خطب ومحاضرات
العدة شرح العمدة [73]
الحلقة مفرغة
الحمد لله.
والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ باب: الإجارات ].
انتقل المصنف بعد أن انتهى من كتاب البيوع إلى كتاب الإجارة، وعقد الإجارة عقد على المنافع، وعقد البيع عقد على الأعيان، فبعد أن انتهى من بيان عقد البيوع على الأعيان انتقل إلى عقد الإجارات على المنافع.
قال: [ وهو عقد على المنافع ].
والعقود أنواع، وعقد الإجارة ملزم للطرفين، وأما العقد الملزم لطرف والجائز لطرف فهو عقد الرهن، مثال ذلك: قلت لك: أريد ألفاً من الجنيهات. قلت لي: لن أعطيك الألف إلا برهن، فجئت لك بالرهن، لأن العقد يلزمني بذلك، فقلت أنت: خذ الألف ولا أريد منك رهناً، فهذا جائز منك، أما أنا فلا أستطيع أن أقول: أعطني الألف بدون رهن، فعقد الرهن ملزم لطرف وجائز لطرف آخر، وعقد البيع ملزم للطرفين، فاحفظوا ذلك، وقيدوا العلم بالكتاب:
العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقة
إن آفة العلم النسيان، وقد ذكر البخاري حديثاً في كتاب العلم هذا: أن أبا هريرة كان يقول: لم يكن أحد أكثر بلاغاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني سوى عبد الله بن عمرو ؛ لأنه كان يكتب وكنت لا أكتب. أي: أن عبد الله بن عمرو كان يكتب الحديث، فازداد بلاغاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أبي هريرة الذي كان يعتمد على الذاكرة.
فلابد لطالب العلم من الثبات والتحقيق وعدم التنقل. يقول الدكتور بكر أبو زيد : من ثبت نبت، فالشجرة كثيرة التنقل لا تثمر، ولو ثبت على منهج واحد أثمر، (وكان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته)، أي: أمضاه، يعني: إذا دخل في عمل لابد أن يكمله، فمصيبة طالب العلم في هذا الزمن أنه يبدأ بكتاب الطهارة ولا يكمل، ويبدأ بتفسير الفاتحة ولا يكمل.
قال: [ الإجار: عقد على المنافع كسكنى الدار ].
يعني: أجرتك داراً لتسكنها بالإيجار، وليس في الشرع ما يسمى بالمشاهرة، أي: لا إيجار مدى الحياة، والقانون المصري القديم ليس من شرع الله، لابد أن يكون الإيجار لزمن محدد بمبلغ محدد، فإن انتهى عقد الإيجار عاد الملك إلى المالك، أما أن يكون المالك ليس هو المالك، وينقلب المستأجر إلى مالك! هذا ليس في شرعنا.
قال: [ والحمل إلى مكان معين ].
كأن أستأجر منك سيارة على أن تحملني إلى مكان معين، مثال ذلك: شخص يريد أن يركب إلى الجيزة فلابد من تحديد الأجرة وتحديد المنفعة، فتبادره أنت وتقول له: كم تريد أن تأخذ على هذا المشوار، فيقول لك مثلاً: خمسة جنيهات، فتقول له: لا. لا أملك إلا ثلاثة جنيهات، فاتفقتما على ذلك، حتى إذا وصلتما إلى الجيزة أعطيت السائق المبلغ المتفق عليه دون نزاع أو مخاصمة.
مثال آخر: استأجرت من يحمل لك طوباً إلى الدور الرابع فقلت له: ارفع هذا الطوب من الدور الأرضي إلى الرابع، فيقول لك: كم طوبة؟ فتقول له: ألف طوبة. كم تريد عليهن أجرة؟ فيقول لك: آخذ على المائة عشرين جنيهاً، فيكون الألف بمائة جنيه، فاتفقتما على هذا المبلغ. لكن نحن نقول: توكل على الله! كلك بركة، سأرضيك إن شاء الله، وبعد أن يحمل له الطوب وينتهي من حملها يقول له: كم أجرتك؟ فيقول: مائة، فيقول له الآخر: لن أعطيك إلا ثلاثين جنيهاً، فيقول له: اجعلها ديناً عندك، وتحدث المشاحنات بسبب عدم تحديد أجرة المنفعة.
