بلسم الحياة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.

فصلِّ يا رب على خير الورى     ما صدحت قُمْرية على الذرا

والآل والأزواج والأصحاب     والتابعين من أولي الألباب

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

أما بعد:

فيا عباد الله: لم يزل كثير من الخلق يلهثون وينصبون، ويسعون ويكدون، فمنهم: من يسعى لجمع المال من أي القنوات.

ومنهم: من يلهث في بهيمية خلف الشهوات وأوضار القنوات.

ومنهم: من يهرول وراء الشهرة والجاه والسلطان في سبات التيه قد أمضى رحلات.

ومنهم: من يعدو وراء الأماني والأحلام، يسبح في غير ماء، ويطير من غير جناح.

كمهمهٍ فيه السراب يلمح     يدأب فيه القوم حتى يطلحوا

ثم يظلون كأن لم يبرحوا     كأنما أمسوا بحيث أصبحوا

ضياع أعمار نفيسة في طلب أغراض خسيسة، أَمَا إنك لو سألتهم جميعاً من وراء ذلك السعي واللهث ما تريدون؟ لأي شيء تهدفون؟

لأجابوك: الحياة الطيبة نريد، إلى السعادة نهدف، نركض ونعدو إلى سرور النفس ولذة القلب، ونعيم الروح وغذائها ودوائها وحياتها وقرة عينها نتوق.

أرادوها فأخطئوا طريقها، وتاهوا فعطشوا وجاعوا، وعلى الوهم عاشوا؛ فصار حالهم كمن سقي على الظمأ بالسراب والآل، وكانوا كمن تغدى في المنام، وفي تيههم فقدوا حاسة الشم والذوق فلم يفرقوا بين الروائح العطرة من الكدرة، ولا العذب في الفرات؛ فشقوا وتعسوا ويظنون أنهم سيسعدون.

غفلوا في تيههم عن داعي الحق على الطريق وهو يندبهم ويقول: مهلاً مهلاً. والله لا يُسعد النفس ولا يزكيها ولا يطهرها، ولا يُذهب غمها وهمَّها وقلقها، ويسد جوعتها وظمأها، ويعيد لها شمها وذوقها، إلا الإيمان بالله رب العالمين بلسم الحياة ومفتاح السعادة، قال الله: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]. هذا خبر من أيها المؤمنون؟

ينبيك عنه ابن القيم بما ملخصه -في تصرف-: إنه خبر أصدق الصادقين، وأحكم الحاكمين، الله رب العالمين، وهو خبر يقين، وعلم يقين بل عين يقين، فحوى الخبر: أنه لابد لكل من عمل صالحاً مؤمناً أنه يحييه الله حياة طيبة، بحسب إيمانه وعمله: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:6].

وأما الجفاة الأغلاظ لا يعلمون، غلطوا في مسمى هذه الحياة؛ فظنوها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمراكب والمناكح، ولذة الرياسة والمال وقهر الأعداء، والتفنُّن بأنواع الشهوات والملذَّات، حال أحدهم:

إذا تغديت وطابت نفسي

فليس في الحي غلام مثلي

إلا غلام قد تغدى قبلي

فنصف النهار لترياسه، ونصف لمأكله أجمع.

لا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم، بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان، فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والأنعام والبهائم فذلك مسكين ينادى عليه من مكان بعيد، هِمَّتُه هِمَّةٌ خسيسةٌ دنيئةٌ، همة حُشّ.

كل داءٍ في سقوط الهمم     يجعل الأحياء مثل الرمم

نامت الأُسْد بسحر الغنم     سمت العجز ارتقاء الأمم

أين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالطت بشاشته القلوب سلا صاحبه عن الأبناء والنساء والإخوان والأموال والمساكن والمراكب والمناكح والأوطان، ثم رضي بتركها كلها والخروج منها رأساً وهو وادع النفس، منشرح الصدر، مطمئن القلب، يعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق، لعلمه أن الجنة حُفَّت بالمكاره، يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه في سبيل الله، أو قتلهم إن كانوا أعداء الله.

