تفسير سورة النور - الآية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى. أما بعد:

فهذا هو الدرس الأول في تفسير سورة النور، وقبل الشروع في تفسيرها لا بد من مقدمة مشتملة على مسائل:

المسألة الأولى: سبب تسميتها، سميت هذه السورة بسورة النور؛ لتكرار ذكر النور فيها، فإن الله عز وجل قال: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، ثم قال: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35]، ثم قال: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، فتكررت هذه الكلمة في هذه السورة المباركة، ومن أجل هذا سميت بهذا الاسم، ولا يعرف لها اسم سواه.

المسألة الثانية: عدد آياتها، وكلماتها، وحروفها.

أما آياتها فهي أربعة وستون آية عند جماهير القراء، وأما كلماتها فألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وأما حروفها فخمسة آلاف حرف وستمائة وثمانون، فالموفق الذي يقرأ سورة النور من أولها إلى آخرها يكون له من الحسنات ست وخمسون ألفاً وثمانمائة حسنة، والله يضاعف لمن يشاء.

المسألة الثالثة: فضلها، جاء في فضلها أحاديث لكنها ضعيفة، فليس في فضل سورة النور حديث صحيح؛ بل بعضها إلى الوضع أقرب، ومن ذلك الحديث الذي رواه الإمام الحاكم ، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ( لا تعلموا النساء الكتابة، ولا تنزلوهن الغرف، وعلموهن الغزل وسورة النور )، هذا الحديث من رواته عبد الوهاب بن الضحاك وهو كذاب، ( لا تعلموا النساء الكتابة )، هذا كذب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم نساءه ليس الكتابة بل العلم، ( ولا تنزلوهن الغرف )، وهذا كلام لا يفهم معناه، ما معنى ( ولا تنزلوهن الغرف )؟ ( وعلموهن الغزل وسورة النور ).

وهناك حديث آخر رواه سعيد بن منصور في سننه: ( علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور )، والسور التي ثبت في فضلها أحاديث قليلة كسورة البقرة، وآل عمران؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام سماهما الزهراوين، يقول عليه الصلاة والسلام: ( اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما )، وقال: ( اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة )، وقال: ( إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ).

وكذلك ثبتت الأحاديث في فضل الإخلاص، والمعوذتين، وكذلك في سورة البينة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة )، وكذلك ثبت الأحاديث في فضل سورة الملك، فقد ثبت ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام ليلةً حتى يقرأ السجدة (ألم تنزيل)، وسورة الملك ) إلى غير ذلك من السور التي ثبت في فضلها أحاديث.

الخلاصة: سورة النور لم يرد في فضلها حديث صحيح؛ لكن هي داخلة في عموم النصوص، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها ).

المسألة الرابعة: بيان موضوعاتها، هذه السورة المباركة يمكن تقسيمها إلى خمسة أقسام:

القسم الأول: من أولها إلى ختام الحديث عن الإفك في قوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26].

فأول هذه السورة عني ببيان حد الزنا، وحد القذف، وأحكام اللعان، ثم الحديث عن قصة الإفك، وتبرئة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحث والدها على العفو والصفح عمن أساء إلى ابنته في عرضها رضوان الله على الجميع.

القسم الثاني: الكلام عن الأسباب الواقية من الوقوع في الزنا، وذلك بأمور:

أولاً: بالأمر بالاستئذان عند دخول البيوت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الاستئذان من أجل النظر ).

ثانياً: الأمر بغض البصر.

ثالثاً: الأمر بحفظ الفرج.

رابعاً: أمر النساء بالحجاب، وأن لا يبدين زينتهن إلا أمام اثني عشر صنفاً، سيأتي بيانهم تفصيلاً إن شاء الله.

خامساً: الكلام عن الأمر بالإنكاح، أي: بتسهيل الزواج.

سادساً: النهي عن البغاء، وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور:33].

سابعاً: الأمر بالاستعفاف لمن لم يقدر على النكاح، فإما أن تكون قادراً على النكاح فالله عز وجل قال: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، وإما أن تكون عاجزاً عن النكاح فالله عز وجل يقول: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33].

