خطب ومحاضرات
بئست العجلة
الحلقة مفرغة
الحمد لله الحكيم الخبير، يحكم بالعدل ويمن بالفضل والله ذو الفضل العظيم، علم القرآن، وخلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له طهر الإنسانية وزكاها، وفضلها على من خلق تفضيلاً، جعل لها سبيلاً واحداً لا سبلاً، وصراطاً واحداً لا صراطات وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من أدب، وأفضل من هذب، قال عنه ربه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:54].
أما بعــد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].
أيها المسلمون: إن البواعث التي تسوق المرء إلى عمل ما، وتدفعه إلى خوض غمار الحياة، بظروفها الواقعة لهي كبيرة متباينة، يبين لتباينها مواقف أهل الاحتكاك بها؛ فتكون نفوسهم إحدى نفسين:
إما نفس عجلة تثير الفوضى في المنظوم المحكم، وإما نفس متأنية متئدة، يشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف وسط الأعاصير.
ومن المقررات التي لا ينبغي أن تجهل أو تتجاهل أن تكرار المواقف واستحكامها، وترادف الطوارق والعلائق، وتعقد حبالها ليس لها إلا التأني وحده بعد الله سبحانه، إذ هو عاصم بأمر الله من التخبط، وواق من القنوط في الوقت نفسه.
ولابد للمرء في حياته أن يبني أعماله وآماله على ذلك، وإلا كان هالكاً تاركاً حظوظ العجلة أن تصنع له شيئاً ما، أو تبدي له من التدبير ما قصر هو في تدبيره لنفسه، فإن هناك أقواماً يجعلون من اللجوء إلى العجلة ستاراً يواري تفريطهم المعيب، وضيق فطنهم الذميم، وهذا في الحقيقة التواء يعلق القلب بالريب، ويطيش العقول عند الكرب؛ فلا يجلب لهم إلا المعرة وإلا العودة بالألم فيما طلبوا منه السلامة، وبالنصب والأرق فيما رجوا منه الراحة.
وذلك كله مما كرهه لنا الدين الحنيف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه ) وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله ) رواهما مسلم في صحيحه .
العجلة -عباد الله-: هي داء المجتمعات في القديم والحديث، كما أنها ثغرة ضخمة في إنسانية المرء، وهي بالتالي إذا تبدت فيه كانت ثلمة في إيمانه وحسن تدبيره.
العجلة أيها الناس: هي فعل الشيء قبل أوانه اللائق به، وهي بذلك تكون من مقتضيات الشهوة البغيضة، لخروجها عن إطارها المشروع لها، يقول الله جل وعلا: وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً [الإسراء:11] ويقول جل شأنه: خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] ويقول سبحانه: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114] لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16].
العجلة المذمومة مواقف وتصرفات
أيها الناس: إننا لنجد أن هذه العجلة المذمومة، بادية في كثير من أعمالنا وتصرفاتنا، نجدها في الحكم على الأشخاص قبل البحث والتحري، وفي سوء الظن قبل التثبت واليقين، وفي الغضب والاستجابة لترف النفس المؤدية إلى الوقوع في المحذور، فيستحمق الأمر على عجل، ويكون لسانه وفعله قبل قلبه وعقله، فلا يلزم نفسه ولا يتريث، بل يهذي بكلام ويوكس ويسقط في أفعال يحتاج بعدها إلى اعتذار طويل، وتلفيق ملفت، فيقع فيما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: {ولا تتكلم بكلام تعتذر منه غداً } رواه أحمد وابن ماجة .
ونقل أبو حاتم البستي رحمه الله أن أعرابياً شهد شهادةً عند أحد السلف فقال: كذبت، قال الأعرابي: إن الكاذب للمتزمل في ثيابك، فقال الرجل: هذا جزاء من يعجل.
ولربما لم تفلح المعاذير، ولم ترقع الفتوق، كل ذلك لعجلة لحظة كانت كبرق، وبخاصة ما يثير خصومة ويعجل الطلاق، حتى لقد عد يميناً عند الرعاع، وضرباً من اللغو ينقض به كثير من عرى الزوجية؛ فيقع الندم ولات ساعة مندم، ويسبق السيف العذل، ولكل شيء في الحياة وقته، وغاية المستعجلين فوته، والقاعدة المشهورة: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.
علامات العجلة في علاقة المرء بخالقه ومولاه
كما أنكم -عباد الله- قد ترون المرء يعجل في صلاته فلا يطمئن في ركوعه ولا سجوده، يسرع في الحركات ولا يتلبث وكأنه أفلت في أرض هش، ويغيب عن وعيه قول أبي هريرة رضي الله عنه: {نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث وذكر منها: عن نقرة كنقرة الديك } أي: في صلاته رواه أحمد .
ولربما طغت العجلة على المرء حتى في اللحظات الحرجة والتي ينادي فيها ربه ويدعوه متضرعاً إليه، فيفقد بسبب ذلك الاستجابة التي دعا الله من أجلها، جراء ما استعجل غير آبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي } رواه البخاري ومسلم ، فليتنبه لهذا الأمر أهل الضوائق والبلاء، أو الحوائج والأمراض الذين يتعجلون الله في أدعيتهم أو رقاهم أو نحوها.