فلم يكن في سبيل الله تأخذه     ملامة الناس والرحمن مولاه

فإذا بأحدهم يتلقى سنان الرمح بظهره فيخرج من بين ثدييه، والدماء تثعب منه، فينضح من هذه الدماء على وجهه وجسده، ويقول وقد ذاق بلسم الحياة: [[فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة]]، حتى قال قاتله: فقلت في نفسي: ما فاز، ألست قتلت الرجل؟ فما زال يسأل حتى أُخبر أنه فاز بالشهادة وبما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقال قاتله: فاز لعمر الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

إن بعض النفوس، تظل في شك من مصداقية هذا الدين، حتى ترى قسمات الفرح بادية على وجوه أفراده بشراً وسروراً وسكينةً واطمئناناً، وهم يواجهون الموت في سبيله!

لنقاءٍ ونماء ولإيمان وثيق     قتلهم في الله أشهى من رحيق

فازوا من الدنيا بمجد خالد          ولهم خلود الفوز يوم الموعد

ويستطيل الآخر حياته، فيلقى قوت يومه من تمرات يوم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قوموا إلى جنة عرضها الأرض والسماوات) يقول: [[لئن بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة!]] ثم يتقدم للموت فرحاً مسروراً.

آية المؤمن أن يلقى الردى     بَاسِم الثغر سروراً ورضا

ليس يدنو الخوف منه أبداً     ليس غير الله يخشى أحداً

ويلبس بلال رضي الله عنه أدرع الحديد، ويصهر في الشمس يئن تحت وطأة صخرة عظيمة، فوق رمضاء قاسية في يوم قائظ في مكة -وأهل مكة أدرى بقيظ مكة - يراود على كلمة الكفر، ومن الميسور عليه أن يقولها لو أراد وقلبه مطمئن بالإيمان، لكنه ذاق حلاوة الإيمان، فمزجها بمرارة العذاب والحرمان، فطغت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فأطلقها كلمات تتقطع لها قلوب معذبيه حنقاً وغيظاً؛ ليرغم أنوفهم بها قائلاً: [[أحد أحد، لو وجدت أحنق منها وأغْيَظ لكم منها لقلتها]].

هل أنت إلا إصبع دميت     وفي سبيل الله ما لقيت

وثبت فكانت العاقبة، فإذا به يعلو الكعبة فيصدح بالأذان ليرغم به من المشركين القلوب والآذان، حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قامت زوجه تقول: وا بلالاه! وا حزناه! فيقول وقد ذاق بلسم الحياة: [[بل وافرحاه! واطرباه!]]

غداً ألقى الأحبة     محمداً وحزبه.

أرسلتها كلمات منك صادقة     بيضاء آذانها الأخلاد والقلل

بريقها وهي تهوي في مسامعهم     بلاغة خشيت لألاءها المُقَل

وإذا بسيف الله خالد أبي سليمان فارس الإسلام وليث المَشَاهد رضى الله عنه يقول حين ذاق بلسم الحياة وخالطت بشاشته قلبه: [[والله! ما ليلة تهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشَّر فيها بغلام، بأحب من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أنتظر فيها الصبح لأغير على أعداء الله]].

كأنما الموت في أفواههم عسل     من ريق نحل الشَّفا حدث ولا حرجا

حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قال: [[لقد طلبت القتل مظانّه، فلم يقدر لي أن أموت إلا على فراشي، ولا والله الذي لا إله إلا هو ما عمل شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلني ننتظر الصبح حتى نغير على أعداء الله، لقد شهدت كذا وكذا مشهداً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العير، لا نامت أعين الجبناء، عدتي وعتادي في سبيل الله]] ثم لقي الله رضى الله عنه وأرضاه.

الدم الزاكي جرى في عرقهم     فاض مسكاً وتندى عنبراً

فاسألوا عن كل نصرٍ خالداً     واسألوا عن كل عدلٍ عمرَ

وإذا بـابن تيمية رحمه الله يدخل سجن القلعة ويغلق عليه الباب، فيبرز بلسم الحياة في تلك اللحظة -أعني الإيمان- فيقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].

ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رُحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة الإيمان.

المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه، والله لو بذلت ملء القلعة ذهباً ما عدل ذلك عندي شكر نعمة الحبس، وما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، حاله:

أنا لست إلا مؤمناً     بالله في سري وجهري

أنا نبضة في صدر هذا     الكون فهل يضيق صدري

يقول تلميذه ابن القيم رحمه الله: وعلم الله! ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والتنعم، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، ومع ذلك فهو من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة وطمأنينة.

فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه! وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.

رجحوا حلماً وخفوا همماً     ونشوا سِيداً وشبوا عُلَما

علموا من أين ينزاح الشقا     فأزاحوه وعاشوا سعدا

إنه بلسم الحياة.

وإذا بآخر يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه، فما يزيد على أن يَفتَّرَ عن ابتسامة من ثغره نابعة من صدر مطمئن هادئ، يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه ذلك القتل فَيفتَّر ثغره عن ابتسامة نابعة من صدر مطمئن هادئ، واثق بموعود الله كما يُحكى، فيقال له: ما تنتظر؟ قال: أنتظر القدوم على ربي، لقد عملت لهذا المصرع خمسة عشر عاماً، وإني لأرجو الله أن تكون شهادة في سبيله.

فوالله إني أرى مصرعي     ولكن أرغدُّ إليه الخطا

وتالله هذا ممات الرجال     فمن رام موتاً شريفاً فذا

وآخر كان يعيش حياة الضياع والحرمان والتعاسة وعدم المبالاة، فيمر على مسجد بعد صلاة المغرب، وإذا بالمتكلم يتكلم فيه حول قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18] فألقى سمعه وقلبه، وصار في حالة من الذهول، سمع مصيره ومآله -ولا عدة له- تذكر أيامه السوداء البائسة، ووقوفه بين يدَيْ ربه لا تخفى على الله منه خافية، استفاق قلبه، استيقظ إيمانه، تغلغلت الموعظة إلى سويداء قلبه، اندفع يبكي وينتحب، ويقول: أتوب إلى الله، أتوب إلى الله، غفرانك يا رب، رحمتك يا أرحم الراحمين!

بادر واغتسل وصلّى صلاة المغرب، وذهب إلى هذا الداعية المتكلم، فقصَّ عليه قصته، وأوصاه الداعية بوصايا، وسأل الله له الثبات، أقبل على تنفيذ هذه الوصايا إقبال الظامئ على الماء البارد في يوم قائظ.

يقول هذا التائب -وقد ذاق ذلكم البلسم-: والذي لا إله إلا هو ما نمت تلك الليلة من فرحي بالهداية والإقبال على الله، وتالله لقد حفظت القرآن في أربعة أشهر عن ظهر قلب، صلح حالي، وانشرح بالي، وذهبت غمومي وهمومي، تراه طلق المُحيَّا، بشوشاً يختم القرآن في كل ثلاث، وصدق الله جل وعلا يوم قال: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].

سعادة الدين والدنيا مقيدة          بمنهج الله فهو الشرط والسبب

وإذا بالآخر يقول مع فقره وحاجته: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

وإذا بالأعرج يوم أحد كما في المسند بسند حسن يقول: (يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أأمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. تقول زوجته: لكأني أنظر إليه وقد أخذ درقته، وهو يقول: اللهم لا تردني حتى أطأ بعرجتي هذه الجنة صحيحاً -وقاتل حتى قتل- فمر عليه صلى الله عليه وسلم فقال: لكأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة)إيهٍ إيهٍ!!

ليرفعها من حضيض التراب          إلى الأفق الأرحب الأكرم

وإذا بالآخر في القادسية يبارز مجوسياً، فيقتل المجوسي ويعينه الله -عز وجل- عليه، لكنه رحمه الله يصاب في بطنه، فتنتثر أمعاؤه، ويمر به رجل من المسلمين فيقول: أعنِّي على بطني، فأدخل له أمعاءه في بطنه، ثم أخذ بصفاق بطنه يزحف نحو أعداء الله على هذه الحال، فيدركه الموت على ثلاثين ذراعاً من مصرعه، وهو يقول:

أرجو بها من ربنا ثوابا     قد كنت ممن أحسن الضرابا

ثم فاضت نفسه رحمه الله.