القسم الثالث: في الكلام عن آيات الله الكونية، قال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، ثم بعد ذلك قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً [النور:43]، وقبلها الكلام عن تسبيح الكائنات كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41]، وفي ثنايا ذلك الكلام عن خسارة الكفار، وأن أعمالهم لا تقع من الله بموقع القبول، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور:39].

القسم الرابع: الحديث عن المنافقين، وفضح دواخلهم، وبيان فساد معتقدهم، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [النور:47-50].

وفي ثنايا ذلك وعد للمؤمنين بالتمكين، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور:55]، وقد صدق الله وعده، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية كان محصوراً في الحجاز، ما عنده إلا المدينة، وقد وادع من حولهم من الأعراب، فما توفي صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله له مكة، ونجداً، وتهامة، وهجر، واليمن، ثم إنه بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه ما أتت على المسلمين عشرون سنةً حتى كانوا قد فتحوا بلاد الشام والعراق ومصر وفارس والشمال الإفريقي، وما توفي الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه حتى كان الإسلام قد دق أبواب الصين شرقاً، وأبواب فرنساً غرباً، مصداقاً لهذا الوعد القرآني وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55].

القسم الخامس: الحديث عن آداب الاستئذان في محيط البيت الواحد، قال تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58]، ويتكلم عن آداب الأكل إلى أن قال سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً [النور:61]، وهنا سؤال يسأله بعض الناس وهو ما حكم ما يسمى بالكوكتيل أن يأخذ كل إنسان في صحنه ثم ينزوي في ركن قصي ليأكل؟ فمثل هذا تتلوا له هذه الآية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً [النور:61]، وسيأتي معنا بيان أن الأفضل أن نأكل جميعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شكا إليه بعض الناس قالوا: ( يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع، فقال: لعلكم تأكلون متفرقين، قالوا: بلى. قال: اجتمعوا على الطعام، وسموا الله يبارك لكم فيه )؛ فلو أن الناس اجتمعوا على الطعام وسموا الله فإن البركة ستحصل إن شاء الله.

المسألة الخامسة: وجه اتصال هذه السورة بما قبلها وهي سورة المؤمنون، وهناك مناسبتان بين سورة النور وسورة المؤمنون:

المناسبة الأولى: أن الله عز وجل ذكر خصال أهل الجنة، ومن بين هذه الخصال قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6].

وحتى نصل إلى الجنة، ونحفظ فروجنا، جاءت هذه السورة مبينة للخطوات التي يحصل بها حفظ الفرج، أو حفظ العرض عموماً، فتجد فيها الحديث عن الزنا، والحديث عن القذف، والحديث عن اللعان، والحديث عن الحجاب، والحديث عن غض البصر، والحديث عن وجوب الاستئذان قبل دخول بيوت الغير، والحديث عن وجوب الاستئذان في محيط البيت الواحد في ثلاثة أوقات.. إلى غير ذلك من الأحكام.

المناسبة الثانية: أن سورة المؤمنون ختمت بقول ربنا: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، فجاءت هذه السورة بمجموعة من الأوامر والنواهي التي تدل على أن الإنسان لم يخلق عبثاً، وإنما خلقه الله عز وجل لحكمة، ووضع له شريعةً، وألزمه بقوله: افعل ولا تفعل، فهو ليس في هذه الدنيا متروكاً سدى، ولا مخلوقاً عبثاً، وإنما هو مقيد بجملة من الأوامر والنواهي، فإذا التزم بها ونفذها؛ فإنه يصل إلى جنة عرضها السموات والأرض، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55]، نسأل الله أن يجعلنا منهم، هذا هو وجه الشبه بين السورتين.

المسألة السادسة: نزول هذه السورة، قال الإمام أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: هي مدنية بالإجماع، ومعنى أنها مدنية أنها نزلت بعد الهجرة، سواء نزلت في المدينة، أو في غيرها؛ لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه قرآن وهو في طريق السفر، وليس في مكة ولا في المدينة، ومعلوم أن أسفاره صلوات ربي وسلامه عليه على أربعة أنواع: إما سفر هجرة، وإما سفر جهاد، وإما سفر حج، وإما سفر عمرة، يعني أنه بعدما صار نبياً عليه الصلاة والسلام ما سافر لا في تجارة ولا في غيرها، وإنما سافر إما لهجرة، أو جهاد، أو حج، أو عمرة.