قال: [ وخدمة الإنسان. قال الله سبحانه: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] ].
طلق رجل امرأته وهي حامل وبانت منه ثم وضعت الحمل، فالأم ترضع الطفل، ولابد للأب أن ينفق على الأم وهي ترضع في مدة الرضاعة.
وهناك مسألة أخرى، وهي قول الله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6].
فإن طلق الرجل زوجته وهي حامل في الشهر السابع، وقد بانت منه طلاقاً غير رجعي، فالمطلوب من الرجل أن ينفق عليها في مدة الحمل؛ لأن الولد الذي في بطنها يحتاج إلى غذاء، فإن وضعت أنفق عليها مدة الرضاعة، يقول ربنا سبحانه: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] أي: أجورهن على الرضاعة، ففي باب الإجارة يدلل المصنف على جواز الإجارة من القرآن.
وقال تعالى: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26].
فشعيب استأجر موسى عليه السلام لعمل محدد. قال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ [القصص:27]، فانظر أولاً إلى عدل شعيب بين البنتين، إذ ترك الخيار لموسى. ثانياً: قال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ ، فالذي يزوج البنت هو الأب؛ لأنه الولي الطبيعي عليها. ثالثاً: في الآية جواز أن يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح.
رابعاً: عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27]، الصداق في شرع من قبلنا كان يدفع لولي أمر الزوجة، أما في شرعنا: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، فموسى سيرعى الغنم لأبيها ويتزوجها هي فعقد الإيجار بين موسى وبين شعيب عليهما السلام على أن يرعى الغنم كصداق له.
قال: [ ولأن الحاجة تدعو إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فلما جاز عقد البيع على الأعيان وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع ].
المؤلف يدلل على جواز عقد الإجارة بالكتاب والسنة وصالح المسلمين والاتفاق والإجماع، فلا شبهة على جواز عقد الإجارة.
قال: [ وهي عقد لازم من الطرفين لا يملك أحدهما فسخها؛ لأنها عقد بيع أشبهت بيوع الأعيان، ولا تنفسخ بموته ولا جنونه ].
والمعنى: أجر رجل محلاً في شارع من الشوارع لمدة سنتين، وكتبنا العقد ووصف المكان المؤجر والغرض من استخدامه ومدة الإيجار، ووقع المؤجر والمستأجر، وبعد أن وقع المؤجر والمستأجر جن المالك، ففي هذه الحالة لا ينفسخ العقد، بل يتم العقد للمدة المحددة بين الطرفين، وإن مات المالك بعد سنة لا ينفسخ العقد، بل يمتد إلى المدة المتفق عليها، معنى ذلك: أن عقد الإجارة لا ينفسخ بموت أحدهما ولا بجنونه.
قال: [ ولا تنفسخ بموت المالك ولا جنونه؛ لأنه ملزم له كالبيع ] وكذلك المستأجر.
بيان ما تنفسخ به الإجارة
استأجرت منك محلاً، وبعد أن وقعنا العقد وقع المحل على الأرض، ففي هذه الحالة ينفسخ العقد؛ لأن المنفعة زالت. مثال آخر: استأجرت منك حماراً لتوصيل التراب إلى مزرعتي على أن أعطيك في الشهر خمسين جنيهاً مدة إيجار الحمار لحمل التراب من بيتي إلى المزرعة، فإذا مات الحمار انفسخ العقد؛ لأن المنفعة زالت، فينفسخ عقد الإيجار بزوال المنفعة.
قال: [ أو انقطاع نفعها ].
فانقطاع النفع أيضاً ينفسخ به عقد الإجارة.