يعانقون ظباها وهي هاوية     كأنما الطعن في لبَّاتهم قُبَلُ

إنه الإيمان.. بلسم الحياة.

وإذا بالزوج يتوعد زوجته حين غضب عليها، فيقول: والله لأشقينك ولأتعسنك.

فتقول حين خالط الإيمان بشاشة قلبها في هدوء: والله لا تستطيع أن تشقيني كما أنك لا تملك أن تسعدني، لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو في زينة وحلي لحرمتنيها، لكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون.

قال: وما هو؟

قالت: سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي وعملي، وقلبي في يدي ربي؛ لا سلطان لأحدٍ عليه غير ربي.

هات ما عندك هات     معي الإيمان يهديني في بحر الظلمات

بلسم الإيمان ينجي     مركبي والموج عاتي

هل ترى الإعصار يوماً     هزَّ شُمّاً راسيات

كلاَّ.

وإذا بالآخر يقول: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.

قيل له: وما أطيب ما فيها ؟! قال: محبة الله، ومعرفته وذكره، والله الذي لا إله إلا هو لأهل الليل في ليلهم مع الله ألذُّ من أهل اللهو في لهوِهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم، إنهم لفي عيش طيب.

عباد الله: هذه أقوال ومواقف، أَطَلْت فيها لأنني أعايش فيها شيئاً لا أراه في نفسي ولا في من حولي، أرى أنهم يتذوقون طعماً لم نتذوقه، ويولعون بشيء لم نعشقه.

إنه الإيمان.. بلسم الحياة.

أقف وأتساءل من الأعماق، هل هذا الإيمان الذي نعيشه هو الإيمان الذي عاشوه وأحبوه ؟!

هل البلاء في الأشخاص، أم في الزمان، أم في الإيمان؟!

إن الإيمان هو الإيمان أيها المؤمنون، والزمان هو الزمان، والأجساد هي الأجساد لم يتغير شيء، لكن الذي اختل فقط: هو العلاقة بين الشخص والإيمان، إنهما لم يلتقيا بعد اللقاء الحقيقي!

أما -والله- لو التقى الأشخاص مع الإيمان لقاءً حقيقياً لا شعاراً، لقاءً عميقاً في تشبث واعتزاز، لكان ما كان مما قد سمعتموه، لذة لا يعدلها لذة، وحلاوة لا ينعم من لم يذقها، كيف؟

إنه الإيمان.. بلسم الحياة، وأس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزم في الشدائد، وبلسم العبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس، وعزاء القلوب إذا أوحشتها الخطوب، والعروة الوثقى عند حلول الموت بسكراته العظمى.

المؤمن في كل أحواله وأعماله الصالحة مثل أم موسى عليه السلام، ترضع ولدها، وتطفئ بذلك ظمأ نفسها وشغف قلبها، وتأخذ على ذلك أجراً، فكذلك المؤمن يسعد بإيمانه في الدنيا وبثواب إيمانه في الآخرة، وذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

فهل زلزلت أنفس جامدات     فهبت لتغسل أوحالها

حال الإنسان بلا إيمان

الفرد بغير إيمان: ريشة في مهب الريح لا تستقر على حال ولا تسكن إلى قرار.

الفرد بلا إيمان: ليس له امتداد ولا جذور، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدرى من ألبسه ثوب الحياة، ولماذا ألبسه إياه، ولماذا ينتزعه منه بعد حين.

النفس بلا إيمان: مضطربة، حائرة، متبرمة، قلقة، تائهة، خائفة، كسفينة تتقاذفها الريح في ثبج البحر وأمواجه.

الفرد بلا إيمان: حيوان شَرِهٌ فاتك لا تُحدُّ شراهته، ولا تُقلَّم أظفاره، سئم حديده، فعجم عوده، وحطَّم قيوده.

الفرد بلا إيمان: يكون أدنى رتبة في سلم المخلوقات، من أذل البهائم، وأضعف وأحقر الحشرات، وأشرس الضواري، كما يقول صاحب قصة الإيمان:

البهائم تجوع كما نجوع؛ لكنها في سلامة من همِّ الرزق، وخوف الفقر، وكرب الحاجة، وذل السؤال.