ولذلك التعريف المرتضى للمكي والمدني أن القرآن المدني ما كان نازلاً بعد الهجرة في المدينة أو غيرها، والقرآن المكي ما نزل قبل الهجرة بمكة أو غيرها، فهذه السورة مدنية بالإجماع؛ لأنها نزلت بعد الهجرة، لكنها نزلت في مدة طويلة منجمةً مفرقة، ولم تنزل دفعةً واحدة، ومعلوم أن القرآن كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يستدعي كتبة الوحي وعلى رأسهم الأئمة الأربعة: أبو بكر و عمر و عثمان و علي ؛ فيستدعيهم كلهم أو بعضهم، ويملي عليهم ما أنزل الله عليه، ثم يقول: اجعلوا هذه الآية أو هذه الآيات في سورة كذا بين آية كذا وآية كذا؛ فترتيب هذه الآيات توقيفي بالإجماع، يعني: لم يكن للصحابة اجتهاد فيه، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهاد فيه، وإنما هو بأمر الله.

إذاً هذه السورة نزلت في مدة طويلة كما يظهر من تأمل بعض الآيات، فمثلاً قول الله عز وجل: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، سبب نزولها قصة مرثد بن أبي مرثد الغنوي مع عناق ، وهي امرأة كان بينها وبينه في الجاهلية علاقة، ثم إن مرثداً رضي الله عنه لما أسلم كان يأتي من المدينة متسللاً فيحمل بعض الأسرى الذين أسرهم الكفار لما أرادوا أن يهاجروا؛ فكان مرثد رضي الله عنه يأتي فيتسلل إلى مكة ويفك قيد بعض هؤلاء الأسرى ويحملهم حتى يخرج بهم من مكة، فهذه المرأة لما رأت مرثداً دعته إلى ما كان بينهما في الجاهلية، فقال: يأبى علي الله والإسلام، قد حرم الله الزنا، فقالت له: أتزوجك، فقال لها: لا أفعل حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرخت المرأة: يا أهل مكة! هذا يحمل أسراكم، فهرب مرثد رضي الله عنه إلى أن دخل في مغارة في جبل من الجبال، فلما خف الطلب رجع إلى المدينة.

و مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قتل في صفر من السنة الثالثة من الهجرة في سرية الرجيع التي قتل فيها خبيب بن عدي ، و عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، و عبد الله بن طارق ، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين.

إذاً هذه الآية يقيناً نزلت قبل السنة الثالثة، وتقريباً في نهاية السنة الأولى أو بداية السنة الثانية لما كان المسلمون لا يزالون يتلاحقون للهجرة كما يقول ابن عاشور رحمه الله، فهذه واحدة.

ونجد أيضاً آيات قصة الإفك، التي كانت في غزوة المريسيع، أو غزوة بني المصطلق، وقد كانت هذه الغزوة في نهايات السنة الرابعة أو بداية السنة الخامسة من الهجرة، ثم نجد أيضاً آيات اللعان قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ [النور:6]، هذه الآيات نزلت لما قذف هلال بن أمية امرأته بـشريك بن السحماء ، وهذا كان في شعبان من السنة التاسعة بعد غزوة تبوك، إذاً هذه السورة استغرق نزولها نحواً من ست سنوات؛ ولذلك نقول: لم تنزل دفعةً واحدة، وإنما نزلت منجمة، وقد قال الله عز وجل: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء:106]، وقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32].

إذاً في مقدمة هذه السورة عرفنا ست مسائل:

المسألة الأولى: سبب تسميتها، ولا يعرف لها اسم إلا هذا الاسم، وقد كان من زمان نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث حارثة بن مضر قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب : تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.

المسألة الثانية: بيان عدد آياتها وكلماتها وحروفها.

المسألة الثالثة: بيان فضلها، وليس في فضلها حديث صحيح.