قال: [ كما لو تلف المكيل قبل قبضه، وكذلك إذا تعيبت، كدار استأجرها فانهدمت، أو أرض انقطع ماؤها ].
يعني: أنا استأجرت منك فداناً لزراعته على أن الماء يخرج إليها من سبيل كذا، فانقطع الماء من هذا السبيل، فانعدمت المنفعة؛ لأن الأرض بدون ماء لا قيمة لزراعتها، فانعدام المنفعة أو انقطاعها يفسخ عقد الإيجار.
قال: [ لأن المنفعة المقصود منها تعذرت، فأشبه تلف العبد. وفيه وجه آخر: لا تنفسخ ]. لكن الراجح: أنها تنفسخ.
بيان ما تصح به الإجارة
مثال لذلك: أنت تريد أن تحيك ثوباً، فذهبت إلى تاجر القماش، وقطعت ثوباً طوله ثلاثة أمتار، وقلت له: اعمل لي هذا قميصاً، وأخذ المقاس وقاس، وأول ما أخذ المقص قص جزءاً من القميص فأتلفه، فإنه يلزمه الضمان، لكن إذا سرق الثوب من حرزه الذي وضعه فيه لا يلزمه الضمان؛ لأن سرقة الثوب بعد إتمام صنعه يختلف عن إتلافه؛ لأنك تستأجره.
ومثال المنفعة: ذهبت إلى الحلاق وقلت له: احلق لي شعري لو سمحت. فشوه بشعري وقال لي: آسف لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك، فهو الآن يلزمه التعويض والضمان؛ لأنه لم يقم بالوظيفة المتفق عليها بين الطرفين، فلابد أن تكون على نفع معلوم.
قال: [ وضبط ذلك بصفاته، فيشترط أن يكون النفع معلوماً؛ لأنه المعقود عليه فأشبه المبيع ].
بيع الجهالة لا يجوز، وكذلك إجارة الجهالة، ونحن جميعاً نقع في هذا، نستأجر دون اتفاق على منفعة ولا على أجرة، فمثلاً: تأتي شخصاً وتقول له: أريد أن أستأجر منك هذه الشقة (صالة وأربع غرف) فيقول المؤجر: طيب، فيقول له المستأجر: كم تأخذ؟ فيقول المؤجر: على البركة! فهذا لا يجوز، لابد أن تحدد الأجرة، فالنفع معلوم والأجرة معلومة بمواصفات معلومة حتى لا يحدث النزاع هذا هو الشرع؛ لأنه أشبه بيع المعلوم.
حكم استئجار العين
أنا سأستأجر منك عيناً، لابد أن أعرف أين هذه العين؟ فمثلاً: أجر فلان لفلان شقة في الدور العشرين في جهة الشمال، فيها ثلاث غرف وصالة ودورة مياه مقابل ثلاثمائة جنيه دون أن يعاين، فخرج إلى الشقة وصعد في الدور العشرين، فوجدها أقل من ثلاث غرف وعلى خلاف ما اتفقا، فلابد أن يعاين قبل توقيع عقد الإيجار، فإن هذا مدعاة لخلق المنازعات بين الناس.
قال: [ وإجارة العين تنقسم قسمين:
أحدهما: أن يكون على مدة، كإجارة الدار شهراً، أو العبد للخدمة أو للرعي مدة معلومة، فيشترط معرفتها؛ لأن الأعيان تختلف فتختلف أجرتها، كما أن المبيعات تختلف فتختلف أثمانها.
القسم الثاني: إجارتها لعمل معلوم ].
فالإجارة نوعان: إما إجارة لمدة وإما إجارة لعمل، ومعنى الإجارة لمدة: استأجرت منك هذه الدار لمدة شهر أو لمدة سنة، أو استأجرت خادماً ليعمل عندي ثلاثة أشهر، أو استأجرته ليعمل في داري مدة ثلاثة شهور، ومعنى الإجارة لعمل: ارفع هذا الطوب من الدور الأرضي إلى الرابع، فهذا إجارة عمل، فظل يرفع الطوب من الصبح إلى المغرب أو من الصبح إلى الظهر؛ لأن الاتفاق على أن الألف طوبة ترفع إلى الدور الرابع، فيرفعها في ساعة أو في ساعتين أو في ثلاث ساعات، الاتفاق هنا على عمل وليس على مدة.