البهائم تلد كما نلد، وتفقد أولادها كما نفقد، لكنها في راحة من هلع المَثْكَلة وجزع الميتمة، وهمِّ اليتامى والمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.

البهائم تتلذذ كما نتلذذ، وتَأْلَم كما نأْلَم، لكنها في راحة مما يأكل القلوب ويُقرِّح الجفون، ويقض المضاجع، ويقطع الأرحام، ويفرق الشَّمل، ويخرب البيوت من مهلكات كالحسد والكذب والنميمة والفرية والقذف والخيانة والنفاق والعقوق ونكران الجميل.

البهائم تُعرف بنوع من الإدراك أعطاها الله إياه ما يضرها وما ينفعها، لكنها في سلامة من أعباء التكاليف، وثقل الأوزار، ومضض الشك، وعذاب الضمير، وهمِّ السؤال بين يدي الحكيم الخبير.

البهائم تمرض كما نمرض، وتموت كما نموت، لكنها في راحة من التفكير في عقبى المرض، وفراق الأحباب بعد الممات، وسكرات الموت ومصير ما وراء القبور من حشرٍ ونشور.

علاج الخلل ومثال من الواقع

يبقى هذا الإنسان الضعيف الهلوع الجزوع، المطماع المختال الفخور المتكبر المترف، شقياً تعيساً، سيء الحظ، عظيم البلاء، منحط الرُّتبة، بائس المصير حين يكون تفكيره بلا إيمان، ولا غرابة.

فمن يزرع الريح في أرضه     فلا بد أن يحصد الزوبعة

ولا والله الذي لا إله إلا هو إنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان، يقويه، يعزِّيه، يسلِّيه، يمنِّيه، يرضيه، يُحْييه حياة طيبة على الحقيقة، يعلو يقينه، ينفسح صدره، تعظم سعادته، وحين يفقد ذلك يشقى، ويضيق عليه صدره، ويأسى، ويحزن، ويكتئب؛ فيتداوى بالداء، يلجأ إلى المخدرات والانتحار، ظناً منه أنه يتخلص من الشقاء، وإنما هو في الحقيقية يتقلب في شقاء الدنيا -إن لم يعفُ الله عنه- إلى شقاء الآخرة، ومن عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة إن لم يتداركه ربه برحمة منه وَمَنٍّ، نسأل الله العافية.

اسمع معي عبد الله لهذا الشاب التائب كما أورد ذلك صاحب طريق السعادة بتصرف، قال الشاب التائب:

مرَّ عشرون عاماً من عمري وأنا في ظلام دامس، أتخبط خبط عشواء، لا أحس للدنيا طعماً، مالي كثير، أخلائي كثير، في نفسي جوعة، في صدري ضيق، ماذا يشبع تلك الجوعة؟!

ماذا يشرح ذلك الضيق؟!

معازف لم تشرح صدري بل معها الجوعة ازدادت، والضيق ازداد، بَدَّلت أخلائي، بدّلت أفلامي، سافرت وعدت، سهرت كثيراً، شربت كثيراً، لهوت كثيراً، تعبت، الجوعة تزداد والضيق كذلك: حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] أحسست كأني مسجون في دنياي، وأن الأرض برحابتها لا تسعني، فكرت طويلاً وطويلاً، وأخيراً ظهر الحل، الآن أشعر بالراحة -كما أزعم حينها- أخذت سكيناً وقلت: هذه سكيني بيدي تلمع باسمة راضية عن هذا الحل، الناس هجوع، الأهل نيام، السكون عام، أقول -في نفسي-: لم يبق سوى لحظات وأعيش ساعات الراحة كما أزعم، وفي تلك اللحظات سكيني في يدي تقترب من قلبي الميت، أريد أن أنتحر، أريد أن أتخلص من هذا الشقاء، وإذا بصوت يشق عنان السماء، يقطع الصمت، ويدوي في الكون، وترتج به المدينة.

الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.