المسألة الرابعة: بيان موضوعاتها.

المسألة الخامسة: بيان اتصالها بما قبلها.

المسألة السادسة: بيان نزولها، وقد عرفنا أنها مدنية نزلت في مدة طويلة.

بسم الله الرحمن الرحيم.

قال تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1].

إعراب كلمة سورة

أولاً بيان الإعراب، قول الله عز وجل: (سورة) قال بعض المفسرون: هذا خبر مبتدؤه محذوف، وتقدير الكلام: هذه سورة، والإشارة بالقريب للدلالة على أنها حاضرة في الذهن، قريبة من القلب.

وقال بعضهم: بل سورة مبتدأ، وخبره ما يأتي من الأحكام كما في قول الله عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2]، ثم قوله: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] إلى آخر السورة، فكل ما ورد فيها من أحكام وأخبار إنما هو خبر هذا المبتدأ، وقد فصل بين المبتدأ وخبره بعدة أوصاف تشوق، كما في قوله تعالى: أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور:1]، أي: أن هذه السورة منزلة من عند الله، ومفروضة منه، فيها آيات بينات، يحصل بها الذكرى للمؤمنين، وهذا نوع من التشويق لخبر هذا المبتدأ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلمتان )، وقبل أن يبين الكلمتين شوق إليهما، فقال: ( خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن )، وليس هناك شك في أن الذي يسمع هذه الأوصاف يتشوق للكلمتين، فقال صلى الله عليه وسلم: ( سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ).

فـ (سورة) إما أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف، وإما أن تكون مبتدأً خبره ما يأتي بعده من الأحكام والأخبار.

قال تعالى: (أنزلناها)، معلوم بأن النون نون التعظيم، كما في قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، فالله عز وجل يعظم نفسه، فيقول: أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1].

القراءات الواردة في الآية

أما القراءات فقد اختلفت القراءات في كلمتين:

الكلمة الأولى: قول الله: (فرضناها)، قرأها عبد الله بن كثير المكي ، و أبو عمرو بن العلاء البصري بالتشديد: (سورة أنزلناها وفرَّضناها)، وسنبين المعنى إن شاء الله.

الكلمة الثانية: قول الله عز وجل: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]، هذه قراءة حفص عن عاصم ، وقراءة خلف ، وقرأ الباقون: (لعلكم تذَّكَّرون).

معنى كلمة: (سورة) وأصل اشتقاقها

أما من ناحية معاني المفردات فقد قال الله عز وجل: (سورة)، وسورة في اللغة مشتقة من السور، وهو الحائط الذي يطوق البناء، وقيل: كلمة السور مشتقة من السؤر، يعني أن الإنسان إذا أكل شيئاً ثم ترك منه فضلة يقال: هذا سؤر فلان، وقيل: السورة هي المنزلة العظيمة، ومنه قول النابغة الذبياني يمدح ملكاً من الملوك:

ألم تر أن الله أعطاك سورةً ترى كل ملك دونها يتذبذب

سورةً، أي: منزلةً ومكانةً، ترى كل ملك دونها يتذبذب.

وقول ربنا جل جلاله: (سورة)، السورة طائفة من القرآن ذات مطلع ومقطع وخاتمة، مشتملة على آيات، سميت السورة سورة إما من السور؛ لأنها محددة تمنع دخول غيرها فيها، فلو أن قارئاً قرأ: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً [العاديات:1]، ثم قال: فَالْحَامِلاتِ وِقْراً [الذاريات:2]، لعرفنا أن الرجل أدخل في السورة ما ليس منها، مع كونه قرآناً. أو تكون سميت سورة من السؤر؛ لأنها بقية من القرآن، أو سميت سورة لأن أي سورة في القرآن فهي ذات منزلة عظيمة.

إذاً: كلمة السورة إما أن تكون من السور، أو من السؤر، أو من السورة بمعنى المنزلة، وهي طائفة من القرآن ذات مطلع ومقطع وخاتمة مشتملة على آيات.