قال: [ كإجارة الدابة للركوب إلى موضع معين أو بقر لحرث مكان معين ].
استأجرت منك سيارة على أني أركبها من القاهرة إلى بلبيس، إذاً: هذه إجارة لعمل، فيحظر علي أن أصل بها إلى الصالحية القديمة؛ لأنني اتفقت معك إلى بلبيس.
طيب لو أنني استأجرت منك السيارة على أن أصل بها إلى بلبيس، فوصلت بها إلى أقل من ذلك جاز؛ لأنني استخدمت السيارة في أقل من المسافة المحددة بيني وبينك، وهذا لمصلحتك أنت، بدلاً من أن أسير بها خمسين كيلو سرت بها عشرين كيلو. الحمد لله رب العالمين، فهذه المصلحة للمالك.
فلذلك يقول هنا: [ ومن استأجر شيئاً فله أن يقيم مقامه من يستوفيه بإجارته أو غيرها إذا كان مثله أو دونه ].
مثلاً: اتفقت معك على أن ترفع ألف طوبة حمراء من الدور الأرضي إلى الدور الرابع مقابل خمسين جنيهاً، فتأخر الطوب، وجاري عنده ألف طوبة مثلي، فقلت لك: ارفع هذا الطوب من الأرض إلى الدور الرابع لجاري محمد. فهذا جائز؛ لأنك الآن تتفق على عمل، بغض النظر عن صاحبه.
قال: [ ومن استأجر شيئاً له أن يقيم مقامه من يستوفيه بإجارته أو غيرها إذا كان مثله أو دونه ].
فإن اتفقت معك على أن تنقل لي الحجارة إلى الدور الرابع، ثم بدا لي أن أحول العمل إلى أخي في الدور الثاني فهذا أدنى من العمل المتفق عليه، وهو لصالح المستأجر ولا بأس به.
قال: [ فإذا اكترى داراً فله أن يسكنها مثله ومن هو دونه في الضرر؛ لأنه لم يزد على استيفاء حقه، ولا يجوز أن يسكنها من هو أكثر ضرراً منه؛ لأنه يأخذ فوق حقه ].
استأجرت منك شقة بغرض استعمالها سكناً لمدة سنة، فبدا لي أن انتقل إلى مكان آخر وأن أعطي الشقة لأخي بنفس القيمة الإيجارية، فأنت لن تتضرر طالما أنها تستخدم في السكن بنفس الأجرة، لكن إن استأجرت منك محلاً لبيع الكتب الإسلامية، فإذا بي أريد أن أحول المحل إلى مقهى للعب الضمنة! فهذا لا يجوز؛ لأنني أضرُّ بك.
أحكام استئجار أرض لزرعها
كأن أستأجر منك فداناً لأزرعه حنطة (القمح) فبدلاً من أن أزرعه قمحاً زرعته شعيراً.
قال: [ فإذا استأجر أرضاً لزرع حنطة فله أن يزرع شعيراً أو باقلاء، وليس له أن يزرع ما هو أكثر ضرراً منه كالدخن والذرة والقطن ].
يعني: لو استأجرت منك فداناً لزراعة قمح فزرعته قطناً، فإن هذا لا يجوز؛ لأن القطن أكثر ضرراً بالأرض.
قال: [ لأن ضررها أكثر، ولا يملك الغرس ولا البناء؛ لأنه أضر من الزرع ].
كذلك لو استأجرت منك فداناً لزراعته قطناً، فبنيت عليه لم يجز؛ لأنني استأجرت للزراعة وليس للبناء.
قال: [ ولا يجوز له أن يخالف ضرره ضرره، مثل: القطن والحديد، إذا اكترى -استأجر- لأحدهما لم يملك حمل الآخر؛ لأن ضررهما يختلف ].