نداء صلاة الفجر، ويْحها من قلوبٍ لا تجيبه ما أتعسها! ما أشقاها! سقطت سكيني من يدي عند سماع الصوت، وسرى في جسدي ما قد سرى، تحرك قلبي الميت على ذلك الصوت، استيقظت بعد طول سبات، ويح نفسي ماذا جدّ ؟ أغريب هذا الصوت؟ عشرون خريفاً تسمعه، أما أحسست معناه إلا الآن ؟

أجبت هذا الصوت، وجئت بالماء أهريقه على وجهي وجسدي المرهق؛ فيطفئ لظى الشقاء، ويعيد الهدوء إلى نفسي شيئاً فشيئاً، خرجت متجهاً نحو المسجد لأول مرة من عشرين عاماً، الكون مخيف بهدوئه، لا صوت يعلو، لا ضوضاء، دخلت مع إقامة صلاة الفجر، وقفت في الصف مع الناس، صنف من الناس لم أعهده في حياتي.

وجوه يشع منها النور، نفوس طيبة مرتاحة، تقدم من بينهم الإمام، وأقبل يحث على تسوية الصفوف، كبر وزلزل كياني تكبيره، شرعت أصلي خلفه، نفسي هادئة، صدري منشرح، يقرأ الآيات وأنصت في تلك اللحظات، لكلام لم أسمعه منذ سنوات وسنوات.

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:25-37]. تتسابق مني العَبَرَات، أحسست بملوحتها في فمي، شعرت بلسعاتها، أجهشت ببكاء صادق صنع في صدري أزيزاً كأزيز المرجل، انهال الدمع غزيراً، سال على خدي، سقى أرضاً مجدبة في قلب ميت، فأحيا بكلام الله موت فؤادي وبمعية ذلك الغيث صوت الرعد -رعد الرحمة- صوت نحيبي وبكائي من خشية الله رب العالمين، بعد إعراض دام عشرين، فالحمد لله رب العالمين، فالحمد لله رب العالمين.

الفرد بغير إيمان: ريشة في مهب الريح لا تستقر على حال ولا تسكن إلى قرار.

الفرد بلا إيمان: ليس له امتداد ولا جذور، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدرى من ألبسه ثوب الحياة، ولماذا ألبسه إياه، ولماذا ينتزعه منه بعد حين.

النفس بلا إيمان: مضطربة، حائرة، متبرمة، قلقة، تائهة، خائفة، كسفينة تتقاذفها الريح في ثبج البحر وأمواجه.

الفرد بلا إيمان: حيوان شَرِهٌ فاتك لا تُحدُّ شراهته، ولا تُقلَّم أظفاره، سئم حديده، فعجم عوده، وحطَّم قيوده.

الفرد بلا إيمان: يكون أدنى رتبة في سلم المخلوقات، من أذل البهائم، وأضعف وأحقر الحشرات، وأشرس الضواري، كما يقول صاحب قصة الإيمان:

البهائم تجوع كما نجوع؛ لكنها في سلامة من همِّ الرزق، وخوف الفقر، وكرب الحاجة، وذل السؤال.

البهائم تلد كما نلد، وتفقد أولادها كما نفقد، لكنها في راحة من هلع المَثْكَلة وجزع الميتمة، وهمِّ اليتامى والمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.

البهائم تتلذذ كما نتلذذ، وتَأْلَم كما نأْلَم، لكنها في راحة مما يأكل القلوب ويُقرِّح الجفون، ويقض المضاجع، ويقطع الأرحام، ويفرق الشَّمل، ويخرب البيوت من مهلكات كالحسد والكذب والنميمة والفرية والقذف والخيانة والنفاق والعقوق ونكران الجميل.

البهائم تُعرف بنوع من الإدراك أعطاها الله إياه ما يضرها وما ينفعها، لكنها في سلامة من أعباء التكاليف، وثقل الأوزار، ومضض الشك، وعذاب الضمير، وهمِّ السؤال بين يدي الحكيم الخبير.

البهائم تمرض كما نمرض، وتموت كما نموت، لكنها في راحة من التفكير في عقبى المرض، وفراق الأحباب بعد الممات، وسكرات الموت ومصير ما وراء القبور من حشرٍ ونشور.