فإن الاستجابة موكلة بالأناة والصبر، التي ينسلخ المرء بها من الضجر والتبرم، ويقف في أرض الله أواباً، يرجو رحمته ويخاف عذابه، فلا يضيره ما فقد ولا يحزنه ما قدم.
عليك بالتأني وإياك والعجلة
فالواجب على العاقل -عباد الله- أن يلزم التأني في الأمور كلها، والاعتدال في الحالات المتضاربة، وترك العجلة والخفة بها لأن الزيادة على المقدار في المبتغى عيب، كما أن النقصان في ما يجب من المطلب عجز، وما لم تصلحه الأناة لن تصلحه العجلة، ففي ترك الأناة يكون الخرق، وفي لزوم الخرق تخاف الهلكة، وبالتثبت حاله من حمد إلى ظفر، فمن يركب الأناة لا يستعقب الزلل، ولا صار ألف مدبج في حاجة لم يقضيها إلا الذي يتأنى، فالمتأني الحذق لا يكاد يسبق، كما أن العجل النزق لا يكاد يلحق، وما أحسن ما قيل في الصديق رضي الله تعالى عنه:
من لي بمثل مشيك المدلل تمشي رويداً وتجي في الاول |
وخلال العجل -عباد الله- أنه يقول قبل أن يعلم! ويجيب قبل أن يفهم! ويحمد قبل أن يجرب! ويذم بعدما يحمد! يعزم قبل أن يفكر! ويمضي قبل أن يعزم!
العَجِل تصحبه الندامة وتعتزله السلامة.
ولقد كانت العرب في القديم تكني العجلة "أم الندامات" والمثل السائد: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة.
قد يدرك المتأني جل حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل |
قال المهلب بن أبي صفرة : أناة في عواقبها درك، خير من عجلة في عواقبها فوت.
إن التأني مع الصبر سبب في التحصيل المتكامل، في شتى شئون الحياة بدءاً من العلم والتعلم، وانتقالاً إلى التربية والتكوين، والكسب والتكسب فيما أحل الله وأباح، فليس المرء يولد عالماً غنياً حليماً، وإنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، والغنى بالتكسب.
وإن القليل بالقليل يكثر كذا الصفاء بالقذى ليكدر |
عاقبة العجلة المشئومة
اليوم شيء وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط |
يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط |
فاتقوا الله معاشر المسلمين، وعليكم بالتؤدة والتأني تفلحوا، وإياكم والعجلة فليست من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا هي من شأنه، فما علينا إلا الأناة والانضباط في الأعمال، وعدم النظر إلى الثمرة فقد تتأخر، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنه بسواري كسرى، ولم يلبسهما إلا في عهد الفاروق رضي الله عنه، لأن المؤمل غيب وليس لنا إلا الساعة التي نحن فيها، وإن غداً لناظره قريب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
لقد جاء لفظ العجلة في القرآن الكريم متصرفاً في سبعة وثلاثين موضعاً، كلها على سبيل الذم إلا موضعاً واحداً وهو قوله جل وعلا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203].
أيها الناس: إننا لنجد أن هذه العجلة المذمومة، بادية في كثير من أعمالنا وتصرفاتنا، نجدها في الحكم على الأشخاص قبل البحث والتحري، وفي سوء الظن قبل التثبت واليقين، وفي الغضب والاستجابة لترف النفس المؤدية إلى الوقوع في المحذور، فيستحمق الأمر على عجل، ويكون لسانه وفعله قبل قلبه وعقله، فلا يلزم نفسه ولا يتريث، بل يهذي بكلام ويوكس ويسقط في أفعال يحتاج بعدها إلى اعتذار طويل، وتلفيق ملفت، فيقع فيما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: {ولا تتكلم بكلام تعتذر منه غداً } رواه أحمد وابن ماجة .
ونقل أبو حاتم البستي رحمه الله أن أعرابياً شهد شهادةً عند أحد السلف فقال: كذبت، قال الأعرابي: إن الكاذب للمتزمل في ثيابك، فقال الرجل: هذا جزاء من يعجل.
ولربما لم تفلح المعاذير، ولم ترقع الفتوق، كل ذلك لعجلة لحظة كانت كبرق، وبخاصة ما يثير خصومة ويعجل الطلاق، حتى لقد عد يميناً عند الرعاع، وضرباً من اللغو ينقض به كثير من عرى الزوجية؛ فيقع الندم ولات ساعة مندم، ويسبق السيف العذل، ولكل شيء في الحياة وقته، وغاية المستعجلين فوته، والقاعدة المشهورة: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.
استمع المزيد من الشيخ سعود الشريم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
ربما تصح الأجسام بالعلل | 2776 استماع |
السياحة من منظور إسلامي | 2560 استماع |
لا أمن إلا في الإيمان!! | 2477 استماع |
حاسبوا أنفسكم | 2429 استماع |
العين حق | 2389 استماع |
كيف نفرح؟ | 2357 استماع |
مفهوم السياحة ومخاطرها [1] | 2306 استماع |
رحيل رمضان | 2249 استماع |
مخاصمة السنة | 2179 استماع |
مفاهيم رمضانية | 2176 استماع |