حمل الحديد يختلف عن حمل القطن، فالحديد محكوم على ظهري والهواء لا ينثره، بينما القطن لابد أن يحكم، ولابد أن أحوط عليه وأمسكه بيديَّ، فإذا استأجرتك على حمل حديد فلا يجوز أن أحمل قطناً بدلاً من الحديد؛ لأن الضرر هنا يختلف.
قال: [ فإن الحديد يجتمع في مكان واحد بثقله، والقطن يتجافى وتهب فيه الريح؛ فينصب الظهر ].
يعني: يتعب الظهر.
قال: [ فإن فعل شيئاً من ذلك فعليه أجرة المثل؛ لأنه استوفى منفعة غير التي عقد عليها؛ فلزمه أجرة المثل كما لو استأجر أرضاً لزرع شعير فزرعها قمحاً، أو كما لو حمل عليها من غير استئجار ].
ومعنى هذا: استأجرت منك أرضاً لأزرعها حنطة -يعني: قمحاً- فزرعتها قطناً، وبعد أن زرعتها قطناً اختلف المالك مع المستأجر، فجاء آخر ليفصل بينهما فحكم على المستأجر أن يدفع أجرة المثل.
حكم من اكترى إلى موضع فجاوزه
مثال ذلك: استأجر سيارة إلى بلبيس فجاوزه إلى (العباسة) ودخل على (القوين)، ودخل على (أبو خبير فاقوس) وأبو حماد من قبلها، فجاوز المكان المتفق عليه، فما المطلوب من المستأجر في هذه الحالة؟ المذهب فيه روايتان، الراجح: أن الأجرة تكون حسب الاتفاق، والزيادة تكون فيها أجرة المثل.
أي: أن المسافة المحددة تعود إلى الاتفاق، وما زاد يعود إلى أجرة المثل.
حكم تلف العين المستأجرة
وإن تلفت من غير تعد فلا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد ].
أمثلة ذلك: استأجرت منك سيارة بمائة جنيه، وأنا أمشي بسرعة ستين وهي سرعة اعتيادية، وفجأة صدمني شخص، فهل يلزمني الضمان؟ لا يلزمني، وإن كنت أمشي بسرعة مائة وأربعين فإنه يلزمني، فالضمان يلزم المستأجر إن تعدى، وإن لم يتعد فلا ضمان عليه.
مثال آخر: زبون في مشكلة مع الحلاق، فبدلاً من أن يحلق ضرب بالموس رأسه فوصل إلى المخيخ وسال الدم من الرأس، فهنا يعتبر متعدياً، فإن تعدى يلزمه الضمان، وأي مستأجر تعدى يلزمه الضمان، كأن استأجر منك سكناً ففصل هذا السكن كما يحب ويهوى، فعمل حائطاً هنا، وعمل بلاطاً هنا، وقاطعاً هنا، وقسم البيت كما يريد! فهو تصرف في ملك غيره، وعندما كان يضرب على الجدار سقطت العمارة، فهنا يلزمه الضمان، لكن لو علق ستارة على النافذة فلا يلزمه الضمان؛ لأنه لا يضر بمصلحة البناء.
قال: [ ولا ضمان على الأجير الذي يؤجر نفسه مدة بعينها فيما يتلف في يده من غير تفريط، والإجارة على ضربين: خاص ومشترك، فهذا هو الأجير الخاص الذي يؤجر نفسه مدة معلومة لخدمة أو خياطة أو رعاية، شهراً أو سنة أو أكثر؛ سمي خاصاً لاختصاص المستأجر بمنفعته في تلك المدة دون سائر الناس، لا ضمان عليه فيما يتلف في يده مثل: أن تهلك الماشية معه، أو تنكسر آلة الحرث.. وما أشبه ذلك إذا لم يتعد؛ لأنه أمين، فلم يضمن من غير تعد كالمودع ].
إن كان المستأجر خاصاً ولم يتعد فلا ضمان عليه، فإن تعدى فعليه الضمان.