الفرق بين تعبير القرآن عن إنزاله بكلمة أنزل ونزل

قال تعالى: (سورة أنزلناها)، عندنا في القرآن يعبر الله سبحانه بأنزل ويعبر بنزل، ومن التعبير بأنزل قول الله عز وجل: لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، ومنه قول الله عز وجل: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، ومن التعبير بنزل قوله تعالى: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، وقول الله عز وجل: وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء:106]، والفرق بين أنزل ونزَّل: أن أنزل بمعنى نزل دفعةً واحدة، ونزل معناه: أنه نزل مقطعاً منجماً مفرقاً، وكلاهما قد حصل في القرآن؛ فالقرآن نزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل مقطعاً مفرقاً على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.

المقصود بقوله: (وفرضناها)

وقول الله عز وجل: (وفرضناها) المعنى: أوجبنا عليكم العمل بها، وقد تكون بمعنى النصيب، (فرضناها) بمعنى جعلناها لكم حضاً ونصيباً، ومنه قول الله عز وجل: نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء:7]، وأما على قراءة التشديد (فرَّضناها) فتكون بمعنى قطعناها، فالفرض بمعنى القطع.

معنى (الآية)

قال تعالى: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ [النور:1]، الآيات: جمع آية، والآية في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248] أي: إن علامة ملكه.

وتطلق الآية على الجماعة، ومنه قول العرب: جاء القوم بآيتهم، أي: بمجموعهم كلهم.

والآية اصطلاحاً: قطعة من القرآن معجزة مشتملة على كلمة أو كلمات، مؤدية إلى معنى.

وفي القرآن آيات فيها كلمة واحدة، كقول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ [الرحمن:1]، وفيه آية فيها كلمتان: عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:2-4]، وفيه آية فيها ثلاث كلمات، كقوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:5-6]، وفيه آيات فيها أربع كلمات كقوله تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:7]، فعندنا آيات من كلمة، وعندنا آيات من كلمتين، وعندنا آيات من ثلاث كلمات، وعندنا آيات من أربع كلمات، وعندنا آيات مشتملة على كلمات كثيرة.

بَيِّنَاتٍ [النور:1]، أي: واضحات ظاهرات، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1].

أولاً بيان الإعراب، قول الله عز وجل: (سورة) قال بعض المفسرون: هذا خبر مبتدؤه محذوف، وتقدير الكلام: هذه سورة، والإشارة بالقريب للدلالة على أنها حاضرة في الذهن، قريبة من القلب.

وقال بعضهم: بل سورة مبتدأ، وخبره ما يأتي من الأحكام كما في قول الله عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2]، ثم قوله: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] إلى آخر السورة، فكل ما ورد فيها من أحكام وأخبار إنما هو خبر هذا المبتدأ، وقد فصل بين المبتدأ وخبره بعدة أوصاف تشوق، كما في قوله تعالى: أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور:1]، أي: أن هذه السورة منزلة من عند الله، ومفروضة منه، فيها آيات بينات، يحصل بها الذكرى للمؤمنين، وهذا نوع من التشويق لخبر هذا المبتدأ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلمتان )، وقبل أن يبين الكلمتين شوق إليهما، فقال: ( خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن )، وليس هناك شك في أن الذي يسمع هذه الأوصاف يتشوق للكلمتين، فقال صلى الله عليه وسلم: ( سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ).

فـ (سورة) إما أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف، وإما أن تكون مبتدأً خبره ما يأتي بعده من الأحكام والأخبار.

قال تعالى: (أنزلناها)، معلوم بأن النون نون التعظيم، كما في قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، فالله عز وجل يعظم نفسه، فيقول: أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1].

أما القراءات فقد اختلفت القراءات في كلمتين:

الكلمة الأولى: قول الله: (فرضناها)، قرأها عبد الله بن كثير المكي ، و أبو عمرو بن العلاء البصري بالتشديد: (سورة أنزلناها وفرَّضناها)، وسنبين المعنى إن شاء الله.

الكلمة الثانية: قول الله عز وجل: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]، هذه قراءة حفص عن عاصم ، وقراءة خلف ، وقرأ الباقون: (لعلكم تذَّكَّرون).