عند هذا الرجل، يعمل له في عمل ما، فحصل منه زنا، ومن أجل حل المشكلة أنا دفعت غرامة مائة شاة ووليدة، يعني ملك يمين صغيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، على ابنك جلد مائة وتغريب عام )، هذا هو حكم الله في ولدك؛ لأنه بكر، ( ثم قال لأحد الصحابة: واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم البكر وحكم المحصنة، أو الثيب، فجعل حد البكر جلد مائة وتغريب عام، وجعل حد الثيب الرجم بالحجارة حتى الموت.

والتغريب يكون من بلد إلى بلد أقله مسافة قصر، فلو أن إنساناً حصل منه زنا -عافانا الله وإياكم والمسلمين- في الخرطوم، فإنه مع الجلد يؤمر بأن يغادر هذه البلد إلى بلد أخرى، وأن يخرج إلى مكان آخر أقله مسافة قصر، يعني: خمسة وثمانين كيلو فزيادة، ويكون لمدة عام كامل.