والمستأجر نوعان: مستأجر خاص؛ ومستأجر مشترك، فالمستأجر المشترك الذي فيه شركاء متشاكسون، كما قال الله عز وجل: فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا [الزمر:29]، فإن استأجرت طباخاً ليطبخ الطعام لي في البيت فهو مستأجر خاص. قلت له: أتجيد الطباخة. قال: نعم.
فأحضرت له المواد وأنتج الطبيخ فأفسده، فهل يلزمه الضمان؟ طبعاً يلزمه؛ لأنه تعدى هنا، ولم يبذل عناية الرجل المعتاد، فهنا تعدى.
كان الشعبي فقيهاً من الفقهاء، فجاءه رجل فقال له: إن هذا الرجل ترك غنمه ينزل الزرع فأفسده، وكان بجوار الشعبي فقيه فهمس الفقيه لمن بجواره: انظر إلى الشعبي سيسأله: بالليل أم بالنهار؟ فقال الشعبي للرجل: بالليل أم بالنهار؟ قال: بالليل. قال: يلزمه الضمان؛ لأنه بالنهار صاحب الزرع في زرعه، وصاحب الغنم يقوم على غنمه، فإن نزل الغنم إلى الزرع لا يلزمه الضمان؛ لأن صاحب الزرع يحرس زرعه، ويفترض أنه قائم على رعاية زرعه فإن وقع ذلك في آخر النهار فإن صاحب الزرع يعود إلى بيته، وصاحب الغنم يعود بغنمه إلى الحظيرة، فإن ترك صاحب الغنم غنمه تنزل الزرع بالليل لزمه الضمان؛ لأن صاحب الزرع ترك الزرع وعاد إلى بيته، وليس مطلوباً من صاحب الزرع أن يحرس الزرع بالليل؛ ولذلك ربنا يقول في حق سليمان وداود عليهما السلام: إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [الأنبياء:78]، قال العلماء: النفش: هو النزول بالليل وليس بالنهار وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [الأنبياء:78]، جاء صاحب الزرع إلى داود عليه السلام، وقال: يا نبي الله داود! هذا الرجل ترك غنمه فنزلت في زرعي فأفسدت الزرع، فقضى لصاحب الزرع بالغنم؛ لأنه يلزمه الضمان بقيمة التلف الذي أتلفه غنمه، فقدر التلف فوجده يساوي قيمة الغنم، فقال سليمان: يا أبي! إني أرى في هذا رأياً. قال: ما ترى يا ولدي؟! قال: أرى أن ندفع الغنم لصاحب الزرع، وأن ندفع الزرع لصاحب الغنم لمدة سنة، أما صاحب الزرع فينتفع بالغنم من أسمانها وألبانها وأصوافها وأوبارها مدة هذه السنة، وأما صاحب الغنم فيقوم على رعاية الزرع حتى يعود إلى شأنه، فإن عاد ردت الغنم إلى صاحبها، وعاد الزرع إلى صاحبه، فقال الله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79].
حكم إفساد الزوجة طعام زوجها
الجواب: تعطى فرصة أخرى، فهي ليست مستأجرة، بل هي زوجة، لكن يلزمها أن تكون طاهية فعندنا في الأرياف الأم تعلم ابنتها الطهي وهي ما زالت صغيرة، فتسلم المهنة لها في البيت كله. عموماً لا يلزمها الضمان.
فالأجير الخاص لا يلزمه الضمان إن لم يتعد، ويلزمه الضمان إن تعدى، فإن أجرت راعياً للغنم على أن يرعاها وأن يسقيها وأن يحلبها، فنام عنها فأكل الذئب واحدة منها، ففي هذه الحالة لزمه الضمان، لكن إن جاء الذئب وأخذ واحدة وهو مستيقظ دون إرادته لا يلزمه الضمان.
قال: [ والضرب الثاني: الأجير المشترك: هو الذي يقع العقد معه على عمل معين، كخياطة ثوب أو بناء حائط؛ سمي مشتركاً لأنه يعمل للمستأجر ولغيره ].
يعني: يفصل ثياباً للبلدة كلها.
قال: [ لأنه يعمل للمستأجر وغيره، ويتقبل أعمالاً كثيرة في وقت واحد، فيشتركون في منفعته، فيضمن ما جنت يده، مثل: أن يدفع إلى حائك عملاً فيفسد حياكته، أو القصار -الغسال- يخرق الثوب بدقه أو عصره ]. يعني: أخذت قميصاً وأودعته المغسلة، فصاحب المغسلة أخذ القميص وأدخله الفرن فلم يخرج قميصاً، بل خرج قطعة فحم! فإنه يلزمه الضمان، وإن أدخله بلون معين وخرج أسود لزمه الضمان؛ لأن هذا العمل مشترك.
فقوله: [ فيضمن ما جنت يده ]. أي: يضمن الذي تسببت يده في تلفه، لكن إن جاء التيار ستين فولتاً، فارتفعت الكهرباء من الشركة فزادت مائة وعشرين فولتاً، واحترق كل شيء في الفرن، فهو لم يقصر ولم تجن يده، فالشريعة لا تأتي إلا بالعدل، ولا تعرف الظلم أبداً، فليس عليه الضمان.
قال: [ والطباخ ضامن لما فسد من طبيخه، والخباز في خبزه؛ لما روى جلاس بن عمرو : أن علياً رضي الله عنه كان يضمن الأجير؛ ولأنه قبض العين لمنفعة من غير استحقاق، وكان ضامناً لها كالمستعير ].
ضمان الحجام والختان والطبيب
يعني: مهارة، مثال ذلك جئت بطبيب ماهر وقلت له: اختن ولدي، فختن الولد، فأصيب الولد بشيء ليس من تقصير الطبيب، فإنه لا يضمن.
مثال آخر: جئت بحلاق لختان ولدك، فأتى على الحشفة وما بعدها فقضى على مستقبله، فإنه يلزمه الضمان.
مثال آخر: جئت بختانة -يعني: مطهرة للإناث- لتختن ابنتي فقطعت البظر فيلزمها الضمان؛ لأنها أفسدت.
قال: [ إذا فعل هؤلاء ما أمروا به لم يضمنوا، بشرطين أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق -يعني: مهارة- وبصارة في صنعتهم ].
فهل صنعة الحلاق الختانة؟ لذلك ضمن مباشرة؛ لأنه ليس من اختصاصه، فالطب صنعة والختان صنعة، فلابد أن نحترم التخصصات، والإسلام حظنا على ذلك فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
قال: [ والثاني: ألا تجني أيديهم فيتجاوزوا ما أمروا به؛ لأنهم إذا كانوا كذلك فقد فعلوا فعلاً مأذوناً فيه، فلم يضمنوا سرايته، كقطع الإمام يد السارق ].
سارق سرق، فجيء بإمام ليقطع يده، ومعلوم أن اليد تقطع من المفصل، فإن قطع يده وشلت لا يضمن؛ لأنه يمارس العمل بالضوابط الشرعية فلم يلزمه الضمان، وجاء رغم إرادته وبدون تعد.
قال: [ فلم يضمن سرايته كقطع الإمام يد السارق أو فعلاً مباحاً مأموراً به أشبه ما ذكرنا.
أما إذا لم يعرف منهم حذق الصنعة فلا يحل لهم مباشرة القطع، فإن قطعوا مع هذا كان فعلاً محرماً فيضمن سرايته كالقطع ابتداء، وإن كانوا حذاقاً إلا أن أيديهم جنت مثل: أن يتجاوز قطع الختان إلى الحشفة أو بعضها، أو يقطع في غير محل القطع، أو في وقت لا يصلح القطع فيه فإنه يضمن؛ لأن الإتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ؛ ولأن هذا فعل محرم فيضمن سرايته كالقطع ابتداء ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وتنفسخ بتلف العين المعقود عليها أو انقطاع نفعها ].
استأجرت منك محلاً، وبعد أن وقعنا العقد وقع المحل على الأرض، ففي هذه الحالة ينفسخ العقد؛ لأن المنفعة زالت. مثال آخر: استأجرت منك حماراً لتوصيل التراب إلى مزرعتي على أن أعطيك في الشهر خمسين جنيهاً مدة إيجار الحمار لحمل التراب من بيتي إلى المزرعة، فإذا مات الحمار انفسخ العقد؛ لأن المنفعة زالت، فينفسخ عقد الإيجار بزوال المنفعة.
قال: [ أو انقطاع نفعها ].
فانقطاع النفع أيضاً ينفسخ به عقد الإجارة.
قال: [ كما لو تلف المكيل قبل قبضه، وكذلك إذا تعيبت، كدار استأجرها فانهدمت، أو أرض انقطع ماؤها ].
يعني: أنا استأجرت منك فداناً لزراعته على أن الماء يخرج إليها من سبيل كذا، فانقطع الماء من هذا السبيل، فانعدمت المنفعة؛ لأن الأرض بدون ماء لا قيمة لزراعتها، فانعدام المنفعة أو انقطاعها يفسخ عقد الإيجار.
قال: [ لأن المنفعة المقصود منها تعذرت، فأشبه تلف العبد. وفيه وجه آخر: لا تنفسخ ]. لكن الراجح: أنها تنفسخ.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا تصح الإجارة إلا على نفع معلوم، إما بالعرف كسكنى الدار، أو بالوصف كخياطة ثوب معين وبناء حائط وحمل شيء إلى موضع معين ].
مثال لذلك: أنت تريد أن تحيك ثوباً، فذهبت إلى تاجر القماش، وقطعت ثوباً طوله ثلاثة أمتار، وقلت له: اعمل لي هذا قميصاً، وأخذ المقاس وقاس، وأول ما أخذ المقص قص جزءاً من القميص فأتلفه، فإنه يلزمه الضمان، لكن إذا سرق الثوب من حرزه الذي وضعه فيه لا يلزمه الضمان؛ لأن سرقة الثوب بعد إتمام صنعه يختلف عن إتلافه؛ لأنك تستأجره.
ومثال المنفعة: ذهبت إلى الحلاق وقلت له: احلق لي شعري لو سمحت. فشوه بشعري وقال لي: آسف لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك، فهو الآن يلزمه التعويض والضمان؛ لأنه لم يقم بالوظيفة المتفق عليها بين الطرفين، فلابد أن تكون على نفع معلوم.
قال: [ وضبط ذلك بصفاته، فيشترط أن يكون النفع معلوماً؛ لأنه المعقود عليه فأشبه المبيع ].
بيع الجهالة لا يجوز، وكذلك إجارة الجهالة، ونحن جميعاً نقع في هذا، نستأجر دون اتفاق على منفعة ولا على أجرة، فمثلاً: تأتي شخصاً وتقول له: أريد أن أستأجر منك هذه الشقة (صالة وأربع غرف) فيقول المؤجر: طيب، فيقول له المستأجر: كم تأخذ؟ فيقول المؤجر: على البركة! فهذا لا يجوز، لابد أن تحدد الأجرة، فالنفع معلوم والأجرة معلومة بمواصفات معلومة حتى لا يحدث النزاع هذا هو الشرع؛ لأنه أشبه بيع المعلوم.
استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
العدة شرح العمدة [13] | 2697 استماع |
العدة شرح العمدة [68] | 2621 استماع |
العدة شرح العمدة [26] | 2596 استماع |
العدة شرح العمدة [3] | 2518 استماع |
العدة شرح العمدة [1] | 2476 استماع |
العدة شرح العمدة [62] | 2374 استماع |
العدة شرح العمدة [19] | 2338 استماع |
العدة شرح العمدة [11] | 2333 استماع |
العدة شرح العمدة [56] | 2302 استماع |
العدة شرح العمدة [15] | 2239 استماع |